كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: الكهرباء: الازمة من منظور مختلف
مقالات: الكهرباء: الازمة من منظور مختلف
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

ليست الكهرباء في لبنان معضلة مستعصية فحسب، بل هي نموذج فريد لأزماته النمطية، المرتبطة بمأزقه البنيوي، أو المندمجة عضوياً بتعقيداته الاقتصادية والسياسية العميقة الغور. وهذا التمييز مفيد في رحلة البحث عن حلول مناسبة لنوعين من الأزمات بعضها يتطلب سياسات عادية و الآخر سياسات استثنائية. 
والأزمات التي أسميناها نمطية، هي التي لا تهدد مصالح مناطق وطوائف بعينها بل تمس قطاعات ومجالات تلبي حاجات وطنية عامة، ولا يمكن بالتالي إخضاعها بسهولة لآلة التقاسم والتوزيع التي باتت المحرك الحيوي لماكينة الدولة، وقوة الدفع التي لا بد منها لاستمرار عجلتها بالدوران.
وهي ثانياً الأزمات التي تقع خارج دائرة القطاعات المحظوظة، التي تعكس وجهة النظر التي ألزم الاقتصاد اللبناني بحمل أوزارها ردحا طويلاً من الزمن، حتى التصقت بهويته التاريخية.  كما أنها لا تستجيب للحلول الجزئية أو الموضعية بل لإجراءات مترابطة ومستمرة، تصدر عن دولة قادرة على اتخاذ القرار.
في السنوات الأخيرة، كانت الاستثمارات العامة والى حد ما الخاصة، الضحية الأولى للازمات المالية والاقتصادية. فانخفضت نسبها الإجمالية لتحقق ثلثي ما كانت عليها منتصف التسعينات قياساً إلى الناتج، فيما كانت توظيفات القطاع العام تهبط إلى الثلث تقريباً. لكن التدقيق في الأرقام يظهر وجود منحيين منفصلين، أحدهما يتجه بحدة إلى الأسفل ويمثل تكوين رأس المال العام في القطاعات ذات الطابع الوطني، والثاني مستقر، بل وينتعش في أثناء الأزمات السياسية، ويمثل الإنفاق على عمليات التجهيز المخصصة لمناطق أو فئات بحد ذاتها. وفي مقابل صمود الخط البياني للاستثمارات التي تديرها المجالس، حصل ضمور حاد في نفقات الجزء الثاني من الموازنة، وتعرضت القطاعات الخدمية غير القابلة للتقاسم كالاتصالات والطاقة لتجفيف استثماري ضار.
المنحى التصاعدي شمل أيضا المجالات المرتبطة بالرؤية التاريخية لاقتصاد الدولة، (المعدلة بعد الحرب لتغدو أضيق تخصصاً واقل تنويعاً). إذا راقبنا مثلاً أرقام الموجودات المصرفية المتاحة للقطاع العقاري، مضافا إليها التوظيفات المباشرة فيه، وقارناها بتلك التي توفرت للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهي أساس النمو والتشغيل والاستقرار والعدالة في البلدان النامية أو الناشئة، فسنلتقط دليلاً آخر على انحياز الاستثمارات ناحية القطاعات المتوافقة مع الوظيفة المفروضة والموروثة للاقتصاد الوطني، حيث لم تزد حصة هذه المؤسسات عن اثنين في المئة من مجموع التسليفات المصرفية، وأقل من عشرين بالمئة من القروض الشخصية. هذا كي لا نكرر ما هو معروف عن شح تمويل قطاعي الزراعة والصناعة، اللذين حصلا على نصيب متراكم من التسليف المصرفي يقل عن حصتهما النسبية من الناتج. وحتى بالنسبة إلى الخدمات النوعية كالتعليم والصحة فإن الاستثمارات المخصصة لهما في نضوبٍ متزايد.
قد لا ينطوي الأمر على مفاجأة، لكن ارتفاع قوة الجذب التي تمثلها قطاعات الكسب السريع، أمر يحث على القيام بشيء ما، حيث أنّ "السقوط الحر" لأنواع من التوظيف على حساب أخرى اضعف التنوع الاستثماري، وجرد البلد من الحد الأدنى المطلوب لاستنهاض نشاطه الإنتاجي من سباته الطويل. واستطراداً، إذا كانت مسؤولية ذلك تقع على عاتق الدولة التي تصرفت بلامبالاة مفرطة واتسم أداؤها بقصور الرؤية ونقص المبادرة، فهل  سيتغير الأمر، مع إقرار تشريعات جديدة مثل "قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص"؟ تجربة العقدين الماضيين لا تبعث على الرضى،  فالمفاضلة بين تمويل طويل الأمد غير مضمون العوائد، وتمويل أكثر أماناً واقصر مدة، للاستهلاك أو للمديونية أو للمضاربات العقارية، كانت تصب في مصلحة هذا الأخير. هذا إذا لم تتضمن عقود الشراكة بنوداً تضع الجزء الأكبر من المخاطر على عاتق الأشخاص العامين المنتمين للدولة، فعندها تصبح العملية برمتها غطاء لدين عام حكومي مبطن، لكن مع منح علاوات اكبر للمستثمرين المنزلين حينها منزلة المقرضين.
السياسات الحكومية لها تأثير بالغ على الطريقة التي يفاضل فيها القطاع الخاص بين الأولويات، حتى لو لم تكن هذه السياسات مصممة خصيصاً للتأثير على اتجاهات الاستثمار. فالمستثمرون يبتعدون تلقائياً عن الميادين التي لا توليها الدولة اهتماماً أو تبدي فيها تحكما ضعيفاً، وهم يتحسبون لمواقفها الايجابية أو السلبية ومستويات الدعم المنظور وغير المنظور التي تقدمها. لا يعني ذلك أن التوظيفات الاستثمارية خاضعة لنفوذ حكومي قوي، بل يشير إلى أن حضور الدولة في أحد المجالات، بالتمويل أو بالتنظيم، يعزز ثقة المستثمرين ويشكل لهم ضمانة غير مرئية. هذا ما فعلته السلطات إبان الأزمة العالمية وتفعله دائماً في مجال حماية مقرضي الخزينة وجامعي الودائع وأصحاب الاحتكارات الكبرى.
والمعادلة بكل بساطة هي التالية: ترتفع جاذبية القطاع أو تنخفض كلما زاد اقتراباً أو ابتعادا عن القوى الثلاث التي تتحكم باتجاهات الاستثمار: السياسات الحكومية وما تظهره الدولة من حضور وقدرة على اتخاذ القرار، خطوط الاحتكار التي تنتج عوائد سهلة ومكفولة، وجماعات المصالح الفئوية وما دون الوطنية.
تطبيق هذه المعادلة على قطاع الكهرباء يعني أنّ حل مشاكله يصير سهلاً فيما لو: أمكن إخضاعه للمحاصصة الفئوية، وحظي بمجال احتكاري ريعي خاص به، وبات من جديد أولوية حكومية معبراً عنها بالاستعداد لزيادة الإنفاق عليه. هذه الأمور الثلاثة يوفرها مشروع الشراكة الذي يتيح تحويل القطاع من قطاع وطني  إلى قطاع عادي  يمكن إخضاعه لآلية التقاسم والتوزيع التي تحرك آلة الدولة،  ويوفرها كذلك رصد موازنات حكومية للتجهيز العاجل، التي ستكون بمثابة ضمانة غير مباشرة لقطاع خاص لن يأتي إلا بعد أن يرى جوائزه موضبة سلفاً.
 





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي