كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: ولاية الفقيه: محورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي .. السياق التاريخي والتحديات الراهنة
مقالات: ولاية الفقيه: محورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي .. السياق التاريخي والتحديات الراهنة
الدكتور علي فيّاض

أية أهمية تفرضها أطروحة ولاية الفقيه التي عالجها الإمام الخميني المقدس بإحكام، وشكلت ركيزة فكره السياسي والفقهي، والإطار الشرعي لبناء الدولة الإسلامية المعاصرة؟ وبمزيد من الدقة ما هو دور هذه الأطروحة في الاجتماع السياسي الشيعي التاريخي والمعاصر، وأين يتعيّن موقعها بالضبط؟ 
ربما تكمن مشروعية السؤال في الإحساس أولاً وقبل أي شيء آخر بالواجب تجاه فكر الأمام الخميني في ضوء التحديات المعاصرة، ما يدفعنا إلى القول أن "ولاية الفقيه" كرؤية ودور تستوجب منا أكثر من مشاعر الولاء فقط، إلى التنظير لكل أبعاد الأطروحة سياسياً واجتماعياً، وعدم الاقتصار على المعالجات الفقهية التي وسمت بطبيعتها كل النقاشات على مدى السنوات الماضية. إلى ذلك أرى ثمة خللاً عميقاً تقع فيه تلك الإسهامات التي تقيم مقارنات بين أطروحة ولاية الفقيه وأطروحات ونظريات أو تجارب دستورية أخرى تنتسب إلى أنسقة حضارية وفكرية مغايرة. فهذه المحاولات غالباً ما تقع في إشكالات منهجية تفضي إلى تشويه المضمون الفكري والسياق التاريخي الفقهي لرؤية ولاية الفقيه، ذلك أن الإحاطة العميقة بالاجتماع السياسي الشيعي تاريخياً، وتتبع التطور الفقهي الشيعي، يبيّنان بوضوح شديد أن الجذر العقائدي والفقهي لولاية الفقيه هو الإمامة نفسها. وإن الإشكاليات التي استهدفت أطروحة الولاية معالجتها قد نشأت بفعل تشوهات لحقت بالفقه الشيعي في نظرته للسلطة في مرحلة الغيبة الكبرى للإمام الحجة (عج).
فمنذ العام 329 هـ . تاريخ بداية الغيبة الكبرى للإمام الحجة محمد بن الحسن المهدي (عج). واجه الفقهاء الشيعة سؤال السلطة في ظل تجربة جديدة وتحديات بالغة الخطورة، وقد جاءت الإجابات الاجتهادية رغم تفاوتها لتندرج في إطار نزع الشرعية عن أية سلطة في غيبة الإمام، لقد كان هذا بديهياً وطبيعياً في مواجهة "سلطة الوقت" أو السلطة الظالمة، لكنه لم يكن مفهوماً عندما أخذ منحى إطلاقياً، قاطعاً الطريق على أي سعي لإقامة سلطة شرعية بديلة، ورغم قيام بعض الدول الشيعية كالدولة البويهية (الزيدية) في القرن الرابع الهجري أو الدولة الفاطمية (الإسماعيلية) في مصر والتي استمرت لأكثر من قرنين (296هـ – 527 هـ )، أو قيام الدولة التي أسسها ناصر الاطروش في شمالي إيران لناحية طبرستان، أو دولة السادة المرعشيين في مازندران، وظهور ممالك شيعية كما حصل مع الملك المغولي "خدا بنده"، وسلاطين اقاقوينلو، إلا أن كل ذلك لم يكن مقترناً مع تغير جوهري بالموقف الفقهي الشيعي، حيث ظل يقوم على نفي تأصيل شرعية أي نظام سياسي في ظل غيبة الإمام، لقد تطور الفقه السياسي، الذي يعالج إشكاليات العلاقة مع السلطان الجائر، حيث تراكم إرث فقهي بات أكثر إدراكاً للضرورات السياسية التي يفرضها ضغط المصالح الشيعية وحماية الكتلة الشيعية المضطهدة، وظل هذا التطور محكوماً بتفاوتات حادة في صياغة القواعد الشرعية، ويكفي أن نجري مقارنة بين تجربة الشيخ المفيد ( 338-413هـ، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، والمقنعة). وتجربة الشريف المرتضى(355-435هـ، رسالته في العمل مع السلطان)، وتجربة محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة(385هـ – 460هـ، الغيبة، الشافي، والمبسوط)، من ناحية وتجربة السيد ابن طاووس (644هـ ) الذي كان يعتبر أن السلطة هي السم النقاع والذي أقام قطيعة حادة مع السلطة رغم قبوله نقابة الطالبين في عهد هولاكو من ناحية ثانية، كي يتبين لنا، مدى اتساع زاوية الافتراق في الاجتهادات الفقهية الشيعية تجاه السلطة، إلا أن ذلك لم يحل دون ارتكازها كلها إلى حصر شرعية السلطة بالإمام الغائب (عج) ونزعها عن أي سلطة أخرى. لقد كانت الاختلافات الفقهية تقوم على حصر صلاحيات الفقيه في نيابته عن الأمام المعصوم (ع)، في القضاء تارة أو في القضاء والإفتاء تارة أخرى، ومنهم من توسع في الصلاحيات باتجاه جواز إقامة الجمعة وإجراء الحدود.
إلا أنه وعلى مدى تلك القرون لم يبرز من ذهب بصلاحيات الفقيه إلى الدائرة الثالثة الأكثر دقة وخطورة وهي ولاية الأمر أو الحكم أي السلطة بما تفرضه من ولاية شاملة على الأموال والأنفس. 
لقد تشكلت النقلة النوعية الأولى، مع عالم كبير هو نور الدين علي بن عبد العالي الكركي(870هـ – 940 هـ ) ومع معاصره زين الدين ابن علي العاملي الجبعي (911هـ – 965هـ ) المعروف بالشهيد الأول، وقد قال كلاهما بالولاية العامة للفقيه في نيابته عن الإمام المعصوم (ع) . حيث حدد الكركي "أن الفقيه العدل الأمامي الجامع لشرائط الفتوى، والمعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه من مدخل" (جامع المقاصد في شرح القواعد، كتاب الصلاة) ، ولم يكتفي المحقق الكركي بذلك بل باشر فعلياً ولاية إشرافية على السلطة الصفوية أيام الشاه طهماسب الذي تسلم الحكم في العام 930هـ خلفاً لوالده الشاه إسماعيل الصفوي.
وعلى رغم تعرض المحقق الكركي لنقد فقهي حاد من قبل علماء معاصرين ولاحقين في محاولة لاستكمال نهج اعتزال السلطة. كما حصل من قبل "القطيفي" إلا أن الكركي نال تأييد عالم كبير آخر هو صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن النجفي، الذي قال بدوره بالنيابة العامة للفقيه.
وفي الواقع إن هذا الاتجاه، أعاد تقويم المسار الفقهي الشيعي، وسمح للمجال السياسي الشيعي في زمن الغيبة أن يتأسس مجدداً بما يعيد أحياء الفاعلية الشيعية على يد الولي- الفقيه.
ويأتي لاحقاً، أحد تلامذة صاحب الجواهر، وهو المولى المحقق الشيخ أحمد بن المولى محمد مهدي النراقي (صاحب كتاب جامع السعادات)، الذي ولد (أي الابن) في العام 1185 هـ وقيل 1186هـ ، ليبلور على صيغة رؤية فقهية متكاملة القول بولاية الفقيه العامة في كتابه : " عوائد الأيام"، حيث استدل على الولاية العامة بطرق عدة:
الأخبار الواردة في حق العلماء ومعالجتها سنداً ودلالة واعتباره أن العرف العام والخاص يدلان صراحة على ولاية الفقيه واعتباره أن المقارنة بين هذه النصوص والنصوص الدالة عادة على ولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام تشير إلى أن منطوق اغلبها واحد، كما استند إلى دليلي الإجماع، والحسبة (مقدمة كتاب عوائد الأيام، للمولى الزاقي، دار التعارف 1990 م. ط، ا).
ونلاحظ أن الإمام الخميني (قده) يشير في كتابه الحكومة الإسلامية إلى المرحوم النراقي ومن المتأخرين المرحوم النائيني (اللذين يقولان) أن جميع المناصب "والشؤون الاعتبارية التي للإمام ثابتة للفقيه"، وعند المقارنة بين معالجة الأمام الخميني(قده) لأطروحة ولاية الفقيه، التي وردت بصورة رئيسية في كتب ثلاث : كشف الأسرار، الذي كتب في وقت مبكر وتضمن مقاربات مقتضبة لولاية الفقيه، وكتاب البيع الذي احتوى معالجة فقهية معمقة وشاملة للولاية العامة، وكتاب الحكومة الإسلامية ، الذي شكل مقاربة فقهية وسياسية شاملة لمفهوم الولاية العامة للفقيه، عند المقارنة بين معالجات الإمام هذه ومعالجة المولى النراقي لمقولة ولاية الفقيه العامة، سنجد تشابهاً كبيراً بين الرؤيتين من حيث المنطلقات والمصطلحات وطرق الاستدلال، إلا أن ميزة الإمام الخميني (قده) أنه توسع بالدليل الفقهي من حيث الدلالة وعمق المعالجة، وأضاف عليه ما يمكن أن نسميه بالدليل الواقعي بأبعاده العقلية والسياسية.
إن هذه المقاربة لا تسعى إلى إعادة استحضار أدلة الولاية العامة للفقيه، وهي قد باتت معروفة ومتداولة، إلا أنها تطمح إلى تسويغ هذه المقولة من حيث إسهامها في تشكيل الاجتماع السياسي الشيعي.
فالإمام الخميني عندما قال: أن كل ما كان للرسول والإمام فهو للفقيه إلا ما خرج بدليل، قدّم حلاً لإشكالية السلطة في غيبة الأمام (عج). ورغم بداهة هذا الحل، أي اعتبار الولي الفقيه نائباً للإمام، إلا أنه شكل ثورة حقيقية في الفقه السياسي الشيعي، أفضت إلى تقويم خلل تاريخي بالغ الخطورة.
وفي الواقع إن خصوصية الحكومة في المفهوم الإسلامي تنبع من تلك العلاقة الدقيقة والحساسة بين التشريعات والقوانين والأحكام الثابتة وبين الظروف والأحداث والوقائع المتغيرة، إن هذه العلاقة بين الدين والتاريخ وبين الشريعة من ناحية والزمان والمكان من ناحية ثانية، توجب دينية الحكم وفقهنة السلطة. وتنفي بالتالي أية إمكانية عقلية أو شرعية لسلطة مدنية لا دينية، إلا إذا غادرنا منظومة المفاهيم الإسلامية إلى منظومات أخرى، وكل محاولة للنأي بالدين عن السلطة لن تفضي فقط إلى علمنة السلطة، بل ستولد بالضرورة ديناميات متتالية في إطار تداعي منطقي يفضي إلى محاولات علمنة المجتمع .
من هنا يمكن الإحاطة بأبعاد تلك المكانة التي أعطاها الأمام الخميني (قده) للحكومة الإلهية وللولاية المطلقة – على حد تعبيره – عندما أكد "أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الإحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام النوعية حتى الصلاة والصوم والحج". ( رسالة الإمام لرئيس الجمهورية الإسلامية. كيهان عدد 13223، 6 يناير 1989 م).
لذا إن التماس الدور المجتمعي للإسلام منوط بالسلطة الدينية، والمسألة تتجاوز الدور السياسي الذي تقيم كلاسيكيات الفكر الغربي ملازمة بينه وبين السلطة.
وبالعودة إلى علاقة الثابت بالمتغير أو الشريعة بالواقع، وهي التي تستهدفها التحديات المعاصرة من منطلقات شتى: تبعاً لهيمنة النموذج الغربي تارة أو ارتباطاً بمحاولات التجديد والتحديث التي ينشغل بها مثقفو العالم الإسلامي تارة أخرى، يمسي دور الولي الفقيه جوهرياً ومركزياً. في ضبط التجاذبات الحادة التي تولدها نزعات الجمود أو التجديد، التأصيل والتحديث، ذلك أن هذه العمليات الاجتماعية – المعرفية، التي تعيشها الأمة على صورة حراك حيوي ومتوتر، ليس من الصحيح اختزالها إلى مغامرة فكرية خالصة، أو صراع سياسي مباشر. إنها حالة تاريخية متعددة الأبعاد، تغدو مصلحة الأمة إحدى أهم أبعادها وأكثرها حضوراً. من هنا ضرورة الانشداد والركون إلى موقع الولاية بوصفه الوازن لتقاطب المفاهيم والمصالح .
ويبدو هذا طبيعياً ويندرج في صميم دور الولي الفقيه، سيما إذا استحضرنا رؤية الإمام الخميني في تحديد شروط الحاكم ووظائف الحكومة الإسلامية. إن شرطي العلم والعدالة اللذين يجب أن يتوفرا في الولي الفقيه. يحيلا كفاية الولي إلى كفاية ذاتية والضوابط إلى ضوابط داخلية، على عكس اتجاهات السلطة المعاصرة التي ترتكز إلى كفايات وضوابط خارجية، وعندما يحدد الأمام الخميني (قده): "أن الأئمة والفقهاء العدول مكلفون بالاستفادة من النظام والتشكيلات الحكومية من أجل تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل. والقيام بخدمة الناس". (الحكومة الإسلامية، ص 90-91)، وحيث أن تنفيذ الأحكام الإلهية والعدل يتماثلان ويندرجان في دائرة واحدة، فإن ذلك يعني أن تنفيذ الأحكام الإلهية وخدمة الناس يشكلان قاعدة ممارسة السلطة في فكر الأمام الخميني (قده)، وهذا هو احد المرتكزات التي يتأسس عليها تجديد الأمام الخميني(قده) في الفكر السياسي الإسلامي، حيث إن إعلاء قيمة خدمة الناس ووضعها إلى جانب تنفيذ الأحكام يشكل الإجابة الخمينية على إحدى الإشكاليات المطروحة على الدوام في علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي. والتي عاشتها المجتمعات البشرية باستمرار، وهي إشكالية موقع الناس أو الشعب من العلاقة مع السلطة . إن الإجابة الخمينية المشار إليها تجعل من الشعب جزءاً جوهرياً من معادلة الدين – السلطة وموضوعاً رئيسياً لممارسة السلطة إلى جانب تنفيذ الأحكام.
إن هذا العرض الموجز لموقع ولاية الفقيه في ضوء الاجتماع السياسي الشيعي تاريخياً، ودور هذه الولاية في ضوء التحديات المعاصرة، يجعل من المتعذر تخيل تشكل اجتماع سياسي شيعي دون دور الولي الفقيه، إنه شرط لإستقرار البناء السياسي الشيعي، كما هو شرط لتوازن الدور المجتمعي للإسلام.
إن غياب أو تغييب الولي الفقيه تاريخياً عن المجال السياسي أدى إلى انقفاله وإحالة السلطة إلى سلطان . أما راهناً فكل التماس لبناء مجال سياسي خارج الدور المركزي للولي الفقيه هو اندراج متتالي في علمنة مجتمعية تجد مدخلياتها في الحيّز السياسي، لكنها لا تقف عند حدوده بالتأكيد.
وما تجربة الأمام الخميني (قده) والإمام الخامنئي (دام ظله) من الناحية التطبيقية، إلا دليل على نجاح دور الفقيه في توازن واستقرار مسيرة الأمة، في توحدها وتنوعها، وفي أصالتها وتطورها، وفي تأديتها لرسالتها في مواجهة الحاضر والمستقبل.





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي