المقدّمة
تصدّرت السياسات التجارية الحِمائية قائمة أبرز التحدّيات للنظام العالمي في مستهل الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب (2025–2029)، حيث أعلن ترامب في أوائل نيسان 2025 عن "موجة ثانية" واسعة النطاق من التعريفات الجمركية الأميركية في ما أسماه "يوم التحرير"Liberation Day ، ما أحدث صدمة كبيرة في الأوساط الاقتصادية العالمية وأعاد إشعال النقاشات حول جدوى الحِمائية التجارية. وتميّزت الموجة الجديدة بشمولها لمجموعة واسعة من السلع، حيث تتألف من تعريفة أساسيةBaseline Tariff بنسبة 10% على واردات جميع الدول تقريبًا، بالإضافة إلى تعريفات "متبادلة" Reciprocal Tariff بنسب أعلى تستهدف دولًا محددة تعتبرها الإدارة الأميركية ذات ممارسات تجارية غير عادلة (بحسب زعم الإدارة) أو لديها فوائض تجارية كبيرة مع الولايات المتحدة الأميركية (خاصة الصين، والاتحاد الأوروبي، وشركاء آسيويين رئيسيين)، إلى جانب رسوم قطاعية محددة تستهدف صناعات مثل السيارات والصلب والألمنيوم وقطاعات أخرى جديدة والتي لا يزال غالبيتها قيد الدرس والمتابعة.
وتشير الدراسات المستندة إلى نماذج اقتصادية وبيانات مُحدّثة لعام 2025 إلى أن الآثار الاقتصادية للتعريفات الجمركية المفترضة ستكون سلبية بشكل ملموس على الاقتصاد الأميركي خلال الفترة الزمنية 2026–2034، مع ترجيحات بآثار أكثر حدّة على المدى الطويل بحلول عام 2054 وفقًا لبعض التقديرات. فمن المتوقع أن يتسبب فرض هذه الرسوم في تراجع ملحوظ بمعدل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي عن مساره العام، إلى جانب ارتفاع ملموس في مستويات التضخّم على الأمد القصير، ما يؤدّي إلى تسجيل زيادة ملحوظة في التكاليف المعيشية، ولا سيّما للأسر ذات الدخل المنخفض. كما يُتوقّع أن تتعرّض كل من مستويات التوظيف والأجور الحقيقية لضغوط سلبية إضافية. أما في ما يتعلق بالإيرادات الفيدرالية المتوقّعة فتبدو الصورة أكثر تعقيدًا؛ إذ يُحتمل أن تُسجّل الإيرادات الجمركية زيادة أولية، إلا أن هذه المكاسب قد تتآكل كليًا أو جزئيًا نتيجة التباطؤ الاقتصادي والتداعيات السلبية للردود الانتقامية التجارية المتوقّعة.
ومن المتوقّع أيضًا، أن تتباين التأثيرات بشكل كبير عبر القطاعات الاقتصادية الأميركية. حيث قد يواجه القطاع الزراعي، المعتمد على التصدير، ضغوطًا شديدة بسبب الإجراءات الانتقامية المتوقّعة من الشركاء التجاريين. أما قطاع التصنيع فسيشهد تأثيرات متباينة؛ فبينما قد تستفيد صناعات الصلب والألمنيوم من الحماية المباشرة، ستعاني قطاعات أخرى من ارتفاع تكاليف المدخلات وانخفاض القدرة التنافسية. ومن المتوقّع أن يتعرّض قطاع السيارات لاضطراب كبير بسبب التعريفات المباشرة على المركبات وقطع الغيار، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف المعادن والمدخلات الأخرى. كما أن قطاع التكنولوجيا وأشباه الموصلات، الذي يعتمد على سلاسل توريد عالمية متكاملة، معرّض لمخاطر كبيرة تتعلق بارتفاع التكاليف وتعطيل الإمدادات.
وبالمقارنة مع التعريفات السابقة عام 2018، تبدو موجة 2025 المفترضة أوسع نطاقًا، وبمعدلات أعلى محتملة (خاصة التعريفات المتبادلة وتلك المفروضة على الصين)، ومن المرجّح أن تؤدّي إلى تعديلات اقتصادية أسرع وأكثر انتشارًا، بالإضافة إلى ردود فعل انتقامية أشد، بناءً على الخبرات السابقة. ومن المتوقّع أن تردّ الدول الشريكة الرئيسية (مثل الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك) بإجراءات انتقامية كبيرة، مماثلة أو تتجاوز ردودها في عام 2018، الأمر الذي سيزيد من الضغط على الصادرات الأميركية والنشاط الاقتصادي المحلّي.
منهجيًا، تعتمد هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، الذي يجمع بين التحليل النظري للأطُر الاقتصادية والقانونية ذات الصلّة بسياسات التعريفات الجمركية وبين التقييم النقدي للبيانات الاقتصادية والتجارب السابقة. وترتكز الدراسة بصورة رئيسية على مراجعة الأدبيات الاقتصادية والدراسات التطبيقية المنشورة خلال العقد الأخير، مع التركيز بشكل خاص على التحليلات التي تناولت آثار التعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية خلال الموجة الأولى (2017-2018).
وتتضمن المنهجية إجراء مقارنة نقدية بين نتائج الموجة الأولى والنتائج المتوقّعة للموجة الثانية من التعريفات الجمركية (2025)، وذلك لرصد أوجه التشابه والاختلاف في الآثار الاقتصادية والاجتماعية بين الفترتين، وتحديد العوامل التي قد تكون أدّت إلى تفاقم أو تخفيف هذه الآثار في المرحلة الثانية. وتشمل عملية التحليل مقارنة التغيرات في مؤشرات الاقتصاد الكلّي (مثل الناتج المحلي الإجمالي، والتضخم، وحجم التجارة الدولية، وسوق العمل)، إلى جانب دراسة التفاوت في التأثيرات القطاعية والاجتماعية عبر الزمن.
اعتمدت الدراسة على جمع مصادر ثانوية موثوقة، شملت تقارير المؤسسات الدولية (مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، والأبحاث الأكاديمية المنشورة وخاصة تلك الصادرة عن المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية NBER[1]، وتحليلات مراكز الأبحاث الرائدة. وتمت معالجة هذه المصادر عبر مراجعة نقدية معمّقة تهدف إلى استنباط الأدلة التجريبية والنظرية، والتأكد من اتساق النتائج مع الإطار النظري للتجارة الدولية وسياسات الحِمائية.
في الختام، تشير الدلائل المتاحة إلى أن التعريفات الجمركية لعام 2025 تمثل تصعيدًا كبيرًا في السياسات التجارية الحِمائية، مع توقّعات بتداعيات سلبية كبيرة على الاقتصاد الأميركي تفوق أي فوائد محتملة لقطاعات معيّنة تحظى بالحماية، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الآثار الانتقامية المحتملة واضطرابات سلاسل التوريد العالمية.
[1] يُعد المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER) من أبرز المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة الأميركية، وله دور محوري في فهم وتقييم الحالة الاقتصادية للبلاد. يتمثل أحد أبرز أدواره في كونه الجهة الرسمية المسؤولة عن تحديد بدايات ونهايات فترات الركود والنمو الاقتصادي المعروفة باسم "دورات الأعمال Business Cycles"، وهو مرجع معتمد من قبل صناع السياسات والمستثمرين ووسائل الإعلام، رغم كونه مؤسسة غير حكومية. كما يضطلع NBER بدور قيادي في مجال البحوث الاقتصادية، حيث يضم نخبة من الاقتصاديين المرموقين، من بينهم عدد من الحائزين على جائزة نوبل، وتُسهم أبحاثه بشكل مباشر في صياغة السياسات العامة من خلال تحليل موضوعات حيوية مثل الضرائب، الرعاية الصحية، التعليم، أسواق العمل، والسياسات النقدية. ويُعرف المكتب أيضًا بتطويره مناهج تحليل دقيقة واحتفاظه بقواعد بيانات واسعة تُستخدم في البحوث الأكاديمية، ما يجعله مرجعًا موثوقًا للباحثين حول العالم. بالإضافة إلى ذلك، يلعب NBER دورًا بارزًا في تعزيز التعاون العلمي وتبادل المعرفة بين الاقتصاديين من خلال تنظيم مؤتمرات وندوات متخصصة. كل هذه الأدوار تجعل من NBER مؤسسة محورية في تشكيل فهم دقيق ومعمق للاقتصاد الأميركي وتوجهاته المستقبلية.