كتابات الموقع > حسب العنوان > مقالات> مقالات: المقاومة والسلطة والمجتمع: قراءة في إشكالية الوحدة الوطنية دروس مستفادة من تجربة المقاومة الإسلامية
مقالات: المقاومة والسلطة والمجتمع: قراءة في إشكالية الوحدة الوطنية دروس مستفادة من تجربة المقاومة الإسلامية
الدكتور علي فيّاض

تفترض هذه المحاولة أن قراءة تجربة المقاومة الإسلامية، في حال نمذجة التجربة من خلال انتزاع المفاهيم من سياقها العملي والسعي إلى تقعيدها في إطار بنية نظرية مقننة، سيكون ذا فائدة جوهرية، ليس فقط في إطار توثيق وإدراج التجربة في علم اجتماع السياسة، بل أيضاً، بغية الإسهام في تطوير التفكير الاستراتيجي العربي، وبناء صدقية الفكر الثوري في زمن يخيّل أنه غير مؤاتٍ لهذه الأشكال من الأفكار. فالمراكمة في التجربة لا تغني عن المراكمة في الفكر، وكلاهما يُعدَّان شرطاً لا بدّ منه للتطور.
وإذا كانت ولادة المقاومة بدت في لحظاتها الأولى وكأنها ظاهرة مفارقة وخارج هيمنة المنحى السياسي والاجتماعي السائد، فإن ذلك يجعل من الشرط السياسي – الاجتماعي عامل تفسير لولادة الظاهرة لكنه بالتأكيد ليس عامل إنتاج لها إلا أن استمرار المقاومة وتصاعدها وانتصارها لاحقاً، يبدو على نقيض الولادة، وثيق الصلة بتطور الشروط السياسية والاجتماعية، ويشكِّل هذا مصدر غنى للتحليل السياسي التاريخي بمعناه الأكثر عمقاً. وفي هذا الاتجاه يمكن القول: إن البحث في تطور مسار المقاومة، سيكون ملازماً بالقدر نفسه، مع تطور مسار الوحدة الوطنية، بعداً تفسيرياً ثرياً لمسار تنامي المقاومة نفسها.
والعلاقة بين المقاومة والوحدة الوطنية، لا  يجد معناه خارج البحث في العلاقة بين المقاومة والسلطة من ناحية، والمقاومة والمجتمع من ناحية ثانية.
أما الوحدة الوطنية فلا تعني بالضرورة إجماعاً مقفلاً على قضية من القضايا، حيث يندر في زمننا هذا أن نقع على إجماع بهذا المعنى. بل أن تعبير بعض المواقع والاتجاهات عن وجهة نظر مغايرة، لا يمس بوجود الوحدة الوطنية، خاصة في حال اجتماع الاتجاهات الأساسية على القضية الوطنية.
بيد أن ما يبدو شرطاً لهذه الوحدة هو اندراج السلطة في إطارها، فالموقف المغاير للسلطة، في حال حصوله، سيكون مولّداً لانقسامات حادة نظراً لفاعلية السلطة (أي سلطة) في منح المشروعية أو إضعافها، وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً في المجتمعات العربية، نظراً لغياب مجتمع مدني فاعل، ولقدرة السلطة على بناء فاعليتها بمعزل عن الدور الشعبي.
في الواقع مرت علاقة السلطة بالمقاومة في ثلاث مراحل:
-    المرحلة الأولى (الثمانينات)، حيث كان موقف السلطة موقفاً رافضاً للمقاومة في مناخ الانقسام الداخلي والحرب الأهلية واختلاف التحالفات، إذ أن خيار السلطة فعلياً كان خارج ما ترمي إليه المقاومة، وإذا أردنا أن نحدد هذا الموقف بدقة، فقد كان يتراوح ما بين رفض لها كخيار استراتيجي من ناحية، واستخفاف بها وعدم إيمان بجدواها من ناحية ثانية.
-    المرحلة الثانية: وهي مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، حيث جرى تحول استراتيجي في الخيارات السياسية للسلطة، وقد انعكس ذلك على الموقف من المقاومة، إذ جرى الاعتراف بها سياسياً من قبل السلطة، إلا أن السلطة حاولت أن تترجم موقفها هذا من خلال السعي إلى المس باستقلالية المقاومة ومحاولة إدراجها تحت وصايتها تحت شعار ضرورة أن تنسجم حركة المقاومة الميدانية مع حسابات السلطة وتقديراتها، خاصة وإن السلطة كانت قد اندرجت في عملية التسوية وفق مبادئ مؤتمر مدريد.
ويشكّل تفاهم تموز التعبير السياسي عن تطور هذه العلاقة بين المقاومة والسلطة. إذ أن سياق المفاوضات التي جرت كشف عن تطور معادلة سياسية تقوم على موقع مشترك للسلطة والمقاومة مدعوماً من سوريا وإيران في مواجهة إسرائيل وأميركا.
-    المرحلة الثالثة: ويشكّل تفاهم نيسان تعبيرها الأبرز، حيث دخلت علاقة السلطة بالمقاومة مرحلة من الاستقرار والتفاهم.
إذ أن السلطة غدت تتعاطى مع المقاومة كخيار استراتيجي ليس فقط في مواجهة التهديدات الإسرائيلية إنما أيضاً في بناء موقعها السياسي في التوازنات الإقليمية وتدعيم علاقاتها الاستراتيجية مع سوريا.
وقد تطورت هذه العلاقة تطوراً مثيراً بلغ حداً من التماهي والانسجام مع تسلّم الرئيس لحود سدة الرئاسة.
في موازاة ذلك ثمة مستوى آخر من العلاقة، كان يأخذ مساراً تطورياً بدوره، هو مستوى العلاقة بين المقاومة والمجتمع اللبناني... الذي يحوي تنويعاً سياسياً معقداً ومتنافراً. بيد أن الملاحظة الأساسية، التي تزخر بدلالات كاشفة لآليات تشكل الوحدة الوطنية، هي أن ثمة تساوقاً أو تواؤماً بين المسارين: مسار العلاقة مع السلطة ومسار العلاقة مع المجتمع، إذ أن اضطراد العلاقة بينهما كان واضحاً وجلياً. وبالتالي فإن المحطتين الأساسيتين اللتين يحسن على أساسهما تحقيب التحولات في العلاقة مع الاتجاهات السياسية والاجتماعية الأبعد، هما بالضبط تفاهم تموز الذي ظهر حالة الإجماع الوطني رغم احتوائها على بعض الشوائب، إلا أن تفاهم نيسان كرّس وأزال نواحي الاضطراب فيها، لتستقر قضية مقاومة الاحتلال كقضية وطنية إجماعية تلتقي حولها مختلف اتجاهات الواقع السياسي والطائفي اللبناني رغم انقساماتها وتصارعها.
لقد كشف ذلك عما هو معروف في بنية الواقع السياسي العربي، حيث أن السلطة قادرة على تعميق التصدعات السياسية والاجتماعية، أو رأبها والتخفيف منها، بالاستناد إلى قدرتها الفائقة في إعاقة النهوض المجتمعي – السياسي أو إطلاقه وتحفيزه. وسيكون ذلك مبرراً ومفهوماً في ظل عدم فاعلية المجتمع المدني العربي.
بيد أن الكشف عن ديناميات تشكّل الوحدة الوطنية من حيث صلتها بالمقاومة يستدعي أيضاً استحضار محطات أخرى، من شأنها أن تلقي الضوء على سياقات ذات دلالة في بناء العلاقة بين المجتمع والمقاومة. ففي هذا الاتجاه، شكّل استشهاد الأمين العام السابق لحزب الله السيد عباس الموسوي، محطة فاصلة، في استقطاب مناخ سياسي وإجتماعي عارم مع المقاومة، طاول الشرائح والفئات السياسية والطائفية التي كانت لا تزال تقيم قطيعة مع المقاومة، أو التي كانت لا تزال تبني مواقفها على قاعدة من الحذر والارتياب منها. لقد دلّ ذلك على القيمة الراسخة لحقيقة تنامي مصداقية المقاومة من حيث صلتها بالقدرة على الاستقطاب السياسي والاجتماعي. وكان ذلك مقروناً على نحو متلازم مع تنامي فاعلية هذه المقاومة في إظهار القدرة على تحقيق إنتصارات ميدانية جوهرية على العدو، وعلى تبيان حجم المردود السياسي لهذه الفاعلية على موقع لبنان في مواجهة الاستحقاقات الإقليمية المختلفة. إذن إن ما يمكن أن نطلق عليه بأنه المصداقية الذاتية للمقاومة، والفاعلية الميدانية والسياسية في خدمة المصالح الوطنية، شكلا عاملين، ما كان ممكناً تجاوزهما، في صياغة الاستقطاب السياسي والاجتماعي المشار إليه، وتوفيرهما لقاعدة معطيات موضوعية دفعت الواقع المجتمعي والسياسي باتجاه التحول الحتمي.
إن استقرار العلاقة السياسية والميدانية بين السلطة والمقاومة يشكّل تطوراً نوعياً في مستوى الصراع ضد العدو، وهو يشكف عن لحظة تكثيف في فاعليات المواجهة ودخولها مرحلة التأثير الحاسم في مسار الصراع، وقد يصح إعتبار ذلك بمثابة تدشين لمرحلة انكفاء العدو، إذ أن ذلك من وجهة أخرى، يعني إنتاجاً للشرط السياسي للانتصار. بعد أن كانت المقاومة قد أنتجت عبر مسارها السابق، الشرط العسكري لهذا الانتصار، ومن خلال إئتلاف الشرطين، تتشكل البنية المزدوجة ذاتياً وموضوعياً للانتصار.
إن ذلك يعني أن المرحلة الإشكالية في العلاقة بين السلطة والمقاومة، لن تكون قادرة على توفير البنية القابلة للانتصار... وفي هذه المرحلة، ثمة تحديات مريعة، تفرض على المقاومة امتحانها الأخطر. إذ أن تضارب الخيارات الاستراتيجية بين السلطة والمقاومة، يشكّل نقطة حاسمة في رسم الخيارات المستقبلية للمقاومة، خاصة وأن السلطة لا تترك للمقاومة حرية الإمعان في استراتيجية المقاومة، مستندة إلى منطق السلطة التلقائي النازع إلى الهيمنة والسعي إلى ضبط الإيقاعات وفقاً لحساباتها والتزاماتها...
ففي الاعتداد السلطوي بالذات الذي يقوم على احتكار المشروعية ونزعها عن أي وجود سياسي مناوئ، تكون المقاومة قد حشرت في زاوية الخيارات الصعبة التي تقتضي أعلى مستويات المسؤولية والدقة والتي تفرض اتخاذ خيارات تاريخية ذات تأثير حاسم في الوجهة المستقبلية للقضية...
وهكذا تتحدد خيارات المقاومة، ما بين التصادم مع السلطة أو الخضوع لسياساتها والانضواء في استراتيجيتها، أو اللجوء إلى إشكال ٍ معقدة وغير مريحة من المهادنة والتعايش والهروب من الصراع... ومن بين هذه الخيارات، سيكون كارثياً بكل المعايير اللجوء إلى الخيارين الأولين: خيار التصادم مع السلطة التي تستحيل أن تكون نتيجته لصالح المقاومة، إذ أن التصادم يقدِّم الفرصة المثلى للسلطة كي تنقض على المقاومة مستفيدة من شرعيتها المفترضة ومن شبكة تحالفاتها التي تساعدها على قلب الحقائق أو تشويهها، لذلك إن التصادم مع السلطة في حالة المقاومة (وليس في حالة التغيير السياسي الداخلي) لن يكون، وعلى الدوام، في صالح المقاومة، وهذه حقيقية سوسيو – سياسية يدب أن لا يتم إغفالها أو الاستخفاف بها.

 





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي