كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: حزب الله والدولة: المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الإقليمي - 2/ د. علي فياض
مقالات: حزب الله والدولة: المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الإقليمي - 2/ د. علي فياض
الدكتور علي فيّاض

إن الإلحاح والتكرار اللذين وسما خطاب حزب الله في التأكيد على كون النظام السياسي اللبناني هو نظام ديموقراطي توافقي بالاستناد إلى قاعدة العيش المشترك التي نصَّت عليها مقدمة الدستور اللبناني، لا يمكن فهمه فقط على ضوء ضرورات السجال السياسي الداخلي في لحظة انقسام سياسي عاصف، كما لايصح إدراج هذا الخطاب في سياق لحظوي قابل للتجاوز بسهولة في مرحلة لاحقة. لقد كان ذلك التأكيد على التوافقية تعبيراً عن تحول عميق، أخذ في التراكم منذ زمن ليس قريباً، في إدراك حزب الله لمقتضيات الاجتماع السياسي الوطني ولكيفية التعاطي معه، وفهمه للأهمية القصوى التي يمثلها الاستقرار الداخلي كقاعدة لكل مشروع وطني بأبعاده الإسلامية والقومية.

في مقاربة حزب الله للتوافقية في النظام السياسي، ما يتجاوز المنطق الثوري التقليدي في العمل السياسي الذي يرى في الصراع طريقاً إلى التقدم، لصالح فكرة التكامل طريقاً للتطور، علماً أن الواقعية تقتضي النظر إلى السياسة بوصفها عملية صراع وتكامل في آن. إلا أن الفارق هنا يكمن في أن الغلبة في موازين قوى غير مستقرة، ستكون عاجزة على المدى البعيد عن حماية المصالح. من هنا يميل حزب الله إلى توظيف قوته وقدراته بوصفه عنصر توازن في التركيبة اللبنانية وليس عنصر غلبة.

إن ما سبق يظهر إلى مدى بعيد، تلك الأهمية المنجية الخاصة الكامنة وراء تحليل سلوك حزب الله السياسي ومواقفه وأطروحاته في التعاطي مع أزمة الانقسام اللبناني الراهنة. وكذلك تحليل علاقاته ونظرته إلى السلطة ودوره فيها، لما يمثّل من تجربة لحركة إسلامية تمارس في الآن نفسه العمل السياسي في بيئة تعددية من جهة، والنضال المسلّح ضد الاحتلال من جهة أخرى، وتؤدي كلا الدورين من موقع محوري وفاعل في الواقعين المحلي والإقليمي.

ما وراء المواقف: الرؤى والأفكار
في الواقع، يستند تعاطي حزب الله مع الأزمة السياسية التي تعصب بلبنان، وإقدامه على الاشتراك بالحكومة، لأول مرة في تاريخه السياسي، إلى بنية فكرية سياسية، أخذت في التشكّل منذ أمد بعيد، وتطورت على صورة نسق متراكم ولّد تباعاً ووفقاً لتفاعلية معقدة بين البنية الفكرية الأصلية وتحولات الواقع بتعقيداته وتحدياته المتتالية.

إن حزب الله يواجه راهناً مجموعة من الإشكاليات أو التحديات وكذلك الاختلافات العميقة التي راحت في اتجاه المزيد من التمظهر مع تنامي الانقسام اللبناني. وبرغم أن حزب الله يرى إلى تجربته بأنها تتجاوز تلك الإشكاليات وتقدم حلولاً لها، فإن المبالغة في الطابع الإشكالي للتحديات المطروحة إنما تغذيه الحساسيات السياسية والخلفيات التحالفية القائمة، وإن الاحتدام اللبناني يقدّم تلك الإشكاليات بوصفها إشكاليات جوهرية بعضها حاضر في صميم السجال السياسي، وبعضها الآخر كامن في المشهد الخلفي الذي يتصل بالقضايا النظرية والفكرية والسياسية، مثل إشكالية الدولة – المقاومة لناحية العلاقة بينهما والمواءمة بين وجوديهما، ومعالجة ما تواجه به المقاومة من تناقض مفترض مع طبيعة الدولة ووظائفها ومنطقها.

والإشكالية الأخرى تختص على نحو أساس بالأحزاب الدينية لناحية التوفيق بين الهوي الموضعية (الوطنية) وهي هنا تتمثل بالهوية اللبنانية من ناحية، والانتماء الكلي المتمثل بالانتماء الإسلامي – القومي، وما يفرضه من التزامات تجاه الأمة والقضايا ذات الفضاء الأوسع والتي تأتي في طليعتها القضية الفلسطينية وكل القضايا الأخرى التي تتصل بالصراع مع إسرائيل ومواجهة التحديات الأميركية في العالم العربي والإسلامي.
ولا يخفى أن ثمة سيولة في ترابط العديد من الإشكاليات ببعضها البعض، بحيث لا تنحصر فقط بالإشكاليتين السالفتين، بل تتعداهما إلى إشكاليات أخرى، من قبيل الحاجة إلى إجابات نظرية وافية تفسر العلاقة القائمة بين حزب ذي أيديولوجية دينية، وبيئة سياسية واجتماعية ذات طابع تعددي. وإذا كان حزب الله قد تجاوز هذه الإشكالية عملياً من خلال إدراجها في سياق إيجابي، فإن ذلك لا يلغي الحاجة إلى تفسيرها نظرياً في المستوى الذي يتصل بالفكر السياسي.

أية عقلانية سياسية جديدة؟
يقوم ذلك على ركيزتين أساسيتين، وهما العمل على توفير الاستقرار الداخلي وتأمين الفاعلية المجتمعية.

الاستقرار هو شرط أساسي لمجتمع سليم وقادر. فالصراعات الداخلية غالباً ما تعيق إمكانات النمو والتطور، عندما تتجاوز فضاء السلم الأهلي والضوابط والقيود التي تعبر عن نفسها بمؤسسات وقوانين. الاستقرار، أيضاً، شرط ضروري في قدرة المجتمع على مواجهة تحدياته الخارجية. ولهذا فالاستقرار ضروري في التطور الداخلي وضروري في مجابهة التحديات الخارجية.

إن النضال السلمي الديموقراطي هو الإطار الطبيعي لتنظيم الخلافات والانقسامات بين السلطة والمعارضة وبين المجموعات السياسية أو الطائفية المختلفة.

أما الفعالية المجتمعية فتقوم على ضرورة توفير الشروط التي تجعل من المجتمع فاعلاً في البناءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويستلزم ذلك من جملة ما يستلزم توافقاً بين السلطة والمجتمع، لأن المجتمع في الأحوال كافة، يجب أن لا يكون مقهوراً، بل قادراً على ممارسة فاعليته. فالمجتمع المقهور إما أن ينسحب من الشأن العام ليخلي الأمر للسلطة في حالة عدم اكتراث، وإما أن يندفع باتجاه الانفجار..
تطرح هذه المسالة ضرورة التمييز بين الإشكاليات التي يثيرها تطبيق الفاعلية الاجتماعية في لبنان، وهو يتمتع بديموقراطيته الخاصة، وبين الإشكاليات التي تطرح في الساحات العربية الأخرى وهي بصورة عامة ساحات غير ديموقراطية.

في الساحة اللبنانية تذوي إشكالية الديموقراطية إلى حدودها الدنيا، على نحو مغاير لما يطرح في الساحات العربية الأخرى. ففي لبنان تلتهم الطائفية فوائد الديموقراطية. هذه إشكالية شديدة الأهمية، لكنها تخرج بدورها عن سياق معالجتنا. فالبحث في الفاعلية المجتمعية في لبنان راهناً يثير إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها كذلك قاعدة البحث في إشكالية العلاقة بين الدولة والمقاومة.

ولا شك أن دخول حزب الله في السلطة واشتراكه في إدارة الدولة ينطوي على إعادة اعتبار لموقع الدولة في فكره السياسي، إذ لم يعد ممكناً في تصوره توفير الاستقرار وحماية المجتمع في ظل دولة رخوة ومؤسسات منهكة وخيارات سياسية مضطربة.

إن دخول حزب الله إلى السلطة هو في جوهره تكريس للتصالح مع الدولة، لكنه لا يستلزم بالضرورة تصالحاً مع السلطة. الخطوة تنطوي على دلالات تتصل بصون الدولة وإعادة بنائها بوصفها دولة جميع اللبنانيين، وبهذا المعنى فهي يجب أن تكون انعكاساً مطابقاً لقناعات اللبنانيين ومجالاً مفتوحاً على التطور تبعاً لقناعاتهم ومطامحهم.

إن حزب الله في مقاربته لفكرة الدولة يبدو أكثر ميلاً إلى تعريفها بوصفها تجسيداً لإرادة عامة، وهذا التعريف يتجاوز المظاهر الهيكلية للدولة، على أهميتها الطبيعية، لناحية الالتفات إلى أهمية المجتمع نفسه في بناء الدولة. فالدولة أكثر من جهاز بيروقراطي، إنها وظائف. وعلى المجتمع مساعدة الدولة في القيام بوظائفها... والدولة في الآن نفسه هي أرض وشعب ومؤسسات. فالمجتمع جزء من الدولة وعليه مؤازرتها إلى حين قدرتها على الاستقلال بوظائفها. ليس خافياً أن هذه المقاربة اجتماعية الطابع، وهي تختلف عن نزعة التعالي بالدولة وتجريدها وعزلها. فهي في صورتها الصحيحة ليست إلا تتويجاً لتطور المجتمع نفسه، لذا لا يصح التركيز على حماية الدولة في مقابل انكشاف المجتمع، بل ينبغي إدراجهما في معادلة واحدة ومتصلة.

من شأن هذه المعالجة أن تساعد على نقل السجال العائد إلى الانقسام اللبناني حول إشكالية الدولة – المقاومة، إلى حيث يجب أن يكون أصلاً، وهو المكان الذي يتصل فيه النقاش النظري بالنقاش السياسي.

لقد فعل حسناً اللبنانيون عندما تنادوا للحوار إطاراً لمعالجة انقساماتهم. هذا ما تمليه الوافقية بوصفها جوهر النظام السياسي اللبناني. وهذا ما ينبغي أن يدفع وهم إمكانية بناء استقرار أو فاعلية مجتمعية على قاعدة التغالب. فإذا كان بعض اللبنانيين يتمسّك بسلاح المقاومة وبعضهم الآخر يتحفظ على هذا السلاح وفق دوافع وصيغ وأطر زمنية متفاوتة، فإن المراوحة هنا تماثل رفع مستوى مخاطر الانقسام، بينما التوافقية تعين البحث عن تسويات تنقل النقاش من البحث في مصير السلاح إلى البحث في الهواجس والضمانات المتبادلة: أي كيف يصوغ اللبنانيون ضماناتهم المشتركة كي لا تكون استراتيجية المقاومة نقيضاً لاستراتيجية الدولة؟ وكيف يعالجون هواجسهم لكي تبقى وظائف هذا السلاح لبنانية ودفاعية، بحيث لا تهدد التوازنات الداخلية، ولا ترتهن لأية أولويات على حساب الأولويات اللبنانية؟ وكيف يصان فعلياً الأمن القومي اللبناني فلا يعود اللبنانيون للانكشاف الذي ساد لعقود أمام الاستباحة الإسرائيلية؟ ويكف نتوسع في معنى السيادة، بحيث يشمل في الآن نفسه التحرير من الاحتلال وعدم الارتهان لمعادلات خارجية أو هيمنة دولية؟
في الواقع، وعلى الرغم من أن الحوار الوطني أو الحوارات الثنائية لم تتطور بعد غلى التركيز على هذه الأسئلة حصراً، إلا أن تداولها قائم بصورة أو أخرى.

لقد أشار الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في أكثر من مناسبة، ومنها جلسات الحوار الوطني، إلى أنه لن تكون لسلاح المقاومة وظائف خارج تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة والدفاع عن لبنان في وجه التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية.
إن حزب الله لا يخفي هواه تجاه القضايا الإسلامية والعربية، كما لايخفي تحالفاته الإقليمية، وتتضمن أدبياته موقعاً ومركزياً للصراع مع إسرائيل التي تشكّل القضية الفلسطينية محوره الأساس، ولهذا فإن خطابه السياسي على مدى يزيد عن قرنين من الزمن لم يخل من المواقف التي تتصل بالقضية الفلسطينية. لكن ثمة ما تجدر ملاحظته في خطاب حزب الله ومواقفه وسلوكه، في مقاربته للتوفيق بين أيديولوجيته السياسية التي تقوم أساساً على مفهوم الأمة الواحدة الذي يفرض فضاءً مشتركاً من القضايا والمصالح والمصير من ناحية، وبين أجندته اللبنانية بوصفه حركة تحرير وطني لبناني ومكوناً أساسياً من مكونات السلطة السياسية في لبنان من ناحية ثانية، آخذاً في الاعتبار كل ما يحيط بهذا الدور من تعقيدات وخصوصيات لبنانية.

وهنا، يمكننا بناء نظريتين في تفسير العلاقة العملية بين الدورين المحلي والإقليمي، أو بالأحرى وعلى نحو أكثر تحديداً، بين الوظيفة اللبنانية للمقاومة، ووظائفها الإقليمية.

1- نظرية الأدوار المتصلة، وهي التي تنادي بوظيفة إقليمية للمقاومة تستند إلى دور مباشر مؤازر، في أي تطور دراماتيكي يتسبب به عدوان ما تجاه أحد أطراف معادلة الممانعة والمقاومة (حماس مثلاً...).
2- نظرية الوازنات المتصلة وهي الي تفترض بأن مجرد نجاح المقاومة في دورها المحلي، (والمبدأ ينطبق على أي قوة إقليمية أخرى في حال نجاحها في إطارها الوطني)، فإن ذلك يشكل بحد ذاته، ودون الحاجة إلى أدوار مباشرة تتجاوز ما يفترض أنه الدائرة الوطنية، مؤازرة لمعادلة الممانعة والمقاومة برمتها ولأطرافها كافة، نظراً لاتصال التوازنات الإقليمية ببعضها البعض.

وبهذا المعنى يزول التضارب المفترض، الذي تحيط به الكثير من الحساسيات والتعقيدات، بين الدورين المحلي والإقليمي للمقاومة. فالإسهام في تعزيز المعادلة الإقليمية من هذه الزاوية ليس إلا نتيجة مترتبة تلقائياً على نجاح المقاومة في دورها الوطني المحلي. أي أن المصالح الوطنية اللبنانية هي المعيار الجوهري لسلوك المقاومة، والإسهام الإقليمي يندرج في إطار النتائج التلقائية وليس الدوافع المسبقة أو المبيّتة.

إن موقف الأمين العام لحزب الله الذي أشرنا إليه يتضمن بوضوح كامل التزاماً بالنظرية الثانية لا الأولى، أي أن السلوك العملي للمقاومة يندرج في إطار نظرية التوازنات المتصلة وليس في إطار نظرية الأدوار المتصلة.

أما وقد وقعت الحرب الإسرائيلية
أما وقد وقعت الحرب الإسرائيلية على لبنان في 12 تموز 2006، فمن السذاجة الافتراض أن الدافع الإسرائيلي للقيام بهذا العدوان هو أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين. ولنقل باختصار: إن الهدف الاستراتيجي الذي حدده الأميركيون هو العمل على إقامة شرط أوسط جديد، ويعني ذلك الشروع في تغيير المعادلة السياسية اللبنانية جذرياً، ولعله تمهيد لسلسلة خطوات تنتهي باستهداف إيران عسكرياً فيما مسعى تفكيك حزب الله وضربه يتم وفق منهجية الهدم والترويع الأميركية التي اعتمدت في العراق، التي تشبه لعبة الدومينو وتفترض تدحرجاً في التداعيات والنتائج. ومن المعروف أن تلك المنهجية فشلت في العراق فشلاً ذريعاً، ثم أعيد تكرار ذلك الفشل في لبنان.

أما من ناحية حزب الله، فقط كانت المسألة على درجة أعلى من البساطة، إذ أن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، هدفت على نحو محدد إلى العمل على مبادلة هذين الجنديين بالأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، دون أي ميل إلى التصعيد أو التوسع في دائرة الاشتباك.

في نتائج هذه الجولة من مجابهة تبدو تماماً أوسع من اللحظة الراهنة، فإن حزب الله أزداد قوة مع تحوله إلى رمز للنهضة والمقاومة والصمود في العالمين العربي والإسلامي. وفي حين ازداد الموقف العربي الرسمي انكشافاً وتعمّقت بيئة الانقسام بينه وبين الشاعر العربي، أخذ مجدداً خيار المقاومة، كبديل عن خيار التسوية أو خيار المراوحة، في امتلاك مصداقية أكبر مستنداً إلى تجربة جلية.
يبدو صحيحاً أن ما بعد 12 تموز يختلف جذرياً عما قبله، ويبدو صحيحاً أيضاً أن حزب الله على عتبة تحديات جديدة يفرضها انتصاره على إسرائيل، وهي تبدأ من تعقيدات الساحة اللبنانية التي باتت محكومة بقرار دولي هو القرار 1701 وصولاً إلى الساحة العربية، حيث وجد الحزب نفسه في موقع القيادة للشارع العربي على مختلف تنويعاته الفكرية والسياسية. ويحدث ذلك في الوقت الذي لا يزال حزب الله يحرص على أن تبقى حدود دوره هي الساحة اللبنانية في مستوييها التحريري والإصلاحي.
 





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي