استمرت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين لبنان وإيران في مستويات متدنية جدًا، بالرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على توقيع الطرفين إتفاقيات للتعاون الاقتصادي والتنسيق الضريبي، بقي معظمها حبرًا على ورق الحسابات السياسية الضيقة. وهذا الضعف في العلاقات الاقتصادية بين البلدين يعكسه تواضع حجم التجارة البينية الذي لم يتجاوز 61,4 مليون دولار لسنة 2014 (50,6 مليون دولار واردات و 10,7 ملايين دولار صادرات)، أي ما يشكل 0,3% من إجمالي تجارة لبنان الخارجية من جهة و0.04% من تجارة إيران الخارجية من جهة أخرى.
والواقع أن التطورات المتلاحقة على الصعد الاقتصادية والتجارية والسياسية كافة، خصوصًا بعد توقيع الاتفاق النووي التاريخي بين إيران ودول الخمسة زائد واحد (P5+1) تفرض إعادة طرح موضوع العلاقات الاقتصادية بين لبنان وإيران مجدداً والدعوة إلى إعادة تنشيط تلك العلاقات في هذه اللحظة بالذات.
فعودة إيران بقوة إلى أسواق الطاقة والمال العالمية باتت أمرًا مفروغًا منه، وإن كان يصعب التكهن بالسيناريو الزمني والعملي المتوقع لإعادة اندماج الاقتصاد الإيراني في دورة الانتاج العالمية والنظام المالي الدولي، خصوصًا مع استمرار حظر التعامل الاقتصادي والمالي مع إيران من قبل الشركات والمستثمرين الأميركيين حتى إشعار آخر، بمعزل عن توقيع الاتفاق النووي وفك الحصار، وذلك لأسباب تتصل بتضارب السياسات الدولية لكل من إيران والولايات المتحدة حول قضايا استراتيجية كموضوع المقاومة والاحتلال الصهيوني لفلسطين.
لذلك، وفي مطلق الأحوال، فإن هذه العودة الحاصلة عاجلاً أو آجلاً تحمل معها فرصًا اقتصادية لا حدود لها، ليس لإيران وحدها وإنما لطيف واسع من الشركاء التجاريين في الإقليم وحول العالم، بما في ذلك لبنان بالطبع خلال السنوات القليلة القادمة. واللافت في هذا الصدد أن الكثير من المستثمرين الأجانب من أوروبا وآسيا قد تخلوا عن حذرهم غير آبهين بتشكيك وتشويش الأوساط الصهيونية الفاعلة في الإدارة الأميركية حول جدوى واستمرارية الاتفاق النووي. فحتى قبل اتضاح معالم الاتفاق المذكور وجدنا أن هؤلاء قد اندفعوا ليس لاستطلاع آفاق الاستثمار الممكنة في الاقتصاد الإيراني وحسب، وإنما لحجز حصتهم أيضًا من العقود المحتملة والتي جرى توقيعها في قطاعات الصناعة الاستخراجية والخدمات والتجارة والنقل والبناء والسيارات والاتصالات والزراعة وغيرها من القطاعات الاقتصادية.
والواقع إن هذا الاهتمام البالغ لمجتمع الأعمال العالمي بإيران، كوجهة اقتصادية واعدة لسلعهم ورساميلهم وخبراتهم التكنولوجية، لا ينطلق من فراغ وإنما يستند إلى معطيات جغرافية وبشرية وإدارية ومادية موضوعية وصلبة.
ذلك أن إيران دولة تحتوي على أكبر احتياط للنفط والغاز في العالم، فضلاً عن المخزونات الضخمة من النحاس والحديد والزنك والرصاص. وهي تحتل المركز السابع عشر من حيث المساحة وتتوسط بموقعها الجغرافي الدول المستهلكة للطاقة ما بين الشرق والغرب. كما تضم كتلة سكانية متميزة تقدر بنحو 80 مليون نسمة، ثلثهم من سكان الحضر والبقية من سكان الأرياف. الأمر الذي يجعل من إيران سوقاً استهلاكية كبيرة جدًا، بلغ حجم إنفاقها الكلي لسنة 2014 ما يقارب 180 مليار دولار. وما يميز هذه الكتلة السكانية هو مستواها التعليمي الرفيع الذي يضاهي نظيره في الدول الغربية المتطورة، حيث الأمية شبه معدومة والمستوى الجامعي بين الشباب المتعلم يفوق 58%.
وفي مؤشر على تسارع التطور الرقمي للمجتمع الإيراني فقد تجاوزت نسبة اختراق الإنترنت 50% من السكان، رغم الحصار المفروض ومحاولات عزل إيران دوليًا. فهذا الحصار لم يمنع الحكومة الإيرانية من تعظيم استفادتها مما تمتلكه من مزايا نسبية لتوفير بيئة الأعمال المؤاتية للاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، الأمر الذي مكّنها من استعادة زخم النمو الاقتصادي الذي بلغ 4% سنة 2015 بدفع من قطاعات محددة تحت سيطرة الدولة كقطاعات التصنيع والصناعة الاستخراجية والخدمات، وذلك بعد نمو سلبي طوال السنوات القليلة الماضية. ومن أبرز معالم بيئة الأعمال المشار إليها نذكر ما يلي:
وليس مبالغاً فيه القول إن المرحلة الجديدة بعد توقيع الاتفاق النووي التاريخي تحمل معها فرصاً واسعة جدًا للاستثمار، قد لا يقل حجمها عن 500 مليار دولار في قطاعات اقتصادية مختلفة. وبما أن قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات وصناعة السيارات والصناعات الصيدلانية والبناء والخدمات المالية والملاحة الجوية والبحرية كانت الأكثر تضررًا من جراء الحصار والعقوبات المفروضة، فمن المرجح أن تكون هذه القطاعات ذاتها الأكثر استفادة وجذبًا للاستثمار الخارجي بعد رفع الحصار. فضلاً عن أن قطاعات اقتصادية أخرى تبقى بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة وتحديث، كالقطاع المصرفي والمالي عمومًا، وتجارة التجزئة، والقطاع الزراعي.
والجدير ذكره أن غالبية القطاعات المشار إليها أعلاه هي قطاعات تصديرية بامتياز وتعتمد على الاستخدام المكثّف لليد العاملة. وبذلك فإن استعادة هذه القطاعات لنشاطها من شأنه أن يؤدي إلى تخفيض نسبة البطالة بشكل ملموس من جهة، وإلى زيادة الأجور والطلب المحلي من جهة أخرى. مما يشكل رافعة إضافية للنمو الاقتصادي إلى جانب الاستثمارات العامة والخاصة على السواء. غير أن هذه الطفرة يمكن أن تؤدي إلى زيادة الفروقات بين المداخيل وتهديد الاستقرار الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب تطبيق رزمة من الإصلاحات المالية والاجتماعية لم نلحظها في مخططات السياسة الاقتصادية لإيران. ومن أبرز هذه الإصلاحات على سبيل البيان لا الحصر نذكر ما يلي:
• تطوير نظام للضمان الاجتماعي يرعى الفئات المهمشة وغير المقتدرة معيشيًا.
• إعادة صياغة النظام الضريبي وخصوصًا الضرائب المباشرة بصورة عادلة ومنصفة، مع التشديد على زيادة معدلات هذه الضرائب على الأنشطة الريعية.
• ضمان فرص توظيف ونمو متكافئة ومتوازنة بين مختلف الفئات والقطاعات.
وبالعودة إلى إمكانية تطوير العلاقات الاقتصادية بين لبنان وإيران، نجد العديد من الاتفاقيات التي تحكم هذه العلاقات من حيث المبدأ. فإلى جانب لجنة اقتصادية مشتركة تجتمع دوريًا وتتولى تنسيق العلاقات الاقتصادية بين البلدين، يوجد أيضاً اتفاقية عام 1997 حول التبادل التجاري والاستثمارات واتفاقية 1998 حول الازدواج الضريبي. وتنص الاتفاقية الأولى على رعاية حقوق المستثمرين الطبيعيين والمعنويين من كلا البلدين، بما في ذلك ما يلي:
- الأموال المنقولة وغير المنقولة.
- حصص الأسهم في الشركات.
- التحويلات المالية.
- حقوق الملكية الفكرية والصناعية، بما في ذلك العلامات التجارية.
- حرية التنقيب واستخراج واستغلال الموارد الطبيعية بما يتفق مع القوانين المحلية لكلا البلدين.
وفي محاولة جديدة لإحياء هذه العلاقات، فقد جرى في شباط 2016 توقيع اتفاق التجارة التفضيلية بين لبنان وإيران على هامش زيارة وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني إلى إيران ، في إطار الدورة السابعة للجنة الاقتصادية اللبنانية – الإيرانية المشتركة التي عقدت في طهران. لكن هذا الاتفاق الذي يرمي إلى تحرير التجارة ورفع حجم التبادل التجاري بين البلدين يبقى بحاجة لمصادقة مجلس الوزراء عليه. ولا بد من استكمال هذه الخطوة الرسمية المتواضعة بجهود مدروسة وعاجلة في آن من قبل القطاع الخاص للحصول على أكبر حصة ممكنة من الطفرة الاقتصادية التي يرجح أن تشهدها المنطقة، بالتزامن مع عودة إيران إلى الأسواق العالمية وبموازاة تعزيز الصين لحضورها الاقتصادي في هذه المنطقة أيضًا. وعدم التحرك في هذا المجال يجعل لبنان مرشحًا للبقاء خارج المعادلة الاقتصادية الناجمة عن إعادة رسم خارطة العلاقات والتوازنات الاقتصادية والتجارية والمالية في الإقليم بأكمله.
وليس جديدًا القول إن لبنان الغارق في انقساماته السياسية قد خسر الكثير من دوره الاقتصادي والخدماتي مع بروز مدن كبيرة تمتلك مطارات ومرافىء متقدمة وبمواصفات تنافسية عالمية، أخذت تستقطب المزيد من الحركة التجارية والاستثمارية في المنطقة. وهذه المدن مرشّحة بقوة للاستفادة من الطفرة المشار إليها ولعب دور الوساطة المالية والتجارية بين إيران ومعها الصين في الشرق وبين والدول الأوروبية في الغرب، وذلك على حساب لبنان بطبيعة الحال. نذكر من هذه المدن على سبيل البيان مدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة، وإزمير في تركيا وطرطوس في سوريا.
وتطرح هذه التطورات تحديًا حقيقيًا أمام مستقبل الاقتصاد اللبناني. وقد تشكل الطفرة الإيرانية الموعودة فرصة لا تعوّض أمام لبنان ليس لتعزيز موقعه في مواجهة هذا التحدي وحسب بل لاستعادة دوره أيضًا من خلال توفير الكثير من الخدمات التي يمتلك لبنان فيها ميزات تفاضلية، وتشكل حاجة للاقتصاد الإيراني في آن واحد، كخدمات الوساطة المالية والتجارية بين إيران وأوروبا. وإذا كان مرجحًا أن تتصدر منتجات مثل الحديد والفولاذ والأجهزة الإلكترونية والكهربائية والمعدات لأغراض التكرير والصناعات البتروكيماوية والطاقة البديلة وقطع غيار السيارات والطائرات قائمة المستوردات الإيرانية في السنوات القليلة القادمة، لحاجة الاقتصاد الإيراني إليها في مرحلة إعادة الهيكلة والتطوير، وهي سلع غير متوفرة بطبيعة الحال في لبنان، إلا أن هناك الكثير من المنتجات والخدمات التي يمكن أن تشكل مجالاً للتبادل التجاري بين الطرفين، منها ما يلي:
• منتجات الأغذية.
• منتجات الصناعات الكيماوية والأسمدة.
• المنتجات الصيدلانية.
• منتجات الورق والكرتون.
• المصوغات والمعادن الثمينة.
• خدمات الطباعة.
• خدمات النقل والسياحة.
• خدمات التعليم والثقافة.
• خدمات المعلوماتية.
• منتجات الصناعات المعدنية.
• السيارات.
• منتجات الصناعة البلاستيكية.
• خامات ومواد أولية متفرقة.
• منتجات الأخشاب المفروشات.
وإلى جانب التعاون في مجال الصناعة النفطية كقطاع واعد في الاقتصاد اللبناني، فإن وضع البلدين بصفتهما عضويين مراقبين في منظمة التجارة الدولية (WTO)، يخوضان مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف مع شركائهما التجاريين الرئيسيين، يجعل من مصلحتهما التعاون والتنسيق الاقتصادي في هذه المرحلة بالذات، بما يعزز من قدرتهما التفاوضية في التوصل إلى نظام تجاري نهائي يضمن تحقيق أفضل عائد ممكن بأقل كلفة اقتصادية لكل منهما.
-------------------------------------------------------------
*باحث اقتصادي
العنوان
بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
Baabda 10172010 Beirut – Lebanon P.O.Box: 24/47 وسائل الاتصال
متفرقات
|