كتابات الموقع > حسب العنوان > مقالات> مقالات: عن التجربة اللبنانية التي لا تتخطى عتبة التنمية
مقالات: عن التجربة اللبنانية التي لا تتخطى عتبة التنمية
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

 لطالما دار الحديث عن فرادة "النموذج اللبناني".. عن تألقه ومرونته وقدرته على صنع المفاجآت، فهل لدى لبنان بالأصل نموذج خاص يختلف عن تجارب الدول النامية الواقفة عند خط البداية؟ وأليست تمثل المبالغات المحيطة بهذا الاقتصاد الصغير اعتراضاً مبطناً على مساعي التغيير،  وتكريساً للمكاسب التي تحصل عليها فئات دون أخرى.
مع ذلك فان للبنان ميزة هي أقرب للمفارقة. لقد كتبت له النجاة أكثر من مرة. مشى على حافة الهاوية دون الوقوع فيها، وأظهر صمودا مفاجئاً في منعطفات خطرة. لكن في أوقات الوفرة والرواج حصل العكس، حيث عجز عن إحداث خرق يتيح له الانتقال إلى مصاف الدول السائرة في طريق التصنيع، كان بوسعه فعل ذلك لولا ذلك التزاوج بين المصلحة الخاصة والروح التقليدية المهيمنة على مالكي أمر السلطة والقرار.
لقد ضيّع هذا البلد على نفسه فرص تقدم ناجزة: النمو القوي الذي ضاعف الناتج خمسة مرات تقريباً في الربع الثالث من القرن الماضي، جرى استنزافه بعجز تجاري كبير، وصل معدله السنوي إلى 50% في الأعوام 1960-1975. الإصلاحات الشهابية مثلت بداية الطريق إلى إدارة اقتصادية رشيدة ومسؤولة، لكنها صارت مع الزمن بيروقراطية مترهلة لم تسلم من سطوة السياسة لتغدو ألعوبة في أيدي مراكز القوى. التشريعات "الجريئة" التي اعتمدها لبنان باكراً، ساهمت في خلق ميزته المالية، كالسرية المصرفية، والحساب المشترك، وإلغاء القيود على تحويل العملات في وقت مبكر، لكن هذه الميزة تطورت على حساب المزايا التنافسية الأخرى، بل إنها تؤثر اليوم سلباً على مؤشرات الأداء النقدي والاقتصادي العام. ما تقدم يشير إلى قوة الكوابح وأدوات التعطيل في النظام، والى شح نظري وضع سقوفاً واطئة لاقتصاد يمتلك كل مقومات النجاح.
يمكن إذاً إضافة قيد آخر إلى الموانع التي حرمت لبنان من تخطي "عتبة التنمية"، فإلى جانب التنازع الطائفي والمناطقي على الموارد اليسيرة، وتباين المصالح بين الاحتكارات المرتبطة بالخارج وتلك التي ما زالت تتكئ على عكاز المساندة الحكومية، لدينا أيضا النزعة المحافظة والمترددة التي تحول دون اقتناص الفرص وتمنع من تقبّل الأفكار الجديدة، متسلحة بتراث ضعيف من الآراء التي عفى عليها الزمن.
وها نحن بأمس الحاجة إلى تحرر معرفي، يساعدنا على الخروج من نفق الأزمة ويفسح في المجال أمام تسرب وعي جديد، وهذا هو السبيل الوحيد لتوسيع أفق السياسات، وتخطي المحرمات التي تعيق انسياب النقاش الداخلي، وتطوير جدول الأعمال الوطني ليشمل مثلاً: تطوير قانون النقد والتسليف، وإعادة النظر في توزيع الأدوار بين المصرف المركزي والسلطتين التنفيذية والتشريعية على نحو يحد من الاستقلال المبالغ فيه للسلطة النقدية، إضافة إلى إصلاح أوضاع الخدمات العامة دون المرور حكماً على محطة الخصخصة، ووضع الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية في الرتبة نفسها التي تشغلها خدمة الدين العام.
المشكلة تكمن في ذلك الترابط الخفي بين المصالح الفئوية من جهة والأفكار والمبادئ الخاطئة من جهة أخرى. المصالح تبرر نفسها بأفكار ودعاوى خلابة، والأفكار تعيد تثبيت عربات النظام كلما ضعفت أو تداعت.
نحن لا نقوى على تعديل ولو طفيف في بعض بنود الموازنة، أو زيادة اعتمادات بعض الوزارات المحرومة تاريخياً، فكيف يمكن لنا حسم قضايا مهمة أكثر، ومد اليد إلى العصب الذي يتغذى منه النظام. المهمة صعبة بعض الشيء، لكن يمكن البدء من تجاوز بعض قواعد العمل النمطية التي ثبت خطؤها. مثلاً:
  الاهتمام ما زال منصباً على أزمة الدين العام، فلماذا لا تعطى الأولوية لمنظومة متنوعة ومتشابكة من الأهداف المالية والاقتصادية والاجتماعية. هذا عوضاً عن الاستسلام الدائم لفكرة أن كل نفقة إضافية لا بد لها من إيراد إضافي.
  النمو هو المقياس المعتمد للتمييز ما بين النجاح والفشل، بمعزل عن طريقة تحقيقه ومدى استدامته وقوة زخمة وتوزيع المستفيدين منه، فلماذا لا تؤخذ بالحسبان معايير مكملة، مثل تأثير النمو على العدالة وعلى تركيبة الاقتصاد وإنتاجيته وعلى موقع الدولة في سلّم التنمية.
 هناك ثلاثية تقبض على ناصية الاقتصاد: النمو القوي، الاستقرار النقدي، وانتظام تدفق الأموال من الخارج. فلماذا لا تضاف أبعاد جديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، درجة استخدام الموارد المادية والبشرية المتاحة وفعالية هذا الاستخدام، او مستوى تراجع الهجرتين الداخلية والخارجية، وارتفاع معدلات التشغيل، وعدد المصانع الجديدة التي يتم تشغيلها وخصوصاً في الأطراف والمناطق...
ليس خاطئاً الثناء على نجاحات ملموسة يسجلها "النظام اللبناني"، يكفي انه لم يسقط تحت وطأة الأحداث، ولم يصب بعدوى الأزمات، وحافظ على معدلات نمو لا تقل عن متوسط الدول العربية بل هو تجاوزها أحياناً. مع ذلك لا يمكن بل لا ينبغي التعايش مع حقائقه إلى الأبد، فهو حافل بالملابسات والتناقضات والمفارقات، ومحبذ للفوضى. من مفارقات هذا النظام انه ليبرالي من جانب وتدخلي من جانب آخر، الدولة تفرط في التدخل حيث لا ينبغي وتنكفئ حيث ينبغي، تقدم المساندة لغير مستحقيها وتحجبها عمن يستحق. ومن ملابساته رفض مبدأ التخطيط من اجل التنمية، واللجوء المكثف إليها لدرء الأزمات بعد وقوعها. هو يمجد النجاحات الفردية ويعول عليها كثيراً لكنه يخفق في جعلها قاعدة لنجاح جماعي الطابع يطال الاقتصاد بأكمله.
متى يصبح الإنتاج الممول بالمدخرات المحلية هو أساس وجود الطبقة الوسطى وليس الاستهلاك الممول من الخارج، وكيف يغدو التوازن المناطقي والاجتماعي جزءا من معادلة الاستقرار، وهل من فرصة لقيام اقتصاد حر منافس خارج القيود الاحتكارية. الإجابة رهن شروط كثيرة، و من بينها التخلي عن الأفكار القاطعة والموروثة التي تفرض نفسها فرضاً، فيتبناها حتى أولئك المتضررين منها.





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي