اطلق المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق مشروعًا للاستكتاب تحت عنوان "الضاحية الجنوبية لبيروت: رؤى وآفاق العمل المستدامة". وقد خصص المركز وسائل للتواصل ليفتح الباب أمام أفراد المجتمع المقيم الذي يعيش تفاصيل الحياة اليومية في منطقة الضاحية الجنوبية، وليس فقط بهدف التعرف على المشاكل والتحديات التي تواجهها المنطقة، لكن أيضًا للتعرف إلى نقاط القوة والفرص التي يمكن البناء عليها للمستقبل.
يعتقد المركز الاستشاري أن تطور وتطوير المنطقة من الناحية الإنمائية هي مسألة تخص الجميع من مختلف المشارب وتستحق أن تطرح للنقاش على نطاق واسع، وهي واحدة من الأدوات التي يمكنها أن تؤدي للخروج بأفكار واقتراحات ترفد أصحاب القرار من بلديات وغيرها.
سوف يسرنا استقبال كتاباتكم وملاحظاتكم وتعليقاتكم في المواضيع التي تهم المنطقة كافة من خلال:
إرسال رسالة الكترونية إلى عنوان [email protected]
أو الاتصال عبر الواتسب أو إرسال رسالة SMS على الرقم: 183986-79
أو المشاركة على هذه الصفحة على الفيسبوك www.facebook.com/ccsdlb
البنية التحتية في الضاحية
في الأساس لم تنشأ الضاحية وفق مخطط عام مدروس يراعي تطورها ونموها وموجات الهجرة الوافدة إليها تباعًا.
أذكر أنه في أواخر الثمانينيات كان الزفت ينتهي عند كنيسة الطيّار تمامًا عند مستديرة المشرفية الحالية. وكان عرض الشارع يومها في أحسن الأمكنة، لا يزيد عن تسعة أمتار. وكان مصدر المياه الوحيد فيها هو مياه عين الدلبة، لكن قلائل فقط كانوا يعرفون أين يقع هذا النبع بالفعل.
أما الكهرباء فكانت ترفًا لا يطاله كل الناس، وكان يمكنك أن تسمع أصوات المولدات تصم الآذان.
اليوم وبعد ربع قرن من الزمن تغيرت المنطقة بالكامل، لكن خدمات البنية التحتية التي كانت مقررة وقتها نُفّذت وكأن تغييرًا لم يطرأ عليها، وكأن سكانها من أهل البلدات الخمسة (الناخبين) هم وحدهم بقوا مقيمين فيها.
الواقع يُنبئ بأن المشهد قد تغير كثيرًا على مستوى خدمات البنية التحتية، فانفجرت قساطل الصرف الصحي عدة شتاءات قبل أن يتم إصلاحها... واشترى الناس صهاريج مياه الخدمة ومياه القناني المعبأة قبل أن تجد مبادرة "مشروع مياه العباس في جهاد البناء" طريقها إلى مفارق الشوارع.
بقيت الكهرباء في خانة "الفالج لا تعالج" ما حدا بالمستثمرين من أصحاب المولدات الخاصة إلى احتكار السوق لفترة قبل أن تتدخل البلديات للجم طمعهم تارة ولمشاركتهم في تقاسم عبء المسؤولية تارة أخرى.
لكن ماذا لو قررتَ أن تعاين السماء بنظرة؟ سوف تجد كابلات و"شرطان" الكهرباء والساتلايت معلقة وممدودة على غاربها وأخرى فالتة بحيث لا يمكن لأكبر مهندس أن يجمع خريطتها.
على أن المصيبة الأكبر بقيت متعلقة بالشوارع، هذه الشوارع التي من المفترض أن تخدم عددًا محددًا من الناس باتت تئن من حجم المخالفات والتعديات وهي كثيرة وبالجملة حتى أنه يمكن اختصار المشهد على النحو التالي: تم التغاضي عن قصد عن التراجعات الإلزامية المطلوبة لوجود الأرصفة... احتل أصحاب المحلات ما تبقى من هذه الأرصفة.... احتل أصحاب المقاهي الشوارع الملاصقة للمقاهي المخصصة أصلًا لركن السيارات... لم تجد البلديات الأراضي المناسبة والكافية والتي يمكن أن تستملكها لتخصصها كمواقف للسيارات.... غيّر الناس من عاداتهم في شراء السيارات فصاروا يشترون السيارات الفارهة ذات المقاسات الكبيرة التي لا تتسع لها طرقات الضاحية... صار الناس يركنون سياراتهم في أول مكان يخطر ببالهم ويذهبون للتسوق دون أن يعنيهم أنهم قد أعاقوا السير... تم رصد بضع إشارات سير في كل الضاحية (تستعمل كلمة بضع للإشارة إلى الإعداد ما دون العشرة) جميعها تعمل بحسب "الهلة".... وأخيرًا، قدرك يوميًا أن يستوقفك صاحب "فان" لا يعرف شيئًا عن أصول القيادة أو السلامة العامة "ينيم الطريق" ليجبرك أن تركب معه.
ربما تكون هذه هي الإشكاليات الرئيسية في مجال البنية التحتية -كلها أو بعضها-، لكن هل نكتفي بأن "نلعن لون العتمة" نحن نحتاج إلى إضاءة شمعة، فمن يجرأ على ذلك ومن أين نبدأ؟.
- المشهد المديني والأخلاق (1)
الناس ليسوا سواسية عندما يتعاملون مع المكان الذي يقيمون فيه، بعض الأمكنة تفرض شروطها على القاطنين وبقوة، وبعض الأمكنة "يطنش" الناس فيها أصول السكن والجيرة، وبعض الأمكنة تتجاهل فيها البلديات وضع شروط الالتزام والاحترام... فيعيش الناس على هواهم..
هذه المشاهد مستقاة من حياة الناس اليومية المعاشة حيث "المدينة - الضاحية" تعكس فلسفة وأخلاق الناس فيها:
المشهد الأول: مؤسسة القرض الحسن،
تفتح مؤسسة القرض الحسن أبوابها يومياً للناس في تمام الساعة الثامنة والربع. بأدب شديد وانتظام بالغ يصطف الناس ليدفعوا مستحقاتهم الشهريّة من القروض. لا يتأخرون، ولا يتأففون، بل هم في عجلة من أمرهم "ليرتاحوا من همّ الدين" فتراهم مبادرين جادين اعتباراً من أول الشهر وحتى الخامس منه: هنا المكان يفرض شروطه بامتياز.
المشهد الثاني: أرض ملعب الرياضة "ملعب القتال" وأرض ملعب الراية،
هي أرضٍ كانت المتنفس الأخضر للناس والجزء المتبقي من بعض ذاكرتها: حرش الضاحية وصنوبرها الذي زُرع أيام فخر الدين المعني، وساحة مقاومتها الأشهر، يشتريها القطاع الخاص. وباستثناء بعض الأصوات التي صدرت فقد وقف الكثيرين موقف المتفرج، فلا من استملك الأراضي ليجعل من بعض الأماكن المحفورة عميقاً في وجدان الناس لتكون أيقونة للمنطقة وربما لاحقاً لتصبح أحد أبرز معالمها، ولا من فرض شروطه على المالك للتقيد بمستلزمات نمو المكان: هنا المال والسلطة تتجاوز شروط الالتزام واحترام المكان.
المشهد الثالث: حي السلم في اليوم التالي لصدور نتائج البكالوريا الرسمية،
تكاد تكون أرض المسرح الأكبر هي تلك المساحة الممتدة من ساحة المريجة امتداداً إلى ساحة حي السلم وتشعباته في الأحياء الداخلية، ووصولاً من حي البركات إلى نهر الغدير، حيث تبدأ الاحتفالات بنجاح الأبناء والأحفاد والأقارب باستخدام المفرقعات.
لا أحد يلتفت إلى انزعاج الآخرين أياً كانوا: مرضى، عجزة، أطفالاً أو مسنين - فجميع المقيمين متورطون – أو يجب أن يكونوا كذلك رغماً عنهم - بأفراح الآخرين وأحزانهم. لكن الأهم هو انعكاس هذه الورطة على مشهد المكان: فالمسرح يشتعل – بالمعنى الحرفي للكلمة - حين تسقط مفرقعة على شرفة أحد الجيران لتحرقها، ثم يشتعل مرة أخرى حين يسترق بعض الأشخاص الفرصة المناسبة لإطلاق الرصاص الحيّ، ظناً منه أن أحداً لن يميز الأصوات في "زومة هذا الكم من الزعيق" الذي يستمر حتى ساعات الفجر الأولى؛ وقتها تتذكر أم حسين أن ابنها ذي السنوات الست لا يزال في الشارع منذ يوم أمس، فتقف عند الشرفة "وترندح" منادية عليه بأعلى صوتها.
يقف عامل التنظيفات مدهوشاً أمام حجم الإعصار الذي ضرب المكان: أوراق بالجملة، بقايا مفرقعات، أكواب مرمية، قناني تنك من أشربة مختلفة، سجاير وعلب فارغة، أكياس بلاستيكية ممزقة، بقايا فحم وأراكيل، بعض الكراسي المكسورة و"طبليات" وشريط ساتلايت فالت...
هنا المكان بلا قيود ولا ضوابط، هنا المكان يبدو وكأنة خارج تاريخ الضاحية بل وخارج جغرافيتها أيضاً، هنا المكان بلا بلديات ولا نظام، هنا يضع بعض الأفراد شروطهم للإقامة ويجبروا الآخرين على الالتزام بها، ثم يأتي أحدهم فيقول لدينا فقر وبطالة كبيرة، متجاهلاً كم الأموال التي جرى ضخها في تلك الليلة.
لكن من أين يجب أن تبدأ عملية التغيير؟ وما هو المشهد المديني المطلوب؟
المشهد المديني والأخلاق (2)
المشهد الرابع: الشهيد علي خضرا
في تموز العام 2014 وكعادة المدرسة في كل عام، تجمّع الطلاب لنيل التقدير الذي يستحقونه بعد سنة دراسيّة كاملة، صعدوا إلى مسرح ليتسلموا شهاداتهم، فأعلن الناظر العام الأستاذ حسان أن الطالب "علي خضرا" قد تخرج اليوم برتبة "شهيد"، ثم تتالت بعدها مراتب الطلاب الخريجين.
حفر "علي" وكل إخوته من الشهداء عميقاً في مشهد الضاحية، فحوّلها من مجرد مكان يسكن فيه الناس إلى ضاحية العز والكرامة والإباء، وإلى ضاحية الوعد الصادق الذي أعاد ما تهدم فيها أجمل مما كان، وحوّلها إلى الضاحية التي قهرت التكفيريين وغلبتهم، في اليوم الذي وقف محمد شقيق الشهيد ليستلم درع تقدير الشهادة.
هنا المكان يفرض شروطه، هنا "علي خضرا" يكتب التاريخ ويكتب المستقبل.
المشهد الخامس: موتيرات الحي المقابل
"زعل" جارنا صاحب مجموعة الموتيرات في الحي من جارنا الجديد الذي سكن وفتح محله ولم يدفع له "المعلوم" لقاء "حمايته" من المتطفلين، فكلمه "بالحسنى" عدة مرات وبعث إليه "بالناصحين" لكن جارنا الجديد "يا غافل إلك الله" لم يفهم معنى أن يكون مطلوباً أن يكون لديك شخص ليحميك. ثم بعد أن دار الموضوع برأسه أبى أن يدفع المعلوم. تبيّن بعد أيام قليلة على الأمر أن محل جارنا الجديد وأثناء احتراقه - لأسباب مجهولة - قد أخذ معه قسم من البناية التي يشغلها. لم تتأخر سيارات الإطفاء في الوصول، لكن أخلاق الغاب هنا فرضت شرعتها على المكان وعلى القاطنين فيه على حد سواء.
المشهد السادس: على اتوستراد السيد هادي نصر الله
أتذكر كلما مررت بساحة المشرفية صديقتي وزوجها يعلمها قيادة السيارة فيقول لها: "حتى تمرين بين السيارات والفانات لتتجاوزي التقاطع يجب أن تكوني مثلهم.. هنا أنت في "حارة كل مين إيدو إلو". لا إشارة سير، وشرطي المرور متواجد في أوقات غير محددة وتخطيط الطريق يشي بأن مبتدءاً في عالم الهندسة قد أنجز التقاطع.
بعد الساحة تمتد أحواض الورد والشجيرات التي زرعها اتحاد الضاحية في محاولة جادّة منه لتحديد المسارات وتنظيمها. في الصباح الباكر تمر شاحنة خزان مياه البلدية فيقف العامل وهو يحمل خرطوم المياه المتدفقة بقوة فيسقط نصف المياه الثمينة على الشارع، رامياً معه تراب الحوض إلى الضفة المقابلة للشارع. مع الوقت ارتفعت الشجيرات حتى حجبت رؤية الناس الذين يعبرون الشارع - الاتوستراد متسببة بحوادث إرباك شديد للسيارات المارة.. من قرر أنه يجب زراعة هذه الأنواع دون غيرها؟.. لا شك أنهم مهندسون من فئة " هات إيدك والحقني؟".
تكمل الاتوستراد إلى تقاطع الجسر حتى محل "حرقوص" – من الطبيعي هنا أن تُسمى الأمكنة بأسماء المحلات إذ ربما لم يسمع أحد من قبل أن الشوارع تُسمى وترقّم - فتعلق في عجقة السير الأولى التي تسببها المطاعم المنتشرة فوضوياً، ثم تعلق في عجقة السير المتتالية عند تقاطع حي الأبيض وحي المقداد ومدرسة الإمام الحسن، لأن الشرطة الموكلة بتنظيم السير على التقاطعات غالباً ما تداوم في أوقات وساعات محددة.
تستمر معاناة السير على الاتوستراد حادة وجادة ومتوترة من أبواق الفانات وتجاوزاتهم وصولاً إلى حدود بوابة الجامعة اللبنانية، عندها يستريح الاتوستراد وأرصفته العشوائية وينتهي أمام صف البنايات المخالفة، بل ويفشل في تجاوز حدود الضاحية فيقبع منزوياً على ذاته.
هنا مجموعة الناس والبلديات يكتبون شروطهم حول إشغال المكان فينجحون ويفشلون في آن. لكن من هم المعنيون حقاً بكتابة شروط إشغال المكان؟ ومن أين يجب أن تبدأ عملية التغيير؟ وما هو المشهد المديني المطلوب؟
العنوان
بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
Baabda 10172010 Beirut – Lebanon P.O.Box: 24/47 وسائل الاتصال
متفرقات
|