كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: المخطط التوجيهي الشامل لترتيب الاراضي اللبنانية ... ولادة تنتظر تحولات!
مقالات: المخطط التوجيهي الشامل لترتيب الاراضي اللبنانية ... ولادة تنتظر تحولات!
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

أعاد مجلس الإنماء والأعمار في نشرة صادرة عنه، التذكير بالمخطط التوجيهي العام لترتيب الأراضي اللبنانية الذي أنجزه قبل عامين، وأحيل وقتها إلى مجلس الوزراء. إن مجرد إعداد الخطة هو انجاز لافت بعد تعثر محاولات عدة بدأتها بعثة ايرفد نهاية الخمسينات من القرن الماضي، لكن التلكؤ في إقرار المشروع، يعبّر من جديد عن أن "كره التخطيط" ما زال يطبع السياسات بطابعه، ولا يمكن التذرع في هذا الشأن بأن التطبيق الجيد للمخطط، ينتظر إقرار قانون اللامركزية الإدارية، فالحكومة استعجلت إقرار مشاريع أقل أهمية دون ربطها بأمور أخرى وثيقة الصلة بها.

لماذا المخطط التوجيهي دون غيره من المشاريع المهملة؟ فلأنه يكتسب أهمية خاصة من ناحيتين؛ المعالجة التنموية التنظيمية المترابطة التي اعتمدها، والمدى الزمني الطويل الذي اتخذه مجالاً لتوقعاته وخياراته، فقدّر الموارد والاحتياجات على أساس فترة زمنية تمتد حتى عام 2030، واستجمع خيوط التنظيم المدني في إطار رؤية متكاملة لكيفيّة استعمال الموارد المادية والبشرية والطبيعية المتاحة.

ومع أنّ المخطط مليء بالنقاط التي تستحق المراجعة والتدقيق والنقاش، فإنه يوفر فرصة نادرة للتبصر باحتياجات المستقبل وتحدياته، وقد كان مفروضاً إقرار مثل هذا التصميم التوجيهي العام قبل 15 عاماً أي في بداية مرحلة إعادة البناء. لكن السلطة حرصت آنذاك على أن تتم عملية الاعمار بحد أدنى من الشفافية و من دون كشف للنوايا خشية تعريض طروحاتها "التأسيسيّة" لنقاش عام مكلف وحرج. وقد أدى غياب التخطيط في حينه إلى قصور في التحليل وفجوة في التوقعات، فسارت المشروعات الحكومية والاستثمارات العامة على هدي سياسات مؤقتة وغير مترابطة، وجرى استنفاد الموارد المالية (دين عام وخاص..)، والبشرية (هجرة..) بل وحتى الطبيعية (تلوث، بناء عشوائي..) بوتيرة تتجاوز كثيرا ما يقتضيه مشروع اعماري لم تتخط التزاماته المالية خلال 14 عاماً ثمانية مليارات دولار.

  وبما أن خطة ترتيب الأراضي هي بمعنى ما بديل عن خطة إنمائية شاملة، فسيرتب إهمالها أثماناً مضاعفة مقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية التسعينات، إذ لم يعد بوسع اللبنانيين الوقوف مجدداً في صف الانتظار أمام أبواب القدر، ففي السابق انتظروا تحت مظلة احتمالات النهوض و ووعود الازدهار، أما اليوم فسينتظرون في عراء الأزمة و تحت طائلة الفشل وعدم الاستقرار.
 وعلى ما يبدو، فإنّ إسقاط المخطط التوجيهي من جدول أعمال السلطة، يعود إلى رغبتها في تجنب أسئلة قد تصيب في الصميم الايدولوجيا المهيمنة على السياسات الاقتصادية في لبنان، ومن بينها تلك التي تطرق إليها المخطط: أي موقع اقتصادي جديد للبنان في محيطه؟ وهل يبنى مستقبل اقتصاده على أساس التنوع أم التخصص؟ و كيف يمكن الانتقال من رؤية للإنماء المتوازن أساسها العطاءات والمنح، الى رؤية قوامها تقسيم العمل وتوزيع الوظائف وتعميم المزايا؟

وقد بدا التباين واضحاً بين رؤية المخطط ورؤية السلطة في التعامل مع هذه الأسئلة. فقد أورد المخطط تصوره لموقع لبنان الإقليمي والدولي في سياق تناوله لتحدي التنمية الاقتصاديّة، وهذا يختلف عن التحليل السائد الذي يربط الموقع والدور بمسألة النمو وحدها..

وبحسب المخطط فإنّ فشل لبنان في التكيّف مع "قواعد اللعبة الشاملة الجديدة في التبادلات الدوليّة" في إطار رؤية للتنمية، يفسّر عجزه عن استعادة "دوره الطبيعي" كقطب إقليمي، ولكي يتمكّن من تأدية دور محوري في ميادين المنافسة المفتوحة في المنطقة، عليه اعتماد مصفوفة من الخيارات والقرارات الحاسمة من أهمها: تحديد القطاعات التي يتمتع فيها بمزايا وموارد، واقتراح وظائف محددة للمناطق تتلاءم مع التحولات، وتتحسّب خصوصاً للاختفاء التدريجي للحواجز الكمية والنوعية.

ومع أنّ المخطط لم يدعُ إلى نقض تام للاتجاه التقليدي السائد، والذي يميل إلى تضييق قاعدة التخصص لتشمل سلعاً وخدمات محدودة، فقد فتح الباب أمام خيار التكامل القطاعي والإنتاجي الذي يدعو إلى توسيع قاعدة الإنتاج لتشمل أكبر عدد من المجالات في الزراعة والصناعة والخدمات.

ويعتبر المخطّط أنّ تنظيم الأداء الاقتصادي وحلّ المشكلات التي طرأت خلال السنوات الماضية يتطلب وعياً مختلفاً لمفهوم التوازن، فيشدّد خصوصاً على التوزيع المتوازن للمكاسب الناتجة عن المشاريع العامة (مدارس، مستشفيات، محطات طاقة...)، لا على توزيع المشاريع نفسها، الذي كبّد الخزينة أعباء باهظة، فاقتصاد المناطق لا يزدهر بالاعتماد على مشاريع غالباً ما تعمل بأقل بكثير من طاقتها، بل من خلال التفاعل المرن والدائم مع تحدي المزاحمة الإقليميّة والدوليّة التي يزداد تهديدها يوماً بعد يوم.

لقد قدّم المخطّط إطاراً نظرياً متقدماً بعض الشيء لدور لبنان الاقتصادي وموقعة في المنافسة الإقليميّة، ووفر ربطاً موفقاً بين تفعيل هذا الدور وإطلاق التنمية المتوازنة وتحسين التفاعل بين المناطق، ويمكن اعتبار الهيكلية المدينية التي اقترحها لتنمية الاطراف تطويرا لفكرة التوزيع، فلا تظل مرتبطة بالريوع التي تفوض الدولة أمر توزيعها لذوي النفوذ، بل تصبح أكثر التصاقاً بالانتاج والتطوير والمنافسة.

يطرح المخطط أسئلة بقدر ما يجيب، يساهم في الاستعداد للمخاطر المقبلة ويرفض تجزئة الحلول، على أن متانة التحليل وقوة الاستنتاج، والمزج بين عنصري الإنتاجية والعدالة، يخلّف انطباعاً، بأن هذا المخطط لن يولد من رحم هذا النظام، ربما أدت إليه موجة عابرة أو كان نتيجة التباس غير مقصود، لكن من غير المرجح أن يبصر النور ما لم تتغير أمور كثيرة من بينها حكماً تركيبة السلطة وموازينها الداخلية ومدى التزامها بشتى أنواع الحقوق.. الحالية والمستقبلية.
 





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي