كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: الاستبعاد الاجتماعي: نحو فهم أوسع ...
مقالات: الاستبعاد الاجتماعي: نحو فهم أوسع ...
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

يتسلّل مفهوم الاستبعاد إلى مسرح النقاش الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، مضيفاً اداة جديدة الى ادوات تحليل إخفاقات هذا البلد وأزماته، ومع أن مسألة الإقصاء أو الاستبعاد تكتسب أهمية متزايدة على المستوى العالمي، فإن التساؤل يبقى مبرراً، حول صحة الحديث في لبنان عن إقصاء اجتماعي صرف لا يكون للسياسة أو الطائفية دخل فيه، وذلك على غرار الحديث الذي دار في ورشة عمل عقدت في بيروت مؤخراً، واشرف على تنظيمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تمهيداً لإصدار تقريره الجديد عن لبنان.
على أن تناول المنظمات الدولية لهذه المسألة، يعد أمراً إيجابياً بحدّ ذاته، فهو يشير إلى بوادر تحرر، ذهني على الأقل، من القيود "الفكرية" التي فرضها كل من صندوق النقد الدولي في مجال السياسات المالية والنقدية، والبنك الدولي في مجال السياسات الاجتماعيّة. فالاقصاء الاجتماعي ليس مفهوماً معزولاً بل يندرج في تيار تنموي واسع، يسعى إلى إحياء الديمقراطية الاجتماعية، ويحثّ دوماً على اعتبار قضايا الاقتصاد الرئيسية شأناً عاماً يقرره ممثلو المجتمع.
 ويُعتبر عالم الاجتماع الشهير انتوني غيدنز رائداً في تطوير مفهوم الاستبعاد، إذ وجد أن صعود إحدى كفتي الميزان الاجتماعي يكون غالباً على حساب الأخرى، كما ميّز بين الاستبعاد الاختياري أو ما أطلق عليه "ثورة جماعات الصفوة"، التي تختار بملء إرادتها طريقة في العزلة تليق بمن يقفون في أعلى سلم الثروة، وبين العزلة الإجبارية التي يخضع لها الراقدون في القاع. واللافت-استطراداً- أن الإقصاء لم يؤرق المستبعدين وحدهم، بل كان محل عناية كبير من قبل المهددين بردة فعل هؤلاء المستبعدين، بل إن مصطلح الإقصاء نفسه ظهر لأول مرة في سياق معالجة الدول الأوروبية لمسألة الأقليات، تجنباً للآثار التي يمكن أن تتركها سياسات العزل والتهميش على الوحدة والتماسك القوميين.
بيد أن تحديد معنى الاستبعاد، يتطلب تمييزاً أفضل بينه وبين الفقر، فالأول يتعلق بالحرمان من حقوق تدخل في صلب التعاقد الاجتماعي، وبالحرمان كذلك من حق المشاركة في اتخاذ القرار وصناعة المصير، أما الثاني فيرتبط عموماً بالإخفاق الاقتصادي وأزمات التنمية، ولو انه يتصل أيضاً بسوء السياسات وبالقرارات التي تتخذ تحت تأثير جماعات الضغط. بالتالي هناك علاقة لا يمكن تجاهلها بين الاقصاء الاجتماعي ومسائل حساسة عديدة لها طابع اقتصادي وسياسي في آن، كالتمييز وعدم المساواة ونقص قنوات المشاركة، والاستقرار، فالمستبعدون يجدون أنفسهم غالباً عالقين في مصعد سياسي معطل، ولا يرون مناصا بعد حين من أن يطرقوا الابواب بقوة، وبعد فترة أخرى سيقدمون على تحطيم الأبواب من دون أن يتمكن أحد من ردعهم.
ويلتقي هذا التحليل الذي يربط بين اتساع ظاهرة الاستبعاد الاجتماعي وقصور النظام السياسي والاقتصادي، مع الأفكار التي اعتمدها باحثو مدرسة لندن للاقتصاد، والتي حددت أربعة أبعاد للاستبعاد: عدم التمكن من استهلاك السلع والخدمات، عدم وجود فرص فعلية للمساهمة في أنشطة ذات قيمة اقتصادية واجتماعية، نقص المشاركة في صنع القرار على المستوى المحلي والقومي، وضعف التفاعل الاجتماعي مع المحيط. وهكذا تتعمق عزلة الفرد كلما قلّت مساهمته في الأنشطة الأساسية للمجتمع الذي يعيش فيه.
بالنسبة إلى لبنان هناك صعوبة في تحديد من هم المقصيّون والمستبعدون فضلاً عن تحديد أعدادهم وأماكن انتشارهم، ويزيد من تعقيد المهمة وجود ميل إلى اشتقاق مفهوم تقني مبسّط، مبني على المعايير المعتمدة في وضع خارطة أحوال المعيشة، وهذا ما سيجعل تحليل الاستبعاد مجرد وصف جديد للمشكلة لا يقدم جديداً. وقد تجسد هذا الميل إلى التبسيط، في اعتماد بعض المشاركين في ورشة عمل البرنامج الإنمائي (وسواهم)، مقياساً للإقصاء الاجتماعي يحتوي فقط على معياري الدخل والخدمات الأساسية، ويكتفي من ثم بتجميع العوامل المستعملة في تحديد مستوى إشباع الحاجات الرئيسية كالمسكن اللائق، الصحة، التعليم، ومستوى التمييز بين الجنسين، والبطالة.
وفي مقابل هذا الفهم الضيق، من المهم اعتماد معادلة أوسع للاستبعاد الاجتماعي تأخذ باعتبارها متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسيّة متنوعة، فبوسع هذه المعادلة أن تساهم  في تحقيق النقلة المرجوّة من منطق التوزيع وهو توزيع ريعي مجحف وغير فعّال، إلى منطق الحقوق الاساسية التي لا يمكن التفريط بها أو التقليل من أهمّيتها، ليصبح قياس الاستبعاد مبنياً بالتالي على درجة احترام هذه الحقوق ومراعاة مستلزماتها.
وبالنسبة إلى الوضع اللبناني الراهن الذي تزداد فيه المخاطر، ويرتفع فيه مستوى الاحتقان والتوتر على الصعد كافّة، هناك حاجة إلى أن توضع سياسات مكافحة الاستبعاد، في سياق تحقيق ثلاثة غايات: العدالة من خلال إشباع الحاجات الاجتماعية الاساسية المذكورة، الكفاءة التي تستدعي عناية خاصة بشروط المنافسة، والاستقرار الذي يلحظ حقوقاً غير تقليدية كالحق بالنفاذ الى الخدمات الحيوية بكلفة معقولة (كهرباء، هاتف).
إن تحديد الحقوق الأساسية التي تحقق هذه الغايات مجتمعة لا يمكن أن يتم في ظل الإقصاء السياسي الذي يولّد كما هو معروف ألوانا أخرى من الإقصاء، ولا يتم كذلك دون رفع الحظر التاريخي عن دخول مشاركين جدد إلى دوائر اتخاذ القرار، أما صيانة المصعد الاجتماعي/السياسي فيستدعي تحليلاً مختلفاً للأدوار، واعتماد مقاربة جريئة وصريحة لمساهمة النخب المالية والإدارية في تعميم ظاهرة الاستبعاد، فمن غير الممكن فصل الاستبعاد عن الممارسات التي يلجأ إليها "الصفوة" القابضين في الوقت نفسه على الموارد وعلى آلة السلطة، بكل ما تحتويه من نفوذ.





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي