عام 1978 أنفقت الخزينة الأميركية بأمر من الرئيس كارتر أول مبلغ لدعم "الجهاد الإسلامي" ضد النظام الأفغاني برئاسة محمد تاراكي ذي الميول الاشتراكية الشيوعية وبرامجه الإستفزازية. كان ذلك أول مساهمة غربية في واجب الجهاد بقيمة ستين مليون دولار، ولا يزال دافع الضرائب الأميركي حتى يومنا هذا يساهم في هذا الواجب في موازنات سرية وأخرى علنية، في سبيل مواجهة أعداء الولايات المتحدة من الأنظمة "الظالمة والمعادية للإسلام والمسلمين" كما يحلو للجوقة الإعلامية الدولية أن تصفها.
في تلك المرحلة، قُدِّمَ الأفغان والإسلاميون الذين جاؤوا من مختلف أنحاء العالم لقتال الغزو السوفياتي الملحد على أنهم محاربون في سبيل الحرية، وجاء بريجنسكي للقائهم بعد شهر واحد من الغزو وقال لهم بالحرف الواحد: "نحن نعرف إيمانكم العميق بالله وثقتكم بأن نضالكم سيصل إلى هدفه ..، هذه الأرض هناك (أفغانستان) هي أرضكم وستعود إليكم يومًا ما، لأنكم ستنتصرون في القتال وستسترجعون بيوتكم ومساجدكم، لأن قضيتكم محقة والله إلى جانبكم". وقد تعامل الإعلام الغربي ببراغماتيته المعهودة مع التحول الجديد في تموضع الإسلاميين في خندق واحد مع الإمبريالية الليبرالية، وقدمهم للعالم كثوار يقاومون الإمبراطورية المستبدة. وساهم الإعلام العربي والإسلامي في التجييش والتعبئة لهذه الحرب، كل على طريقته ولغته وغايته، ولكن المجهود كله كان يصب في خدمة أميركا، وكما قال فرانك أندرسون مسؤول ملف الشرق الأوسط السابق في لانغلي: "من الصحيح تمامًا أن هذه الحرب (ضد السوفيات في أفغانستان) قد خيضت لخدمة أهدافنا لكن بدمائهم هم (المجاهدين الأفغان)".
قام الإعلام الغربي في تلك اللحظة بوظيفة تقديم الغطاء السياسي والدعم المعنوي لحركة "الجهاد الأفغاني" في مواجهة القطب الآخر في العالم، كما قام بوظيفة تكييف الجهاديين مع تموضعهم الجديد في هذا الخندق، فهم عن قصد أو غير قصد، يقفون في الصف الأول للدفاع عن الولايات المتحدة، كما قام بوظيفة أخرى هي منع أي تسوية أو عملية تفاوض باكستانية سوفياتية من الوصول إلى حل سلمي يحفظ ماء وجه الغزاة، من خلال الدفع بالجهاديين نحو الإيمان والأمل بتحقيق انتصار حاسم ونهائي عبر خطاب إعلامي مبرمج.
فشل تجربة الأفغان العرب في مصر والجزائر بعد نجاح الحرب ضد السوفيات، وانتصار المقاومة في لبنان في حرب نيسان عام 1996، أوجدا القناعة لدى البعض بالتوجه نحو العدو البعيد فكانت عمليات كينيا وتنزانيا 1998 وعملية المدمرة كول 1999 وكانت القمة الموازية لتحرير جنوب لبنان عام 2000 عمليات الحادي عشر من أيلول 2001 التي شكلت ذروة الخط البياني، وفي نفس اللحظة كانت نقطة الانحدار السريع والنهائي للسلفية الجهادية عن مقاربة العدو البعيد.
لعب الإعلام الغربي دورًا في تجنيد وتجييش الدول والمجتمعات والشعوب الغربية لمواجهة "الإرهاب" ليتم القضاء على تنظيم القاعدة الدولي عام 2002 ووقف العمليات الدولية بشكل حاسم وإن بالتدريج، وكان في الرسائل المبطنة للحرب على الإرهاب تشويه صورة الإسلام والمسلمين، إذ أفادت الماكينة الإعلامية الغربية من دم المدنيين الذي سال في المدن الغربية لاختزال الإسلام بتعاليم ابن تيمية، وتقديمه دينًا همجيًا ذباحًا وإجراميًا، حتى في نظر المسلمين والقاطنين في دول العالم الإسلامي والعربي، ناهيك عن استهداف وتقييد الجاليات الإسلامية في العالم. وكان من أهداف هذه الحرب المستمرة على الدين الإسلامي كبح تقدم تعاليمه بين الشعوب الغربية، ووقف رواج قيمة الإسلام الجهادي الذي أثبت جدواه في مواجهة "إسرائيل"، منعًا لتمدد هذا الفكر المنقذ للأمة من براثن الإستعمار. وكانت تلك خدمة قدّمها فكر ابن تيمية وممارسات أتباعه للغرب الناهب دون مقابل، وقد أحسن استغلالها إعلامه في الحد الأقصى.
ذروة الدور الإعلامي الغربي في توظيف وتوجيه إرهاب السلفية الجهادية كانت هنا على هذه الأرض، حيث تم تقديم الزرقاوي الأردني قائدًا للجهاد في العالم الإسلامي ضد الغزو الأميركي للعراق، وذلك في كلمة وزير الخارجية الأميركية كولن باول في مجلس الأمن الدولي قبل شهر واحد من الغزو المجرم، حيث قدم بطاقة شخصية للرجل الأخطر على الكوكب وأعلن عن أسر 160 ضابط عمليات دولية تابع لسجين جنائي أردني لم يتعلم من الإسلام شيئًا وفق أستاذه أبو محمد المقدسي. كان هدف هذه العملية الإعلامية الكبرى، التي تدرس الآن في الكلية الحربية الأميركية بعنوان عملية الزرقاوي، إعادة توجيه الزخم السلفي الجهادي نحو العدو القريب، فبمعرفة الأميركيين بعقلية الزرقاوي الإجرامية استطاعوا تقديمه كبطل جهادي كبير من خلال آلاف التقارير والمقالات التي تلت خطاب كولن باول الشهير، وهو الذي لم يخض معركة واحدة غير السلب والنهب والقتل في شوارع الزرقاء في بلده الأم.
تحوّل هذا الرجل المغمور والمجهول بفعل الماكينة الإعلامية الغربية إلى بديل عن بن لادن، وإلى مركز استقطاب كل مقاتل جاء إلى العراق لحمل السلاح ضد أميركا، وقام بتحويل اتجاه البنادق نحو الداخل العراقي، بمذاهبه وطوائفه وعشائره ومناطقه المختلفة، وبدأ سفك الدم حتى لم يبق شبر في العراق لم يصل إليه دم مظلوم.
كانت تلك الإنعطافة الأخيرة للسلفية الجهادية في عودتها نحو التجربة الجزائرية، وعكوفها النهائي عن الصدام مع الغرب، وتحوّلها إلى ماكينة تدمير للوعي الإسلامي والحضارة والمدنية والاقتصاد والأمن وكل شيء، ولا تزال إلى الآن. وحين انتهت مهمة ذلك الأردني المجهول، وحين غرق في أوحال الأنبار ونالته أسنة العشائر هناك بالجراحات الكثيرة، وأيقظت حرب تموز عام 2006 في مخيلته وجود خشبة إنقاذ أخيرة هي استهداف العدو البعيد والعودة إلى بيعة بن لادن، قدمت أميركا نفسها حامية للإنسانية بالقضاء عليه وقتله، في انتصار كبير على الإرهاب والإجرام، بعد أن جاء بيترايوس بقوات جديدة ليقوم بواجبات الرجل الأبيض في القضاء على الوحش الذي صنعه كولن باول وكاد يخرج عن السيطرة.
كانت سوريا خاتمة الدورة السلفية الجهادية، حيث لم يعد أمامها على الأرض مقاتلون بعيون خضر. بل ثمة عرب ومسلمون فقط، هنا في العراق. وكان ثمة حجة أو شماعة للجهاد هي الجيش الأميركي، أما في سوريا فأيقونة الإرهاب تؤدي وظيفتها بإنسانية كاملة.
وكان الإرهاب السلفي الجهادي، ورمزه آكل القلوب أبو صقار، في خندق الدفاع عن الحرية والديموقراطية في سوريا. هكذا شاءت الماكينة الغربية تقديمهم، مقاتلين دفعتهم أهوال الحرب التي خيضت لـ "الدفاع عن الكرامة" نحو هدر الدم والكرامة واستباحة كل شيء، فهم ضحايا الحرب ليس أكثر. لقد تمت أنسنة الإرهاب في النهاية، وأصبح هذا الوحش المروّض خادمًا مطيعًا وأمينًا، يتمشى على حدود "إسرائيل" في الجولان المحتل، دون أن تصل طلقة واحدة عن طريق الخطأ إلى رأس جندي غاصب. هنا أصبح الحضن الإعلامي الغربي مهيأً لتشريع الحرب واستمرارها بلا نهاية.
بين خريجي سجن بوكا الجولاني والبغدادي، كانت قائمة الإرهاب جاهزة للعب دورها، فأعطت للجولاني صفة الجهادي العدو الخطير للولايات المتحدة، وقدمته للعالم على أنه بطل الثورة، وهو الشاب الصغير في العمر المجهول الصورة والمغمور في أوساط الجهاديين، وأعطي موقعًا محوريًا في الصورة الإعلامية، بالمقارنة مع أقرانه من السلفيين الذين لهم السابقة في حمل السلاح، إلا أنهم لم يكونوا من خريجي أكاديمية بوكا كما يحلو للبعض أن يسميها.
الخرّيج الآخر من سامراء، كان له دور آخر، الوصول بصورة الإسلام إلى مستوى يسهل على رسامي الكاريكاتير في شارلي إيبدو الإستهزاء به والتهكم على رمزه الأقدس، إلى جانب الأدوار الميدانية والجغرافية من تدمير الكيانات وإعادة رسم الخرائط الموهومة والمتخيلة، والتي منعها من التحول إلى الواقع دم الأحرار الذين اعتمدوا على أنفسهم في المواجهة المصيرية.
للبغدادي وزمرته دور إعلامي محوري، وقد ظهر واضحًا من حجم الماكينة الإعلامية التي واكبت سكين الذبح أينما حلت وتحركت، وكان للماكينة الغربية الدور الكبير في الترويج لهذه الصورة، التي أريد منها هدفان أساسيان، من ناحية فتح الطريق أمام الإمتداد الميداني لداعش من خلال صورة الرعب وجعلها المانشيت اليومي لكل الإعلام الغربي، ومن ناحية أخرى التخريب النهائي لصورة الإسلام والإسلام الجهادي، وتصويره وباءً عالميًا، ووبالًا على المسلمين والعرب، بحيث تنتهي الأحلام التي استيقظت في الأذهان في عامي 2000 و2006 بإمكانية الإسلام الجهادي وقدرته على هزيمة "إسرائيل" الممثل العسكري للغرب في المنطقة.
في الخلاصة، عملت الماكينة الإعلامية الغربية في خدمة الاستراتيجية الغربية الشاملة التي تأسست وتكرست في حرب أفغانستان الأولى، والقائمة على أساس توظيف "التيارات الجهادية" لضرب أي تهديد يتعرض له الغرب في منطقتنا، وقد أظهرت تلك التجربة الوظيفية الأم القيمة التاريخية لهذه التيارات، حيث هشمت هيبة وسمعة المشروع الشيوعي السوفياتي دون أن تسقط قطرة دم أميركية واحدة.
عملت هذه الماكينة بحسب الظروف وفي كل حالة وساحة ولحظة بشكل مختلف، فأحيانًا قدمت الإرهاب على أنه قتال في سبيل الحرية، وأحيانًا أعطته لباس الرعب والخوف لتعطي لدوره الإستراتيجي فعالية أكبر، واستطاعت في أماكن أخرى أن توجه الحراك الجهادي نحو الساحة والعدو الذي تريد، واستُثمرت دومًا في المدى البعيد نحو ضرب وتشويه صورة الدين الإسلامي. وفي خط موازٍ قدم الغرب نفسه مكافحًا للإرهاب، كصورة مقبولة أمام الناخبين والمستعمَرين، وليستفيد منها كمبرر للتدخل في شؤون الدول المصابة بهذا الوباء.
______________________________________________
*باحث متخصص في الحركات الاسلامية
العنوان
بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
Baabda 10172010 Beirut – Lebanon P.O.Box: 24/47 وسائل الاتصال
متفرقات
|