مقدّمة
على الرغم من أن دراسات الإخفاقات الاستخباراتية نادرة الحدوث، مما يجعل استخلاص الدروس من الحالات القليلة المتاحة موضع جدل، لا تزال هذه الإخفاقات مستمرة وتحدث بين الحين والآخر. فقد شهد التاريخ المعاصر العديد من الإخفاقات الاستخباراتية التي سمحت بحدوث "المفاجأة"، وكان أحدثها هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. يتأرجح الاهتمام بدراسة الإخفاق الاستخباري تبعًا للأحداث العالمية، فقد ازداد خلال الستينيات من القرن الماضي في ظل الحرب الباردة، ثم تراجع قبل أن يعود بقوة مع تصاعد "العمليات الإرهابية" ضد المصالح الأميركية في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ليبلغ ذروته بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ثم بعد غزو العراق عام 2003. وتُهيمن الولايات المتحدة بشكل كبير على الدراسات المتعلقة بالفشل الاستخباري، تليها "إسرائيل" بدرجة أقل (Copeland, 2017; Gill, 2019).
الاستخبارات هي "نشاط سري تقوم به الدولة لفهم الكيانات الأجنبية أو التأثير عليها" (Warner, 2002). أما الإخفاق الاستخباري، فبالرغم من تعدد تعريفاته وعدم وجود اتفاق على تعريف موحد، يمكن تبسيطه على أنه "عدم تطابق بين التقديرات وما تكشفه المعلومات اللاحقة" (Jervis, 2010) أو "الفشل في اكتشاف ومنع هجوم مفاجئ من قبل جيش أو إرهابي أو عدو آخر" (Dahl, 2013). كما يمكن تعريفه بشكل أكثر تقنية على أنه خلل يصيب واحدة أو أكثر من مراحل "دورة الاستخبارات" ، التي تشمل التجميع، التقييم، والتحليل، والإنتاج، والنشر (Lowenthal, 1985). يصف البروفيسور توماس كوبلاند الإخفاق الاستخباري بأنه مصطلح واسع يشمل إخفاقات في التواصل، والبنية والسلوك البيروقراطيين، والتقدير والتحليل، والسياسات أو الحكم. ويرى أن هذا الإخفاق يتجسد في عدة مستويات، منها فشل القيادة، والعقبات التنظيمية، ومشاكل المعلومات التحذيرية، والتحديات التحليلية (Copeland, 2007).
تتعدد أشكال الإخفاقات الاستخباراتية، ويُعدّ "الهجوم المفاجئ" – الفشل في توقّع هجوم عسكري – أبرزها، يليه "المفاجأة الدبلوماسية" – الفشل في توقّع أحداث سياسية ذات تأثير على مصالح الدولة (Smith, 2008). ويرتبط الإخفاق الاستخباري بحدوث المفاجأة الاستراتيجية، وقد تكرر هذا النمط عبر التاريخ، بغضّ النظر عن اختلاف الدول والثقافات وطبيعة الصراعات. وتصبح المفاجأة إستراتيجية عندما تؤدي إلى إضعاف أو تدمير استراتيجية الردع لدى الضحية في اللحظات الأولى من الهجوم. لذلك، يمكن النظر إلى الإخفاق الاستخباري، والمفاجأة الاستراتيجية، وانهيار الردع، على أنها مراحل مترابطة لظاهرة واحدة (Wirtz, 2017). على أن تحقيق المفاجأة الاستراتيجية لا يعني بالضرورة أن العدو حقق أقصى الفوائد الممكنة أو ضمن النصر النهائي، وفقًا لما يؤكده المنظّر الأميركي في علم المفاجأة والخداع مايكل هاندل (Handel, 1984).
على مدار القرن الماضي، سجلت العديد من الدول إخفاقات استخباراتية في مختلف السياقات، سواء في الصراعات العسكرية، أو مكافحة الإرهاب، أو التنبؤ بالتغيرات السياسية. تشمل هذه الإخفاقات غزو هتلر لروسيا في عملية بارباروسا (1941)، والهجوم الياباني على بيرل هاربور (1941)، وحرب الأيام الستة بين مصر والعدو الصهيوني (1967)، وحرب "أكتوبر" وعبور المصريين قناة السويس (1973)، إضافة إلى الفشل الأميركي في توقّع انهيار نظام الشاه في إيران (1979) ولاحقًا الاتحاد السوفياتي (1991). كما برز الإخفاق الاستخباري البريطاني في الغزو الأرجنتيني المفاجئ لجزر فوكلاند (1982)، وهجمات 11 أيلول/ سبتمبر (2001)، إلى جانب الإخفاق الأميركي في حرب العراق وسوء تقدير امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل (2003). كما شملت الإخفاقات أيضًا هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين باغتت حماس جيش العدو الإسرائيلي (Jensen, 2012 ;Copeland, 2007). تعكس هذه الحالات جميعها إخفاقًا استخباراتيًا، سواء على مستوى مجتمع الاستخبارات أو صنّاع القرار في مختلف الدول.
تغلب الصبغة الغربية على الدراسات المتعلقة بالإخفاق الاستخباري، حيث يكاد يغيب عن العالم العربي حتى اليوم أي جهد منهجي لفهم هذا المجال الحيوي. وتهيمن الكتابات الغربية والإسرائيلية على الأدبيات الخاصة بالإخفاق الاستخباري، ما يجعل تناول الموضوع من منظور مختلف ضرورة ملحة. إضافة إلى ذلك، فإن معظم الجهود البحثية العالمية تركّز على سياقات محددة للإخفاق، مثل الهجمات المفاجئة أو الحروب التقليدية، مع إغفال جوانب أخرى لا تقل أهمية.
في هذا السياق، يُعدّ هذا الجهد البحثي من المحاولات القليلة التي تسعى إلى تقديم مراجعة شاملة للاتجاهات الفكرية التي تناولت الإخفاق الاستخباري، إلى جانب تحليل أبرز حالات الإخفاق عبر القرن الماضي في مختلف السياقات: من الهجمات العسكرية والحروب، إلى الهجمات الإرهابية، مرورًا برصد التحولات السياسية، وصولًا إلى السياقات غير التقليدية. ويستعرض هذا العمل البحثي أبرز الأعمال الأكاديمية التي تناولت كل حالة من زوايا متعددة: سواء من الزاوية الثقافية للإخفاق، أو زاوية تحليل المؤشرات، ونظم الإنذار والتحذير، أو من خلال تبني الافتراضات الاستراتيجية، أو دراسة معوقات اتخاذ القرار، أو التحديات التنظيمية، أو مشكلات جمع المعلومات وغيرها. هذا التنوع في المُقاربات يغني التحليل ويوفّر رؤية متكاملة وشاملة لكل حالة تمت دراستها. كما يُعدّ هذا العمل أيضًا من الجهود القليلة التي تسعى إلى تحديد الأنماط المشتركة والمتكررة بين مختلف الإخفاقات، وصولًا إلى استخلاص دروس مستفادة ومقترحات عملية، ويتبنى نظرة براغماتية تدرك أنه لا يمكن منع المفاجآت بالكامل، لكنها في الوقت نفسه ترفض الاستسلام لها، باعتبار أن العمل المسبق والاستعداد يمكن أن يقلّلا من آثارها.
وينبغي الإشارة إلى أن بعض الأبحاث الحديثة بدأت تتناول أيضًا الإخفاقات الاستخبارية في سياقات غير تقليدية، وإن كانت هذه الدراسات لا تزال محدودة. على سبيل المثال، تناول الكاتب البولندي كاسبر غرادون (Kacper Gradon) والدكتور الأميركي ويسلي موى (Wesley Moy) موضوع الإخفاق الاستخباري في سياق الاستجابة لجائحة كوفيد-19، وأسباب الفشل في مواجهة الأوبئة. في السياق ذاته، تناول الكاتب الأميركي مايكل آرد (Michael Ard) الإخفاق الاستخباري في هجوم السادس من كانون الثاني/ يناير 2021 على مبنى الكابيتول الأميركي، مركّزًا على قصور العمل الاستخباري الداخلي. ففي مقاله بعنوان "فحص إخفاق الاستخبارات في هجوم الكابيتول 6 يناير: تحديات الأمن الداخلي ودور الاستخبارات البشرية (HUMINT)"، المنشور في مجلة Intelligence and National Security سنة 2024، ناقش كيف ركّزت التحقيقات الرسمية على ضعف تحليل وسائل التواصل الاجتماعي وسوء توزيع المعلومات الاستخبارية، بينما غفلت عن فشل جمع المعلومات البشرية (HUMINT). وأشار إلى أن حالة الاستقطاب السياسي الحاد في الولايات المتحدة صعّبت من جهود جمع المعلومات وكشفت عن عجز في كشف وتحليل تهديدات العنف الداخلي قبل وقوعها، مؤكدًا ضرورة تطوير استراتيجيات فعالة لجمع المعلومات لمواجهة تحديات الأمن الداخلي في المستقبل (Ard, 2024).
انطلاقًا مما سبق، تُطرح الأسئلة التالية:
• ما هي أبرز المدارس الفكرية التي نشأت لتفسير الإخفاقات الاستخباراتية، خصوصًا في سياق الهجمات المفاجئة؟
• ما أبرز الإخفاقات الاستخباراتية في العقود الأخيرة، وكيف تناولتها الدراسات الأكاديمية من منظور المدارس المختلفة لفهم أسبابها؟
• ما هي الأنماط والأسباب المشتركة وراء هذه الإخفاقات؟ ما الدروس المستفادة وما التوصيات المقترحة؟
يعتمد هذا العمل بمعظمه على مقالات بحثية غربية منشورة في مجلات علمية محكّمة، بالإضافة إلى أبرز الكتب الصادرة عن دور نشر مرموقة. في الفصل الأول، نستعرض الاتجاهات الفكرية والنظريات التي تفسر أسباب الإخفاق الاستخباري والمدارس الفكرية التي نشأت بناءً على ذلك. أما الفصل الثاني، فيتناول مجموعة من أبرز حالات الإخفاق الاستخباري في التاريخ الحديث والمعاصر كما تناولتها الأدبيات الأكاديمية، بهدف تحليلها واستخلاص أوجه الفشل. ويختتم الفصل الثالث بتحليل الأنماط المشتركة بين هذه الحالات، وصولًا إلى تقديم الدروس المستفادة والتوصيات المستقبلية. تجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة لا تستعرض التقارير الرسمية الصادرة عن اللجان الحكومية بعد كل إخفاق (Post-Mortem Report) - مثل تقرير لجنة 11 سبتمبر الصادر في تموز 2004 - وإنما تعتمد على دراسات أكاديمية ومؤلفات بحثية تناولت هذه الحوادث، وقد قامت هذه الدراسات ذاتها بتحليل تلك التقارير الرسمية وأخذها بعين الاعتبار ضمن منهجها البحثي، ثم قدّمت قراءات أعمق تناولت الإخفاقات من زوايا متعددة تتجاوز ما ورد في الوثائق الرسمية.
الفصل الأول: المدارس الفكرية في تفسير أسباب الإخفاقات الاستخباراتية
منذ الحرب العالمية الثانية، ظهرت عدة مدارس فكرية لتفسير أسباب الإخفاق الاستخباري وإمكانية تجنب المفاجأة الاستراتيجية. ويُعدّ ضابط الاستخبارات السابق في البحرية الأميركية، البروفسور إيريك دال (Erik Dahl)، من أبرز الباحثين الذين جمعوا هذه المدارس في عمل واحد، حيث ناقش في كتابه الاستخبارات والهجوم المفاجئ: الفشل والنجاح من بيرل هاربور إلى 11 سبتمبر وما بعده (2013)، ثلاث مدارس رئيسية: المدرسة التقليدية، والمدرسة الإصلاحية، والمدرسة المُعارضة (Dahl, 2013).
كما تشهد الأدبيات الأكاديمية اختلافًا في المصطلحات المستخدمة لوصف هذه المدارس، فعلى سبيل المثال يطلق الباحث أور هونيج (Or Honig) على المدرسة "الإصلاحية" (Reformist) مصطلح المدرسة "المُراجعة" (Revisionist) (Honig, 2008).
بشكل عام، يمكن تصنيف المدارس الفكرية إلى مدرستين رئيسيتين:
1. المدرسة التقليدية أو الأرثوذكسية، التي ترى أن الإخفاقات الاستخبارية حتمية بسبب قيود التحليل البشري، حيث تؤدي التحيّزات الإدراكية والحدود العقلية إلى سوء التقدير، مما يجعل من المستحيل التنبؤ بجميع التهديدات. وبالتالي فإن حدوث الإخفاق الاستخباري هو أمر حتمي.
2. المدرسة الإصلاحية، التي تعزو الإخفاق الاستخباري – الذي يبقى حتمياً أيضاً لكن يمكن التقليل من حدوثه- إلى العوائق التنظيمية وضعف تبادل المعلومات داخل المجتمع الاستخباري، مما يؤدي إلى إعاقة عملية التحليل واتخاذ القرار. وبالتالي، فإن من شأن الإصلاحات التنظيمية التقليل من حدوث المفاجآت إلى حد معيّن.
3. المدرسة المُعارضة، التي ترفض فكرة حتمية الإخفاقات، معتبرةً أن الفشل الاستخباري ليس نتيجة قيود طبيعية، بل أخطاء يمكن تجنبها. وفقًا لهذا المنظور، تكمن المشكلة الأساسية في ضعف جمع المعلومات، مما يؤدي إلى غياب التحذيرات الواضحة، وبالتالي يمكن تحسين الأداء الاستخباري من خلال تعزيز قدرات الاستخبارات في جمع البيانات الحيوية بفعالية أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، توجد اتجاهات فكرية أقل انتشارًا، مثل المدرسة المُراجعة أو ما يُعرف أحيانًا بالمراجعة المتطرفة (وسيُستخدم لاحقًا في هذه الدراسة مصطلح "المدرسة المُراجعة" أيضاً لكن في سياق مختلف أي للإشارة إلى التيار الذي يرى أن المفاجآت الاستخباراتية ليست حتمية، أو على الأقل يمكن التقليل منها، كما في طرح أور هونيج (Honig, 2008)، وذلك استنادًا إلى تسمية خصومهم من المدرسة الأرثوذكسية لهم بهذا المصطلح في سياق النقد)، وتجسد هذه المدرسة في بعض جوانبها أعمال باحثين مثل روبرت ستينيت (Robert Stinnett) في كتابه “يوم الخداع: الحقيقة حول روزفلت وبيرل هاربور (2000). تركّز هذه المدرسة على فكرة أن تجاهل المعلومات كان متعمدًا لتحقيق أهداف سياسية كبرى، مما يجعلها تميل إلى تفسيرات قريبة من نظريات المؤامرة. ونتيجة لذلك، فهي مرفوضة من قبل معظم الباحثين البارزين في هذا المجال (Dahl, 2013).
وهناك مدرسة العلاقة بين الاستخبارات وصنّاع القرار، التي تعزو الإخفاقات إلى ضعف التنسيق بين المجتمع الاستخباري وصناع القرار. أما مدرسة الاستخبارات التي تدفع نحو المخاطرة المعقولة فترى أن دور المجتمع الاستخباري هو تقديم معلومات دقيقة ومفصلة بشكل كافٍ، بحيث يتمكن صنّاع السياسات من اتخاذ قرارات محسوبة تقلل من المخاطر المحتملة (De la Fuente, 2021).
المدرسة التقليدية/الأرثوذكسية (Traditional/Orthodox school)
المدرسة التقليدية هي الأكثر شيوعًا حتى اليوم، حيث تعزو الفشل الاستخباري إلى مشكلات في فهم وتحليل المعلومات من قِبل المحللين وصنّاع القرار، وليس إلى نقص في توفرها أو غياب التحذيرات. تحديدًا، تتمثل المشكلة في وجود معلومات متضاربة، وصعوبة التمييز بين الإشارات الجوهرية والضوضاء (signals versus noise) أو في عدم القدرة على ربط النقاط (connecting the dots)، وليس في عملية جمع النقاط ذاتها. أي أنه رغم توفر كمٍّ هائل من المعلومات والتحذيرات، تظل المفاجأة ممكنة عندما يفشل المجتمع الاستخباري في فرز الإشارات المهمة من بين البيانات غير ذات الصلة، أو في ربط المعلومات المتاحة للوصول إلى استنتاج حاسم. تؤكد هذه المدرسة أن البيانات الاستخبارية الضرورية غالبًا ما تكون متاحة بوفرة، وأنه يمكن تحسين العمل الاستخباري من خلال تحسين نسبة الإشارات إلى الضوضاء وتعزيز قدرة المحللين على التحليل الفعّال للوصول إلى تقييمات دقيقة وقابلة للتنفيذ. رغم ذلك، فإن حدوث الإخفاقات الاستخبارية يبقى أمرًا حتميًا.
تُعدّ المؤرخة الأميركية روبرتا وولستتر (Roberta Wohlstetter) من أبرز المؤسسين لهذه المدرسة الفكرية، حيث أكدت أن المشكلة الرئيسية تكمن في عدم القدرة على التمييز بين الإشارات المهمة والضوضاء المحيطة بها، أي بين المعلومات الدقيقة وتلك غير ذات الصلة. وترى أن هذا الإخفاق سيظل قائمًا ما لم يتم تطوير آليات فعالة لفلترة الإشارات من الضوضاء. في كتابها بيرل هاربور: تحذير وقرار (1962)، أوضحت وولستتر أن التحذيرات بشأن الهجوم الياباني على بيرل هاربور كانت متاحة، لكن لم يتم إدراك أهميتها بسبب التشويش الناجم عن المعلومات الثانوية (Wohlstetter, 1962).
كذلك، يُعدّ ريتشارد بيتس (Richard Betts)، الباحث الشهير في العلاقات الدولية، من أبرز المدافعين عن هذه المدرسة. يرى بيتس أن التحذيرات غالبًا ما تسبق المفاجأة الاستراتيجية، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات بين الخصوم، ولهذا يعتبر أن المفاجآت لا تأتي "من العدم" (bolts from the blue) (Betts, 1989).
أما المنظّر الأميركي مايكل هاندل (Michael Handel)، فيُعدّ من أبرز مفكري هذه المدرسة، حيث يرى أن الإخفاقات الاستخبارية أمر لا مفر منه بسبب مجموعة من المفارقات والتحديات المتأصلة في عملية التحليل الاستخباري. وتشمل هذه المفارقات صعوبة التمييز بين الإشارات الجوهرية والضوضاء المحيطة بها، وميل المحللين وصنّاع القرار إلى التقليل من احتمالية وقوع هجوم يبدو غير منطقي من قبل الخصم، إضافة إلى أن النجاحات السابقة قد تؤدي إلى ثقة مفرطة لدى جهات التحليل، مما يجعل تقاريرها تُعامل على أنها مسلّم بها بدلاً من أن تكون موضع تمحيص ونقد مستمرين (Handel, 1977; Handel, 1984).
ترى المدرسة التقليدية أن المسؤولية الأساسية عن الإخفاق الاستخباري لا تقع على أفراد الاستخبارات، بل على صنّاع القرار (policymakers) الذين يتجاهلون التحذيرات الاستخبارية. يؤكد بيتس في مقالته التحليل والحرب والقرار: لماذا فشل الاستخبارات أمر حتمي (1978) أن "في أشهر حالات فشل الاستخبارات، نادرًا ما كان جامعو المعلومات الخام هم من يرتكبون الأخطاء الأكثر أهمية. في بعض الأحيان، يقع الخطأ على عاتق المحللين الذين يضعون التقارير النهائية، لكن غالبًا ما يكون صنّاع القرار الذين يعتمدون على تقارير الاستخبارات هم المسؤولين عن أكبر الأخطاء" (Betts, 1978).
يشترك التقليديون في الاعتقاد بأن الإخفاق الاستخباري والمفاجأة الاستراتيجية أمران لا مفر منهما، حتى مع وجود محللين بارعين. ويعزون ذلك إلى الطبيعة البشرية والانحيازات الإدراكية التي تؤثر على عملية التحليل، والتي تؤدي إلى سوء التقدير واتخاذ قرارات خاطئة، إضافةً إلى خداع العدو وغموض المعلومات. ووفقًا لهذا المنظور، يظل الإخفاق الاستخباري جزءًا لا يتجزأ من العملية الاستخبارية، بغضّ النظر عن مدى تطور الأدوات التحليلية أو التقدم التكنولوجي.
المدرسة الإصلاحية (Reformist school)
المدرسة الإصلاحية أقل شيوعًا من المدرسة التقليدية، لكنها تتفق معها في أن التحذيرات غالبًا ما تسبق المفاجآت الاستراتيجية. ومع ذلك، يختلف أنصارها في تفسير أسباب الفشل الاستخباري، حيث يرون أنه ينبع أساسًا من العوائق التنظيمية والبيروقراطية داخل المجتمع الاستخباري، أكثر من كونه ناتجًا عن مشكلات تحليلية أو سيكولوجية. يتبنى الإصلاحيون رؤية أكثر تفاؤلًا من التقليديين، إذ يعتقدون أن الإصلاحات التنظيمية يمكن أن تحسّن أداء أجهزة الاستخبارات بشكل ملموس، مما يقلل من احتمالات الإخفاق الاستخباري، حتى وإن لم يكن من الممكن تجنبه بالكامل، ويرون أن المشكلة الجوهرية تكمن في غياب تبادل المعلومات وانعدام التنسيق بين مختلف الأجهزة الاستخبارية. حول هذه المدرسة، يقول البروفيسور روهين شارما (Rohin Sharma) إن "تنظيم مجتمع الاستخبارات والبيروقراطية لا يعززان تبادل المعلومات أفقيًا أو تنازليًا، بل تصاعديًا فقط، مما يعيق تبادل المعلومات الحاسمة ويؤدي إلى فشل الاستخبارات" (De la Fuente, 2021).
يُعدّ عالم الاجتماع الأميركي هارولد ويلينسكي (Harold Wilensky) أحد أبرز ممثلي المدرسة الإصلاحية. في كتابه الاستخبارات التنظيمية: المعرفة والسياسة في الحكومة والصناعة، يعزو الفشل الاستخباري على مستوى الأمن القومي إلى العوائق التنظيمية داخل المجتمع الاستخباري، مثل التشوّهات الهرمية التي تؤدي إلى تحريف المعلومات أو حجبها أثناء انتقالها عبر مستويات القيادة، والتخصصية المفرطة والتنافس البيروقراطي بين الإدارات، مما يعيق تبادل المعلومات بين الوكالات. كما يرى أن الإفراط في المركزية يؤدي إلى بطء الاستجابة، في حين أن السرية المفرطة تحدّ من وصول صنّاع القرار إلى المعلومات الحيوية. وعنده أن الحل يكمن في تعزيز التنسيق بين الوكالات، وتقليل السرية غير الضرورية، واعتماد آليات أكثر كفاءة لمشاركة المعلومات وتحليلها بموضوعية، رغم أن ذلك لا يمكن أن يمنع الإخفاق بالكامل (Wilensky, 1967).
مفكرة أخرى بارزة في هذه المدرسة هي البروفيسورة الأميركية إيمي زيغارت (Amy Zegart)، التي ترى أن الإخفاق الاستخباري ينبع أساسًا من عيوب تنظيمية. تؤكد زيغارت أن الفشل الاستخباري ليس نتيجة لغياب المعلومات، بل يعود إلى العقبات الهيكلية والثقافية داخل المنظومة الاستخبارية. وتوضح أن أحد أبرز أسباب فشل الاستخبارات الأميركية في التنبؤ بهجمات 11 سبتمبر 2001 كان عدم قدرة الوكالات على التكيف مع التهديدات الجديدة، مثل ظهور الجماعات غير الدولتية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. تشير زيغارت إلى أن ثقافة المجتمع الاستخباري غالبًا ما تقاوم التغيير، سواء في ما يتعلق بالمهام الجديدة، أو تبني التقنيات الحديثة، أو استيعاب الأفكار المبتكرة. كما أن العقبات التنظيمية تعرقل التنسيق بين الوكالات، مما يؤدي إلى ضعف تبادل المعلومات الاستخبارية في ظل غياب آليات تعزز التعاون المشترك. بالإضافة إلى ذلك، ترى زيغارت أن القيادة الاستخبارية كثيرًا ما تفشل في توجيه الموارد والجهود نحو التهديدات المستجدة، مما يؤدي إلى سوء تحديد الأولويات وإضعاف قدرة المجتمع الاستخباري على الاستجابة الفعالة (Zegart, 2007).
على عكس التقليديين، الذين نادرًا ما يحمّلون أفراد المجتمع الاستخباري المسؤولية ويلقونها على صنّاع القرار، ينتقد الإصلاحيون ضعف تنظيم العمل المؤسسي داخل المجتمع الاستخباري، ويحذرون من أن الإصلاحات اللازمة لا يتم تنفيذها، معتبرين أن المجتمع الاستخباري نفسه يتحمل مسؤولية الفشل.
تواجه هذه المدرسة انتقادًا رئيسيًا، خاصة في ما يتعلق بقدرة الإصلاحات على تقليل الإخفاقات الاستخبارية. ويشكك العديد من الباحثين في فاعلية هذه الإصلاحات، بل يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك بالقول إن كل إصلاح جديد قد يؤدي إلى ظهور مشكلات أخرى غير متوقعة.
المدرسة المُعارضة (The Contrarian school)
وفقًا لتصنيف البروفسور إريك دال، تُعدّ المدرسة المُعارضة أصغر حجمًا مقارنة بالمدرسة التقليدية والمدرسة الإصلاحية. يرى أنصارها أن الإخفاق الاستخباري يعود أساسًا إلى قصور في جمع المعلومات الاستخبارية، وليس إلى مشكلات في التحليل أو التنظيم. غالبًا ما يصف الأرثوذكسيون هذه المدرسة بـ"المراجِعة" (Revisionist)، كما أشار ريتشارد بيتس عند حديثه عن أعمال أرييل ليفيت، ولا سيما في انتقاد كتابه المفاجآت الاستخباراتية والاستراتيجية الصادر عام 1987 (Betts, 1989). يُعدّ أنصار المدرسة المُعارضة الأكثر تفاؤلًا مقارنةً بالمدارس الأخرى، حيث يرون أن الإخفاقات الاستخبارية والمفاجآت الاستراتيجية يمكن تجنبها إذا تم تحسين قدرات جمع المعلومات. تركّز المدرسة المعارِضة على أهمية الاستخبارات البشرية في جمع المعلومات من خلال المصادر البشرية، مثل الجواسيس.
وفي هذا السياق، يعارض الدكتور الإسرائيلي أرييل ليفيت (Ariel Levite) النظرة المتشائمة للأرثوذكسيين، الذين يعتبرون أن المفاجأة لا يمكن تجنبها بسبب العوائق المتأصلة في العمل التحليلي والمعرفي. وبدلًا من ذلك، يؤكد ليفيت أنه عندما تتوفر معلومات استخباراتية كافية، يمكن إصدار تحذيرات دقيقة وفعالة تحفّز الجهة المستهدفة على اتخاذ تدابير دفاعية مناسبة (Levite, 1987).
يمكن ملاحظة هذا المنظور أيضًا في أعمال المؤرخ والكاتب الأميركي ديفيد كان (David Kahn)، الذي يرى أن الولايات المتحدة كان بإمكانها منع الهجوم الياباني على بيرل هاربور لو كثّفت جهودها في جمع المعلومات الاستخبارية مسبقًا. ويشير كاهن إلى أنه لو تم نشر جواسيس قبل سنوات أو تنفيذ مهام استطلاعية ضد البحرية اليابانية لكان من الممكن اكتشاف نوايا الهجوم ومنعه (Kahn, 1991).
اتجاهات فكرية أُخرى
في مقاله "الهجمات المفاجئة – هل هي حتمية؟ تجاوز الثنائية الأرثوذكسية-المراجعة" (2008)، يتبنى الباحث أور هونيج مقاربة أكثر واقعية تجاه الإخفاقات الاستخبارية، منتقدًا المدرستين الأرثوذكسية (Orthodox) والمراجِعة (Revisionist) لكونهما متطرفتين في مواقفهما، ومحاولًا إيجاد أرضية وسطى. فبدلاً من اعتبار الفشل الاستخباري أمرًا حتميًا بالكامل أو قابلًا للتفادي تمامًا، يميز هونيج بين الإخفاقات غير القابلة للتجنب، التي تنبع من عدم اليقين المتأصل في العمل الاستخباري، مثل القيود المعرفية والتنظيمية، وبين الأخطاء القابلة للتصحيح، التي تنتج عن ممارسات استخباراتية ضعيفة. يدعو هونيج إلى الاعتراف بالحدود المعرفية والتنظيمية المتأصلة في العمل الاستخباري، لكنه يؤكد في الوقت ذاته على ضرورة تحسين ما يمكن تحسينه، وأهم ما يمكن فعله هو الاستثمار في توظيف الأشخاص الأكفاء لتعزيز دقة التحليل والأحكام والتوقعات الاستخبارية وتفادي مخاطر الفشل (Honig, 2008).
وينتقد البروفيسور إريك دال التناقض الكبير بين المدارس الفكرية المختلفة في دراسة الإخفاقات الاستخبارية، مشيرًا إلى أنها تعاني من "تحيّز الرؤية المتأخرة"، حيث يصبح الدليل الذي كان ضائعًا وسط كم هائل من الضوضاء قبل وقوع الحادثة واضحًا جدًا بعد وقوع المفاجأة، ويتم التعامل معه على هذا الأساس. كما ينتقد تركيز هذه المدارس على حالات نجاح الهجمات المفاجئة، متجاهلة الحالات التي تمكنت فيها الاستخبارات من إحباط الهجوم. في هذا السياق، يطرح دال مفهوم "نظرية العمل الوقائي" (Theory of Preventive Action)، حيث يقول: "لكي تكون الاستخبارات قابلة للتطبيق وفعالة في منع الهجمات المفاجئة، يجب أن توفر تحذيرات دقيقة على المستوى التكتيكي، كما يجب أن تكون مصحوبة بدرجة عالية من الاستجابة والتقبل من قِبل صنّاع القرار الذين يحددون كيفية استخدامها وما إذا كان سيتم التصرف بناءً عليها" (Dahl, 2013, p.23). يُعرّف دال هذه الاستخبارات التكتيكية المطلوبة بأنها "استخبارات ذات مدى زمني أقصر وتركّز بشكل أكثر تحديدًا على أحداث معينة، وغالبًا ما يستخدمها المسؤولون في المستويات الدنيا الذين يشاركون في تخطيط أو توجيه العمليات الفردية" (Dahl, 2013, p.22).