كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات| قضايا جوهرية في المعالجة والإنقاذ / د. عبد الحليم فضل الله - آب 2024
مقالات| قضايا جوهرية في المعالجة والإنقاذ / د. عبد الحليم فضل الله - آب 2024
د. عبد الحليم فضل الله*


تظهر البيانات التقديرية، ما قبل الحرب العدوانيّة على غزّة، اتجاهًا إيجابيًّا في مؤشرات الاقتصاد الكلّي. وهذا لافت في توقيته، فالعجلة السياسية متباطئة أو متوقفة، والحلول منعدمة، وإلى الآن لم نتقدم خطوة إلى الأمام في معالجة الأزمة المالية والمصرفيّة، وتُرك الأمر إلى إجراءات آنية تصدر بقرارات أو تعاميم. ولا يقف الأمر عند حدّ التلكؤ في إقرار القوانين والبرامج الإنقاذيّة وعلى رأسها معالجة أوضاع المصارف والتوازن المالي ووضع ضوابط استثنائيّة ومؤقتة على رأس المال، بل يتعدّاها إلى التغاضي عن استحقاقات حرجة، وفي مقدمها مثلًا تعليق دفع سندات اليوروبوندز، أو عودة العجز في ميزان المدفوعات مع ما له من تأثيرات ضارّة على سوق النقد.

المصارف تفترض أنّ حدود مسؤوليتها القصوى
يجب أن لا تزيد عن قيمة بالخسائر المحقّقة حاليًّا


تعارض التقديرات
إنّ توفر معطيات دقيقة ومفصّلة ومتفق على صحّتها عن الخسائر، هي نقطة الانطلاق الصحيحة في أي معالجة، حتى لا يلجأ كلّ طرف إلى تصوّرات تبعد عنه المسؤوليّة. ويتفق المعنيّون بالأزمة عمومًا على أنّ الخسائر المصرفيّة (عدا خسائر اليوروبوندز خارج القطاع المصرفي) تزيد عن 70 مليار د.أ، لكنهم يختلفون عمّن هو معني بتسويتها. تفترض المصارف أنّ حدود مسؤوليتها القصوى يجب أن لا تزيد عن قيمة بالخسائر المحقّقة حاليًّا، وهذه تقارب قيمتها 7 مليارات د.أ بعد اعتماد سعر صرف 15 ألف ل.ل لكل دولار أميركي قبل حوالي سنة، وقد تزيد باعتماد سعر الصرف في السوق. بوسع عدد من المصارف تسوية هذه الخسائر فيما تعجز عنها أخرى. وستستفيد المصارف المحظيّة من طرق عدّة في إعادة الرسملة، ومنها، إلى جانب التقديمات النقديّة واستخدام ما كوّنته المصارف من مؤونات في السنوات الماضية: إعادة تقويم الموجودات العقارية وبيع أصول خارجيّة وتحويل جزء من المطلوبات إلى حساب رأس المال. وستستفيد المصارف القادرة على الاستمرار من المهل الطويلة الممنوحة لها لإعادة الرسملة (والتي تمتّد لثلاث سنوات بحسب مشروع قانون معالجة أوضاع القطاع المصرفي). وبالمقابل تحيل المصارف الخسائر الباقية، أي أكثر من 60 مليار د.أ، إلى المصرف المركزي والحكومة جرّاء توقفهما عن الدفع، الأول في أيلول عام 2019 والثانية في آذار 2020. ولا ضير، من منظور المصارف، من أن تعبئ الدولة إيراداتها الضريبية وعائدات أملاكها العامّة وأصولها التجاريّة ومواردها المستقبليّة المحتملة كالنفط والغاز، في تسديد ما هو متوجّب من خسائر.  

المصرف المركزي يتبنى مقاربة ضمنيّة مختلفة للخسائر،
يعبّر عنها التوزيع المعدّل لميزانيّته المؤقتة
Interim balance sheet


وفي المقابل يتبنى المصرف المركزي مقاربة ضمنيّة مختلفة للخسائر، يعبّر عنها التوزيع المعدّل لميزانيّته المؤقتة Interim balance sheet. وتظهر أرقام هذه الميزانيّة المنشورة في 15/2/2024 البنود الآتية للموجودات (مقوّمة بالدولار الأميركي): 16.7 مليار د.أ ديون على الحكومة ناتجة عن تمويل الدولة بالعملات (وهذا ليس دقيقًا) . وفروقات إعادة التقييم التي نقلها المصرف المركزي من جانب الموجودات إلى جانب المطلوبات والتي تقدّر قيمتها بـ 40.5 مليار د.أ، ما يعني أنّ على طرف ما تسديد هذا المبلغ وإلّا تحمّلته الخزينة. وبذلك يلقي المصرف المركزي على عاتق الحكومة تبعات تسوية حوالي 57 مليار د.أ من الخسائر. ويرد في جانب الموجودات أيضًا 118 ألف مليار ل.ل تكاليف عمليات سوق مفتوحة مؤجلة (يرتبط معظمها بالهندسات الماليّة)، فيما جرى خفض قيمة بند موجودات أخرى محاسبيًّا (Other assets) من حوالي 68 مليار د.أ في ميزانية مصرف لبنان المؤقتة بداية العام الماضي إلى أقلّ من 100 مليون د.أ في آخر موازنة منشورة.

الحكومة تلتزم
شكليًّا عدم المسّ بالودائع


تلتزم الحكومة من جانبها شكليًّا بعدم المسّ بالودائع، لكنها تخفّضها عمليًّا من خلال إعادة تصنيف الودائع بالعملات، المتبقية لدى القطاع المصرفي، ما بين مؤهلة (40 مليار د.أ) وغير مؤهلة (46 مليار د.أ)، بحيث تكون نسبة الاسترداد للودائع المؤهلة أعلى (ما بين الضعفين وثلاثة أضعاف) من نسبة الاسترداد للودائع غير المؤهلة، فضلًا عن تدابير استثنائيّة ومتشدّدة بخصوص الودائع غير المشروعة. وبحسب السيناريو التقريبي المتصل بمشروع قانون معالجة أوضاع القطاع المصارف تتعرّض الودائع لجملة من الاقتطاعات المباشرة وغير المباشرة بعضها مبرّر وبعضها الآخر غير مبرّر، وذلك على النحو الآتي:
(1) اقتطاع حوالي 7.5 مليار د.أ على الأقل من الودائع المؤهلة وغير المؤهلة بوصفها ودائع غير مشروعة وفقًا للنموذج المحدّث لأعرف عميلك KYC الواردة في مشروع القانون. (2) شطب حوالي 10 مليارات د.أ من الفوائد الزائدة. (3) تحويل جزء من الودائع ما فوق 500 ألف د.أ إلى أدوات رأسمالية Bail in بمعامل تحويل: 5 دولارات من الودائع المؤهّلة و10 دولارات من الودائع غير المؤهلة مقابل دولار واحد من رأسمال المصرف، ونتيجة ذلك يُحسم ما يعادل 13 مليار د.أ من الودائع في مقابل أن يحصل أصحابها على أسهم بقيمة ملياري د.أ تقريبًا، أي ما يوازي نصف مجموع الرأسمال الجديد للمصارف بعد إعادة الهيكلة.
(4) التسديد التدريجي والتصاعدي للمبلغ المحمي من الودائع الذي لا يتجاوز 100 ألف د.أ للودائع المؤهلة و36 ألف د.أ للودائع غير المؤهلة وبما لا يتجاوز نصف هذه المبالغ في المصارف الخاضعة للتصفية. والقيمة الإجماليّة للودائع المحميّة تُقدّر بحوالي 22 مليار د.أ، تُدفع مناصفة بين المصارف والمصرف المركزي (تُقتطع من حسابات المصارف لديه). وحيث أنّ السقف الزمني لتأدية هذه الودائع هو 15 عامًا تكون قيمتها الحالية الصافية NPV  13 مليار د.أ تقريبًا (أي أنّه إذا أُصدرت سندات دين مكفولة بالمبالغ المحمية المقسّطة على النحو المذكور، فإنّ إيرادات بيعها فورًا تعادل حوالي 60 بالمئة من قيمتها الدفتريّة المقسّطة على 15 عامًا). (5)  تحويل ما يقارب 30 مليار د.أ من الودائع المؤهلة وغير المؤهّلة إلى سندات ماليّة من فئة (أ) وما فوق (A and above) تستحقّ بعد 30 سنة للودائع المؤهّلة و40 سنة للودائع غير المؤهّلة . ولا تزيد القيمة الحاليّة المحسومة لهذه السندات عن 6 مليارات د.أ يُسدّد نصفها مباشرة من المصارف ونصفها الآخر نقدًا من حساباتها لدى مصرف لبنان. (6) تحويل حوالي 3 مليارات د.أ طوعًا إلى الليرة اللبنانيّة بسعر صرف مخفّض (يتراوح بين 20 بالمئة و50 بالمئة من سعر الصرف بالسوق).
(7) بالمقابل تلتزم الحكومة بإعادة رسملة مصرف لبنان بمليارين ونصف مليار د.أ من خلال إصدار سندات مالية أو بأي وسيلة أخرى. وتخصّص أيضًا بعض إيراداتها المستقبليّة وفق معايير محدّدة لتكوين موجودات صندوق استرداد الودائع.

خطّة الحكومة لا تلبي
معايير العدالة والوضوح والتوازن

وفق هذا السيناريو:
(1)  من الناحية الفعليّة، يسترد المودعون بالقيمة الحاليّة الصافية حوالي 30 بالمئة من قيمة ودائعهم (أي أن القيمة السوقيّة للودائع ستتضاعف من حوالي 15 بالمئة إلى 30 بالمئة) ويمكن لنسبة الاسترداد هذه أن تزيد أو تنقص تبعًا لدرجة المخاطر ونجاعة إجراءات التعافي ووجود ما يكفي من الضمانات الماليّة للمودعين ولا سيما عن المبلغ المحمي من حساباتهم.
(2) إسميًّا، يحصل المودعون على حوالي ثلثي ودائعهم عند الاستحقاق، شرط أن تكون الظروف الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة مؤاتية وتتسم بقدر كافٍ من النمو والاستقرار لتمويل الاسترداد التدريجي للودائع.
(3)  تتحمّل الحكومة ومصرف لبنان كلفّة ماليّة مقدارها 17 مليار د.أ بقيمة حالية صافية تقارب 12 مليار د.أ، فيما يقع على عاتق المصارف تأدية 14 مليار د.أ، زائدًا ملياري دولار للرسملة، وبذلك تكون أيضًا الكلفة المحسومة الصافيّة لمجموع ما ستتحمّله المصارف 12 مليار د.أ.
لا تلبي خطّة الحكومة معايير العدالة والوضوح والتوازن، لكنها تنطوي على عناصر يمكن البناء عليها في إعداد مقاربة جديدة تنصف المودعين، وتتجنّب بعض التصنيفات المعقّدة والمجحفة. فيمكن مثلًا دمج الودائع غير المؤهلة بالودائع المؤهلة، بعد إعادتها إلى القيمة التي كانت عليها عند تحويلها من الليرة اللبنانية إلى الدولار، ويفترض أن يُعامَل المودعون في المصارف قيد التصفية معاملة غيرهم من المودعين، إذ يصعب فصل العوامل الذاتية التي تؤدّي إلى تصفية مصرف ما عن الأزمّة النظاميّة العامّة. ويجب أن تتسم المعايير المعتمدة في تشخيص الودائع غير المشروعة بالمعقوليّة فنيًّا وقانونيًّا. ويمكن زيادة القيمة الفوريّة للودائع عن النسب المقدّرة أعلاه، من خلال تخصيص الجزء الأكبر من الموجودات الجيدة المتبقية في القطاع المالي لضمان الودائع المحميّة، وتحسين رسملة صندوق الودائع من خلال مدّه بأصول حقيقيّة جديدة، كأن تُخصّص له مثلًا حصّة وازنة من رخصة ثالثة للخليوي، يجري إصدارها في ظرف اقتصاديّ مناسب. وبدلًا من دفع أموال طائلة إلى الخارج لشراء سندات أجنبيّة من فئة أ وما فوق، يجب التفكير بصيغة أخرى ملائمة للمودعين وتغذي الدورة الاقتصاديّة للبلد في الوقت نفسه.
أمّا في توزيع الخسائر، فيفترض أن تتحمل المصارف كلفة تساوي أرباحها الموزعة من عام 2011 زائدًا أرباح الهندسات الماليّة، وأن يُعاد رسملة المصرف المركزي تدريجيًّا بما يتناسب مع الحجم الإجمالي لميزانيته بعد التسوية، على أن يلتزم المصرف أيضًا بتكوين تدريجي لمؤونات تساوي قيمة الموجودات الأخرى وأعباء عمليات السوق المفتوحة المؤجّلة بعد شطب ما يمكن شطبه منها. ويقع على عاتق الحكومة ما يوازي القيمة الفعليّة لسندات اليوروبوندز.
متلازمات الإنقاذ
لا تقف فعاليّة الإجراءات عند إقرار ما هو مطروح ومعروف من قوانين وبرامج، فهذه لن تجدي نفعًا ما لم تكن جزءًا من مروحة إصلاحات واسعة تغطي كل مجالات الأزمة، والتي نورد منها ما يتصّل مباشرة بالأزمة:
(1) تعديل قانون النقد والتسليف على نحو يكرّس استقلاليّة المصرف المركزي عن السلطة المالية والعكس بالعكس، ويقلّل الاعتماد المتبادل بين السياستين المالية والنقديّة في تمويل عجز الموازنة وتحقيق الاستقرار النقدي، ويضفي طابعًا مؤسساتيًّا لا فرديًا على عمل المصرف المركزي. ويفترض بالتعديل المنشودة أن يضع قيودًا قانونيّة تمنع تكرار تجربة الخسائر الضخمة التي سجّلها مصرف لبنان أو تقلّل من احتمال حدوثها، وأن يزيد مستوى التخصّص الداخلي للمصرف من خلال إيجاد وحدات جديدة فيه تكون مهمّتها تطبيق أعلى المعايير الاحترازية في إدارة المخاطر، مع الفصل ما أمكن بين مهام الرقابة والإدارة التنفيذيّة وإدارة السياسة النقديّة.
(2) الالتزام بأعلى معايير الرقابة. لقد دفعنا حتى الآن ثمن فهمنا المبسّط للمخاطر، فاختزلنا مقرّرات بازل الاحترازيّة تقريبًا بالتعميم الصادر عن مصرف لبنان في كانون الأول 2011 والذي ألزم المصارف بزيادة الحدود الدنيا لرأس المال تدريجيًّا إلى 12 بالمئة حتى نهاية 2015 أي إلى أكثر مما قرّرته لجنة بازل 3. لكنّ الالتزام الشكلي بكفاية رأس المال وحدوده الدنيا لا تدرء وحدها المخاطر عن القطاع المصرفي ما لم تندرج ضمن نظام رقابة فعّال ومتعدد البعد يتناسب مع المخاطر الحقيقيّة.
والممارسات الرقابيّة المصرفيّة العالية ليست ثابتة بل يجب، حسب مبادئ بازل، أن تتطوّر عبر الزمن وتستخلص الدروس والعبر من التجارب والعثرات والمحن، وتلحظ في تطبيقاتها نمو الأعمال المصرفيّة وتقدمها. وإذا انطلقنا من ذلك يكون على السلطات الرقابية في لبنان، إلى حين استعادة التعافي في أقل تقدير، أن تصمّم نظام رقابة معزّز يتضمن المعايير الدولية ويضيف إليها معايير أخرى تلحظ خصوصيّة الأزمة في لبنان. والأهم من ذلك هو تبنّي منظور واسع وشامل للرقابة يقوم، بخلاف الممارسة الرقابية الهشّة في لبنان، على المواءمة بين سياسات الرقابة والشروط المسبقة المحيطة بعمل المصارف، وفي صدارة هذه الشروط: (أ) وجود سياسات اقتصادية كليّة سليمة وطاردة للخطر، و(ب) إطار عمل يضمن الاستقرار المالي، و(ج) سياسات احترازيّة كليّة واضحة ترصد التفاعل الخطر بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المصرفي والمالي. و(د) بنية قانونية ومؤسساتيّة قويّة تشمل فيما تشمله قوانين ناجزة وسلطة قضائية مستقلة، على الأقلّ في المجال المالي، ومبادئ محاسبيّة متطورة وخطط طوارئ معدّة بعناية. و(ه) التعامل بجديّة مع مخاطر التركّز ولا سيما منها مخاطر التعرّض الكبير. إذ يجب أن لا يتجاوز التعرّض المرتبط بالمؤسسات 10 بالمئة من رأسمال المصرف و25 بالمئة في التعامل مع الأفراد، فيما وصل التعرض قبيل الأزمة إلى 500 بالمئة في تعامل المصارف مع مصرف لبنان و75 بالمئة في تعاملها مع الحكومة.
والعبرة التي يمكن استخلاصها من تجربة الأزمة في لبنان هو أنّ تقيّد القطاع المالي والمصرفي بالمعايير التقنيّة والفنيّة، لا يعني أنّه يتقيّد بالخطوط العامّة للرقابة الشاملة والمتكاملة التي تقيه وحدها مخاطر الائتمان والسوق ومخاطر التشغيل والسيولة.  
 (3) تبني موازنة عامّة استثنائية تتضمن إصلاحات جوهرية في جانبي الإيرادات والنفقات، وتكون مدخلًا إلى خطة إنقاذ متوسطة الأمد. والقطاع العام في جميع الحالات هو ركيزة أساسيّة للخروج من الانهيار المالي والمصرفي ولاستهلال مسيرة التعافي الاقتصادي، ولا بد له حتى يؤدّي دوره المطلوب من:
(أ) استرداد الانتظام الوظيفي من خلال تحسين التقديمات المالية والاجتماعيّة بما يتناسب مع المتوسط العام للأجور والتقديمات في البلد، مع تجنّب الدخول في متاهة سلسلة جديدة للأجور قبل تحقيق الاستقرار ووضوخ الأفق المستقبلي للاقتصاد. (ب) تمكين الخزينة من الوصول إلى كامل المبالغ المودعة لدى المصرف المركزي بالعملات الوطنية والأجنبيّة، والتي وصلت في منتصف شباط 2024 إلى 386.5 ألف مليار (بما يعادل 4.3 مليار د.أ) 15 بالمئة منها تقريبًا بالدولار الأميركي. لكن المصرف المركزّي يمتنع عن تحويل إيرادات الدولة المودعة بالليرة اللبنانيّة إلى العملات الأجنبيّة لزوم تمويل مشتريات الدولة من الخارج (كالفيول لشركة كهرباء لبنان). وبذلك تؤدّي الضرائب والرسوم وظيفة عمليّات السوق المفتوحة، على حساب دورها الأصلي والتعاقدي المتمثّل في تمويل المنافع العامّة الأساسيّة وتمويلها. فضلًا عن ذلك، فإنّ احتجاز جزءٍ من إيرادات الضرائب في المصرف المركزي، يضاعف من مفاعيلها الانكماشية على الاقتصاد، وهذه طريقة ملتوية أخرى في تخفيف العرض النقدي بالليرة والطلب على العملات الأجنبيّة. (ج) زيادة النفقات العامّة الأوليّة لتساوي على الأقل نسبتها في البلدان المماثلة (20 بالمئة من الناتج المحلّي بالمتوسط). وتنويع إيرادات الدولة من حيث العملة (عملة وطنية وأجنبيّة بحسب وعاء الإيرادات) لمنح الحكومة الاستقلاليّة تجاه المصرف المركزي، ومن حيث المصدر (دخل، استهلاك، أملاك..) لتحسين الحصيلة الضريبيّة وعدالتها. ما يحتّم وضع المسوّدة المنجزّة لقانون الضريبة الموحّدة على الدخل، على جدول الأعمال.

الوضع الاقتصادي ما زال بعيد من الناحيتين المنهجية والسياسية عن الولوج في بوابة الحلول الناجعة

اقتصاد الأزمة من جديد
لأول مرّة منذ عام 2011 يسجّل لبنان فائضًا في ميزان المدفوعات، بعد عجز تراكمي أفضى إلى الأزمة الماليّة في لبنان. ويقدّر فائض ميزان المدفوعات للعام 2023 بـ 1675 مليون د.أ مقارنة بعجز مقداره 402 مليون د.أ عام 2022. وعجز تراكمي بمقدار 23.74 مليار د.أ في السنوات 2018-2022. ويفسر الفائض المحقّق في سنة 2023 الاستقرار الذي يشهده سوق الصرف، وهو الذي مكّن المصرف المركزي من زيادة إحتياطيّاته حوالي 900 مليون د.أ منذ نهاية تموز الماضي. ولكنّ هذا الفائض في ميزان المدفوعات قد ينقلب في أي لحظة إلى رصيد سالب في ظلّ العجز الهائل في الميزان التجاري (أكثر من 9 مليارات د.أ) وفي الحساب الجاري (حوالي سبعة مليارات د.أ). علمًا أن فائض ميزان المدفوعات لا سياسة تجفيف السيولة في السوق، هو الذي أدّى إلى تثبيت سعر الصرف وامتصاص الضغوط التضخميّة.
ويستعيد الناتج استقراره النسبي مع تراجع معدلات الانكماش الاقتصادي مقارنة بانكماش متراكم في السنوات 2019-2022 قارب 67% بالأرقام الأسميّة و54 بالأرقام الحقيقيّة. ولأوّل مرّة أيضًا نما متوسط الناتج الفردي (GDP per capita) بحوالي 1.2 بالمئة بعد خسارة مقدارها 47 بالمئة بالقيم الحقيقيّة و65 بالمئة إسميًّا في السنوات الثلاث السابقة. ويعود الاستقرار النسبي في النشاط الاقتصادي إلى محرّكات اقتصاديّة "إيجابية" تتمثّل في نمو الاستهلاك وأداء القطاع الخاص وزيادة أعداد السياح بأكثر من خمسين بالمئة. لكن ذلك ترافق مع نسبة عالية للاستهلاك قياسًا إلى الناتج (110 بالمئة تقريبًا) وعودة العجز في الميزان التجاري وفي الحساب والجاري نسبة إلى الناتج إلى ما كانا عليه قبل الأزمة، فيما حافظت تحويلات المغتربين على قيمتها تقريبًا طوال السنوات الماضيّة، مع زيادة في نسبتها إلى الناتج بسبب تراجع هذا الأخير، وقد ارتفعت هذه النسبة من 14.3% وسطيًّا في الأعوام 2009-2017، إلى 22.3% في السنوات 2019-2022. ومن المتوقع أن يتلقى لبنان حوالي 6.5 مليار د.أ من التحويلات في عام 2023 تتوزع مصادرها على الشكل الآتي: 1114 مليون د.أ من السعوديّة (17% من مجموع التحويلات)، ثمّ الولايات المتحدة الأميركيّة 1002 مليون د.أ، وأستراليا 719 مليون د.أ، وتليها كلٌّ من وكندا وألمانيا وفرنسا والإمارات.. ويعتقد أنّ التحويلات ستكون في السنوات القادمة الدعامة الأساسيّة للأسر التي عوّضت عن فقدان القدرة الشرائيّة بتصدير قوة العمل المدرّبة.
وبغض النظر عن دقة الأرقام ومتانتها واستمرارها، وقد تكون عابرة ومؤقتة، فإنّ دلالتها الأبرز أننا نعود بعد سنوات عاصفة من الأزمة إلى الاقتصاد نفسه الذي أوجدها، حيث (1) التعايش بين عجز الحساب الجاري وعجز الميزان التجاري من ناحية وفائض ميزان المدفوعات من ناحية ثانية، ما يبقي الاقتصاد رغم تدفق الأموال في وضعيّة اقتراض وزيادة غير منظورة في المديونيّة الإجماليّة للبلد، واعتماد زائد وغير منطقي على التحويلات للأسر. ولنتذكر هنا أن تسجيل عجز في ميزان المدفوعات سيضعنا أمام احتمالين، إمّا استئناف السحب مما تبقى من احتياطيّات بالعملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان للتعويض عن هذا العجز، أو تدهور إضافي في سعر الصرف، أو الأمرين معًا.
 
(2) عودة ظاهرة المرض الهولندي (لعنة الموارد) لتطلّ برأسها من جديد، ويدلّ على ذلك أنّ مضاعف الأسعار من بداية الأزمة (مؤشر أسعار المستهلك CPI) قد تجاوز في بداية عام 2024 الزيادة المضاعفة في سعر صرف الدولار إلى الليرة اللبنانيّة. هذا يعني أن أسعار السلع والخدمات عادت إلى الارتفاع مقوّمة بالعملة الأجنبيّة، وأنّ معدّلات التضخم (الإجماليّة التي تشمل كلّ السلع والخدمات والمحليّة التي تركّز على المنتج المحلّي) باتت أعلى من مثيلاتها في العالم.
 
(3) يستعيد الاقتصاد ملامحه السابقة دون الاستفادة من فرصة انخفاض تكاليف الإنتاج بفعل تدهور سعر الصرف وتدنّي الأجور. فالاستهلاك بقي المحرّك الأساسيّ للنشاط الاقتصادي، والمنتجات القابلة للتبادل لم تزدهر بما فيه الكفاية وظلّ توزيع الناتج على حاله تقريبًا منذ عام 2020، الذي شهد تحسّنًا محدودًا في حصة الزراعة والصناعة من الناتج لكن مع زيادة أكبر في حصّة التجارة والخدمات التي استفادت من تراجع نسبة الضرائب غير المباشرة من الناتج إلى أقل من 3 بالمئة عام 2023 (تقديريًّا) مقارنة بأكثر من 11 بالمئة عام 2018.
وبالمحصّلة ما زلنا بعيدين من الناحيتين المنهجية والسياسية عن الولوج في بوابة الحلول الناجعة، فهذه تحتاج إلى أن نستجمع ما بقي لدينا من موارد مالية وبشرية وبنى مؤسساتيّة قادرة على العمل لتأهيل الاقتصاد ومن ثم الإدارة العامّة والقطاع المالي، وإلى أفق جديد من المقاربات المستندة إلى إرادة تغيير حازمة وشجاعة في تحمّل النتائج والتبعات.





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    [email protected]

    التواصل الاجتماعي