كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: من يجرؤ على رد الاعتبار للزراعة في لبنان
مقالات: من يجرؤ على رد الاعتبار للزراعة في لبنان
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

قبل الموجة العالمية لارتفاع أسعار السلع الغذائية والمواد الأولية، كان دعم الزراعة في لبنان مطلباً رجعيا، فبالنسبة إلى المتعصبين لمنطق السوق، يقاس جدوى أي نشاط اقتصادي بالمكاسب الفورية التي يحققها، دون ترتيب أي أثر على انعكاساته التنموية وتأثيره المستدام على الأنشطة الأخرى.

ومع أن لبنان من أكثر دول المنطقة تمتعاً بالخصائص الزراعية فإن ترتيبه متأخر بينها، سواء لناحية مساهمة الزراعة في الناتج المحلي القائم التي لا تتجاوز 5.2%، في مقابل 14.3% لتونس و19.3% المغرب، و15.8% لمصر و24.1% لسوريا..،  أو لجهة حصة قطاعي الإنتاج السلعي التي انخفضت من حوالي ثلث الناتج قبل الحرب الأهلية إلى أقل من 18% حالياً، فيما تصل هذه النسبة إلى 28% في سوريا و32% في تونس وأكثر من 40% في المغرب.

والمفارقة هي أنّ تضاؤل الإنتاج السلعي المحلي لم يكن لصالح الخدمات كما هو شائع، بل لحساب ما يمكن تسميته باقتصاد الدَين، فمع زيادة أهمية التدفقات المالية لتأمين خدمة القروض الحكوميّة سنوياً، بات من مصلحة مزيد من الوحدات الاقتصادية الانسحاب من دورة الإنتاج الحقيقي للاستفادة من تيار الأموال المتدفق، لتصبح قطاعات الإنتاج المتوقفة عن النمو مسؤولة عن تسديد مزيد من الأعباء الناشئة عن دين عام وخاص يزداد بسرعة.

فهل من مستقبل للزراعة في لبنان، وهل في نية مالكي القرار الاقتصادي في المرحلة القادمة البقاء على يمين الموجة النيوليبرالية العالمية كما حصل طوال العقدين الماضيين؟  
إن تحقيق إجماع جديد حول الزراعة يبدأ من التعامل مع القناعات التي فرضت نفسها على الموقف السياسي العام من الزراعة، وارتبطت بعدة مقولات خاطئة.

الخطأ الأول: إن مبدأ التجارة الحرة، وحرية انتقال السلع عبر الحدود يعني أن مفهوم الأمن الغذائي بات جزءاً من الماضي.
لكن المشكلة ليست في طريقة الحصول على ما يكفي من غذاء، بل في الحصول عليه بأسعار مقبولة وشروط مناسبة، وأن لا ينعكس ذلك سلباً على الاستقرار والنمو الاقتصاديين.
وللمقارنة، بلغ مؤشر "إنتاج الغذاء للفرد الواحد" في لبنان 96.85 حسب منظمة الأغذية والزراعة الدولية FAO، وهذا أدنى معدل تحققه إحدى الدول ذات الخصائص الزراعية في المنطقة، فيما سجّل هذا المؤشر: 133 في المغرب و131 في الجزائر و120 في إيران و114 في الأردن، و108 في تونس و102 في سوريا. ومن مؤشرات الانكشاف الغذائي الأخرى في لبنان كلفة تمويل الفجوة الغذائية البالغة أكثر من 1600 مليون دولا سنوياً، والصادرات الزراعية التي تغطي 25% فقط من فاتورة الاستيراد، والناتج الزراعي الذي يؤمن أقل من 44% من الاستهلاك المحلي.

إن الاعتماد على الاستيراد لإطعام المقيمين مجازفة تتضمن المخاطر التالية:
1-    كبح النمو الاقتصادي واستنزاف أرصدة العملات الصعبة والإضرار بمركز البلد في المبادلات الدولية في ظل التوقعات باستمرار الأسعار في الارتفاع لعدة سنوات قادمة.
2-     التبعية التامة للأسواق الخارجية، وعجز السياسات المحلية بالتالي عن اتخاذ تدابير من شأنها استيعاب الزيادة الحادة في الأسعار؛
3-    تدهور الشروط البيئة والبشرية ما يجعل العودة إلى الزراعة أمراً مكلفا وصعباً، ويقلل من إمكانية التعاطي الفوري مع تقلبات الأسواق.

الخطأ الثاني: إن ارتفاع كلفة الإنتاج الزراعي، وعجز المنتجات الزراعية عن منافسة مثيلاتها في الدول المجاورة، دليل على أن لبنان لا يمتلك مزايا نسبية في الزراعة.
بيد أن هذه المزايا ليست معزولة عن السياسات العامة وتصرفات المنتجين، إذ أنّ النهوض بالقطاع رهن بسعي الحكومة إلى تحقيق أهداف من شأنها خفض التكاليف وتحفيز المنافسة. ويقف على رأس هذه الأهداف زيادة السعة الإنتاجية للقطاع والعمل على استثمار موارده المتاحة كاملة. فالأراضي المزروعة التي فقدت ثلث مساحتها منذ بداية التسعينات، تمثل فقط نصف الأراضي الصالحة للزراعة. ووفق أقل التقديرات تفاؤلاً يمكن رفع الرقعة الزراعية في لبنان من 248 ألف هكتار مزروعة فعلاً إلى 640  ألفاً ، كما بمكن مضاعفة الأراضي المروية عبر تنفيذ الحكومة لخططها الجاهزة في مجال تطوير البنى التحتية الزراعية وتنفيذ المشاريع  المائية الكبرى المقررة سلفاً، ولا تتجاوز كلفة هذه المشاريع قيمة القروض الزراعية التي وقعها مجلس الإنماء الاعمار منذ عام 1992 ولم تستخدم بعد، وتصل قيمتها إلى حوالي 700 مليون دولار.

الخطأ الثالث: إن انضمام لبنان إلى المعاهدات والمواثيق متعددة الأطراف، يملي عليه تحرير أسواقه والانسحاب تماماً من دعم ومساندة القطاعات المنتجة بما فيها الزراعة.
شهدنا في فترة زمنية لا تتعدى بضعة سنوات توقيع لبنان على اتفاقية الغافتا ودخوله إلى الشراكة المتوسطيّة، وفي وقت قريب ستكتمل عضويته في منظمة التجارة العالمية. هذا يفرض على الحكومة مضاعفة جهودها، لمساعدة القطاعات المهددة على التكيّف مع موجبات الانضمام إلى تلك الاتفاقيات، والاستفادة من الفرص التي تؤمنها، وتعديل التشريعات والقوانين المتعلقة بالشروط الفنية والصحية، ومراقبة الجودة، وزيادة الإنفاق على البحث العلمي، وغير ذلك من الإجراءات التي تتطلب زيادة تدخل الدولة وتعميق حضورها في النشاط الاقتصادي العام لا العكس...  هذا إلى جانب التطبيق الحازم للإجراءات الاستثنائية التي تتيحها منظمة التجارة العالمية على صعد مكافحة الإغراق والاعتراض على الإجراءات التمييزية والاستفادة من المعاملة الاستثنائية التي يمكن أن تستفيد منها القطاعات المهددة بالزوال نتيجة المنافسة غير المتكافئة.

إنّ هذه المقولات الثلاث وغيرها ليست أخطاء صرفة، إنها نتيجة التلوث الفكري والسياسي الذي حقّر مبدأ الإنتاج، وجعل المطالبة بدعم الزراعة خصوصاً أمرا يستدعي من صاحبه جرأة خاصة، ولئن كان مهماً تعديل السياسات القائمة، فإنّ الأهم إحداث تغيير ملموس في التفكير يعيد إلى الزراعة قيمتها كقاعدة لا غنى عنها للتنمية، بدلاً من أن تعتبر حمولة زائدة يجب التخلص منها عند أول فرصة.





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي