كتابات الموقع > حسب العنوان > مقالات> مقالات: الانتعاش العالمي الهزيل: هل فشلت برامج الانقاذ؟
مقالات: الانتعاش العالمي الهزيل: هل فشلت برامج الانقاذ؟
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

ينهي الاقتصاد العالمي على ما يبدو وقتاً مستقطعاً من عمر أزمته المالية. الإجراءات المكثفة والسخية لم تفلح بعد في استبعاد خطر انهيار جديد، وأداء المراكز الرأسمالية الكبرى لا يزال ضعيفاً، وهناك خشية من حصول موجة تدهور أخرى، بعدما تكون الحكومات والمصارف المركزية استنفدت كل أسلحتها. وإلى الآن تقود الاقتصادات الناشئة مسيرة النهوض، و تمكن بعضها من تعزيز احتياطياته الدولية، وتنشيط طلبه الداخلي، ويرتقب هذا العام أن تحقق آسيا وأميركا اللاتينية نمواً لا يقل عن 8 بالمئة للأولى و5 بالمئة للثانية. مع ذلك لا يمكن لهذه الدول أن تكون قاطرة النهوض العالمي مسافة طويلة، وبما أنها اعتمدت منذ ثلاثة عقود إستراتيجيات نمو قائمة على التصدير، فهي شديدة التأثر بمجريات الأمور في الطرف الغربي من العالم. وهناك شرطان لا غنى عنهما لبقاء الأسواق الناشئة صامدة: طلب قوي في أسواق الدول المتقدمة، ومستويات أجور متدنية ومرنة على نحو منافس. بيد أن تنامي العجز المالي والتجاري أملى على الدول الصناعية مراجعة مبكرة لسياساتها التوسعية، وبقدر ما تدعم الأجور المخفوضة الصادرات بقدر ما تحبط الطلب المحلي الذي يمثل ملجأ لا غنى للدول النامية كي تعوض الانحسار المحتمل للصادرات.

وإذا اعتبرنا أن أداء قطاع العقاري مقياسا معتدا لصلابة الانتعاش، سنحصل على إجابة متشائمة. فقد حدثت انهيارات أخرى في أسعار المساكن في أميركا، وهناك بوادر مماثلة في بريطانيا ودول أروبية أخرى، والأزمة التي بدأت في أسواق رأس المال تصل طلائعها تباعاً إلى الاقتصادين المالي والسلعي، فلدينا معدلات بطالة من رقمين، ومستويات عجز مالي يصعب السيطرة عليها خلال دورة اقتصادية واحدة، ويخيم شبح كساد طويل الأمد. وما يثير القلق، هو أن الحكومات تواجه الأزمات الاقتصادية بوتيرة بطيئة، مقارنة بما تقوم به هي والبنوك المركزية لاستيعاب أزمات الصرف والمصارف.
هشاشة الانتعاش الراهن يعود إلى برامج الإنقاذ نفسها، فقد كانت خطواتها متضاربة، وغير متسقة زمنياً، وقليلة الفعالية، وربما يكمن السبب في أنّ انهيار الأسواق المالية وتعثر البنوك العملاقة، روّع السلطات ودفعها إلى استعمال كل ذخيرتها دفعة واحدة. ومع انكشاف النتائج الهزيلة لبرامج الإنقاذ، يتراخي التضامن القوي الذي ظهر في شهور الأزمة الأولى داخل مجموعة العشرين، ويزداد التباين في الأولويات وضوحاً بين أقطابها الثلاثة؛ أوروبا التي يقلقها العجز المالي، وواشنطن التي تراقب أوضاع مصارفها ومن بينها أكثر من ثمانمائة مصرف متعثر، ولا بأس بالنسبة إليها من زيادة العجز، ما دام أنها قادرة حتى الآن على تنقيد دينها المحرر معظمه بالدولار، أما الصين ومعها الدول الصناعية الناشئة فاهتمامها ينصب على تنشيط التجارة الدولية أكثر من أي شيء آخر.
تضارب الخطوات يبرز على نحو واضح في حالتين. الأولى هي اعتماد إجراءات مالية سخية وتوسعية، أفلحت في لجم الركود لكنها لم تتحسب للمخاطر المالية للتوسع. وها هي أرقام العجز المخيفة في الولايات المتحدة، والخطيرة في الاتحاد الأوروبي تدفع العديد من الاقتصاديين والسياسيين للانتقال من ضفة إلى ضفة، فتتصدر أولوية لجم المديونية على حساب استرداد النمو. والمفارقة هي أن أوروبا التي كانت سباقة إلى تنشيط الطلب، سارعت منفردة إلى تقليص برامج الإنفاق، أي أنها قررت من جانب واحد الانتفاع مجاناً من حوافز الطلب في الاقتصادات الأخرى على ما جاء في تقرير الاونكتاد الأخير. هذا التصرف لا يعني أن الدول التي تتبع سياسات توسعية أقوى، لا تطرح على نفسها السؤال نفسه: متى يتم الانتقال إلى التقشف، وبالأحرى متى يصبح استحقاق المديونية أهم من استحقاقات النمو والإنقاذ والتشغيل.
الحالة الأخرى هي التضارب بين هدفي معالجة اختلالات التجارة والحسابات الجارية في الدول المتقدمة من جهة، وهدف تحقيق انتعاش ثابت ومستقر وموثوق. سيكتسب هدف تقليص العجز التجاري ومعالجة مشاكل ميزان المدفوعات أهمية متزايدة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، التي ستضطر في مدى منظور إلى اتخاذ إجراءات صارمة لخفض الاستيراد، لكن ذلك يعني أيضا إلحاق الضرر بنمو الأسواق الناشئة المعول عليه في تعزيز دورة الاقتصاد العالمي.
لقد أنفقت الدول الصناعية الكبرى أو أنها تنوي إنفاق ما يزيد عن عشرة تريليونات دولار، لكن الحصاد أتى متواضعاً؛ إنقاذ بضعة مؤسسات مالية، وتحقيق انتعاش ضعيف، أو أنه كان مريراً؛ كما في  ارتفاع أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل، لقاء تكريس مزيد من الموارد العامة لمصلحة القطاع المالي. حصاد مخيب للآمال لكنه متوقع، نظراً إلى ما اكتنف إجراءات النهوض من مفارقات. التوسع في الإنفاق مثلاً لم يكن على الطريقة الكينزية، إذ لم يستهدف زيادة معدلات التشغيل، بقدر ما كان منصباً على ردم الفجوات في ميزانيات المصارف، أما التوسع النقدي فهو خطير بحد ذاته، ويحمل في طياته احتمالات سيئة من بينها إغراق الأسواق في مصيدة السيولة التي تدفع الأفراد إلى تضخيم أرصدتهم النقدية بدلاً من تغذية الطلب.
الحلول المستدامة تتطلب تركيزاً على أمور أكثر عمقاً، أهمها حفز الطلب عبر زيادة حصة الأجور من الناتج الإجمالي، و تحسين عدالة التوزيع، و تصحيح النظم المالية على نحو يضمن مصالح كل الأطراف. وقبل أيام اتفق محافظو 27 مصرفاً مركزياً على إطلاق حزمة إصلاحات "بازل 3"، التي تلزم المصارف برفع رساميلها الممتازة بمقدار الضعفين ما بين عامي 2015 و 2019. الخبر الجيد هو الاعتراف بضرورة أن يصحح القطاع المصرفي أوضاعه، أما الخبر السيء فهو أن المؤسسات المالية المسؤولة عن فوضى الأسواق منحت مهلة طويلة، على عكس ملايين الأفراد الذين خرجوا من سوق العمل، أو سقطوا إلى ما دون خط الفقر دون أن يحظوا بأية مهلة.

 





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي