تقديم
شهد عام 2024 تزايدًا ملحوظًا في النشاط الصيني على الساحة الدولية والإقليمية مع تركيز استراتيجي واضح على تعزيز الحضور السياسي والدبلوماسي والاقتصادي وذلك في مواجهة منافسة استراتيجية مستمرة مع الولايات المتحدة.
يأتي هذا التقرير نتيجة لمتابعة يومية للأخبار المتعلّقة بالصين وتستند إلى سلسلة تقارير شهرية مواكبة للصين وفق أربعة عناوين رئيسية هي: الصين والشرق الأوسط (تصريحات، زيارات، استثمارات، اتفاقيات)، المنافسة الصينية - الأميركية، الصين والعالم، من داخل الصين. كما تتضمّن الدراسة ملحقين: المحلق الأول يعرض موجزًا شهريًا لأبرز التطورات الصينية، فيما يضم الملحق الثاني جملة من الدّراسات والمقالات والمقابلات التي نشرت من قبل اختصاصيين صينيين وغربيين حول الصين ومقاربتها العالمية وصعودها ومساعي الولايات المتحدة الاحتوائية لها. استلزم هذا الجهد متابعة يومية لعدد كبير من المصادر الصينية (صحف ومراكز دراسات وباحثين) والغربية المعنية بالشأن الصيني.
برز على المستوى الإقليمي والدولي حرص الصين على تعزيز دورها كقوة داعمة للسّلام والتعدّدية، حيث لعبت دورًا دبلوماسيًا فاعلًا في قضايا الشرق الأوسط، ولا سيما القضية الفلسطينية، ودعت إلى وقف إطلاق النار في غزة وحق الفلسطينيين في المقاومة، كما نجحت في تحقيق إنجاز دبلوماسي هام باستضافة حوار المصالحة الفلسطينية في بكين وإصدار "إعلان بكين" للمصالحة الفلسطينية. إضافة إلى ذلك، واصلت الصين تطوير علاقاتها الاستراتيجية مع دول المنطقة، وتحديدًا من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية والاستثمارية في الخليج العربي ومع مصر وإيران.
في الشأن الأميركي، تبنّت الصين استراتيجية مركّبة تقوم على إدارة التّنافس وتجنّب التّصعيد، وحماية خطوطها الحمراء، خاصة قضية تايوان، مع الرّد على الإجراءات الأميركية الاقتصادية والعسكرية بحذر محسوب.
اقتصاديًا، ركّزت الصين على تقوية اقتصادها الداخلي عبر إصلاحات هيكلية وتعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي وتوسيع البنية التحتية الرقمية والاتصالات. في نفس الوقت، استمرت بكين في مشروع "الحزام والطريق" مع توسيع الشراكات الاقتصادية مع أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية.
داخليًا، واصلت الصين إجراءاتها لتعزيز الاستقرار السياسي من خلال حملات مكافحة الفساد وترسيخ هيمنة الحزب الشيوعي، كما حافظت على نمو اقتصادي مستقر نسبيًا في ظلّ ضغوط عالمية متزايدة، وأطلقت مبادرات لتنمية المناطق الغربية وتقليل الفوارق بين المناطق الداخلية والساحلية.
وفي إطار سياستها الخارجية العامة، عمقت الصين شراكتها مع روسيا في مواجهة الضغوط الغربية، وعزّزت التّعاون الاستراتيجي بينهما في المجالات الاقتصادية والسياسية. كما استغلت الفرص لتعزيز دور دول الجنوب العالمي عبر دعم عضوية الاتحاد الأفريقي في مجموعة العشرين وتفعيل منظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة بريكس.
بالتالي، رسمت سياسة الصّين في عام 2024 ملامح واضحة لقوة عالمية مسؤولة، تسعى لتوسيع نفوذها وتعزيز مكانتها الدّولية من خلال الحوار الدبلوماسي والاقتصاد القوي، مع الاستعداد لمواجهة أيّ تصعيد محتمل مع القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة.
أولا: الصين والشرق الأوسط (تصريحات، زيارات، استثمارات، اتفاقيات)
في عام 2024 عمّقت الصين حضورها السياسي والاقتصادي في المنطقة على نحو ملحوظ، ضمن رؤية استراتيجية تعتبر هذه المنطقة جزءًا مهمًا من "الجنوب العالمي" الذي تسعى بكين لتعزيز شراكتها معه. تميّز الدور الصيني إقليميًا بثنائية واضحة تقوم على رفع وتيرة النشاط الدّبلوماسي والسّياسي دفاعًا عن قضايا المنطقة ومصالح حلفائها، يقابله ترسيخ للعلاقات الاقتصادية والاستثمارية طويلة الأمد مع دول الشرق الأوسط الرئيسية.
1.1 على المستوى السّياسي والدّبلوماسي
برزت الصين هذا العام كصوت دولي ذا ثقلٍ مؤيّد للحقوق العربية والفلسطينية. فمنذ اندلاع الحرب في غزة أواخر العام 2023، اتّخذت بكين موقفًا حازمًا مطالبًا بوقف فوري لإطلاق النّار وحماية المدنيين. واستمرّت على هذا النهج في العام 2024 عبر سلسلة تصريحات ومبادرات حيث أدان المسؤولون الصينيون مرارًا الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني، وندّدوا بالهجمات التي طالت المستشفيات وعمال الإغاثة والمدنيين. وعندما استخدمت واشنطن الفيتو ضدّ قرارات لوقف الحرب، لم تتردّد الصين في وصف تلك الممارسات بأنّها معاكسة للإرادة الدولية وتشكّل عائقًا أمام السلام. وفي سابقة دبلوماسية، استخدمت الصين (إلى جانب روسيا) حقّ النقض في مجلس الأمن لإسقاط مشروع قرار أميركي بشأن غزة في شهر آذار / مارس لأنّه لم يشمل وقفًا لإطلاق النار، ما عكس استعداد بكين لاستخدام أدواتها الدولية دفاعًا عن موقفها المبدئي تجاه القضية الفلسطينية. إلى جانب ذلك، انخرطت الصين مباشرة في جهود المصالحة الفلسطينية الداخلية فاستضافت اجتماعًا للفصائل الفلسطينية في بكين (تموز / يوليو 2024) تُوّج بـ"إعلان بكين" للمصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني. هذا الدور كوسيط بين فتح وحماس أوضح سعي الصين إلى دعم بناء موقف فلسطيني موحّد يمكنه التفاوض بفعاليّة واستعادة الحقوق المشروعة. وجاءت هذه الخطوة استكمالاً لدعوة صينية سابقة في نيسان / إبريل حين زار وفدان من فتح وحماس بكين بدعوة من الحكومة الصينية وأجريا محادثات تمهيدية وصفت "بالناجحة".
يُظهر ذلك أنّ بكين تعاملت بجديّة مع ملف الانقسام الفلسطيني واستثمرت رأسمالها السّياسي لتحقيق تقارب بين الأطراف – وهو دور تقليديًا ما تميّزت به دول عربية كبرى، لكنّه انتقل جزئيًا إلى الصين كمحاور مقبول من جميع الأطراف الفلسطينية. كما عزّزت الصين شراكتها مع إيران وسوريا (قبل سقوط النظام). موقف بكين الصارم ضدّ استهداف "إسرائيل" لمواقع إيرانية أو سورية – مثل إدانتها القصف الذي دمّر القنصلية الإيرانية في دمشق – قوبل بترحيب من طهران ودمشق، اللتين رأتا في الصين قوّة كبرى مسؤولة تحترم سيادة الدول وتناهض التدخلات العسكرية. وفي المقابل، حين ردّت إيران على الاعتداءات الإسرائيلية بوابل صاروخي، دعت الصين إلى التهدئة وضبط النفس، ما يؤكد أنّها رغم انحيازها النّسبي لـ"محور المقاومة"، تظلّ حريصة على منع الانفجار الشامل حفاظًا على استقرار المنطقة والمصالح الاقتصادية المتشابكة. يمكن القول إنّ الصين تبنّت دور "الوسيط الحازم"، فساندت حلفاءها سياسياً وأمّنت لهم الغطاء الدولي حين يُعتدى عليهم، لكنّها في الوقت نفسه تضغط عليهم لضبط النفس وعدم تجاوز الخطوط التي قد تشعل صراعًا أوسع لا يخدم مصالح أيّ طرف. في السياق ذاته، استمرّت الصين في استخدام خطابها في المنظّمات الدولية لنصرة القضايا العربية. ففي الأمم المتحدة، أكد المندوب الصيني مرارًا وجوب احترام سيادة الدول وعدم استباحة أراضيها – سواء في سوريا أو العراق أو غيرهما – منتقدًا الضربات الإسرائيلية والأميركية التي تنتهك تلك السيادة. كما دعت بكين المجتمع الدولي إلى دعم السلطة الوطنية الفلسطينية وتعزيز قدراتها، مشدّدة على أهمية تمكين الحكومة الفلسطينية من بسط سلطتها على كافة الأراضي الفلسطينية كخطوة نحو حلّ الدولتين. هذا الخطاب المتوازن الداعم للحقوق وفي الوقت نفسه الداعي إلى تقوية المؤسسات الشرعية (السلطة الفلسطينية) أظهر فهم الصين لتعقيدات الملف الفلسطيني ومحاولة عدم القفز فوق الدّور الأساسي للسلطة رغم انفتاحها على حماس.
إضافة إلى القضية الفلسطينية، واصلت الصين تطوير علاقاتها مع الدول العربية الرئيسية عبر الزيارات والتشاور السياسي. صحيح أنّ العام 2024 لم يشهد قممًا تاريخية كما حدث في الرياض عام 2022، لكنّ التواصل رفيع المستوى استمر بوتيرة نشطة. من الأمثلة على ذلك جولة المبعوث الصيني للشرق الأوسط تشاي جون في المنطقة (زار الجزائر ودولاً أخرى) لتعزيز التّشاور حول أزمات السودان وليبيا وسوريا، والاتّصال الدوري لوزير الخارجية الصيني بنظرائه العرب للتّنسيق في المواقف الأممية. وبادلت الدول العربية الصين هذا الاهتمام؛ فقد أوفدت عدّة عواصم عربيّة مسؤوليها إلى بكين للمشاركة في فعاليات ثنائية ومتعدّدة، أبرزها منتدى التّعاون الصيني العربي في أيار / مايو ببكين الذي حضره وزراء من الخليج وشمال أفريقيا. خلال هذا المنتدى، أكد الرئيس شي جين بينغ شخصيًا التزام الصين بشراكتها الاستراتيجية مع العالم العربي وعدم سعيها لملء أيّ "فراغ" ناتج عن انحسار نفوذ قوى أخرى. مثل هذه التأكيدات طمأنت الدول العربية بأنّ الصين شريك داعم لا بديل ساعٍ إلى الهيمنة، وأنّ سياستها تقوم على عدم فرض الإرادة واحترام خيارات شعوب المنطقة.
2.1 استراتيجيات وتحالفات إقليمية
استفادت الصين من التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط لتعزيز حضورها. فقد دعمت علنًا الاتفاق التاريخي بين السعودية وإيران الذي تمّ بوساطة صينية في آذار / مارس 2023، واستمرّت طيلة عام 2024 في متابعة تنفيذه وترسيخ نتائجه. ظهر ذلك عبر استقبالها مسؤولين أمنيّين من طهران والرياض للتّباحث في خطوات بناء الثقة اللّاحقة، وعرضها المساعدة في مجالات كالتّبادل الاقتصادي بين البلدين. هذا الدّور مكّن الصين من كسب ثقة كلا الخصمين السابقين، وأثبت نجاح مبدأ "عدم الانحياز" الذي تتّبعه بكين في نزاعات الشرق الأوسط، حيث تقيم علاقات وثيقة مع أطراف متخاصمة (إيران ودول الخليج و"إسرائيل" سابقًا) من دون تدخل مباشر في صراعاتها البينية. ومن ثمار هذا التّوازن، انضمّت كلٌ من السعودية والإمارات وإيران ومصر إلى تجمع بريكس بدعم قوي من الصين، وهو تطور بارز في العام 2024 يساهم في إعادة تشكيل الاصطفافات الاقتصادية العالمية ابتداءً من العام 2025. انضمام القوى الشرق أوسطية لمنظمة بريكس يؤشّر إلى نجاح الصين في اجتذاب الشرق الأوسط نحو منظومة التعدّدية القطبيّة التي تروّج لها، وتخفيف الاعتماد التّقليدي على الغرب ومؤسساته المالية. في المقابل، تراجعت علاقات الصين بـ"إسرائيل" بشكل ملحوظ خلال 2024 على خلفية موقف بكين من حرب غزة. فعلى الرغم من عقود من التعاون الاقتصادي والتكنولوجي الصيني الإسرائيلي، أحدث انحياز بكين الواضح للفلسطينيين صدعًا، إذ عبّرت الحكومة الإسرائيلية عن امتعاضها من مواقف الصين وصولاً إلى اصطفاف تل أبيب مع واشنطن وعواصم غربية في إدانة سجلّ الصين الحقوقي في شينجيانغ بالأمم المتحدة. كما قام الكنيست الإسرائيلي بإرسال وفد برلماني إلى تايوان في خطوة رمزية تحدّت حساسيات الصين. هذه التطوّرات كشفت حدود استراتيجية الصين القائمة على "الفصل بين السياسة والاقتصاد"، فعندما تعارضت بقوة مع "إسرائيل" سياسيًا، تداعت سريعًا جسور التعاون الأخرى. ومع ذلك، يبدو أنّ بكين اعتبرت أنّ كلفة إرضاء "إسرائيل" دبلوماسيًا تفوق منفعتها، مقارنة بما كسبته من تعزيز صورتها في العالمين العربي والإسلامي. لذا، لا يتوقّع تحسّن قريب في العلاقات الصينية الإسرائيلية ما لم تهدأ تداعيات حرب غزة وتُستأنف عملية السّلام بما يتيح للصّين لعب دور إيجابي مقبول من جميع الأطراف. بشكل عام، برزت استراتيجية الصين في الشرق الأوسط خلال عام 2024 كخليط من المبادئ والقيم المعلنة (عدم الانحياز، احترام السيادة، نصرة المظلوم ضمن أطر القانون الدولي) والمصالح العملية (تأمين الطاقة، فتح الأسواق، توسيع التحالفات). وقد نجحت إلى حدٍّ كبير في تعزيز رصيد الثّقة لدى الشارع والنّخب في الشرق الأوسط، حيث بات يُنظر لبكين – مقارنةً بواشنطن – كقوة عظمى أكثر إنصافًا واحترامًا لسيادة الدول. بالتوازي، حافظت الصين على علاقات عمل متينة مع جميع اللاعبين الإقليميين تقريبًا، مما يضعها في موقع فريد يتيح لها الاستمرار في أداء دور "الجسر" بين الضفاف المختلفة في الشرق الأوسط. ومع دخول المنطقة مرحلة ترتيبات ما بعد الحرب على غزة واستمرار التحوّلات في التحالفات الإقليمية، يتوقّع أن تعزّز بكين انخراطها الشرق أوسطي مستفيدةً من رصيد إيجابي من دون التخلّي عن حذرها التقليدي من التورط الأمني المباشر.
3.1 في الشأن الاقتصادي والاستثماري
إلى جانب الحراك السياسي، استمرت الصين في توطيد علاقاتها الاقتصادية مع الشرق الأوسط بوتيرة متسارعة في العام 2024، مرتكزة على مكانتها كأكبر شريك تجاري لمعظم دول المنطقة. فقد حافظ التبادل التجاري الصيني مع الدول العربية على نموّه القوي بعد أنّ سجل أكثر من 430 مليار دولار عام 2022، وتجاوز 300 مليار دولار خلال الشهور الثلاثة الأولى من 2024 بحسب البيانات الرسمية. ومع انتعاش أسعار النفط، زادت واردات الصين من الخام الخليجي والإيراني، بالمقابل أغرقت السّلع الصينية الأسواق الشرق أوسطية بمنتجات التكنولوجيا والبنى التحتية. عزّزت بكين أيضًا أطر التّعاون المالي والنّقدي مع دول الخليج. ففي تشرين الثاني / نوفمبر 2023 وُقّعت اتّفاقية على مستوى البنك المركزي السعودي ونظيره الصيني لإجراء التبادلات بالعملات المحلية بقيمة 50 مليار يوان وبدأ تنفيذها فعليًا في 2024 مما يسّر المعاملات التجارية والاستثمارية بين البلدين وخفّض الاعتماد على الدولار. هذه الخطوة تتكامل مع توجّه خليجي عام – تقوده السعودية والإمارات – لتنويع الشّركاء الماليّين. وعمليًا، أصبحت الصين شريكًا ماليًا موثوقًا حيث يستطيع الشّركاء عبر هذه التّرتيبات تسوية الصفقات مباشرةً دون التعرّض لمخاطر سعر الصّرف أو عقوبات دولارية محتملة. كما جرى افتتاح مراكز مالية صينية إقليمية مثل مركز التأشيرات في الرياض الذي يُسهّل تنقل رجال الأعمال، وتوسيع فروع المصارف الصينية في دبي والدوحة لتعزيز الخدمات المصرفية المباشرة. في ميدان الاستثمار والمشروعات، شاركت الشركات الصينية بفاعلية في عدد من المشاريع الاستراتيجية ضمن رؤى التّنمية الخليجية. ففي السعودية، استمرّ نشاط الشّركات الصينية في مشاريع رؤية 2030، من خلال تشييد مدن ذكيّة وبنية تحتيّة، إلى بناء محطّة الشّعيبة للطاقة الشمسية بقدرة 2.6 غيغاواط قرب جدة بواسطة مجموعة هندسة الطاقة الصينية، وكذلك استثمار تحالف يضمّ "باوستيل" الصينية وأرامكو وصندوق الاستثمارات السعودي في مصنع ضخم للصّلب بمدينة رأس الخير. هذه المشاريع النّوعية تنقل التّعاون من مجرد تجارة النّفط والإنشاءات التّقليدية إلى شراكات صناعيّة وتقنيّة عالية القيمة، تسهم في خطط تنويع الاقتصاد الخليجي وتزوّد الصين بالموطئ الصّناعي القوي في المنطقة. وفي الإمارات، توسّعت شركات صينية في مشاريع الموانئ (موانئ دبي وأبو ظبي) وقطاع الاتصالات بتقنية الـ 5G مع شركة هواوي ما رسّخ حضور الصين كمزوّد بنية تحتية رقمية متطوّر. كذلك نفّذت الصين استثمارات كبيرة في قطاع الطاقة بالشرق الأوسط شملت مصادر تقليدية وجديدة. فإلى جانب استمرارها كمستثمر رئيسي في حقول النفط والغاز العراقية والإيرانية، برزت كمموّل ومقاول أول في مشاريع الطاقة المتجددة، منها مزارع الطاقة الشمسية في مصر والأردن والمغرب، حيث توفّر الشّركات الصينية المعدات والتّمويل الميسر. بالمقابل، جذبت الصين استثمارات خليجية لأسواقها أبرزها استثمار جهاز أبو ظبي في شركة علي بابا للتّجارة الإلكترونية وتوسعة استثمارات أرامكو في قطاع التّكرير الصيني. هذا التّشابك الاستثماري عزّز علاقات المنفعة المتبادلة، فالجانب العربي يملك رأس المال ويبحث عن التكنولوجيا والأسواق والصين توفّر التّكنولوجيا والسّوق الضّخمة وتحتاج لرأس المال والطّاقة – فتلاقت المصالح بشكل أوثق في عام 2024.
4.1 التّعاون العلمي والتّقني
عقب الاجتماع الوزاري الصيني العربي في حزيران / يونيو طرح الجانب الصيني مبادرة لجعل الابتكار العلمي والتّكنولوجي محور التعاون المقبل حيث تمّ إطلاق مشاريع لنقل التكنولوجيا الزّراعية الصّينية المتقدّمة إلى دول تواجه مشكلات أمن غذائي، خاصة في مجال تحسين إنتاجية المحاصيل عبر الرّي الذّكي. كما عُقدت شراكات تعليمية لتدريب كوادر عربية في اختصاصات الهندسة والذّكاء الاصطناعي، بالتّوازي مع التوسّع في إنشاء معاهد "كونفوشيوس" لتعليم اللّغة الصينية في جامعات عربية. هذه التحرّكات تشير إلى أنّ العلاقة الصّينية العربية لم تعد تجارية فقط، بل انتقلت إلى تعاون معرفي وتكنولوجي يدعم أهداف التّنمية لدى الطرفين. وتحرص بكين على مقاومة ما تسميه "التنمر التكنولوجي" الغربي الذي حاول في حالات عديدة ثني دول عربية عن التّعاون التّقني مع الصين لاسيّما في مجال شبكات الاتصالات 5G بذريعة مخاوف أمنية، معتبرةً أنّ إزالة عراقيل كهذه يخدم مصلحة الجانبين ويؤدّي لـتكامل اقتصادي وتقني جديد.