كتابات الموقع > حسب العنوان > مقالات> مقالات: العالم العربي في مواجهة مأزق التغيير: الحاجة إلى ثلاث ثورات متزامنة / د. عبد الحليم فضل الله
مقالات: العالم العربي في مواجهة مأزق التغيير: الحاجة إلى ثلاث ثورات متزامنة / د. عبد الحليم فضل الله
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في قلب المشرق العربي وتلقي بظلالها على أرجاء أخرى منه، هي الحلقة الأخطر في سلسلة أحداث مطردة ومتناسلة بدأت ارهاصاتها مع بزوغ فجر الألفية الثالثة وبلغت ذروتها مع اندلاع الأحداث العربية قبل خمسة أعوام. لقد نجح ما سمي ربيعاً عربياً في توسيع المجال السياسي وأخرج في مراحله الأولى كتلاً اجتماعية وشعبية هائلة عن حيادها وصمتها، وبدا وكأنه يمهد الطريق أمام نشوء حركات جماهيرية كبرى كتلك التي قامت في أوروبا وآسيا وساهمت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في إحداث انعطافات تاريخية كبرى.


لكن القوى الاجتماعية والفئات المتنوعة التي انخرطت في الاحتجاجات عانت لاحقاً من إخفاقات جمة. فهي فشلت في تكوين الإجماع التأسيسي الذي لا بد منه لتحويل الانتفاضات الى رحم خصب للتغيير، ولم تتمكن من بناء رافعة تاريخية لرؤية ثورية طموحة، كما عانت في مرحلتها السلمية من تواضع في الأهداف التي لم تتناسب البتة مع ما عبرت عنه الحشود من تفويض شعبي منقطع النظير. وعلى العموم كان هناك قصور في الرؤية بعيدة الامد ساهم تارة في نجاح الثورات المضادة ومهّد تارة أخرى لاندلاع الحروب الاهلية.


في النموذج المصري - التونسي كانت الأولوية المطلقة هي لقضايا الداخل المفصولة عن البيئة الخارجية والعوامل البنيوية المرتبطة بطبيعة النظام نفسه، والمحيطة بعمل الدولة وسياساتها وتحالفاتها ومواقفها من القضايا الحيوية. يكفي حسب هذا النموذج تحسين آليات تداول السلطة، ومكافحة الفساد، وتوفير الحد الأدنى من الحقوق السياسية (وبدرجة اقل الحقوق الاجتماعية) لتحقيق التغيير المنشود. هذه الفرضية الخاطئة هي التي انتجت التوافق المبكّر بين القوى الثورية وغير الثورية على سلوك طريق الانتخابات كمدخل وحيد برأيها إلى تحقيق هدفي التغيير والاستقرار في آن معاً.


لقد اقتصر حديث الثورة في هذا النموذج على البعد المحلي للسياسة مهملاً أبعادها الإستراتيجية والتي لا غنى عنها لبسط مظلة أمان وحماية فوق أي تجربة نهضوية وتنموية تنشد الاستقلال. لكن الميل الى الحلول السهلة ونأي النخبة بنفسها عن مواجهة التحديات الخارجية، واختلال معايير التمييز بين الخصوم والأصدقاء والحلفاء والأعداء، مهد لاحقاً الى نقل الصراعات المحتملة من الخارج الى الداخل وادخل الانتفاضات الشعبية في دوامة القوالب التقليدية الراسخة التي ثارت ضدها.


في سوريا كان النموذج مختلفاً والرهانات معاكسة. الاستقطاب الصراعي بشأن هذا البلد كان ولا يزال متمحوراً حول دوره وتحالفاته وموقعه من قضايا الإقليم وتناقضاته. لم تصمد العناوين الإصلاحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية طويلاً أمام سطوة صراع المصالح والمبادئ بين محور المقاومة من ناحية والمحور المناوئ له من ناحية أخرى، ولم تكن تلك العناوين والمطالب متناسبة على أي حال مع ضراوة الحرب السورية ودمويتها. وبالمقابل أظهر تطور الأحداث أن عناصر التسوية الداخلية متوفرة إذا أمكن تحييدها عن المؤثرات الخارجية، وعبرت المصالحات المحلية عن الميل العميق لدى المجتمع السوري لانهاء النزاع مع الحفاظ على بنية الدولة والخطوط العريضة لسياساتها العامة. لنلاحظ هنا ان العواصم الدولية كانت الأكثر حماسة للتصعيد خلال العامين الأولين من الحرب السورية، ثم انتقلت الحماسة الى العواصم الإقليمية ولا سيما الرياض وأنقرة، دون أن نغفل دورين آخرين: دور الكيان الاسرائيلي المتحفز دائماً لإقصاء آخر الجيوش العربية من معادلة الصراع للتفرغ لخطر المقاومة، ودور المجموعات التكفيرية التي تستفيد من تقاطع المصالح مع أطراف عدة لتحقيق آمالها المستحيلة مشاريعها العدمية.


في بلدان عربية أخرى برز نموذج ثالث. ارتبط تطور الأحداث هناك على نحو ما بتحرك صفائح الهويات الفرعية، وترهل الهوية الوطنية تحت وطأة الاستئثار بالسلطة والثروة من قبل نخبة صغيرة العدد. وكان يؤمل من الدينامية الثورية ان تفضي الى تسويات سياسية-اجتماعية ذات قاعدة عريضة تعيد انتاج هذه الهوية على قواعد صلبة تكفل الانسجام والتنوع. لم يتحقق ذلك إما بسبب وصاية "الأخ الأكبر" (الدور الخليجي في اليمن) او بفعل الغزو الخارجي الذي جعل الفوضى والانقسام المناطقي والأهلي يحلان محل الثورة وتصحيح العقد الاجتماعي (تدخل الناتو في ليبيا).


يعبر القمع الخارجي الذي تعرضت له ثورة البحرين  عن وجه آخر من مأزق التغيير في العالم العربي. فبكل بساطة ممنوع على الاصلاح أن يطرق أبواب الدول النفطية، تلك التي تنعم بحماية عسكرية أميركية مطلقة، وتعوض عن تخلف بنيتها السياسية بعصبية دينية وقبلية تتغذى من تعبئة مذهبية متواصلة، وبموارد مالية لا تنضب. تزعم دول الخليج أنها تحقق الهدف الجوهري للديمقراطية المتمثل في الرخاء والرضي العامّين دون أن تضطر إلى اعتماد الديموقراطية سبيلاً إلى تكوين السلطة وإدارتها. لكن تقارير التنمية البشرية والإنسانية ومؤشرات الفساد تضعها في المراتب المتأخرة على صعد الحكم الرشيد والفساد ونصيب الفرد من الخدمات العامة، وتبين أنّ العائدات النفطية هي ما يمنع انضمامها الى لائحة الدول الفاشلة. وتعالج هذه الدول مخاوفها بالهروب الى الأمام، إن من خلال التصدي لأدوار تفوق  طاقاتها وخبراتها السياسية والعسكرية، او بمحاولتها وعلى نحو معاند لمسار التاريخ الانفراد بمقعد القيادة في العالم العربي.
لقد منعت الأنظمة الريعية في السابق التجربة الناصرية وغيرها من التجارب الوطنية والقومية في العالم العربي من تحقيق بعض أهدافها التغييرية، وها هي الآن تكرر الأمر نفسه مستعينة بذخيرة من الضخ المالي غير المحدود والتعبئة المذهبية غير المسبوقة.


هناك إذاً وجوه متعددة لمعضلة التغيير التي تواجهها المنطقة، وترمي بها في أتون ديناميات تفتيت وتفكك تهدد بنيتها الاجتماعية والبشرية والثقافية. يكفي أن نتابع انهماك مراكز التفكير والأبحاث الغربية ولا سيما منها القريبة من صانعي القرار، في رسم الخرائط الجديدة للمنطقة (راجع مثلاً التقرير الأخير الصادر عن مؤسسة راند)، لنكتشف أن الحديث المتكرر عن إعادة رسم حدود المنطقة بالدم تتردد أصداؤه بجدية في أروقة العواصم المؤثرة. لكن ما لا يدركه هؤلاء أن رسم خرائط جديدة على قياس الانتماءات الفرعية المتصارعة حالياً هي محاولات عقيمة، فالهويات الصغرى هي بطبيعتها ظرفية وهشة، ولن تكون أبداً المادة الصالحة لبناء جغرافيا سياسية مستقرة وبديلة للجغرافيا الحالية، بل إنها ستضاعف من خطورة الفراغ الجيوسياسي وستزيد من قوة الجذب الى الأسفل الناتجة عن المحاولات الأميركية الفوضوية للتخفف من بعض أعباء المنطقة. لكن واشنطن التي فقدت جزءاً كبيراً من ذخيرتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية في المنطقة تزيد من توتر حلفائها الحائرين والمتوترين أصلا، بإعلانها أنها معنية بحماية أمنهم لا بتبني مصالحهم.


على أنّ الخروج من نفق الأزمة والحرب لا يكون بمحاولة الرجوع الى الوراء، أي إلى المرحلة التي سبقت اندلاع الاحتجاجات العربية التي كشفت عن كثير من الحقائق المكتومة، فإعادة المارد الشعبي إلى قمقمه لم يعد ممكناً، كما لم يعد ممكناً إعادة الهويات الفرعية والصغرى الى رحم الهوية الكبرى الجامعة إلا في إطار اجتهاد نظري وسياسي لتطوير مفهوم العروبة، وعمل نضالي لاستنقاذها من الوقوع رهينة الأنظمة النفطية التي تريدها ذخيرة إضافية في صراعاتها المتزايدة.


وفي جميع الأحوال أظهرت منطويات الانتفاضات الشعبية وما تناسل منها او رافقها من نزاعات وحروب، وجود ثلاثة أبعاد رئيسية لمعضلة التغيير في المنطقة هي: أزمات الهوية، وغياب المشروع المتكامل والمتوازن، ووجود قوى ودول ترى أن مصلحتها تقوم على استعادة الوضع القديم، والوقوف في وجه التحولات أو حرفها عن مسارها.


لقد كشف صعود الانتماءات الفرعية وانفجارها الدموي عن ضعف تكوين الهويات الوطنية التي لم تصمد أمام الاختبار، ولم تنجح في أن تكون تعبيراً قطرياً عن الهوية العربية الجامعة، المفترض أنها حاضنتها الأوسع ومصدر قوتها وتماسكها. لكن تجاوز معضلة الهوية يتطلب قبل أي شيء آخر تجديد فكرة العروبة نفسها بحيث تكون رابطة رحبة يتوازن فيها البعدان العربي والإسلامي، ويكون بمقدورها الحفاظ على تنوع النسيج الثقافي والاجتماعي والعقائدي كما انتهى الينا عبر رحلة تاريخية معقدة وخلّاقة. و لا يمكن على أي حال اختزال العروبة داخل وعاء اثني او طائفي أو مذهبي ضيق، قائم على الدمج القسري أو الانصهار الإجباري.


لكن الهوية العربية الجامعة ليست أمراً افتراضياً مجرداً ولا انتماء بديهياً، إنها أيضاً حقيقة موضوعية وخيارٌ فكريٌ وسياسيٌ، ولا يمكن تجديدها إلاّ في إطار مشروع حضاري وإصلاحي شامل، يرفض في الداخل التمييز والاستئثار بالسلطة ويصون الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ويطمح على المستوى الخارجي الى المشاركة في بناء نظام إقليمي قائم على التعاون مع الجوارين الإسلامي والإفريقي من ناحية وترسيخ التوازنات المركبة في مواجهة العدو وقوى الهيمنة من جهة أخرى. وفي هذا السياق لا بد من الاستفادة من التجارب من أجل ترميم نظرية الأمن القومي العربي، إن من خلال إعادة بناء الجيوش العربية على أساس عقيدة قتالية جديدة واستراتيجية دفاعية موحدة، أو بتعميم خيار المقاومة التي نجحت في تقليص فجوة القوة بأقل الإمكانات. ويمكن للعرب في معرض  بحثهم عن المكانة والدور والتنيمة المستقلة إلى المسارعة إلى شغل مقعدهم الخالي في قطار التحالف الشرقي الآخذ بالتكون والذي تتعاظم جاذبيته الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتزداد قدرته على الاستقطاب اقليمياً ودولياً. ويضم هذا التحالف العتيد قوتين عالميتين ممثلتين في مجلس الأمن: روسيا والصين، ودولة إقليمية مؤثرة هي إيران، وتربطه علاقات تنسيق قوية مع دول أخرى عبر تجمع البريكس ومنظمة شانغهاي..


وباختصار، إن الخروج من نفق الأزمة يستدعي القيام بثورتين متزامنين: واحدة على المستوى الوطني تهدف الى بناء الدولة العربية على أسس احترام الحقوق السياسية والاجتماعية والانسانية، وثورة على المستوى الجيو سياسي من أجل بناء نظام إقليمي متجه نحو الشرق، تتضامن أطرافه فيما بينها على تحقيق التنمية ومواجهة المخاطر وتكريس التوازن  المركب  مع العدو، ويكون قادراً على الاستفادة من الفرص التي يوفرها عالم متعدد الأقطاب..


لكننا وقبل ذلك كله نحتاج إلى ثورة ثالثة تشمل منظوماتنا المعرفية، العاجزة عن فهم التحولات واستشرافها وإدراك دلالاتها، وفكرنا السياسي الذي لا يبدو صالحاً حتى الآن لصياغة تصوراتنا البديلة وتقديم مساهمات مفيدة في مسيرة العالم.

*رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق - لبنان





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي