كتابات الموقع > حسب الموضوع> مقالات: المنافسة الدولية وسياسة الانفتاح التجاري: ألم يحن أوان المراجعة بعد؟
مقالات: المنافسة الدولية وسياسة الانفتاح التجاري: ألم يحن أوان المراجعة بعد؟
الدكتور عبد الحليم فضل الله*

يشغل لبنان موقعاً متأخراً في لائحة المنافسة الدولية مقارنة بمعظم الدول العربية غير النفطية. فنصيب هذا البلد من الصادرات العالمية يقل عن نصف حصته من الناتج العالمي، بينما تتجاوز وارداته ضعف هذه الحصة، وهو يتمتع بحجم من الودائع والتحويلات النقدية تفوق كثيراً مساهمته في الاقتصاد العالمي. والأرقام في هذا المجال تنم عن مفارقات كثيرة، فلبنان من البلدان القليلة التي لا تصدّر أكثر من 10% من ناتجها (المعدل العالمي هو 20% تقريباً للصادرات والواردات) ويراكم سنوياً ما لا يقل عن 40% من العجز التجاري، كما يعتمد على الخارج في تأمين ثلاثة أرباع حاجته من السلع الزراعية والمصنعة.

هذه المفارقات هي جزء من الدوائر المغلقة التي تحكم قبضتها على الاقتصاد اللبناني، وتجعله مفعماً بالظواهر النقدية التي تمنعه من استخدام موارده بكفاءة. لنتتبع مثلاً مسار التدفقات الآتية من الخارج والمتمثلة على نحو خاص في تحويلات المغتربين، وإصدارات الدين العام، وصافي حركة الودائع والاستثمارات المباشرة. هذه التدفقات التي تغذي الطلب الداخلي على السلع والخدمات المحلية والأجنبية، تتسبب في رفع الأسعار في القطاعات التي لا تتمتع بمرونة عرض كافية، أو التي تستغرق وقتاً قبل التكيف مع تقلبات السوق (قطاع البناء مثلاً)، وتؤدي كذلك إلى زيادة حجم الواردات من السلع المصنعة. ويمكن لهذه العملية أن تستمر إلى ما لا نهاية، فمع أنّ تعاظم العجز التجاري من شأنه خفض النمو ومن ثم لجم الاستيراد، إلا أنّ التدفق المستمر للأموال من الخارج يعوض نقص النمو ويجعل استمرار هذه العملية أمراً ممكناً.

هناك تشوه مماثل لا يتم التركيز عليه عادة ويطال طريقة تحقيق معدلات النمو الايجابية. في السنوات الأخيرة نشأ النمو عن توسع القطاعات التي تشكل مخزنا للثروة أو ميداناً للمضاربة، بينما بقيت على حالها تقريباً القطاعات الأخرى المعول عليها في زيادة الصادرات. والنتيجة هي ارتفاع التكاليف بمعدلات تتخطى معدلات النمو نفسها، وتكريس التعارض بين سياسة الانفتاح المالي والتجاري المتبعة وبين مقتضيات تعزيز قدرة لبنان على المنافسة الإقليمية والدولية. هذا يفسر أيضاً كيف أنّ الاستثمارات المباشرة تؤدي دوراً مماثلاً للدور التي تؤديه التوظيفات المالية الباحثة عن مكاسب سريعة وفوائد مرتفعة.

لم يكن الوضع في لبنان على هذه الحال طوال تاريخه. فقوته التنافسية تأرجحت بين حقبة وأخرى متأثرة على نحو خاص بالسياسات الحكومية وبمدى اعتماده على الضخ المالي القادم من الخارج. في الربع الثالث من القرن العشرين اتسم الوضع الاقتصادي في لبنان بأمرين: الأول هو تدفق التحويلات والودائع من الخارج بقيم معتدلة، و الثاني: التوسع النسبي للقطاع الصناعي الذي ناهزت نسبتة إلى الناتج في بعض السنوات 23% تقريباً.

ساعد هذان الأمران على تحقيق توازن مقبول بين الاقتصادين المالي والسلعي. فطوال الفترة التي أعقبت الاستقلال وحتى عشية الحرب الأهلية، ارتفعت نسبة الودائع إلى الناتج من حوالي 22% إلى أكثر من 100% بقليل، وفي الوقت نفسه كانت نسبة الصادرات الى الناتج ترتفع باطراد، متخطية المعدلات التي سجلتها دول عربية عدة. لكن مع نهاية الحقبة الشهابية بدأ الاقتصاد اللبناني بالاعتماد أكثر فأكثر على الأموال الوافدة من الخارج. وبحسب تقديرات إدارة الإحصاء المركزي وغرفة التجارة والصناعة، لم تتعد التحويلات من الخارج في الفترة 1951-1969  نسبة 3.8% من الناتج بينما ارتفعت في النصف الأول من السبعينات إلى أكثر من 20%ً. كما ارتفع العجز في الميزان التجاري من 37.5% من الناتج في الخمسينات الى 50% تقريباُ في الفترة 1960-1975، لكن ذلك لم يشكل بحد ذاته دليلاً على تراجع القوة التنافسية للبلد، بقدر ما دل على زيادة معدلات الاستهلاك المدعوم بنمو قوي وتراكم الثروات المكونة في بلاد الاغتراب.   

الأزمة هي إذاً في نمط النمو وليس في معدلاته، فمهما كانت هذه المعدلات مرتفعة، لن يتمكن لبنان من تخطي عتبة التنمية والالتحاق بدول الأسواق الناشئة الا إذا تعامل بحزم مع مشكلتي ضعف التنوع الإنتاجي وقلة الصادرات، وما لم يعمد إلى تصحيح ميزان التبادل الخارجي لاقتصاد تنخفض إنتاجيته يوماً بعد يوم، وينتقل من ورطة إلى أخرى.

الخطوة الرئيسية في هذا الاتجاه هي القيام بمراجعة جريئة لسياسات لبنان التجارية القائمة على الانفتاح المفرط، والتي منعته من أخذ موقعه المناسب في قائمة الدول المصدرة للسلع. قد يتطلب الأمر إعادة النظر في الاتجاه العام للاتفاقيات التجارية، وزيادة الرسوم الجمركية التي جرى تخفيضها دفعة واحدة قبل بضعة أعوام، لكن ذلك لن يجدي نفعاً ما لم ترتفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج تدريجياً لتسجل النسب التي تحققها دول صغيرة الحجم وتعتمد على السياحة والخدمات(سنغافورة مثلاً). الجدير ذكره هنا، هو أنّ تخفيض الرسوم الجمركية دفعة واحدة من 22% كمعدل وسطي إلى اقل من 9%، وذلك بدءاً من عام 2002، أدى إلى تدهور كبير في أوضاع الصناعة اللبنانية التي تشهد تضاؤلاً غير مسبوق في تركيبة الاقتصاد الوطني.

على أنّ تحسين موقع لبنان على خريطة المبادلات الدولية يتطلب حضوراً قوياً للدولة، التي يقع على عاتقها تقويم سياسة الانفتاح العشوائي، والقيام بجهد كبير لتطبيق سياسة مدروسة للحماية والتحفيز، ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي أثمر تدخل الدولة تحسناً في الموقع التنافسي للاقتصاد الوطني وتوازناً نسبياً في الميزان الخارجي، وربما ينبغي تكرار ذلك الآن حتى لو تعارض مع بعض الأفكار التقليدية الموروثة، التي لم تكتشف بعد أن تصحيح الميزان التجاري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود صناعة قوية... ومدعومة.
 





  • مقالات ذات صلة

  • العنوان

    بئرحسن - جادة الأسد - خلف الفانتزي وورلد - بناية الإنماء غروب - الطابق الأول
    Baabda 10172010
    Beirut – Lebanon
    P.O.Box: 24/47

    وسائل الاتصال

    Tel: +961-1-836610
    Fax: +961-1-836611
    Cell: +961-3-833438
    info@dirasat.net

    التواصل الاجتماعي