هناك نوعان من الإرغام، الأول هو لفرض عدم تغيير سلوك محدّد ويكون بالردع، والثاني وهو قسر لتغيير سلوك محدّد وهو يتحقق إما بالابتزاز أو الدبلوماسية القسرية. الدبلوماسية القسرية هي استراتيجية سلمية لممارسة القوة بهدف التأثير أو السيطرة على طرف أو حدث أو مسألة لوقف عمل عسكري، فهي استراتيجية لإدارة الأزمة. وبتعريف أدق هي استراتيجية سياسية ودبلوماسية تهدف للتأثير في إرادة العدو أو بنية الحوافز لديه لوقف سلوك قد بدأ. وهي تجمع ما بين التهديد باستخدام القوة، وإن كان ضروريًا استخدام محدود ومحدّد للقوة بجرعات منفصلة متزايدة ومسيطر عليها، كما قد تشتمل على إغراءات إيجابية.
"الدبلوماسية القسرية هي استراتيجية سلمية لممارسة القوة بهدف التأثير أو السيطرة لوقف عمل عسكري"
أولًا: أسُس الدبلوماسية القسرية
تهدف الدبلوماسية القسرية إلى ضبط التصعيد وإدارة الأزمة أو جلب الخصم للرضوخ أو جلبه للتفاوض وفق شروطنا. بالمحصّلة هي جهد لدفع العدو لوقف عمل عسكري أو التراجع عنه والعودة إلى حال ما قبل القيام بالفعل. تركّز بعض التعريفات على أن الدبلوماسية القسرية مرتبطة بدفع طرف ما لوقف فعل عسكري بشكل أساسي.
تحتاج الدبلوماسية القسرية إلى استراتيجيات محكمة ودقيقة حتى تحقق غايتها في تطويع المستهدف من ناحية دون أن تؤدي إلى الانزلاق إلى حرب من ناحية ثانية. فالدبلوماسية القسرية تلوّح بالقوة من باب الإخضاع ووقف العمل للعسكري للخصم، ومن شروط نجاحها أن لا تؤدّي إلى نشوب حرب ولذلك عليها أن تبدو كجهد دفاعي مضاد لتهديد عسكري يقوم به المستهدف. وكونها لذلك لا تتضمّن الدبلوماسية القسرية استخدامًا واسعًا للعنف بل التهديد به أو استخدامه بشكل رمزي وتواصلي، وهو ما يعني أن العقاب أو التهديد الناتج عنها تبقى له حدود تؤثر في فرص نجاحها. والدبلوماسية القسرية أصعب من الردع لجهة أنها تريد إيجاد تغيير في الواقع (وقف فعل المستهدف) وليس المحافظة على الواقع.
"خلاصة تعريفات الدبلوماسية القسرية:
مطالب محدّدة واضحة، خلق شعور بالإلحاح، التهديد بالعقاب، استخدام حوافز وإغراءات إيجابية"
في خلاصة التعريفات هناك جملة عناصر في الدبلوماسية القسرية:
1. مطالب محدّدة واضحة يعرضها المكرِه في وجه المستهدف، وينبغي أن تكون هذه المطالب غير صفرية أي أنه يمكن الاستجابة لها بثمن يمكن احتماله. وإلا إن كانت المطالب تعرَّض المستهدف لهزيمة تامة فسيفضّل المغامرة بالمواجهة العسكرية. على المكرِه أن يقدّم مطالبه على أنها شديدة الأهمية له بحيث لا يمكنه التراجع عنها.
2. خلق شعور بالإلحاح لدى المستهدف، ويكون ذلك من خلال وضع مهل زمنية قصيرة أمام المستهدف سواء بشكل واضح أو بالإيحاء. وعلى المستهدف أن يشعر أن لا وقت لديه وأنه في الوقت الضائع قبل تجسّد التهديد. ولذلك قد يستخدم المكرِه أسلوب "الإنذار النهائي" في لحظة ما .
3. التهديد بالعقاب بحال عدم الاستجابة، وينبغي أن يبدو التهديد موثوقًا لدى المستهدف ولذا من المهم فهم ما الذي يخشاه المستهدف وما هي مصالحه الحيوية وكذلك لا بد من الاهتمام بلغة بالتهديد وليس مضمونه فقط وهل يكون واضحًا أم ضبابيًا. يمكن تصنيف التهديدات وفق 3 فئات تتدرّج في القوة من أدنى إلى أعلى وفق الآتي:
أ. تهديد منخفض (الطلبات والتهديدات ضمنية وغير حاسمة): الاحتجاج الدبلوماسي، العقوبات، قطع العلاقات، وقف التعاون، الغموض (ترك الخيارات المفتوحة وتجنّب الالتزامات الواضحة)، الخضوع (تقديم عوائد)، إقناع الآخر بالإكراه لإخافته.
ب. تهديدات غامضة: إفعل وسترى ، التهديد التدريجي (تحريك البرغي) ، وضع القوات عند حالة الإنذار، تعبئة القوات، إظهار القوة، الحظر التجاري والاقتصادي، الغموض الاستراتيجي، التهديد بالتصعيد وفق عتبة محدّدة.
ج. تهديدات علنية حاسمة حيث يجري تحديد طلبات واضحة من المستهدف عليه تلبيتها ضمن إطار زمني محدد مع تهديد واضح وموثوق بالعقاب إذا يلبّ تلك الطلبات يقم بتلبيتها: الحصار، تحريك قوات وأصول عسكرية بحيث يقع العدو تحت عبء اتخاذ قرار، التهديد بالحرب.
4. استخدام حوافز وإغراءات إيجابية، تؤدّي إلى حفظ ماء الوجه وإيجاد مساحة من المصالح المتبادلة. مع الإشارة إلى أن تقديم الجوائز ينبغي أن يتم بطريقة حذرة جدًا حتى لا يتأثر الجانب الإكراهي في الاستراتيجية الكلّية.
في تطبيق هذه العناصر لا بد من مراعاة المعايير الآتية:
1. التناسبية: بين المطالب الملقاة على عاتق المستهدف والإجراءات التي يمكن للمكرِه أن يستخدمها.
2. التبادلية: بين ما يقدّمه المكرِه وما يتنازل عنه المستهدف، بشكل تدريجي خطوة مقابل خطوة.
3. موثوقية الإكراه: خلق تصوّر في ذهن المستهدف أن امتناعه عن التعاون سيكون له عواقب وخيمة.
4. الانتباه إلى السياقين المحلي والدولي اللذين تجري في إطاريهما الدبلوماسية القسرية، فالظروف المحلّية والدولية المرتبطة بالطرفين قد تعزز أو تضعف العناصر الثلاثة السابقة.
"لنجاح الدبلوماسية القسرية:
لا بدّ من التأثير على الطرف المستهدف من خلال
عواطفه وتصوّراته وثقافته وقِيَمه ومعاييره"
ثانيًا: كيف يمكن زيادة فرص نجاح الدبلوماسية القسرية؟
الدبلوماسية القسرية تعمل بشكل أساسي للتأثير في حسابات قيادة الطرف المستهدف ولذلك هي بحاجة للتأثير على عواطفه وتصوّراته وثقافته وقِيَمه ومعاييره وتشكيل رؤيته لمصالحه. فهي تطمح من خلال الجمع بين التهديد والحوافز إلى دفعه للقبول بالمطالب المرغوبة وهو ما يوجب التنسيق والتناغم بين الاستراتيجيات الإكراهية والسياسية والعسكرية.
تشكيل قرار الخصم يستوجب فهمًا معمقًا له والتعرّف على نواياه وكيفية اتخاذه القرار والقيود الداخلية (هنا تفيد نماذج مستخلصة حول سلوك هذا العدو بذاته). وهناك صعوبة في تحديد عزم القادة قبل وإثناء الأزمة وصعوبة في فهم نوايا العدو بشكل دقيق ومبكر، وصعوبة في قياس أثر التهديد عليه.
الخصم قد يخضع إما نتيجة لحساب عقلاني أو لخلل في الحسابات نابع من تعرّضه للتلاعب أو نتيجة قصور ذاتي أو لنقص في المعلومات. على المستهدف أن يقتنع بأن التعاون مع طلبات المكرِه هو الخيار الأفضل سواء لسبب عقلاني أو عاطفي أو قيمي.
تزداد احتمالات خضوع المستهدف للدبلوماسية الإكراهية كلما توفرت الشروط التالية:
1. على مستوى المطالب:
o حين تكون المطالب واضحة كفاية حتى لا يؤدّي سوء الفهم إلى رفض المستهدف ولا إلى الخشية من توسعة المطالب عند التطبيق.
o حين يتمكّن المكرِه من إقناع المستهدف أن المطالب تمثل حاجة حيوية له ولا يمكن له التنازل عنها وأنه مستعد للمخاطرة من أجلها.
o حين لا تكون المطالب صفرية بحيث لا يكون هناك تناقض تام بين الطرفين بل يجب أن تكون هناك إمكانية لقسمة ما للمطالب. فالإكراه ينجح حيث يوجد مجال للمساومة. لذلك على صاحب التهديد المطالبة بالمصالح الحيوية فقط وتجنّب المسّ بمصالح حيوية للطرف المقابل. يهتم القادة بشكل كبير بانعكاس المطالب على سلطتهم واستقرار حكمهم وقدرة نظامهم على الصمود.
2. على مستوى الإلحاح:
o حين يكون هناك لا تماثل في الدوافع لصالح المكرِه، أي أن يشعر المستهدف أن دوافع خصمه للوصول إلى مطالبه أعلى بكثير من دوافعه، وبذلك يتصوّر أن خصمه جاهز للمخاطرة أكثر وتحمُّل ثمن أكبر.
o حين يشعر المستهدف أن التهديد على وشك أن يتحوّل إلى واقع وأنه لم يعد لديه وقت وأنه أمام ثمن قريب وداهم.
3. على مستوى التهديد:
o حين يقوم المكرِه بتعهّد واضح يضع سُمعته على المِحك بحال لم يلتزم بتهديده.
o حين يكون التهديد موثوقًا وفي الوقت عينه يكون ثمن الخضوع وتضرّر السمعة للمستهدف أقل من ثمن المواجهة .
o حين يُظهر المكرِه أن لديه دعمًا داخليًا ودوليًا كافيًا لتنفيذ تهديداته.
o حين يظهر أن لدى المكرِه تصميمًا وطنيًا لتحقيق المطالب بأي ثمن.
o حين يظهر أن المكرِه جاهز فعلًا لمستوى عالٍ من التصعيد إلى مستوى لا يمكن للمستهدف احتماله.
o حين تبدو قيادة الطرف المكرِه قوية وقادرة وراغبة في تنفيذ تهديداتها.
o حين تقوم النُخب المحيطة بالقيادة بإيصال التهديدات والضغوط الخارجية إليها (أحزمة نقل) بدل أن تقوم بحجبها عن القيادة أو التخفيف منها ومن آثارها.
4. الجوائز
o حين تتضمن الدبلوماسية القسرية مكاسب للمستهدف تعوّضه عن جزء من الثمن الذي سيدفعه نتيجة تلبية مطالب المكرِه.
o حين تتضمن الصفقة عوائد رمزية ذات أثر إيجابي على سُمعة المستهدف وصورته.
ثالثًا: في تطبيق الدبلوماسية القسرية الأميركية ضد حزب اللّه في جبهة المساندة:
1. المطالب: وقف الهجمات عند الحدود الجنوبية والدخول في ترتيبات حدودية تشمل ابتعاد قوات حزب الله عن الحدود بعمق لم يتم تعريفه بحدود واضحة بعد. فواشنطن تتجنّب تظهير مطالبها بشكل يتناقض تمامًا مع مصالح حزب الله، فيما تعمل واشنطن – وتل أبيب على إطلاق مواقف تؤكد أن عودة المستوطنين مسألة لا هوادة فيها وهي أكثر أهمية بالمقارنة النسبية من حاجة الحزب لفتح جبهة المساندة.
2. إيجاد شعور بالإلحاح: يتعمّد الحلف المعادي إطلاق تصريحات وتسريبات تفيد باقتراب العدو الإسرائيلي من بلوغ نقطة اللاعودة والدخول في الحرب وأن على الحزب أن يتوقف فورًا عن هجماته، أو تسريب مواعيد زمنية محددة أو الحديث عن أيام وأسابيع تفصل عن قرار "إسرائيل" بالحرب إذا لم تتوقف الهجمات. وتقوم واشنطن غالبًا عبر تسريبات رسمية بالترويج لتزايد خطر اندلاع حرب بما يخدم المسعى الإسرائيلي، وتستخدم واشنطن ذلك للضغط في الاتجاهين، ضد الحزب وكيان العدو، عبر القول إن الضمانة لوقف القتال في شمال الكيان تكون من خلال وقف الحرب في غزة وبذلك تأمل أن يضغط حزب الله على حماس لتخفيض سقوفها التفاوضية وللضغط على حكومة نتنياهو لوقف تعنّتعها وتعطيلها لمقترح وقف الحرب.
3. التهديد بالقوة واستخدام محدود لها: توظّف واشنطن الهجمات الإسرائيلية ضد لبنان ضمن استراتيجيتها القسرية بالإضافة إلى استعراض القوة مثل نشر حاملات الطائرات تحت عنوان ردع التصعيد الإقليمي. كما يطلق الحلف المعادي تهديدات واضحة تجاه حزب الله والمجتمع الحاضن والدولة اللبنانية وعموم اللبنانيين وحتى حلفاء الحزب على المستوى الإقليمي. وهذه التهديدات يعبّر عنها الإسرائيلي بشكل مباشر وواضح فيما يقوم الأميركي بالتعبير عنها على شكل مخاوف وتحذيرات والتعبير عن الالتزام بدعم الكيان عسكريًا. ويتم تدعيم تلك التهديدات بإجراءات عسكرية متنوعة بالإضافة إلى حملات نفسية.
4. الحوافز والمغريات: في هذه الحالة يتكفّل الأميركي بهذا الجانب من خلال الحديث عن تراجع إسرائيلي عن بعض النقاط الحدودية المتنازع عليها، وتقديم حُزم دعم اقتصادي لجنوب لبنان والدولة اللبنانية، ووقف العدو لإجراءات عسكرية مثل القيام ببعض أنواع الطلعات الجوية.
فيما يخص معايير تطبيق هذه العناصر الأربعة، تتمثل التناسبية في الحذر الأميركي الإسرائيلي في تحديد مطالب واضحة ونهائية من حزب الله حول تراجعه عن الحدود وذلك لمحدودية القدرة الإسرائيلية والإرادة الأميركية بعدم التصعيد. في التبادلية تركّز المقاربة الأميركية على إظهار التراجع عن التصعيد على أنه وفق خطوات متبادلة ما يتيح للطرفين خروجًا "لائقًا" من الأزمة. أما موثوقية الإكراه فتبرز في محاولة الكيان إخافة حزب الله بالتحشيدات والمناورات والاغتيالات والتصريحات، وهو ما تكمله بعض الإجراءات والتصريحات الأميركية لكن بحذر. وفيما يخص السياقين المحلّي والدولي، فهما لا يعملان عمومًا في صالح الدبلوماسية القسرية للعدو نظرًا للانقسامات العميقة داخل الكيان والتباين بين نتنياهو وبايدن والضرّر الشديد اللاحق بصورة الكيان على الصعيد الدولي. إلا أن واشنطن توظف الانقسام اللبناني المعهود ونفوذها في مجموعة الدول السبع وعلاقاتها الإقليمية لتعزيز فعالية التناسبية والتبادلية والموثوقية بوجه الحزب.
العنوان
بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
Baabda 10172010 Beirut – Lebanon P.O.Box: 24/47 وسائل الاتصال
متفرقات
|