إن السياقات الأربعة لجائحة كورونا، هي التالية:
(1) على مستوى الخسائر البشرية والصحية:
(أ) خلال 73 يومًا من الأزمة (19 كانون الأول– 2 نيسان 2020)، سجلت الإحصاءات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية WHO وكذلك للدول المختلفة وفاة حوالي 50 ألف شخص، علاوة على مليون مصاب، كثير منهم في حالة خطيرة، ومعظمهم في الصين والولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وإيران وفرنسا.. الخ.
(ب) من المرجح مع استمرار الأزمة لستة شهور أخرى أن يرتفع عدد المصابين إلى 5 ملايين وأن يتوفى منهم ما يربوا على 500 ألف نسمة. من بينهم 200 ألف نسمة في الولايات المتحدة وحدها.
(ج) أحدث عجز دول العالم أجمع أمام هذا الفيروس هزة نفسية وثقافية للبشر جميعًا، وانقسموا إلى تيارين:
الأول: التيار المؤمن الذي أعتبرها رسالة وإنذارًا إلهيًا للبشرية التي طغى عليها النزوع المادي والتفلت الأخلاقي، أو على الأقل هي رسالة تحدّ لكل البناء الحضاري المادي للبشرية الراهنة، حيث تسبّب كائن لا يُرى بالعين المجردة بتوقف مسار عجلة الحياة كلها سواء في العالم المتقدم أو المتخلف.
الثاني: التيار المادي الذي أصابته حالة من الإحساس بالعجز والخوف والصدمة من عدم قدرة التطورات العلمية والتكنولوجية التي وصلت إليها الحضارة البشرية في مجال الطب والدواء على إنقاذ حياة مئات الآلاف، ومن ثم أنتاب هؤلاء إحساس بالشك وانعدام الثقة بقدرة مجتمعاتهم على مد حبل الإنقاذ لمئات الملايين من البشر. ونظن أن هذا الإحساس والمتناقض لدى التيارين سوف يستمر لسنوات طويلة قادمة.
(د) لا شك أن هذه الأزمة لن تمر دون أن تترك جراحًا غائرة في النفوس لسنوات طويلة، وتزرع بذور عدم الثقة بين الشعوب الأوروبية بعضها البعض، وكذا بين الشعوب الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية لسوء تصرفاتها أثناء هذه الأزمة.
(2) على المستوى الاقتصادي:
لا شك أن أزمة وباء فيروس كورونا، الذي ضرب العالم كله مطلع 2020، والذي يرجح أن يستمر لعام أو عامين بعد أن تكون قد انكسرت حدته، سيترك أثارًا مزعجة على الاقتصاد العالمي، سواء على المستوى الجماعي، أو على مستوى اقتصادات الدول فرادى، ومن أهم تلك الآثار والتداعيات:
(1) إذا استمرت الأزمة بنفس الدرجة حتى منتصف عام 2020 فسوف ينخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحوالي 10% إلى 20%، أي بحوالي 8.5 تريليون إلى 17.0 تريليون دولار، تتمثل في توقف عجلة الإنتاج والخدمات والتبادل التجاري، وستكون أكثر الدول المتضررة هي الولايات المتحدة – الصين – إيطاليا – فرنسا – إسبانيا، والمدهش أن إيران لن تكون من المتضررين الكبار بسبب وقوعها تحت سيف المقاطعة والحصار الاقتصادي منذ فترة ليست قصيرة.
(2) ستؤدى الأزمة إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل بأكثر من 10% من القوى العاملة في العالم، أي ما يزيد عن 150 مليون عامل، وستكون أكثر القطاعات تعطلًا، السياحة والطيران والسفر والمطاعم والخدمات الترفيهية، علاوة على كثير من قطاعات الإنتاج والتجارة والخدمات.
(3) ستؤدى الأزمة إلى زيادة معدلات الفقر والبؤس في كثير من دول العالم خصوصًا الدول النامية (ومنها مصر) لثلاثة أسباب: أولها سياسات الإغلاق والجلوس في البيت، والعزل الاجتماعي، وثانيها ضعف – إن لم يكن غياب – سياسات الحماية الاجتماعية الفعالة وإعانات البطالة، وبرامج تعويضية كافية، وثالثها كبر حجم قطاع العمالة غير المنظمة Informal Sector وتدني دور الدولة وسيطرة القطاع الرأسمالي الخاص الذي يفتقر إلى أرث التعاون والتراحم الاجتماعي.
(4) بهذه الأزمة الجائحة دخل الاقتصاد العالمي حالة من الركود Recession الذي يتزامن فيه انخفاض الطلب وانخفاض العرض، وقد تحتاج هذه الحالة إلى عامين أو ثلاثة أعوام للخروج منها والعودة إلى مستوى التشغيل الذى كان قائمًا قبل الأزمة.
(5) ترّتب على أزمة كورونا انخفاض التشغيل وبالتالي انخفاض الطلب على البترول والغاز، وسوف ينعكس هذا الوضع على التنافس غير الإيجابي بين المنتجين للنفط والغاز، والدخول في حرب أسعار والصراع من أجل الاستحواذ على قطاع أكبر من السوق، وهو ما بدأ فعليًا في حرب الأسعار الذي بدأته السعودية في مواجهة وروسيا وربما تحت وهم خدمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حملته الانتخابية الجديدة في نهاية هذا العام.
(6) سيؤدي هذا الوضع إلى خسائر فادحة لمنتجي النفط الكبار (روسيا – السعودية) ولكنها لن تمتد بآثارها السلبية إلى بقية منتجي النفط في دول الخليج وفنزويلا والمكسيك والعراق ومشيخات الخليج العربية. ويقدر حجم هذه الخسائر إذا استمرت لثلاثة شهور قادمة (دون سعر 60 دولارًا للبرميل) بحوالي 200 مليار دولار على الأقل.
(7) ستؤدي الأزمة حتمًا إلى تدني تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر FDI وغير المباشر على المستوى العالمي لفترة عامين إلى ثلاثة أعوام على الأقل، مما سيؤدي إلى تدني مستوى التشغيل في الدول النامية وانخفاض معدل النمو في الناتج القومي لهذه الدول.
(8) أدّى تمادي السلوك المتغطرس والعدواني للولايات المتحدة في فرض عقوبات على روسيا وفنزويلا والصين وإيران إلى تزايد فرص كسر هذه العقوبات من جانب بعض الدول الأوروبية وغير الأوروبية.
(9) برغم الخسائر الاقتصادية الكبيرة لكل من الصين وروسيا، فقد عززت الأزمة فرصهما لتحسين وضعهما الدولي وصورتهما لدى معظم شعوب العالم وبعض الأنظمة السياسية في أوروبا (إيطاليا – جمهورية الصرب والجبل الأسود)، ومن ثم زيادة فرص تعزيز علاقتهما الاقتصادية وكسر الغرور والغطرسة الأميركية.
10-المؤكد أن هذه الأزمة والسلوك الأميركي السلبي جدًا، سوف يؤديان إلى تعزيز وتسريع خلق الكيانات والتكتلات الاقتصادية والسياسية الدولية خارج النفوذ الأميركي (شنغهاي – البريكس – الآسيان – المجموعة الأوراسية) ودعم مؤسسات التمويل البديلة (مثل البنك الآسيوي للتنمية الذي أسسته الصين)، وكذلك صناديق التعاون الاقتصادي المشترك، والتخلص بصورة أسرع من هيمنة الدولار على نظام الدفع والاحتياطيات الدولية وربما تفكك صيغة بريتون وودز Britten Woods.
11-من المرجّح أن تضعف أو تتباطأ عملية الوحدة الأوروبية، وقد تجري عملية بريكست أخرى من الاتحاد وخصوصًا إيطاليا واليونان.
12-نستطيع القول بأن أفول نجم الولايات المتحدة الأميركية وهيمنتها على النظام الاقتصادي الدولي والسياسة الدولية قد أخذا دفعة جديدة بسبب أزمة كورونا، صحيح أن هذا لا يعني تفكك الولايات المتحدة أو انهيارها في الأجل المنظور (15-20 سنة)، لكن المؤكد أن عملية تواري القوة والنفوذ الأميركيين قد تتسارع بحيث لن ينقضي 25 عامًا دون أن تصبح الإمبراطورية الأميركية قوة من الماضي.
13-أدت الأزمة إلى تدهور اقتصادات كثير من الدول النامية (ومنها مصر)، وسوف تحتاج إلى عدة سنوات للعودة إلى وضع ما قبل الأزمة، وهو مستوى لم يكن جيدًا على أية حال.
14-صحيح إن أزمة الكورونا قد طاولت الجميع ولكن أكثر المتضررين منها هم الفئات الفقيرة وكاسبي الأجور والمرتبات المتواضعة في الغرب أو بصورة أكبر في الدول النامية التي تشكل العمالة في القطاع غير الرسمي وعمال اليومية القطاع الكبر من كاسبي الأجور والمرتبات المتواضعة.
15-أما القطاعات الاقتصادية الأكثر تضررًا على مستوى اقتصادات العالم أجمع والتي حققت خسائر ضخمة فهي: قطاعات السياحة –والطيران والنقل –والتجارة والمبادلات –والمطاعم وأماكن الترفيه –والإنتاج السلعي والصناعي –والبترول والغاز، وأخيرًا قطاعات البنوك والمصارف والبورصات التي أصابها أقل الأضرار.
(3) على المستوى السياسى والتحالفات الدولية والإقليمية:
المؤكد أن العالم، ومنذ الغزو الأميركي – البريطاني للعراق في آذار/مارس 2003، وما جرى بعدها، يشهد حالة طلق دموي لولادة جديدة في الفضاء السياسي العالمي، وجاءت كارثة وباء كورونا مطلع عام 2020 لتعطي دفعة قوية جديدة لهذه التغييرات المرتقبة ومن أبرزها:
1-أولى هذه الأثار والتداعيات أن الصيغة الراهنة للاتحاد الأوروبي – التي بدأت منذ عام 1958- لن تصمد كثيرًا أمام كل ما جرى من سلوكيات أنانية لدول الاتحاد فرادى وجماعات، ولدينا هنا احتمالان لا ثالث لهما:
الأول: أن تجرى إصلاحات جوهرية في بنية هذا الاتحاد على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية تحفظ استمرارية هذه العملية التاريخية.
الثاني: وهو ما نرجحّه أن تخرج بعض دول الاتحاد من هذه الصيغة مثلما فعلته المملكة المتحدة، وغالبًا ستكون إيطاليا واليونان وصربيا، بيد أن هذا يتوقف على وجود صيغة أو إطار إقليمي آخر يجمع الغاضبين والمتمردين والساخطين من هذا النظام الاتحادي الذي ثبت ضعفه إزاء تحديات داخلية كبرى كما كشفته كارثة وباء فيروس الكورونا.
2- ولدينا احتمال كبير في صياغة نمط جديد لعلاقات تعاونية وتشاركية بين بعض دول الاتحاد – سواء في صيغته المعدلة أو بعد خروج بعض أطرافه – وكل من الصين وروسيا، وربما إيران، فكاكًا وتفكيكًا لأسر السياسة الأميركية المتغطرسة والعدوانية والأنانية في آن واحد سواء ضد أوروبا أو غيرها من دول العالم.
3- وكما أشرنا من قبل سوف تتعزز وتتسارع صيغ التعاون والتكتلات الإقليمية والدولية التي تقودها كل من الصين وروسيا، وبمشاركة أكثر فاعلية لإيران وبعض دول أميركا اللاتينية ومنها فنزويلا وكوبا وغيرهما.
4- من المرجح بعد كشف عدم كفاءة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته في إدارة الأزمة، علاوة على أزمة الحكم ومشروعيته الأخلاقية، أنه لن يجتاز السباق الرئاسي في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ومن ثم تتخفف البشرية وخصوصًا بلدان وشعوب الشرق الأوسط من كورونا سياسية مثلها الرئيس ترامب وطاقمه الجمهوري المتطرف.
5- من المرجح أن تعود غالبا الولايات المتحدة بعد تغيير إدارة ترامب عام 2021 إلى الاتفاق النووي الإيراني (5+1)، وسيشكل هذا ضربة مؤلمة لتحالف الشر الرباعي في منطقة الشرق الأوسط الجديد (إسرائيل – السعودية – الإمارات – البحرين)، مما سيخفف التوتر العالي القائم في المنطقة منذ خروج ترامب عن الاتفاق النووي الإيراني وانعكاساته الخطيرة على العلاقات الدولية.
6- مع أن أزمة المشروعية في بعض أنظمة الحكم العربية قائمة قبل أزمة وباء كورونا إلا أن الأزمة فاقمت من مشكلة المشروعية، والأرجح أن تغييرًا سياسيًا سيحدث في ثلاث دول عربية على الأقل في الأجل القريب هي السعودية والبحرين والعراق.
7- كما أن حدوث تغيير سياسي في الولايات المتحدة، مع وجود أزمة مشروعية أخلاقية وسياسية كشف عنها الفشل في التعامل مع الأزمة، وضعف وقصور النظم الصحية والعلاجية في دول مثل مصر وليبيا والعراق والبحرين والسعودية التي تعتمد على اقتصاد السوق وتخلي الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية، من شأنه أن يدفع بفرص التغيير إلى الأمام.
8- هناك بؤر ساخنة في عالمنا العربي وفي بعض دول أميركا اللاتينية، ومن المرجح أن تنفجر هذه البؤر المسلحة ومن أهمها: العراق وسوريا واليمن وليبيا، وأخيرًا فنزويلا.
9- لعل صيغة جامعة الدول العربية كإطار إقليمي للعمل العربي المشترك قد فقدت صلاحيتها تمامًا، كما فقدت ثقة الشعوب العربية، والمثقفين العرب في ضرورة استمرارها نظرًا لكونها قد تحولت إلى عبء على حاضر الشعوب العربية ومستقبلها، علاوة على كونها باتت تشكل أزمة ضمير لكل العرب.
10- أما منظمة الأمم المتحدة، فهي تعاني منذ فترة طويلة من مشكلات معقدة تؤثر في درجة فاعليتها في الأزمات الدولية، وفي تحقيق وتنفيذ ميثاقها، وقد تراكم شعور كثير من أعضائها ومن شعوب العالم بالإحباط تجاهها، وكذا في فاعلية بعض وكالاتها المتخصصة (الأونروا – الصحة العالمية – اللاجئين – الإغاثة الدولية)، ونرجح أن تتزايد الضغوط الدولية من أجل إجراء تعديلات جوهرية في آليات عمل تلك المنظمة بعد كارثة وباء كورونا.
(4) على المستوى العسكرى والحروب:
1- جاءت أزمة كورونا والعالم يشهد، كما سبق وأشرنا، حالة من العسكرة وتعدد الصراعات الحربية، وربما تهدأ قليلًا حدة تلك الأعمال الحربية في مناطق النزاعات والحروب لحين الانتهاء من هذه الأزمة العاصفة، وإن كنا نرجح أن تزداد وتيرة وحدة هذه الأعمال الحربية بعد الإطمئنان نسبيًا من اجتياز الأزمة، ولهذا نرجح أن ترتفع وتيرة الحرب في اليمن والعراق وسوريا وليبيا في الشهور القادمة.
2- أما الحرب ضد الإرهاب فلن تتوقف سواء أثناء الأزمة أو بعدها، ما دام هناك تنظيمات أو مجموعات إرهابية إسلامية أو يهودية، أو يمينية متطرفة في أوروبا.
3- كما أن الصراع الفلسطيني – الصهيوني، المدعوم على كلا الجانبين سوف يستمر خصوصًا وأن المجتمع الصهيوني في فلسطين يتجه باستمرار نحو مزيد من التطرف والعدوانية ضد الفلسطينيين في الداخل، وضد دول وشعوب الجوار العربي.
4- بالنسبة لحلف الناتو NATO سوف يستمر هذا التحالف العسكري، بيد أن بعض وظائفه سوف تتغير بعد أزمة الكورونا لعدة أسباب، بعضها يعود لتخفيف حدة الأعمال العدائية ضد روسيا والصين، وبعضها الآخر لمناخ عدم الثقة بين أعضائها بعد الأداء الأناني والسيئ لبعض أطراف هذا التحالف في مواجهة بعضها البعض، وبعضها بسبب التغيير السياسي المرتقب في الولايات المتحدة مما سيخفف كثيرًا من حدة التوتر الدولي.
5- سوف تستمر بؤر التوتر في بعض المناطق (جزيرة منشوريا – الساحل الأفريقي – بحر الصين والمحيط الهادئ – فنزويلا)، وربما تهدأ قليلًا، بيد أن الحرب ضد المجموعات الإرهابية سوف تستمر وربما تتصاعد إلى حد كبير.
6- سيتعزز التحالف والتعاون العسكري الروسي – الصيني، وستلحق به إيران عند مستوى معيّن، وستبقى حالة السباق على التسلح النوعي بين هذه القوى الثلاث من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى وورائها "إسرائيل" قائمة دون تغيير.
7- من المرجح أن تشتعل منطقة الشرق الأوسط بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والإسرائيلي – اللبناني المدعوم، والإسرائيلي – السوري، مع دعم وتنسيق واسع بين قوى محور المقاومة في مواجهة العدوانية الإسرائيلية. وسوف نشهد لأول مرة اصطفافات من نوع جديد في المنطقة العربية.
* كاتب وباحث مصري
العنوان
بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
Baabda 10172010 Beirut – Lebanon P.O.Box: 24/47 وسائل الاتصال
متفرقات
|