كتابات الموقع > حسب العنوان > مقالات> مقالات: ما يقوله مشروع الموازنة
مقالات: ما يقوله مشروع الموازنة
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

لا تخلو موازنة 2010 من دلالات، مع أنها فوتت مهلها الدستورية وتخطت مبدأ السنوية الذي يكسب الأرقام والنسب أهميتها. هي لم تحدث تغييراً ملموسا، لكنها منعت حصول الأسوأ، أي زيادة العبء الضريبي على فئات ترزح أصلاً تحت أعباء ثقيلة. إنها بوصف أدق، موازنة الأسئلة المعلقة، والأجوبة المرتجلة، كما أنها تعبر مرة أخرى عن تردد مجتمع السياسة أمام المنعطفات الصعبة، وهو الآن يواجه خيارين لا ثالث لهما، القيام بإصلاح ثلاثي الأبعاد؛ ضريبي وإداري ونقدي، أو التوغل من جديد في طريق سياسات تمنع الانهيار وتكبت مفاعيل الأزمة، لكنها تترك حبل الخراب والترهل على غاربه.

تقول الموازنة في فذلكتها التمهيدية، وهي أكثر ما يستحق النقاش، أن الهدف المركزي للحكومة خفض نسبة الدين العام إلى الناتج. وبحسب الجداول المرفقة يواصل الدين العام هذه السنة خطة البياني المتصاعد دون تغيير، قافزاً دفعة واحدة من 51.3 مليار دولار أميركي إلى حوالي 55.5 مليار $، وبمعدل زيادة مقداره 8.2% (بينما لم يتجاوز معدل السنوات الأربع الماضية 6% فقط)، هذا في مقابل تحسن حسابي سيلاقي ثناء دولياً، يتمثل في خفض نسبة الدين العام إلى الناتج. مع العلم أنّ نمو الناتج بمعدلات تفوق نمو الدين (وهو ما يعول عليه كثيراً صندوق النقد الدولي) لا يرفع بالضرورة الخطر عن كاهل المالية العامة، فمع زيادة حجم الدين يزيد انكشاف الدول لأزمات الأسواق المالية العالمية، التي قد تبتلع في طرفة عين كل مكاسب النمو السابقة.

صحيح أن تقديرات موازنة 2010 تشير إلى أن نسبة الدين العام/الناتج ستصل إلى 147.47% في نهاية العام، بينما توقعت ورقة باريس 3 خفض النسبة إلى 151% بشرط تطبيق سلسلة طويلة من التدابير، لكن الصحيح أيضا أن هذا التراجع يتصل بعوامل عابرة ومؤقتة وقد لا تدوم طويلاً، أبرزها الارتفاع المزدوج لمعدلات التضخم والنمو، اللذين أدّيا-على ذمة الإحصاءات- إلى نمو اسمي ضخم في الناتج بلغ حوالي 49.5% في السنوات 2007-2010، وهذا يزيد عن ضعفي متوسط نمو الدين في الفترة نفسها. ويعزى تراجع نسبة الدين/الناتج من ناحية أخرى إلى التقديرات المبالغ بها للأرقام. فبينما أشارت أعلى التقديرات إلى أنّ الناتج سجل 32.7 مليار دولار للعام الماضي ويتوقع أن يسجل حوالي 35 مليارا هذا العام، اعتمدت الموازنة تقديرات مثيرة للدهشة هي  35.5 مليار$ و37.6 ملياراً على التوالي للعامين المذكورين.

تقول الموازنة ثانياً أنّ هناك ثمناً باهظاً للتوسع في الإنفاق الاستثماري، سيظهر هذا العام على شاكلة تراجع حاد في الفائض الأولي، من 1314 مليار ليرة لبنانية إلى 27 ملياراً فقط، أي ما يساوي ،للمفارقة، الزيادة المقدرة في الإنفاق الاستثماري. بالتالي فإنّ استكمال تنفيذ قوانين البرامج للسنوات الآتية سيؤدي حكما- وفق منطق الموازنة- إلى التخلي عن المكاسب التي تم تحقيقها حتى الآن على مستوى استيعاب الدين. الأمر الذي يضع الحكومة أمام أحد احتمالين: زيادة الضرائب أو استعمال جزء من فائض السيولة المصرفية لتأمين تمويل إضافي.

هنا يستحق خيار الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص PPP حواراً وطنياً مسهباً وموسعاً، وما دام أنّ الموازنة الحالية رصدت الاعتمادات اللازمة لتلبية الاحتياجات الاستثمارية العاجلة، فلدينا متسع من الوقت لإدارة نقاش تقني وسياسي حذر، من شأنه أن يسمح بالتحقق من الجدوى المالية، والجدوى الاجتماعية/الاقتصادية للشراكة، في كل مشروع على حدة، و يتيح أيضاً التأكد من مدى تناسب آلية عملها مع احتياجات الإصلاح القطاعي، وتوافقها مع التوقعات الاقتصادية في الأمدين المتوسط والبعيد. فإذا كان المتوقع مثلاً استقرار أسعار الصرف وارتفاع الدخول الفردية مع تدن في نسب التضخم، فهذا يزيد من حظوظ نجاح الشراكة، أمّا إذا كان الاقتصاد يعمل في ظروف الريبة (uncertain)، فسيرتفع احتمال أن تضطر الحكومة إلى زيادة  إنفاقها على الدعم، لتمكين الأسر عند حصول تدهور ما، من الوصول إلى الخدمات العامة المعروضة بأسعار السوق.

على أنّ خفض الفائض الأولي ليس قدراً، فيما لو تبنت الموازنة بضعة تدابير، من شأنها إمرار النفقات الاستثمارية دون التفريط بالفائض. مثل: فرض ضريبة على الشركات العقارية أسوة بالشركات المالية الأخرى، والكف عن إعفاء المصارف ضمناً من ضريبة فوائد السندات، (التي يسمح لها باستردادها من ضرائب الدخل المتوجبة عليها، بينما لا يتمتع المودعون أو الأفراد المكتتبون بالحق نفسه)، وإذا أضفنا إلى ذلك التخلص من ودائع القطاع العام الزائدة لدى مصرف لبنان، فإن الفائض الأولي سيرتفع إلى ما بين 800 و1000 مليار ل.ل.

تقول الموازنة أيضاً، أنّ هناك سقوفاً واطئة للإصلاح. ففي إحدى الفقرات تبدي وزارة المالية عزمها على " التحضير لعدة إجراءات" في الفترة المقبلة، لكن إذا استثنينا "تطوير النظام الضريبي عبر اعتماد النظام الضريبي المجمع لمصادر الدخل"، و"العمل مع المجلس النيابي على إقرار رسوم تسوية المخالفات البحرية والنهرية"، فإن الإجراءات الأخرى لا تعدو  كونها تصحيحات إدارية وتقنية لا تحدث فارقا جوهرياً. بينما أغفلت الوزارة قضايا ومسائل باتت تحظى بشبه إجماع، ولم تلق ممانعة علنية حتى من الفريق الأكثري، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: فرض ضريبة على أرباح التحسين العقاري، ووضع إطار عام للإصلاح الضريبي يحد من عشوائية واضطراب السياسات الضريبية، إضافة إلى تطوير الضريبة على القيمة المضافة لتصبح ضريبة تصاعدية مرنة ومتعددة الشطور.





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي