كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: إصلاح السياسات الاجتماعية في لبنان: نقاش في المبادئ
مقالات: إصلاح السياسات الاجتماعية في لبنان: نقاش في المبادئ
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

تبدو المجموعات اللبنانية معنيّة أكثر من أي وقت مضى، بتضمين خطابها السياسي عناصر اجتماعية بارزة، وذلك نتيجة التحولات التي عرفها لبنان في الأعوام الثلاثة الماضية والتغيير في الخريطة السياسية التي رافقها، فالقوى الليبرالية التي كانت مشاركة في السلطة وعلى رأسها تيار المستقبل، حصرت انتشارها السياسي في الحقبة الماضية داخل المساحة التي تكفل لها تمرير مشروعها القائم على الإفراط في التخصص والحد من التنويع الإنتاجي، والتخلص من الأعباء التوزيعية التي تعيق "المنافسة الإقليمية". لكن حدود انتشار هذه القوى توسع في الآونة الأخيرة ليشمل في آن معاً المركز والأطراف، وهذا بحد ذاته تحد عليها التعامل معه إمّاّ بتقديم تنازلات أيديولوجية لا يتوقع حصولها، أو بإدخال تعديلات جانبية لا تطال جوهر رؤيتها المهيمنة منذ عام 1992. تجدر الإشارة إلى أن القوى المذكورة قدمت في التسعينات تنازلات كثيرة في إطار مقايضة مع شركائها الوطنيين تكفل لمشروعها الصمود والاستمرار، وها هي اليوم تعتزم تقديم تنازلات مماثلة وللهدف نفسه لكن بغرض الحفاظ على تماسك وصلابة تضامنها الداخلي، وفي سياق صيانة النموذج الذي بدأ يتهاوى تحت وقع الأزمة المالية.
هل نحن إذاً أمام تحولات ملموسة تتيح التقارب بين النهجين الاقتصاديين المتضاربين: "الاجتماعي/التنموي" و"الليبرالي/الاحتكاري"، وهل يمكن اعتبار اتفاق الفئات اللبنانية على التنويه بأهمية السياسات الاجتماعية نقطة التقاء مهمة.
لو انطلقنا من برنامج الحكومة المقدم إلى مؤتمر باريس 3 في بداية العام الجاري، فسنلحظ وجود تعبيرات جديدة، البرنامج يخاطب المجتمع الدولي طلباً للدعم المالي في ستة مجالات من بينها " إصلاح القطاع الاجتماعي، وتحسين المؤشرات الاجتماعية وخفض التفاوت المناطقي".
غير أن "برنامج الحكومة لتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية" الذي أعدته وزارة الشؤون الاجتماعية لاحقاً خفّض من جديد سقف التوقعات، فقد أعاد التأكيد على أن عزم الحكومة تحسين الآليات المتبعة في تقديم الخدمات، لا يعني تعديل مضمون رؤيتها الاجتماعية التي تحمل عملياً هدفاً وحيداً هو توسيع نظام الإعانات النقدية من أجل "تخفيف الفقر"، ويمكن الاستنتاج بسهولة أن مفردتي الإصلاح والترشيد كانت تعني أينما ذكرت في البنود الأخرى الحد من الإنفاق الحكومي وليس زيادة كفاءة وفعالية هذا الإنفاق.
والمفارقة أن زخم الخطاب الاجتماعي المستجد، ليس له علاقة بمراجعة ما للسياسات المتبعة، بل يرتبط أكثر بتوصيات وضغوط كبار المانحين، وعلى نحو خاص البنك الدولي والمفوضية الأوروبية اللذين ينصحان الحكومة باستمرار الالتزام بتحقيق أهداف لها علاقة بالتفاوتات المناطقية والاجتماعية وبشبكات الأمان.
يفترض بالرؤية الجديدة أن تحقق انتقالاً نوعياً من وظيفة للدولة إلى أخرى، وتحديداً من سياسات اجتماعية مهمتها معالجة الاختلالات الناتجة عن قصور السياسات الأخرى الاقتصادية والمالية والنقدية ومداواة العوارض الخطيرة للفشل، إلى سياسات اجتماعية        و اقتصاديّة متلازمة بحيث يكون من معايير النجاح أو الإخفاق تحقيق تقدم على الصعيد الاجتماعي. ولنتذكر هنا أن موجة الإنفاق الكبرى في التسعينات والتي لا يمكن تكراراها، تزامنت مع تراجع ملموس في المؤشرات الاجتماعية، ويكفي أن نذكر هنا أن معامل جيني GINI الذي يقيس عدم عدالة توزيع المداخيل سجل ارتفاعاً مع زيادة النفقات الحكومية وانخفاضاً مع انخفاضها، مما يدل على وجود أثر توزيعي عكسي للسياسات المالية.

إن تصميم سياسة اجتماعية جديدة تحقق القفزة الايجابية المطلوبة وتستخلص عبر الماضي لا بد وأن تراعي المبادئ التالية:
1-    ديمقراطية الأهداف؛ بحيث يتم من جهة مراعاة مصالح جميع الأطراف المشاركة في الإنتاج، ومن جهة أخرى ردم الفجوة الناشئة عن التحيزات غير المبررة، والتي كان من نتائجها مثلاُ الانخفاض الدراماتيكي لحصة الأجور من الناتج المحلي، وتراجع مستوى التنوع الإنتاجي وزيادة معدلات البطالة والهجرة والفقر.

2-    الترابط بين الإصلاحات ومركزية دور الدولة؛ فلا يمكن إصلاح السياسات الاجتماعية بمعزل عن إصلاح السياسات الأخرى، أو في إطار تقليص حضور الدولة. فالتدخل الحكومي مطلوب في المرحلة الانتقالية التي تنتظرنا لتحقيق أربعة أهداف ملحة: تخفيف الضغط الاجتماعي، تحقيق الحد الأدنى من الإشباع في الخدمات الأساسية، المساعدة على تحمل الكلفة الاجتماعية للتصحيح المالي، والاستعداد لاستيعاب الانعكاسات الناشئة عن أي تدهور مرتبط بالأزمة.

3-    السياسات الاجتماعية تتطلب مزيداً من الإنفاق العام الكفء: إنّ فائض الإنفاق الصحي والتربوي الإجمالي قياساً إلى الناتج المحلي في لبنان (أكثر من 22%) يقابله تدن نسبي في حصة الحكومة من هذا الإنفاق، والتي تمثل حوالي 30% من مجمل الإنفاق الصحي مقابل ما بين 60 و70% في منطقة الـMENA ،  وتصل مساهمة  الأسر في الإنفاق التربوي إلى حوالي 7% من الناتج بينما هي على سبيل المثال 0.4% فقط في فرنسا و2.2% في الولايات المتحدة و2.8% في كوريا وأقل من ذلك في الدول المجاورة.

    لكن على الإنفاق الحكومي الإضافي أن يعالج مشكلتي عدم التناسب بين خطط التجهيز المادي والبشري وعدم التطابق بين العرض والطلب عند مستويات محددة من الجودة، وهذا يستدعي زيادة حصة الاستثمار المادي والبشري من مجمل الإنفاق الاجتماعي العام، باستثناء مجالات ومناطق محددة تعاني من فائض في العرض. 

4-    تطوير المفاهيم: ينبغي أن يترافق تصميم سياسات اجتماعية جديدة مع التنازل عن مبدأ "النمو يحقق آلياً التنمية "، بينما تظهر التجارب الناجحة في الربع الأخير من القرن الفائت التلازم بين تحقيق التنمية وتطبيق سياسات مقصودة لتقليص الفوارق الاجتماعية والطبقيّة، ما يرجح إتباع المبدأ المقابل: "النمو والتنمية في آن".
 
هذا يفترض التخلي عن الميل الراهن للفصل بين السياسات الاجتماعية واستراتيجيات الإنماء المتوازن، والذي يظهر بوضوح في المقاربة الحكومية التي تقوم على معالجة أوضاع الفقراء أنفسهم وليس الفقر أو المناطق الفقيرة، فالأخيرة تتطلب حزمة متكاملة ومعقدة من الإجراءات والتدابير والسياسات، بينما يمكن الاستفادة من العطاءات المالية المحدودة والمباشرة لتحقيق أهداف اجتماعية عابرة ذات عوائد سياسية مؤكدة.

نحن إذاً أمام مفترق طرق، إما استئناف نموذج الإنفاق الريعي التعويضي لتهدئة الوافدين الجدد من مجتمعات الأطراف إلى مجتمع السلطة (الشمال والبقاع الغربي بعد الجنوب والنبطية وربما لاحقاً البقاعين الشمالي والأوسط) أو الدخول في عقد اجتماعي جديد وشامل يراعي حقوق الجميع ويلحظ في الوقت نفسه المخاطر المالية التي تضعنا منذ عقد تقريباًً على حافة الهاوية.





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي