كتابات الموقع > حسب العنوان > مقالات> مقالات: العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية، أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم / د. حسين العزي - تموز 2020
مقالات: العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية، أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم / د. حسين العزي - تموز 2020
د. حسين العزي

مع توقيع الرئيس "ترامب" للأمر التنفيذي في الحادي عشر من شهر حزيران من العام الجاري، باتت الولايات المتحدة الأميركية ملاذًا آمنًا لمجرمي الحرب ومرتكبي الانتهاكات الجسيمة لأعراف الحرب وقوانينها، ولم يكن هذا القرار مفاجئًا للمعنيين في المحكمة الجنائية الدولية، فالسوابق الأميركية في سياق التعاون مع طلبات المحكمة كانت تؤكد هذه النتيجة.
ففي العام 2019 ألغت الولايات المتحدة تأشيرة دخول المدعية العامة للمحكمة الجنائية، "فاتو بنسودا" انتقامًا منها، بعد أن أذنت المحكمة بإجراء تحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل القوات المسلحة الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية وحركة طالبان في أفغانستان. وكان قد سبق ذلك صدور مواقف منددة ومهددة تجاه طاقم عمل المحكمة، حيث صرّح وزير الخارجية "مايك بومبيو" قائلًا "لن نقف مكتوفي الأيدي لأن محكمة هزلية تهدد مواطنينا"، في حين وجّه وزير الدفاع "مارك إسبر" حديثه إلى جنوده قائلًا: "لن تمثلوا أمام المحكمة الجنائية الدولية أبدًا، ولن تخضعوا أبدًا لأحكام الهيئات الدولية".

أولًا: في مضمون القرار
استند الرئيس "ترامب"، في فرض العقوبات على صلاحياته بموجب الدستور وقانون السلطات الاقتصادية الدولية للطوارئ، وقانون الطوارئ الوطنية قانون الهجرة والجنسية للعام 1952.
وجاء في مقدمة الأمر(القرار)، بما يشبه الأسباب الموجبة لإصداره، أن دافعه يتجلّى بتهديد الأمن القومي الأميركي. حيث ذكر القرار أن تأكيد ممثلي المحكمة الجنائية الدولية المتكرر لصلاحيتها القضائية على موظفي الولايات المتحدة وبعض حلفائها، بما فيها تحقيق مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية في الأعمال المرتكبة من قبل أفراد الجيش والمخابرات الحاليين والسابقين في أفغانستان، يهدّد بتعريض حكومة الولايات المتحدة ومسؤولين رسميين حلفاء لها. وهذه الإجراءات من جانب المحكمة تهدد بخرق سيادة الولايات المتحدة وإعاقة عمل الأمن القومي والسياسة الخارجية، وتشكل حالة الطوارئ الوطنية.
ويعلل القرار رفضه لاختصاص المحكمة بأن الولايات المتحدة ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ولم تقبل قط اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على موظفيها، وأنه مخالف لقانون الخدمة الأمريكية للعام 2002.
وبالتالي فإن العقوبات ستفرض حال حصول محاولة من قبل المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو مقاضاة موظفي الولايات المتحدة أو موظفي دول حليفة لها ليست أطرافًا في نظام روما الأساسي دون موافقة من الولايات المتحدة.

ومن أبرز ما تضمّنه القرار الآتي ذكره:
- مصادرة جميع الممتلكات والمصالح المتعلقة بها الموجودة في الولايات المتحدة، والتي تدخل اليها، أو التي تكون أو أصبحت فيما بعد في حيازة أو سيطرة أي شخص في الولايات المتحدة، من الأشخاص الآتي ذكرهم، ولا يجوز نقلها أو دفعها أو تصديرها أو سحبها أو التعامل بها بأي شكل آخر من قبل:
 (1) أي شخص أجنبي يحدده وزير الخارجية، بالتشاور مع وزير الخزانة والمحامي العام:
-  يكون قد انخرط بشكل مباشر في أي نشاط من جانب المحكمة الجنائية الدولية فيما خص التحقيق مع أي من موظفي الولايات المتحدة أو اعتقالهم أو احتجازهم أو مقاضاتهم دون موافقة الولايات المتحدة؛ ويسري ذلك على موظفي الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، إذا تمّ ذلك دون موافقة الحكومة الأميركية.
-  قدّم المساعدة المادية أو غير المادية أو الدعم المادي أو التكنولوجي..، أو
-  أن تكون ممتلكاته مملوكة أو خاضعة لسيطرة أو تصرّف شخص يدّعي بأنه يعمل لصالح، أي شخص جرت مصادرة ممتلكاته ومصالحه بموجب هذا الأمر.
-  حظر التبرعات التي تتم بواسطة لصالح أي شخص صودرت ممتلكاته ومصالحه.
- تعليق دخول المهاجرين غير المقيدين إلى الولايات المتحدة بالنسبة للأجانب ولأفراد الأسر المباشرين لهم، إذا ما قرّر وزير الخارجية بأنهم يعملون لدى المحكمة الجنائية الدولية، أو يعملون كوكلاء لها.
ويطبّق هذا القرار على أي شخص معنوي أو طبيعي متواجد على الإقليم الأميركي، كما أنه يمنح الحصانة لأفراد جيوش ومسؤولين في الدول الحليفة للولايات المتحدة" أو أي شخص آخر يعمل لصالح دولة عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو وعددها 28 دولة) أو "حليف رئيسي من خارج الناتو".

ثانيًا: في مخالفة القرار للمبادئ القانونية المطبقة في القانون الجنائي الدولي
ينتهك هذا القرار، وبشكل فاضح، بعض المبادئ المستقرة في القانون الجنائي الدولي، يمكن ذكر أبرزها كالآتي:
- المبدأ الأول: مبدأ سلَم أو حاكم  aut dedere aut judicare
يعود هذا المبدأ بجذوره التاريخية إلى الفقيه هوغو غروثيوس، الذي طرح مبدأ التسليم أو المعاقبة (aut dedere aut punire). ويؤدي هذا المبدأ دورًا محوريًا في مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم، ولا سيما في الجنايات ذات الأهمية الدولية. وبالمقابل ترتكز سياسة الولايات المتحدة على منح حصانة جنائية لأفراد جيشها أو مواطنيها من مرتكبي الجرائم الدولية وخاصة في قضايا التعذيب، كالتي شهدها العالم في سجني أبو غريب وغوانتانامو، وهذا ما يحتّم مسؤوليتها الدولية استنادًا لاجتهاد محكمة العدل الدولية حيث خلصت في قضية (بلجيكا ضد السنغال 2012) إلى أن انتهاك التزام دولي بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب هو فعل غير مشروع يترتب عليه مسؤولية الدولة. فالغرض من الالتزام بالتسليم أو المحاكمة هو منع الأشخاص الملاحقين من الإفلات من العقاب ومن حصولهم على ملاذ آمن. ويعود الالتزام بمبدأ "سلّم أو حاكم" بجذوره القانونية الى أسس متعددة وذلك على النحو الآتي:
I.    العرف الدولي فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، وبالإبادة الجماعية، وبالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وبجرائم الحرب.
II.    القواعد الآمرة (Jus Cogens) عندما ينشأ الالتزام بالتسليم أو المحاكمة عن القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي.
وفي كلتا الحالتين، تكون الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها ملزمين بموجب التسليم أو المحاكمات الجدية غير الصورية، دون حاجة لوجود صك اتفاقي أو تعاهدي مع شخص من أشخاص القانون الدولي.
(2) المبدأ الثاني: مبدأ الولاية القضائية العالمية   (Universal Jurisdiction)
ويعرّف هذا المبدأ بأنه: الاختصاص الذي يمنح لكل قضاة العالم أهلية متابعة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة طبقًا لقوانينهم العقابية، بغض النظر عن مكان ارتكابها، وجنسية الأطراف، وبهذا يعدّ الاختصاص العالمي استثناء على مبدأ إقليمية قانون العقوبات، وهو بمثابة آلية إجرائية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدوليةّ. كما يشكّل إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني وقمعها، المكرّسة في اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكوليها الإضافية للعام 1977، والمشمولة أيضًا بالقانون الدولي العرفي. وتتعدّد الأسس القانونية لهذا المبدأ، فمنها ما هو اتفاقي تعاهدي كاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984، ومنها ما هو عرفي كتجريم الرق والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم ضد السلام والتعذيب، وتجريم الفصل العنصري، والتي بمعظمها من القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي فلا يجوز انتهاكها أو تقييدها تحت طائلة البطلان وفقًا للمادة (53) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات.

ثالثًا: في تعطيل دور مجلس الأمن الدولي في تحريك قضايا تدخل في الاختصاص النوعي للمحكمة الجنائية الدولية، وعرقلة سير العدالة الجنائية.

دخل نظام روما للعام 1998 حيّز النفاذ في 11 نيسان 2002، وفي الأول من تموز من العام 2002 أصبح للمحكمة أهلية تامة لمحاكمة الأفراد المرتكبين لأشد الجرائم خطورة كما حددتها المادة (5) وهي جرائم الإبادة للجنس البشري، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.
ومن خلال تحليل هذه المواد، يتضح لنا أن قرار العقوبات الخاص بالمحكمة من شأنه أن يعطّل إعمال الفقرة (2) من المادة (13)، والتي تنص على: "إذا أحال مجلس الأمن، متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت..."، كما يقوّض صلاحيات مدعي عام المحكمة في مباشرة التحقيق بجرائم دولية عملًا بنص المادة (13) الفقرة الثالثة معطوفة على المادة (15) منه ونصها "للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل تحت اختصاص المحكمة".
وعليه، يتبيّن لنا خطورة تداعيات هذا القرار من خلال الاطلاع على مفاعيله الكارثية بحق الإنسانية، إذ يستفاد من ذلك أن الرئيس "ترامب"، بقراره هذا قد عطّل إمكانية إعمال مبدأ الصلاحية العالمية للمحكمة أو أي دولة أخرى إذا رغبت في ملاحقة ومساءلة مرتكبي الجرائم الجسيمة المشمولة بالاختصاص النوعي للمحكمة. وهذا التعطيل يصبّ في مصلحة إباحة التجريم دون الخشية من العقاب، وبالتالي انتهاك لمبدأ المصلحة الدولية المشتركة المتمثلة بتعزيز الأمن الجماعي وهو من مقاصد ميثاق الأمم المتحدة.
ولا يخفى على أحد، أن حلفاء الولايات المتحدة كالسعودية والأمارات متورّطون بجرائم حرب في اليمن، ويمكن مقاضاة الدول المتحالفة ضده عن جرائمهم وانتهاكاتهم الجسيمة لاتفاقيات جنيف للعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية بصرف النظر عن انضمامهم اليها، لأنها باتت بمعظمها أعرافًا دولية ملزمة ولا تحتاج لرضا الدول. كما أن الكيان "الإسرائيلي" متورط بجرائم حرب وإبادة في غزة، وبالتالي يمكن للسلطة الفلسطينية وهي دولة طرف في المحكمة الجنائية الدولية مقاضاة العدو الإسرائيلي على جرائمه، وهي بالفعل بدأت بذلك.

وخلاصة الأمر، يظهر بوضوح مستوى الازدراء الأميركي للقيم الإنسانية، وبالتالي عمّا قريب ستتحوّل أميركا إلى ملاذ آمن لمجرمي الحرب في العالم.


* أستاذ جامعي وباحث قانوني.


Tags:



  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي