المقدمة
شنّ العدو الإسرائيلي حربًا مدمّرة على لبنان في أيلول 2024، خلّفت انعكاسات اقتصادية واجتماعية وإنسانية جسيمة على بلد يرزح أصلًا تحت وطأة أزمات مركّبة وممتدة. ولم تكن هذه الحرب حدثًا مفاجئًا، إذ سبقتها منذ عامٍ كامل مرحلة من حرب الاستنزاف في المناطق الحدودية في الجنوب التي جرت ضمن ما يُعرف بـ«قواعد الاشتباك» ومن دون تجاوز كامل للخطوط الحمراء، قبل أن يتفجّر العدوان الشامل في خريف 2024. وقد امتدت تداعيات هذه الحرب إلى مختلف جوانب الحياة، فأحدثت تدميرًا واسعًا للبنى التحتية والأصول المادية، وتسبّبت بموجات نزوح داخلي ضخمة قُدّر عدد المتأثرين بها بما يقارب المليون شخص. كما طالت الأضرار عشرات آلاف المباني السكنية والتجارية والزراعية، فضلًا عن المرافق الحيوية من مستشفيات ومدارس وطرق وشبكات مياه وكهرباء، فيما سقط آلاف الشهداء والجرحى.
سجّل القطاع السكني وحده النسبة الأكبر من الدمار، في حين تكبّدت المؤسسات التجارية والزراعية والصناعية خسائر هائلة انعكست على الدورة الاقتصادية برمّتها. وواجهت البنى التحتية الأساسية انهيارًا متسارعًا، ترافق مع تراكم كميات ضخمة من الركام والأنقاض، ما ولّد تحدّيات بيئية غير مسبوقة. وعلى المستوى الإنساني، تدهورت الأوضاع المعيشية والخدمات الأساسية بشكل حادّ، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة. كما تعرّضت قطاعات الصحة والتعليم لضغوط استثنائية نتيجة الاستهداف المباشر للبنى التحتية وتحويل المدارس والمستشفيات إلى ملاجئ ومراكز إيواء.
ولم تقتصر آثار الحرب على التدمير المادي المباشر، بل انعكست أيضًا في شلل شبه كامل للأنشطة الاقتصادية وتراجع حاد في مؤشرات التنمية البشرية، ما عمّق من هشاشة الوضع الداخلي وزاد من تعقيدات مسار التعافي وإعادة الإعمار.
إزاء هذا المشهد، أصدرت جهات دولية ومحلية عدّة تقارير لتقييم الخسائر والأضرار الناتجة عن الحرب ووضع تقديرات للحاجات اللازمة للتعافي. هذه التقييمات، على اختلاف منهجياتها، رسمت جزءاً من المشهد الكبير لحجم الكلفة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للحرب، وأكدت أن لبنان يقف أمام مهمة إعادة إعمار ضرورية تتطلب موارد مالية وإصلاحات بنيوية. من أبرز هذه التقارير: التقييم المرحلي للأضرار والخسائر 2024 (DaLA)، والتقييم السريع للأضرار والاحتياجات 2025 (RDNA) اللذان أعدّهما البنك الدولي، والتقييم السريع للبلديات المتضررة 2025 – بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، وتقرير الإسكوا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2025 حول الآثار الاجتماعية الاقتصادية للحرب، وتقييم منظمة الفاو 2025 لأضرار وخسائر القطاع الزراعي، وتقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية 2024 (CNRS-L) بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، التقييم السريع للأمم المتحدة 2024 (UNDP/UNICEF)، ودراسات برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية 2024 (UN-Habitat) مع جامعتي البلمند والقديس يوسف حول تدمير المباني والركام. سنستعرض في ما يلي أهم ما ورد في هذه التقارير من خلاصات ونتائج رئيسية:
• التقييم المرحلي للأضرار والخسائر – البنك الدولي (Interim DaLA، 2024): مثّل هذا التقرير أول محاولة لحصر الكلفة الاقتصادية للحرب بشكل رقمي، وقدّر إجمالي الأضرار المباشرة بحوالي 3.4 مليار دولار والخسائر الاقتصادية غير المباشرة بحوالي 5.06 مليار دولار، أي ما مجموعه أكثر من 8.4 مليار دولار حتى ذلك التاريخ. شملت التقديرات قطاعات الزراعة، البيئة، والتجارة، والصحة، والإسكان، والسياحة والضيافة، بينما لم تُدرج أضرار التعليم بعد وأُجّلت لتقييم لاحق. أظهر التوزيع الجغرافي أن محافظة بيروت تكبّدت نحو 1.3 مليون دولار من الأضرار، فيما بلغت في جبل لبنان (بما فيه الضاحية الجنوبية) حوالي 143 مليون دولار، أما بعلبك-الهرمل فقد قُدّرت الأضرار في قطاعات البيئة والصحة فقط بانتظار حصر دمار الإسكان الكبير فيها. على المستوى الكلي، بيّن التحليل الاقتصادي أن العدوان خفّض نمو الناتج المحلي لعام 2024 بنحو 6.6 نقاط مئوية، أي أن الاقتصاد الذي كان سيسجل نمواً بـ +0.9% في حال غياب العدوان الإسرائيلي، انكمش فعلياً بحوالي –5.7%. يشير هذا التقييم الى أن كلفة الحرب على لبنان هائلة، وأن الخسائر غير المباشرة (كفاقد الإنتاج والدخل) تفوق حتى الأضرار المادية المباشرة.
الفترة الزمنية المغطاة: بداية الحرب وما بعدها (أيلول–تشرين الثاني 2024).
• تقييم البنك الدول (RDNA 2025): قدّر إجمالي الأضرار المادية المباشرة بحوالي 6.8 مليار دولار والخسائر الاقتصادية غير المباشرة بحوالي 7.2 مليار دولار. تبين أن قطاع الإسكان تكبّد نحو ثلثي الأضرار (حوالي 4.6 مليار دولار) يليه قطاع البنية التحتية (طاقة ومياه ونقل وخدمات بلدية). وقُدّرت احتياجات التعافي وإعادة الإعمار بنحو 11 مليار دولار.
الفترة الزمنية المغطاة: 14 شهر حرب (أيلول 2023–تشرين الأول 2024)+ 12 شهر تعافٍ أولي (حتى تشرين الأول 2025).
• تقرير الإسكوا/UNDP 2025: قدّم صورة شاملة لتداعيات الحرب على الاقتصاد والمجتمع اللبناني في ظل أزماته المزمنة. أبرز التقرير التراجع الكبير في مؤشرات التنمية البشرية والاقتصادية، مثل انخفاض التوظيف في القطاع الخاص بنسبة 25% (و36% في المناطق الأكثر تعرضًا للقصف)، وإغلاق 15% من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل دائم. كما وثّق تحوّل 769 مؤسسة تربوية إلى مراكز إيواء ونحو 400 مدرسة تعطّلت بالكامل، إضافة إلى تدهور الأمن الغذائي ووصول نسبة الأطفال دون غذاء كافٍ إلى مستويات حرجة في بعض المناطق. ركّز التقرير على السياق العام أكثر من الأرقام المالية، فلم يقدّم تقديرات بالقيم المادية بل اعتمد إحصاءات كميّة (كعدد المباني المتضررة والمؤسسات المقفلة ...) وتحليلًا لآثار الحرب على مختلف القطاعات.
الفترة الزمنية المغطاة: يركّز التقرير على أثر الحرب في عام 2024 تحديدًا، مع مؤشرات ممتدة حتى منتصف 2025
• التقييم السريع للبلديات المتضررة – برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP، كانون الثاني 2025): ركّز هذا التقرير على المستوى المحلي عبر مسوحات ميدانية شملت 135 بلدية ومنطقة متأثرة بين 5 و15 كانون الأول/ديسمبر 2024. تناول التقرير أوضاع النزوح والأضرار بالبنى التحتية (مياه، كهرباء، طرق، مدارس)، والانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية على التعليم والصحة والأعمال الصغيرة. أبرز التقرير تدهور قدرة البلديات على تقديم الخدمات الأساسية في ظل النزوح الواسع والدمار، كما حدّد الاحتياجات الأولية للتعافي بناءً على بيانات محلية من السلطات البلدية نفسها. ما يميّز هذا التقرير أنه أعطى صوتًا مباشرًا للمجتمعات المتضررة وسلّط الضوء على التحديات الفورية التي لا تظهر بوضوح في التقييمات الوطنية الكبرى.
الفترة الزمنية المغطاة: الأسابيع والأشهر الأولى مباشرة بعد وقف إطلاق النار أواخر 2024.
• تقييم منظمة الأغذية والزراعة (الفاو): ركّز على القطاع الزراعي حصراً، وقدّر إجمالي الخسائر والأضرار الزراعية بحوالي 704 ملايين دولار (منها 118 مليون أضرار في الأصول و586 مليوناً خسائر في الإنتاج والدخل). أظهر التقرير أن المحاصيل كانت الأكثر تضررًا (83% من الإجمالي)، خصوصًا أشجار الزيتون والحمضيات والموز والتبغ التي أتت النيران على آلاف الهكتارات منها. كما خسر القطاع نحو 2.3 مليون رأس من الثروة الحيوانية (غالبيتها دواجن إضافة إلى آلاف رؤوس الماشية والأغنام والنحل)، ما تسبب بخسائر كبيرة في إنتاج الحليب والعسل وغيرهما.
الفترة الزمنية المغطاة: تشرين الأول 2023 – تشرين الثاني 2024.
• تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية (CNRS-L) تقرير التوثيق البيئي/المدني (2023–2024): وثّق هذا التقرير جميع أشكال الهجمات الإسرائيلية وآثارها على مختلف القطاعات حتى وقف إطلاق النار، بهدف توفير قاعدة بيانات علمية للمساءلة الدولية وتخطيط الاستجابة. قدّم التقرير بيانات دقيقة حول التدمير البيئي الهائل (احتراق أكثر من 2,000 هكتار من الغابات والأراضي، بينها 1,200+ هكتار غابات عمداً)، وكذلك تضرر 130 ألف هكتار من الأراضي الزراعية (ربع الأراضي الصالحة للزراعة في لبنان) نتيجة العمليات العسكرية. وسلّط الضوء على تدمير قرى بأكملها وبنية تحتية مدنية (وُصف بأنه "إبادة مُدنية” Urbicide منهجية)، بما في ذلك أحياء بكاملها في جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية. أورد التقرير أمثلة مثل استهداف مواقع أثرية (قبة دورس، مقام النبي بنيامين في محيبيب) وتكرار القصف قرب معابد بعلبك المدرجة على قائمة التراث العالمي، إضافة إلى تعطيل عدة مستشفيات ومنشآت صحية جراء القصف ومقتل مسعفين. كما نقل التقرير عن وزارة الطاقة والمياه أن العدوان تسبب بخسائر تُقدّر بحوالي 400 مليون دولار في قطاعي الكهرباء والمياه (كلفة أضرار البنى التحتية والانقطاع والخدمات الطارئة). وعلى الرغم من أهمية هذا التقرير في توصيف الأضرار، فهو لم يتضمن حصرًا ماليًا شاملًا لكلفة الخسائر في كل قطاع، بل ركّز على إبراز حجم الضرر المادي والبشري وتداعياته البيئية والإنسانية.
الفترة الزمنية المغطاة: من أيلول 2023 حتى أواخر 2024.
• دراسة UN-Habitat والجامعات اللبنانية: قدمت هذه الدراسة بالتعاون مع جامعتي القديس يوسف وجامعة البلمد تقييمًا بالاستعانة بصور الأقمار الصناعية لحجم الدمار العمراني وكميّات الركام في سبعة أقضية ضمن محافظتي الجنوب والنبطية (الأكثر تضررًا). أحصت الدراسة تدميراً كلياً وجزئياً لحوالي 15,633 مبنى ضمن نطاق التقييم، ما يشكّل نحو 6.6% من إجمالي المباني في تلك الأقضية. وقد توزّع الدمار على 9,692 وحدة سكنية في النبطية و33,448 وحدة في الجنوب، مع تسجيل أقضية مرجعيون وبنت جبيل وصور أعلى أعداد المباني المهدّمة. بعض البلدات كبلدتي يارين والظهيرة دُمّر حوالي 90% من مبانيها وفق التحليل الفضائي، ما نتج عنه كميات هائلة من الركام تُقدر بنحو 2 إلى 4 ملايين طن من الردميات ينبغي إزالتها والتخلص منها. هذه الأرقام تعطي تصورًا واضحًا عن جسامة الدمار في القطاع السكني والعمراني، وستُستخدم ضمن تقييم قطاع الإسكان أدناه. الجدير ذكره أن هذه الدراسة ركّزت على الحصيلة الفيزيائية (عدد المباني وحجم الركام) دون تقدير الكلفة، لكنها شكّلت أساسًا مهمًا لتقديرات تكلفة إعادة الإعمار في قطاع الإسكان لاحقًا.
الفترة الزمنية المغطاة: حتى تشرين الثاني 2024.
• التقييم السريع للأمم المتحدة (UNDP/UNICEF، تشرين الأول 2024) : أتى هذا التقييم في مرحلة مبكرة جدًا من الحرب ليعطي صورة استشرافية أولية عن حجم الصدمة الاقتصادية والاجتماعية. ما يميّزه أنه لم يقتصر على تقدير الخسائر المادية المباشرة، بل قدّم تصورًا كلّيًا لمسار الاقتصاد اللبناني تحت تأثير الحرب مقارنة بالسيناريو المفترض لولاها، مستعينًا بنموذج اقتصادي (CGE) خصيصًا للاقتصاد اللبناني. بذلك، أتاح التقرير مؤشرات نوعية مبكرة مثل مسار التضخم، وتراجع الاستهلاك الخاص، وأثر الصراع على البطالة والتجارة الخارجية، وهي مؤشرات لا توفرها منهجيات حصر الأضرار التقليدية. غير أن التقرير بقي محاطًا بهوامش كبيرة من عدم اليقين لأنه استند إلى فرضيات حول طول أمد الحرب وحجم الانكماش في القطاعات الحيوية، دون أن يتمكن من توثيق الأضرار الفعلية على الأرض. من هنا تبرز قيمته كوثيقة "تحذيرية" أعطت صانعي القرار لمحة مبكرة عن خطورة المسار الاقتصادي والاجتماعي، لكنها لم تكن بديلًا من التقييمات التفصيلية اللاحقة التي صدرت بعد توقف الحرب.
الفترة الزمنية المغطاة: المرحلة الأولى للحرب (خريف 2024).
في المجمل، رسمت هذه التقارير مجتمعة صورة قاتمة لحجم الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة التي تكبّدها لبنان جرّاء الحرب. وفي الأقسام التالية، سنتناول منهجيات تقييم هذه الخسائر، ثم نستعرض بالتفصيل محتوى كل تقرير بحسب القطاعات المتضررة (الإسكان، البنية التحتية، الزراعة، الصحة، التعليم، الصناعة والسياحة، البيئة...) مدعومًا بالأرقام الواردة. سنختم أيضًا بعرض مقارنة بين تقديرات التقارير لكل قطاع، وتحليل أسباب التباينات بينها وغياب أرقام موحدة متفق عليها، قبل تقديم خلاصة عن أكثر التقديرات واقعية لحجم الخسائر الإجمالية ونقد موضوعي لمواطن القوة والقصور في كل تقرير.
القسم الأول: منهجية احتساب الخسائر الاقتصادية
تباينت منهجيات تقييم الخسائر الاقتصادية بين التقارير، ولكن يمكن تصنيفها ضمن مقاربتين رئيسيتين: تقديرات الأضرار المادية المباشرة والخسائر الاقتصادية وفق منهجية تقييم الأضرار والخسائر (DaLA)، ونماذج الاقتصاد الكلّي والمحاكاة التنبؤية (مثل نماذج التوازن العام القابل للحوسبة CGE).
كما برز استخدام البيانات الجغرافية والاستشعار عن بُعد لرصد الدمار (لا سيما في منهجية المجلس الوطني للبحوث العلمية والبنك الدولي) إضافة إلى المسوح الميدانية السريعة لاستطلاع آثار الحرب على الأسر والمؤسسات.
1. منهجية الأضرار والخسائر والاحتياجات DaLA (Damage and Loss Assessment): لتقييم الخسائر الاقتصادية في أعقاب الكوارث والنزاعات والحروب، تتبع الجهات الدولية منهجيات معيارية أبرزها منهجية تقييم الأضرار والخسائر والاحتياجات (DaLA) التي طوّرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية والكاريبي (ECLAC) في السبعينيات. تطورت منهجية DaLA على مدى العقود لتصبح أداة معترف بها عالميًا لقياس تأثير الكوارث وتقدير الموارد المالية لإعادة الإعمار. وتعتمد الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي إطارًا مشابهًا في سياق تقييم ما بعد الكوارث (منهجية PDNA Post-Disaster Needs Assessment) لتوحيد تقدير الخسائر والاحتياجات. وقد اعتمدها البنك الدولي بالدرجة الأولى. ترتكز هذه المنهجية على التمييز بين نوعين من الخسائر:
(1)الأضرار (Damage) وهي القيمة النقدية لإعادة بناء أو إصلاح الأصول المادية المدمرة أو المتضررة إلى ما كانت عليه قبل الحرب (مثل كلفة إعادة تشييد المباني والبنية التحتية المدمَّرة)؛
(2) الخسائر (Losses) وهي قيم الفاقد في التدفقات الاقتصادية نتيجة تعطل الإنتاج والخدمات بسبب الحرب.
(3) أما الاحتياجات (Needs) فهي الكلفة المطلوبة لإعادة البناء والتعافي، وغالبًا ما تتضمن عنصر "البناء بشكل أفضلBuild Back Better " لتحسين البنية التحتية بدل إعادتها فقط إلى ما كانت عليه.
تُطبَّق منهجية DaLA/PDNA عمليًا عبر تشكيل فرق متخصصة لكل قطاع، تضم مهندسين لتقدير قيمة الأضرار المادية وخبراء اقتصاديين واجتماعيين لتقدير الخسائر في الإنتاج والدخل وتعطّل الخدمات. تبدأ العملية بتقدير الأضرار المادية (عدد المباني المهدمة، طول الطرق المتضررة، خطوط الكهرباء المعطلة…) ثم تحويلها إلى قيمة نقدية وفق أسعار إعادة البناء السائدة قبل الحرب. على سبيل المثال، يُعتبر تدمير مدرسة أو مستشفى ضررًا مباشرًا تُقدَّر قيمته بحسب كلفة البناء أو التجهيزات الطبية، بينما يُصنَّف انخفاض دخل الأساتذة أو خسارة إيرادات المستشفى خلال فترة التوقف كخسائر غير مباشرة. في القطاع الزراعي مثلاً، يُعدّ احتراق بساتين الزيتون أو تدمير شبكة الري ضررًا مباشرًا، بينما تُدرج خسارة موسم حصاد كامل نتيجة النزوح أو منع التصدير ضمن الخسائر. في النقل، تدمير جسر رئيسي أو تعطيل مدرج في المطار يندرج تحت الأضرار المباشرة، لكن تعطّل حركة البضائع وزيادة كلفة النقل والوقت المهدور للمسافرين والتجار تصنَّف كخسائر. وفي السياحة، تعتبر كلفة إعادة تأهيل فندق متضرر ضررًا مباشرًا، أما توقف الحجوزات وتراجع إيرادات المطاعم لعدة أشهر فهي خسائر غير مباشرة. غالبًا ما تغطي هذه التقديرات فترة عام إلى عامين بعد الحدث، مع افتراض عودة تدريجية للنشاط الاقتصادي. وهذا ما يجعل المنهجية أداة عملية لوضع خطط آنية للتعافي، إذ لا تقتصر على حصر الدمار المادي فحسب، بل تضيء أيضًا على التدفقات الاقتصادية الضائعة التي قد تكون أكثر كلفة على المدى الطويل من الأضرار المباشرة نفسها.
في حالة لبنان، برز تطبيق هذه المنهجية من خلال التقييم المرحلي (Interim DaLA – تشرين الثاني 2024) الذي ركّز على ستة قطاعات رئيسية واعتمد على صور أقمار صناعية عالية الدقة وتحليلات بالرادار لتقدير الأضرار، بالإضافة إلى نماذج اقتصادية لتقدير الخسائر لمدة 12 شهرًا، مقتصرًا على 80% من المناطق المتأثرة ضمن ست محافظات. لاحقًا، جاء التقييم الشامل (RDNA – آذار 2025) ليغطي عشرة قطاعات في جميع المحافظات ولفترة زمنية أطول (من تشرين الأول 2023 حتى كانون الأول 2024، إضافة إلى عام 2025 للتعافي المبكر). هذا التقييم أضاف تقدير الاحتياجات التي بلغت نحو 11 مليار دولار، مع إدماج عنصر "البناء بشكل أفضل" لتعزيز البنية التحتية. تميّز التقييم أيضًا بتعاون وثيق مع المؤسسات المحلية مثل المجلس الوطني للبحوث العلمية (CNRS-L) الذي زوّد بمسوحات وصور جوية، ومع وكالات أممية قطاعية كالـفاو واليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة العمل الدولية التي قدّمت بيانات تخصصية. ومع ذلك، أظهرت المنهجية قيودًا منها ضيق الوقت لجمع البيانات وسط ظروف أمنية صعبة، وصعوبة فصل آثار الحرب عن الأزمة الاقتصادية القائمة، وعدم شمول جميع قطاعات الاقتصاد.
2. النماذج الاقتصادية (CGE Computable General Equilibrium Models): اعتمد التقييم السريع للعواقب الاقتصادية والاجتماعية (تشرين الأول 2024) على نموذج التوازن العام القابل للحوسبة لمحاكاة تأثير الحرب على الاقتصاد الكلّي اللبناني. قام خبراء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) واليونيسف بإعداد هذا النموذج باستخدام أحدث البيانات المتاحة ومعايرة خاصة للاقتصاد اللبناني. أفترض السيناريو الأساسي أنه لولا الحرب لاستمر الاقتصاد اللبناني في مسار نمو إيجابي طفيف عام 2024 استنادًا إلى توقعات صندوق النقد الدولي قبل الحرب. ثم أُدخل على النموذج صدمات تعكس آثار الحرب حتى نهاية 2024، منها:
- انخفاض 20% في حركة التجارة الخارجية (بسبب إغلاق المعابر البرية عبر سوريا وتقييد الموانئ)؛
- انكماش 10% في قطاع النقل والاتصالات (جرّاء تراجع حركة المطار والملاحة)؛
- انكماش 4% في مجمل قطاع الخدمات لاسيما السياحة والضيافة.
بناءً على هذه الافتراضات، تمت محاكاة خسائر الناتج المحلي والوظائف والتجارة وغير ذلك. والنتيجة الأهم التي خرج بها النموذج هي توقّع انخفاض الناتج المحلي الحقيقي بـ 9.2% في 2024 (رسم بياني رقم 1) مقارنة بالسيناريو البديل (أي ما يعادل خسارة بنحو 2 مليار دولار من الناتج). كما توقع النموذج ارتفاع معدل البطالة نقطتين مئويتين إضافيتين إلى 32.6% عام 2024 بسبب فقدان الوظائف الواسع في القطاعات المتضررة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المقاربة مغايرة لمنهجية DaLA لأنها لا تُحصي الأضرار المادية بصورة منفصلة، بل تقدّر الأثر الكلّي للحرب على المؤشرات الاقتصادية الكلّية (الناتج المحلي، التضخم، البطالة، الاستهلاك...) عبر مقارنة مسار الاقتصاد في وجود الحرب وبعدمها. وقد أتاح ذلك استشراف بعض المؤشرات التي لا تغطيها منهجية تقييم الأضرار، مثل:
- تراجع الاستهلاك الخاص بنسبة 14.8% وتدهور القدرة الشرائية للأسر،
- ارتفاع معدّل التضخم بحوالي 6% إضافية نتيجة الحرب،
- انخفاض الصادرات بـ9.8% والواردات بـ10.9%
هذه الأرقام النسبية جاءت متسقة أيضًا مع ما سجله تقرير الإسكوا/برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لاحقًا من أن الحرب أعادت الاقتصاد اللبناني إلى دوامة الانكماش لعام 2024 بدلًا من نمو كان متوقعًا، مع انكماش فعلي بين 5.7% و10% .
رسم بياني رقم 1: نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (%)

المصدر:
2018-2021: الحسابات القومية لدائرة الإحصاء المركزي؛
2022-2023: مراجعة موظفي صندوق النقد الدولي؛ تقديرات النموذج 2024-2026
3. الاستشعار عن بُعد وتوثيق الأضرار الميدانية: لعب المكوّن الجغرافي والميداني دورًا بارزًا في بعض التقييمات، لا سيما تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية (CNRS-L) الذي بدأ منذ اليوم الأول للحرب في رصد جميع الضربات والاعتداءات الإسرائيلية وتوثيقها. اعتمد المجلس على كوادر علمية وتقنية (في مركز رصد الزلازل والمخاطر الطبيعية) بالتعاون مع وحدة إدارة مخاطر الكوارث برئاسة الحكومة اللبنانية وهيئات محلية ودولية، لجمع البيانات حول المواقع المستهدفة ونوع الذخائر المستخدمة وحجم الدمار الناتج. هذه المنهجية تُركّز على تعداد الأضرار الملموسة، فمثلاً تم عبر صور الأقمار الصناعية وتقييمات الحرائق تحديد أن أكثر من 2,000 هكتار من الأراضي احترقت عمداً بالقصف، منها 1,200 هكتار من الغابات في جنوب لبنان، وأن استخدام ذخائر الفوسفور الأبيض أحدث أضرارًا بيئية بعيدة المدى حول تلك المناطق. كما جرى توثيق حجم المساحات الزراعية المهجورة بسبب الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية عليها والتي بلغت حوالي 130,000 هكتار من الأراضي الزراعية (أي ربع الأراضي الصالحة للزراعة في لبنان) التي تعطلت فيها الأنشطة الزراعية. هذه المنهجية العلمية الميدانية لا تقدّر بالدولار قيمة الخسائر، لكنها توفر أساسًا موضوعيًا لبقية الدراسات للتأكد من معقولية افتراضاتها. وقد استفاد البنك الدولي نفسه من بعض مخرجات المجلس الوطني للبحوث العلمية (CNRS-L) في تقييم الأضرار والاحتياجات(RDNA) للتحقق من البيانات. أيضًا ساهمت وكالات أممية تقنية في المنهجيات الميدانية: فمثلًا قدّمت اليونيسف وUN-Habitat تحليلات بالاستناد إلى صور الأقمار الصناعية عالية الوضوح لتقدير عدد المباني المدمرة وحجم الأنقاض الناتجة، كما ساهمت منظمة العمل الدولية في توفير بيانات حول سوق العمل، وهكذا ضمن إطار التقرير المشترك للإسكوا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
القسم الثاني: أضرار العدوان بحسب القطاعات الاقتصادية
1. قطاع الإسكان والمباني
إن قطاع الإسكان هو الأكثر تضررًا على الإطلاق جرّاء الحرب. تفيد بيانات التقييم للبنك الدولي أنّ نحو 162,900 وحدة سكنية، أي ما يعادل 10% من المخزون السكني في لبنان قبل الحرب، قد تضررت بدرجات متفاوتة. وقد بلغت القيمة الإجمالية للأضرار المادية نحو 4.6 مليار دولار. من بين هذه الوحدات، دُمّرت 45,400 وحدة بشكل كامل، وتعرضت 74,300 وحدة لأضرار جزئية، فيما لحقت أضرار طفيفة بـ 43,200 وحدة. ويُلاحظ أنّ الشقق السكنية مثّلت النسبة الأكبر من الوحدات المتضررة، حيث شكّلت نحو 92% من الإجمالي (41,700 مدمَّرة، 68,700 جزئيًا، 39,600 بأضرار طفيفة). أما باقي الأضرار فتوزّعت على 12,000 منزل فردي، و500 فيلا، و500 وحدة سكنية غير رسمية.
على مستوى التوزيع الجغرافي، برزت محافظة النبطية من بين الأكثر تضررًا بنسبة 44% من إجمالي الأضرار، وبكلفة تقارب 2.2 مليار دولار. تلتها محافظة الجنوب بنسبة 24% (حوالي 980 مليون دولار)، ثم جبل لبنان بنسبة 21% (نحو 973 مليون دولار)، وأخيرًا بعلبك–الهرمل بنسبة 7% (نحو 236 مليون دولار). إلى جانب الأضرار المادية، تكبّد القطاع خسائر مباشرة وغير مباشرة قُدرت بنحو 363 مليون دولار. توزعت هذه الخسائر بين: خسائر أجور العاملات المنزليات (163 مليون دولار، 45%)، خسائر الإيجارات للمالكين (133 مليون دولار، 37%)، وخسائر مقدّمي خدمات الصيانة (40 مليون دولار، 11%)، وزيادة نفقات الإيجارات على المالكين المهجرين (27 مليون دولار، 8%). وعلى الصعيد الجغرافي، تحمّلت محافظة النبطية أيضًا العبء الأكبر من الخسائر (173 مليون دولار، 48%)، تلتها محافظة الجنوب (120 مليون دولار، 33%)، البقاع (35 مليون دولار، 10%)، وجبل لبنان (29 مليون دولار، 8%).
أما في ما يخص إعادة الإعمار والتعافي، فتُقدّر الاحتياجات الإجمالية لقطاع الإسكان بنحو 6.3 مليار دولار. وتشمل هذه الاحتياجات 6.2 مليار دولار لإعادة تأهيل البنى التحتية وإصلاح المساكن، منها 5.8 مليار دولار للإصلاح وإعادة البناء و386 مليون دولار للفحوص والدراسات الهندسية. كما تتطلب استعادة الخدمات الأساسية نحو 61 مليون دولار، تتوزع بين 15 مليون دولار للترتيبات المؤسسية والتنظيمية و46 مليون دولار للدعم الطارئ للسكن المؤقت. وقد جرى تحديد الاحتياجات على ثلاث مراحل: المدى الفوري (2025) بنحو 1.7 مليار دولار، والمدى القصير (2026–2027) بنحو 2.5 مليار دولار، والمدى المتوسط (2028–2030) بنحو 2 مليار دولار، بما يضمن تحقيق استقرار سريع وإرساء مسار مستدام لإعادة البناء وتعزيز الحوكمة في القطاع. من حيث التمويل، يُتوقّع أن يساهم القطاع الخاص في تغطية نحو 70% من كلفة إعادة الإعمار (أي ما يقارب 4 مليارات دولار) شريطة تنفيذ إصلاحات تعيد تنشيط القطاع المصرفي وتسهّل الإقراض. بينما يقع على عاتق القطاع العام تغطية النسبة المتبقية، أي حوالي 30% (2 مليار دولار بالإضافة إلى 60 مليون دولار مخصّصة للترتيبات المؤسسية والدعم السكني المؤقت)، وذلك لضمان حماية الفئات الأكثر هشاشة.
الجدول رقم 1: الأضرار والخسائر والاحتياجات في قطاع الإسكان بحسب البنك الدولي

لم تُصدر الإسكوا UNDP/رقمًا ماليًا للأضرار في الإسكان، لكنها قدّمت إحصاءات تفصيلية تعزّز أرقام البنك الدولي. ذكر تقريرها أن حوالي 59,600 وحدة سكنية تضررت بالحرب، خرج 29% منها عن الخدمة (غير صالحة للسكن). وتركّز الدمار السكني خصوصًا في قرى محافظتي الجنوب والنبطية التي شهدت أعنف القصف البري والجوي، بما في ذلك تدمير بلدات بأكملها. فبعض القرى الحدودية الصغيرة سجلّت نسب دمار هائلة – على سبيل المثال فقدت قرية يارين 90% من مبانيها خلال المعارك. كما أدت الاعتداءات الإسرائيلية إلى توليد كمّيات ضخمة من الركام والأنقاض قُدّرت بحوالي2.7 مليون طن من الردم يجب إزالتها، الأمر الذي يشكّل تحديًا لوجستيًا وبيئيًا أمام جهود إعادة الإعمار. تساعد هذه المعطيات في فهم سبب ضخامة تقدير البنك الدولي لكلفة إعادة بناء المساكن وحدها بحوالي 6.3 مليار دولار ضمن احتياجات التعافي (تشمل إعادة الإعمار بـ”معايير أفضل”) – وهو رقم يتجاوز حتى قيمة الأضرار المباشرة نفسها، نظرًا لاعتماد معايير بناء حديثة أكثر كلفة ولحاجة إعادة إسكان النازحين في ظروف لائقة.
بينما كشفت دراسة UN‑Habitat/USJ/UOB عبر صور الأقمار الصناعية عن حجم هائل من الدمار العمراني في محافظتي الجنوب والنبطية. فقد قُدّر عدد المباني المدمّرة كلّيًا أو جزئيًا بحوالي 15,633 مبنى ضمن سبعة أقضية في المحافظتين، ما يعادل نحو 6.6% من مجموع المباني قبل الحرب في تلك المناطق. وتركّز الدمار الأكبر في قرى وبلدات أقضية الحدود؛ إذ سجّل قضاء مرجعيون أعلى حصيلة بنحو 6,535 مبنى مدمّر، يليه قضاء بنت جبيل بحوالي 4,652 مبنى. وفي قضاء صور الساحلي بلغ العدد 3,498 مبنى، بينما كانت الأضرار العمرانية أقل نسبيًا في أقضية أكثر بعدًا عن الحدود مثل النبطية (715 مبنى) وجزين (24 مبنى) حتى 5 تشرين الثاني 2024 فقط. بالإضافة إلى المباني، يقدّر التقرير أن عدد الوحدات السكنية المتضررة (شقق أو منازل ضمن تلك المباني) يُقارب 43 ألف وحدة في المحافظتين. وقد نتج عن هذا الدمار العمراني كمّية هائلة من الركام قُدّرت بحوالي 8 مليون طن من الأنقاض في جنوب لبنان. ويشير التقرير إلى أن الحجم الأكبر من الركام تركّز في القرى الحدودية ضمن محافظة النبطية (حوالي 5.7 مليون طن) مقابل نحو 2.3 مليون طن في محافظة الجنوب. فعلى سبيل المثال، خلّف الدمار في قضاء مرجعيون وحده نحو 2.77 مليون طن من الأنقاض، وفي بنت جبيل نحو 2.30 مليون طن.
من الجانب الآخر، يقدّم تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية CNRS-L صورة مكملة لطبيعة هذا الدمار العمراني وأبعاده. يوثق التقرير ما وصفه بـسياسة التدمير الممنهج للقرى (Urbicide)، حيث تعمّد جيش العدو الإسرائيلي تسوية بلدات حدودية بأكملها بالأرض عبر قصف مكثف وتفجير منازل متعددة بالتزامن. تم إحصاء الأضرار في كل بلدة وحيّ، لكن لم تُعط قيم نقدية. مع ذلك، فإن مساهمة المجلس الوطني للبحوث العلمية – عبر الصور الجوية والرصد الآني للقصف – كانت أساسية في تحديد نطاق الدمار السكني مكانيًا، واستخدمت هذه البيانات في تعزيز دقة التقييمات الدولية اللاحقة. ويشير التقرير إلى اتباع العدو استراتيجية الأرض المحروقة في قرى الجنوب، ما أدى إلى محو أحياء سكنية بكاملها ومحو النسيج الاجتماعي في تلك المناطق. ويؤكد أن محافظتي النبطية والجنوب تحمّلتا العبء الأكبر من الاعتداءات، حيث نالهما أعلى عدد من الهجمات والتدمير واسع النطاق مقارنة ببقية المناطق اللبنانية.
لقد تكبّد قطاع الإسكان الخسارة الأكبر بين القطاعات. وقد أدى ذلك إلى موجة نزوح داخلية هائلة، حيث بلغ عدد النازحين من الجنوب والضاحية والبقاع ذروته بأكثر من مليون شخص أواخر عام 2024. وعلى الرغم من عودة كثيرين بعد وقف إطلاق النار، بقيت قرى حدودية كاملة شبه خالية لاستمرار العدوان الاسرائيلي عليها وسوء الأوضاع الأمنية وخروقات اتفاق وقف إطلاق النار بشكل همجي يطال المدنيين والأطفال، بالإضافة الى تدمير المسكن والبنى التحتية الأساسية فيها. وبالتالي فإن إعادة إعمار هذا القطاع تشكّل أولوية قصوى للتعافي نظرًا لارتباطها المباشر بعودة الحياة الطبيعية للسكان واستئناف الأنشطة الاقتصادية المحلية.
2. القطاعات الإنتاجية: الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة
• القطاع الزراعي:
تقرير الفاو FAO (منظمة الأغذية والزراعة) 2025 بالتعاون مع وزارة الزراعة: قدّم هذا التقرير أشمل تقييم كمّي تفصيلي للقطاع الزراعي تحت عنوان ""تقييم أضرار وخسائر الزراعة نتيجة الحرب – الفترة تشرين الأول 2023 إلى تشرين الثاني 2024". جاءت الخسائر الزراعية فادحة بشقيّها النباتي والحيواني، حيث بلغت الأضرار المباشرة في الأصول الزراعية حوالي 118 مليون دولار (كلفة إعادة تأهيل الأراضي والمنشآت والمعدات المتضررة)، بينما قُدّرت الخسائر غير المباشرة بحوالي 586 ملايين دولار (محاصيل فائتة وإنتاج حيواني مفقود وخسائر سلاسل القيمة). بهذا تصل الكلفة الإجمالية لتداعيات الحرب على الزراعة إلى قرابة 704 ملايين دولار. ويُبرز التقرير أن محاصيل الأشجار المثمرة كانت الأكثر تكبّدًا للخسائر (حوالي 582 مليون دولار ما بين أضرار وخسائر). فقد أتت الحرائق والقصف على مساحات شاسعة من بساتين الزيتون والحمضيات والموز تحديدًا في محافظتي الجنوب والنبطية – حيث تم تدمير نحو2,154 هكتارًا من البساتين منها 814 هـكتاراً من الزيتون و637 هـكتاراً من الحمضيات و461 هـكتاراً من الموز – مما أدى إلى خسارة موسم كامل من إنتاج الزيتون يُقدّر بـ236 مليون دولار وخسائر في إنتاج الحمضيات بـ97 مليون دولار. كما تعرّض التبغ (وهو محصول سنوي مهم في الجنوب) لأضرار جسيمة قدّرت بنحو 46 مليون دولار كخسارة إنتاجية.
أما في الثروة الحيوانية، فقد أفاد تقرير الفاو بخسارة حوالي 2.3 مليون رأس من مختلف الأنواع خلال فترة الحرب، معظمها من الدواجن (قرابة 2.2 مليون طير) إضافة إلى نفوق 55,657 من الأغنام والماعز، و3,064 من الأبقار، وتضرر 49,850 خلية نحل. أدى ذلك إلى انخفاض حاد في إنتاج الحليب (خسارة بقيمة 25 مليون دولار) والعسل (12 مليون دولار) وسائر المنتجات الحيوانية. كما دُمّرت مزارع ومرافق تربية، وقُدّرت قيمة الأضرار في البُنى التحتية الحيوانية بحوالي 19 مليون دولار. في القطاع الحرجي، تسبب إحراق4,946 هكتارًا من الأحراج (غالبيتها من غابات الصنوبر والسنديان) بأضرار قيمتها 20 مليون دولار، فضلًا عن خسائر مستقبلية في إنتاج حبوب الصنوبر (3 ملايين) وحطب الوقود (3 ملايين). وفي قطاعي صيد الأسماك وتربية الأحياء المائية، كانت الأضرار محدودة نسبيًا (حوالي 1.3 مليون دولار) لكن تعطيل نشاط الصيد في عدة مرافئ جنوبية لمدة أشهر أدى إلى خسارة نحو 390 طنًا من الأسماك (14–16% من مجمل الإنتاج السنوي للبنان)، قُدّرت قيمتها بعدة ملايين من الدولارات أيضًا.
الجدول رقم 2: الأضرار والخسائر بحسب القطاع الفرعي في قطاع الزراعة

المصدر: FAO. 2024. DIEM-Impact. In: Data in Emergencies (DIEM) Hub. Rome. [Cited 28 March 2025]. https://data-in-emergencies.fao.org/pages/impact
من حيث التوزع الجغرافي للخسائر الزراعية، تكشف بيانات الفاو أن العبء الأكبر وقع على محافظتي النبطية والجنوب اللتين سجّلتا معًا حوالي 658 مليون دولار من الأضرار والخسائر (335 مليون في النبطية، 323 مليون في الجنوب)، أي أكثر من 93% من إجمالي الخسائر الزراعية على مستوى البلاد. وتأثرت منطقة مرجعيون وحدها بنحو 296 مليون دولار (كونها منطقة زراعية واسعة شهدت أعنف المعارك). وقد أشار تقرير الإسكوا/UNDP أيضًا إلى أن الزراعة في جنوب لبنان تكبّدت خسائر ثقيلة؛ فإضافة لحرق الغابات، بلغ ما فُقد من الأراضي المزروعة نحو 12 ألف هكتار تركها المزارعون بسبب المعارك في النبطية والجنوب. ووفق الإسكوا، انخفضت المحاصيل بنسبة 62% إلى 84% في أبرز أقضية الجنوب خلال موسم 2024 مقارنة بالسنوات العادية – وهي أرقام تتوافق مع تقديرات الفاو للخسائر الإنتاجية الهائلة في تلك المناطق.
تضمّن التقييم السريع للبنك الدولي 2024 أرقامًا أولية للزراعة مبنية على البيانات المتاحة حتى أواخر أيلول 2024. جاء فيه تقدير الأضرار بقيمة 124 مليون دولار في الزراعة، والخسائر بنحو 1.1 مليار دولار. هذه الأرقام تبدو أعلى بكثير من تقديرات الفاو اللاحقة، ربما لأن البنك الدولي احتسب ضمن خسائر الزراعة تأثير انقطاع الإنتاج الزراعي والغذائي على مدار سنة كاملة في عموم البلد (بما في ذلك ارتفاع تكاليف الاستيراد الغذائي والفاقد في سلسلة القيمة الغذائية). وقد أشار التقرير إلى أن تدمير المحاصيل ونفوق الماشية ونزوح المزارعين كان له الأثر الأكبر، إذ قُدّرت خسائر الموسم الزراعي بما يتجاوز مليار دولار. ولاحظ البنك أن هذا الضرر الكبير في الزراعة يوازي تقريبًا ما مُني به قطاع السياحة من خسائر، حيث شكّلا معًا جزءًا هامًا من إجمالي الخسائر (كما سنرى في قطاع السياحة أدناه). يجدر التنويه أن تقييم البنك الدولي هذا كان قبل انتهاء الحرب، لذا كان يعتبر هذه الأرقام مرشحة للارتفاع مع استمرار العدوان. ولكن، حين صدر تقرير البنك الدولي النهائي (RDNA 2025) تم تحديث أرقام الزراعة إلى أضرار بقيمة 79 مليون دولار وخسائر بقيمة 742 مليون دولار (ربما باعتماد بيانات أكثر واقعية وتقليص فترة احتساب الخسائر الزراعية إلى ما قبل موسم الحصاد التالي).
يمكن القول إن القطاع الزراعي اللبناني تلقى ضربة قاصمة من الحرب، ليس فقط من حيث تدمير الموجودات (أراضٍ وبساتين ومزارع ومعدات) بل أيضًا من زاوية ضياع المواسم وتراجع الأمن الغذائي. وقدّر تقرير الفاو احتياجات إنعاش القطاع الزراعي بحوالي 263 مليون دولار (على مدى 5 سنوات) تشمل دعم المزارعين بالبذور والشتول والمواشي، وإعادة تأهيل نُظم الري واستصلاح الأراضي، وتعويض المربين والصيادين عما خسروه. ومن الواضح أن هذه الأرقام تعكس حجم الأزمة المعيشية التي يواجهها عشرات آلاف المزارعين نتيجة الحرب، في بلد ارتفعت فيه معدلات انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات حرجة أواخر عام 2024.
• قطاع التجارة والصناعة والسياحة:
تتناول هذه القطاعات مجتمعة الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية (باستثناء الزراعة). وقد اختار البنك الدولي جمعها في تصنيف واحد (Commerce, Industry & Tourism) نظرًا لتداخل آثار الحرب عليها، حيث تشمل الخسائر انقطاع سلاسل التوريد، وتوقف الأعمال، وتراجع السياحة. أظهرت نتائج التقييم السريع أن هذا القطاع المركّب سجّل أعلى قيمة خسائر اقتصادية بين جميع القطاعات، إذ قُدّرت الخسائر غير المباشرة فيه بحوالي 3.41 مليار دولار خلال فترة العدوان وما تلاها، أي ما يمثل نحو 48% من إجمالي الخسائر الاقتصادية الوطنية الناتجة عن الحرب. يعود ذلك إلى الشلل الذي أصاب الحركة التجارية والسياحية الداخلية الوافدة جرّاء المخاطر الأمنية، بالإضافة إلى تعثر القطاعات الإنتاجية (الصناعة والحرف) بسبب الأضرار المادية ونزوح العمالة وانقطاع الكهرباء والوقود. في المقابل، قدّر البنك الدولي الأضرار المادية المباشرة في أصول هذا القطاع (محالّ ومتاجر ومصانع وفنادق) بحوالي 612 مليون دولار. هذا الرقم، رغم ضخامته، يقل كثيرًا عن خسائر توقف النشاط الاقتصادي ذاتها، مما يعكس أن الضربة الكبرى تمثلت في تعطل الدورة الاقتصادية أكثر من تدمير الموجودات. فعلى سبيل المثال، انهار قطاع السياحة الوافدة تمامًا في أواخر عام 2023 وبقية عام 2024، حيث قُدّر أن مساهمة السياحة بالاقتصاد انخفضت إلى 5.5% فقط عام 2024 (رسم بياني رقم 2) بعد أن كانت أحد مصادر النمو القليلة عقب جائحة كورونا. كما أن أشهر التسوق والأعياد 2023-2024 مرت بلا حركة تجارية تُذكر، فضلاً عن تقلّص الطلب المحلي نتيجة نزوح السكان من مناطق بأكملها وانخفاض دخلهم.
رسم بياني رقم 2: مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي (نسبة مئوية)

المصدر: Byblos Bank, Lebanon this week – issue 820, 27 May-1 June 2024
أورد تقرير الإسكوا UNDP/ معطيات تدعم هذه التقديرات. فقد ذكر أن أكثر من 55% من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وهي عماد الاقتصاد اللبناني تكبّدت أضرارًا مادية (رسم بياني رقم 3) في مقرّاتها خلال الحرب (ومنها 50% من المصانع). وأفادت الاستطلاعات (رسم بياني رقم 4 ) بأن 15% من تلك المؤسسات أقفلت أبوابها نهائيًا وفقدت كافة موظفيها، بينما علّقت 75% منها أعمالها مؤقتًا أثناء الحرب. وحتى بعد وقف إطلاق النار، بقي 24% من الأعمال في المناطق الأكثر تضررًا مغلقة كلّيًا و20% تعمل بجزء من طاقتها. هذه الخسائر التشغيلية الضخمة تفسّر القيمة المرتفعة التي قدّرها البنك الدولي لخسائر قطاع التجارة والصناعة. أضف إلى ذلك ما أشار إليه تقرير الإسكوا من هجرة أعداد كبيرة من الكفاءات واليد العاملة خلال الحرب، حيث أفادت 29% من المؤسسات أن كامل كوادرها تركت العمل أو باتت غير متوافرة – ما يعني خسارة رأس المال البشري وما يرافقه من إنتاجية. كما تقلّصت ثقة المستهلك والمستثمر لمستويات دنيا، وتراجع الاستثمار الخاص بشكل حاد. لذلك، يحتاج إنعاش هذا القطاع إلى ضخ سيولة وإجراءات حكومية سريعة؛ إذ بيّن مسح UNDP أن 80% من الأعمال تطالب بتيسير الحصول على التمويل كأولوية للتعافي.
رسم بياني رقم 3: الحالة التشغيلية للمؤسسة أثناء الحرب وبعد وقف إطلاق النار في المناطق المتضررة وغير المتضررة من الحرب (بالنسبة المئوية)

المصدر: ILO survey on the impact of the war on private sector businesses in Lebanon
رسم بياني رقم 4: حالة تشغيل المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة (بالنسبة المئوية)

المصدر: UNDP MSMEs survey March 2025
لم تصدر تقييمات منفصلة للسياحة أو للصناعة من الجهات الأخرى خلال الحرب، ربما لأن النشاط كان شبه متوقف. لكن خسارة الموسم السياحي عام 2024 بالكامل بدت واضحة من تدني إشغال الفنادق وإلغاء رحلات الطيران (رسم بياني رقم 5) – بل وصل الأمر إلى استهداف محيط مطار بيروت بالقصف مما علّق حركة الطيران تمامًا لفترة. هذا الأمر أضاف أعباء على الاقتصاد المثقل أساسًا بالأزمة المالية. ويمكن القول إن الحرب بدّدت ما تبقّى من حيوية في القطاعات الإنتاجية لعام 2024، لتضيف نحو 5.7% انكماش إضافي في الناتج المحلي بحسب تقديرات البنك الدولي – وهو انكماش فوق الانهيار الاقتصادي المستمر منذ 2019.
رسم بياني رقم 5: نشاط المسافرين عبر مطار بيروت الدولي خلال شهري أيلول وتشرين الأول 2024

المصدر: BLOMinvest, 4 December 2024
3. القطاعات الاجتماعية: الصحة والتعليم
• قطاع الصحة:
تعرّض النظام الصحي اللبناني لضغوط هائلة خلال الحرب. قدّر البنك الدولي قيمة الأضرار التي لحقت بمرافق الصحة (كمستشفيات ومستوصفات ومراكز رعاية) بحوالي 208 مليون دولار، إضافة إلى خسائر اقتصادية في هذا القطاع (انخفاض خدمات الرعاية الصحية وخسارة الإيرادات الصحية) بقيمة 700 مليون دولار. وشملت الأضرار المباشرة تدمير أو تعطيل عدد من المستشفيات الرئيسية في الجنوب والبقاع والضاحية بسبب القصف (رسم بياني رقم 6)، حيث أشار تقرير CNRS إلى استهداف مباشر لعدة مستشفيات ومراكز إسعاف جعلها خارج الخدمة. كما تعرّضت سيارات إسعاف وطواقم طبية للقصف ما أسفر عن سقوط ضحايا في صفوف المسعفين، مما أعاق عمليات الإغاثة. إلى جانب ذلك، سببت الحرب نقصًا حادًا في الأدوية والإمدادات الطبية نتيجة تعطل سلاسل التوريد وإغلاق الموانئ والمطار لفترات، وفاقم ذلك أزمة الدواء المستمرة منذ 2020. وأشار تقرير الإسكوا UNDP/إلى معاناة المرافق الصحية في المناطق المستهدفة من انقطاع الكهرباء والمياه مما أعاق عملها، بالإضافة إلى صعوبة وصول المرضى المزمنين إلى العلاج. كما أن إصابة أو نزوح الكادر الطبي في الجنوب ترك بعض المستشفيات بلا كوادر كافية، واضطرت حالات عديدة للنزوح إلى بيروت لتلقي العلاج.
رسم بياني رقم 6: توزيع الاعتداءات التي أثرت على القطاع الصحي بحسب النوع

المصدر: Situation Report NO. 51, 6 December 2024
على صعيد الصحة العامة، حذّرت منظمة الصحة العالمية (وفق ما نقلته تقارير الأمم المتحدة) من ارتفاع مخاطر الأوبئة في مناطق النزوح الجماعي إذا ما طال أمد افتقارها لمقومات النظافة والصرف الصحي. ووثق تقرير CNRS تفاقم تحدّيات مثل تلوّث المياه (بفعل استهداف منشآت مياه مثل قناة مشروع القاسمية للري) وانتشار المخلفات الحربية الخطرة (كالذخائر العنقودية والفوسفورية) التي تهدد السلامة الصحية للسكان والبيئة. كل ذلك انعكس في ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية الطارئة – ما يبرر القيمة الكبيرة التي قدّرها البنك الدولي لخسائر القطاع الصحي (700 مليون دولار تشمل تكاليف العلاج الإضافية وانخفاض الإيرادات من الخدمات الاعتيادية). يُضاف إلى ذلك الآثار النفسية الجسيمة للحرب؛ فآلاف الجرحى والمعاقين جسديًا، ومئات آلاف المتضررين نفسيًا (خاصة الأطفال الذين عايشوا القصف والنزوح) يحتاجون لدعم وإعادة تأهيل على المدى الطويل. وقد نبّهت الإسكوا إلى أن الصحة النفسية ومشاكل الصدمة باتت "جزءًا أساسيًا من عملية التعافي" في لبنان ما بعد الحرب.
• قطاع التعليم:
عانى التعليم في لبنان شللًا شبه تام خلال فترة الحرب في المناطق الجنوبية والبقاعية المتاخمة لمسرح العمليات. أفاد تقرير الإسكوا أنه مع بداية تشرين الأول 2024 تم تحويل 769 مؤسسة تربوية إلى مراكز إيواء للنازحين (بينها 523 مدرسة رسمية و84 معهداً مهنياً وعدة فروع للجامعة اللبنانية). وإلى نهاية الحرب، توقف نحو 500 ألف طالب عن التعليم نتيجة النزوح وإغلاق المدارس. وذكر التقرير أن قرابة 400 مدرسة تضررت أو تعذّر فتحها بسبب القصف، وظلّ حتى نهاية عام 2024 حوالي 64 مبنى مدرسياً مستخدمًا كمأوى للمهجّرين (19 منها مدارس فعلية لم تعد للتدريس). قدّر البنك الدولي قيمة الأضرار المادية التي لحقت بالمدارس والبنى التعليمية بنحو 151 مليون دولار، فيما قُدّرت الخسائر التعليمية (تكلفة الانقطاع التعليمي وخسارة التحصيل وتراجع الإنفاق على التعليم) بحوالي 414 مليون دولار. وهذه الخسائر لا تأخذ بالاعتبار إصلاح وترميم المدارس المتضررة فقط، بل أيضًا الآثار الطويلة المدى على رأس المال البشري من جرّاء الانقطاع الدراسي، إذ قدّر التقرير الاجتماعي للأمم المتحدة أن مؤشر التنمية البشرية للبنان تراجع 14 سنة للوراء بسبب تراكم الأزمات، ومنها ضياع عام دراسي كامل تقريبًا على عشرات آلاف الطلاب جراء الحرب.
إلى جانب المدارس، تضررت أيضًا بعض المرافق الجامعية (خاصة فروع الجامعة اللبنانية في حاصبيا وبنت جبيل التي علّقت الدراسة وتحوّلت لملاجئ مؤقتة). كما خسر قطاع التعليم أساتذة وموظفين: يذكر تقرير الإسكوا أن حوالي18,800 معلّم من المدارس الرسمية نزحوا من مناطقهم المتضررة،
ما أدى إلى نقص في الكادر التعليمي ببعض المناطق وتوزع غير متكافئ في أخرى. وقد تطلّب ذلك جهودًا لنقل وتوزيع المعلمين والطلاب على مدارس أقل اكتظاظًا في بيروت وجبل لبنان، مما شكل عبئًا إداريًا وماليًا إضافيًا. ويمكن تلمّس كلفة ذلك في تقديرات البنك الدولي الذي وضع جانبًا حوالي 554 مليون دولار ضمن احتياجات قطاع التعليم للتعافي – وهو رقم يشمل إعادة إعمار وتأهيل المؤسسات التعليمية المتضررة، وإطلاق برامج لتعويض الفاقد التعليمي للطلاب المتأثرين، ودعم المدرسين.
باختصار، تكبّد قطاعا الصحة والتعليم معًا خسائر فادحة تتجاوز 1.1 مليار دولار وفق التقديرات الدولية، عدا عن الخسائر غير القابلة للقياس المادي كفقدان الحياة وتأخر التنمية البشرية. وإعادة هذين القطاعين إلى وضعهما قبل الحرب لا تتطلّب أموالاً فقط لإصلاح المباني، بل تقتضي جهدًا اجتماعيًا واستثماريًا كبيرًا لاستعادة الثقة وضمان استمرارية الخدمة رغم أي ظروف طارئة مستقبلية.
4. البنية التحتية والخدمات العامة: الطاقة والمياه والنقل والخدمات البلدية
• قطاع الطاقة (كهرباء ومحروقات):
كان قطاع الكهرباء في الأصل منهارًا قبل الحرب، وقد ازداد وضعه سوءًا بعد الحرب. إذ قدّر البنك الدولي قيمة الأضرار المادية في البنية التحتية للطاقة (محطات تحويل، شبكات توزيع، خطوط توتر عالٍ وغيرها) بنحو 98 مليون دولار. كما قُدّرت الخسائر (الكلفة التشغيلية الإضافية، وانخفاض تحصيل تعرفة الكهرباء، وانقطاع الخدمة) بحوالي 209 ملايين دولار. هذه الأرقام تشمل مثلاً تكلفة إصلاح ما دمّره القصف من شبكات كهرباء في قرى الجنوب والبقاع التي شهدت معارك برية – وقد ذكر تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية استهداف العدو عمداً أعمدة وخطوط التوتر لعزل بعض المناطق – وكذلك الخسارة المالية لمؤسسة كهرباء لبنان نتيجة زيادة انقطاع التيار وفقدان الإيرادات خلال الحرب. من جهتها، أعلنت وزارة الطاقة بعد أسابيع من الحرب أن الخسائر الأولية في قطاعي الكهرباء والمياه معًا تقارب 400 مليون دولار، ما يتسق تقريبًا مع مجموع خسائر الطاقة والمياه التي قدّرها البنك الدولي (209 + 171 ≈ 380 مليون). كان من أبرز الأضرار في قطاع الكهرباء تدمير خزانات الوقود والمحوّلات في محيط بعض محطات التوليد جنوبًا، إضافة إلى تضرر خطوط التغذية الرئيسية القادمة من معمل الزهراني نتيجة الغارات. كما تعطل جزء كبير من مزارع الطاقة الشمسية المنزلية التي لجأ إليها المواطنون خلال الأزمة (أفاد تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية أيضاً عن تدمير منظومات الطاقة الشمسية في عدة بلدات ضمن حملة الاستهداف الشامل للمنازل أسفر ذلك عن انقطاع كهرباء تام في مناطق شاسعة طيلة أسابيع الحرب، والاعتماد الكلّي على المولّدات الخاصة (التي عانت بدورها من نقص الوقود). من هنا، سيحتاج قطاع الطاقة إلى استثمارات ضخمة ليستعيد عافيته فوق الأزمة الأصلية – وقد لخّص البنك الدولي ذلك بوضع 147 مليون دولار كاحتياجات فورية لإصلاح قطاع الطاقة، هذا علاوة على خطط إصلاحه الهيكلية الطويلة الأجل.
• قطاع المياه والصرف الصحي:
تعرّضت منشآت المياه والشبكات لأضرار مباشرة نتيجة الاستهداف أو بسبب انقطاع الكهرباء والنزوح. قدّر البنك الدولي الأضرار في البنية التحتية للمياه والصرف (محطات ضخ ومعالجة، شبكات، قنوات ري) بحوالي 356 مليون دولار – وهو رقم كبير يعكس تضرر بعض المشاريع المائية الحيوية. على سبيل المثال، قصف سلاح الجو الإسرائيلي القناة الرئيسية لمشروع ري القاسمية على نهر الليطاني في منطقة القاسمية والزهراني، ما أدى إلى تعطيلها وتسبب بحرمان 6,000 هكتار من الأراضي الزراعية من مياه الري. وقد سارع المعنيون إلى تنفيذ إصلاحات مؤقتة لإعادة تدفق المياه جزئيًا، لكن الضرر البنيوي تطلّب خطة إعادة إعمار أكبر. كما استُهدفت خزانات مياه بلدية وآبار في قرى الجنوب تحدث تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية عن أكثر من 30 مرفقًا مائيًا متضررًا مما قطع مياه الشفة عن مئات الآلاف. إلى ذلك، أثّر تكدّس النفايات وبقايا الركام على شبكات الصرف الصحي وتصريف المياه، خصوصًا خلال أمطار الشتاء التي أعقبت الحرب، فارتفع خطر السيول وتلوّث المياه الجوفية. من ناحية الخسائر، قدّر البنك الدولي الخسائر غير المباشرة في خدمات المياه بنحو 171 مليون دولار (تشمل كلفة تأمين مياه بديلة للنازحين بواسطة الصهاريج، وانخفاض إيرادات الجباية، وكلفة معالجة الطوارئ). هذه التقديرات، كما أسلفنا، منسجمة مع تصريحات وزارة الطاقة والمياه عن رقم يقارب 400 مليون دولار للطاقة والمياه معًا. ومن أجل التعافي، قدّر البنك الدولي حاجة قطاع المياه لحوالي 508 ملايين دولار (ضمن 2025–2030) لإعادة تأهيل الشبكات والمنشآت وتحسين خدمات التوزيع – رقم كبير لكنه ضروري بالنظر لأهمية الماء في عودة السكان لمناطقهم.
• قطاع النقل (الطرق والمعابر):
استخدم العدو الإسرائيليي خلال الحرب تكتيك عزل المناطق عبر قصف الجسور والطرق الرئيسية، إلى جانب استهداف بعض المعابر الحدودية. سجّل تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية تضرر أو قطع عدد من الطرق الحيوية الرابطة بين القرى والمدن الجنوبية (مثل طريق إبل السقي – كوكبا، وطريق كفرحمام – شبعا، وطريق مشغرة – عين التينة وغيرها) بهدف شل الحركة وعزل القرى. كما تم قصف جسور أساسية منها جسر يربط كفرتون بعكار شمالًا، وفي الساعات الأخيرة قبل الهدنة استُهدف جسر معبر العريضة الحدودي مع سوريا وجسر العبّودية ومعبر القبيات. إضافة لذلك، تكرر استهداف معبر المصنع الحدودي (3 مرات) ومعابر غير شرعية في البقاع والشمال. هذه الاستهدافات أدت إلى شلل شبه تام في حركة النقل البري بين لبنان وسوريا خلال فترة القتال، وتعطيل سلسلة الإمداد للوقود والمواد الغذائية القادمة برًا. قدّر البنك الدولي أضرار البنية التحتية للنقل (طرقات، جسور، مرافق) بحوالي 198 مليون دولار. كما قدّر الخسائر في قطاع النقل بنحو 173 مليون دولار، وهي تمثل بشكل أساسي الكلفة الاقتصادية لشل حركة النقل والتجارة (مثل تلف بضائع لعدم إمكان نقلها، وخسائر قطاع النقل البري والشحن). لم تصدر تقديرات موازية من الحكومة في هذا الشأن أثناء الحرب، لكن من الجدير بالذكر أن البنك الدولي كان قد ساهم في إعادة إعمار الجسور بعد حرب 2006، ومن المرجّح اعتماده على خبرات مماثلة لتقدير كلفة الأضرار هذه المرة. تحتاج شبكة النقل اللبنانية إلى 302 مليون دولار على الأقل لإعادتها إلى ما كانت عليه وفق التقييم الدولي، وهذا يشمل بناء الجسور المهدمة وتحسين بعض الطرق التي استُخدمت بكثافة خلال النزوح وأصبحت بحالة سيئة.
• الخدمات البلدية والعامة:
يشير هذا التصنيف إلى ممتلكات وخدمات تديرها البلديات أو الإدارات المحلية (كالأسواق الشعبية، المباني البلدية، مراكز الخدمات، جمع النفايات، الإنارة العامة وغيرها). لم يكن التركيز عليها كبيرًا في التقارير، ربما لتشعّبها. ومع ذلك، قدّر البنك الدولي أضرارًا بحوالي 41 مليون دولار لحقت بمرافق وخدمات بلدية في بعض الأقضية التي تمكّن من مسحها. وشملت الخسائر غير المباشرة في هذا القطاع نحو 192 مليون دولار بسبب توقف الجباية وتعطل الخدمات الأساسية للسكان واضطرار البلديات لتخصيص مواردها المحدودة من أجل الاستجابة للطوارئ بدلاً من تأمين الخدمات الاعتيادية. فعلى سبيل المثال، استنفدت بلديات الجنوب والنبطية صناديقها في إغاثة النازحين وإزالة الأنقاض خلال الحرب وبعدها مباشرة، ما يعني أنها فقدت إيرادات رسوم الخدمات والنفايات وغيرها طوال تلك المدة، وستحتاج إلى دعم مالي لإعادة تشغيل المرافق العامة (كالحدائق والأسواق والمسلخ البلدي...) بعد الحرب. وقد خصص التقييم الدولي 76 مليون دولار كاحتياجات لإعادة إطلاق الخدمات البلدية وتحسين قدرات السلطات المحلية في مجالات الإدارة والأمن المجتمعي. هذا الجانب يغفله أحيانًا تقييم الأضرار المادية المباشرة، لكن ظهوره في الأرقام يؤكد أن كلفة الحرب شملت كل مفاصل الحياة اليومية وصولًا إلى الخدمات المحلية الأساسية.
5. قطاع البيئة وإدارة الأنقاض
شكّلت الأضرار البيئية إحدى النتائج الخطيرة للحرب التي قد لا تظهر قيمتها الاقتصادية الفعلية إلا على المدى الطويل. قدّر البنك الدولي الخسائر البيئية المباشرة (كلفة تدهور الأنظمة البيئية والتلوّث وإدارة المخلفات الخطرة) بحوالي 512 مليون دولار، إضافة إلى خسائر بيئية غير مباشرة بنحو 790 مليون دولار، لتكون بذلك ثاني أعلى فئة خسائر غير مباشرة (11% من الإجمالي) بعد التجارة والصناعة. هذه التقديرات شملت: خسارة مساحات خضراء وغابات بقيمة بيئية عالية (باعتبار قيمة خدمات النظم الإيكولوجية المفقودة مثل حماية التربة وتنقية الهواء وخزن الكربون)؛ تلوّث التربة والمياه بمواد خطرة جراء استخدام أسلحة محظورة (ذكر تقرير مركز البحوث استخدام الفوسفور الأبيض بكثافة مما أحرق مساحات واسعة وخلّف تلوثًا، إضافة إلى شبهات حول استعمال اليورانيوم المنضب في بعض الذخائر)؛ التلوّث البحري الناتج عن تسرّب الوقود والزيوت من المنشآت المقصوفة قرب الساحل (كمحطة الكهرباء في صور مثلًا)؛ التلوث الهوائي بسبب الحرائق الضخمة في الأحراج وخزانات الوقود؛ وأخيرًا كلفة إزالة الملايين من أطنان الركام والأنقاض ومعالجتها. كل هذه العناصر مجتمعة تندرج في حساب الأضرار البيئية.
وثّق تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية ما سُمّي جرائم بيئية متعمدة (إبادة بيئية) ارتكبها العدو الإسرائيلي، إذ أحرق أكثر من 2,000 هكتار من الغابات عمداً بقذائف الفوسفور وغيرها لجعل المناطق غير مأهولة. وقد أدى ذلك إلى تدمير النظام البيئي والبنية الحيوية في الجنوب إلى حدّ خطير، ومحا مواطن فريدة للحياة البرية – وصف التقرير الأمر بأنه محاولة لتحويل جنوب لبنان إلى “محميّة حرب” قاحلة. كما أشار إلى تدمير 1,917 هكتار من الغابات و275 هكتاراً من الأراضي الزراعية خلال الحرب، وهذه الأرقام اعتمدتها أيضًا الإسكوا في تحليلها. بالإضافة إلى ذلك، تسبّب القصف في نشوب حرائق كبيرة في مكبّات النفايات ومعامل الفرز (مثل معمل النفايات في النبطية)، ما نشر سمومًا في الهواء والمياه المحيطة. كذلك، طالت القذائف شواطئ الجنوب (صور، الزهراني) وتسببت في نفوق أحياء بحرية وتلوّث أجزاء من الساحل. هذه الخسائر البيئية غير المسبوقة انعكست في تقدير البنك الدولي لقيمة الأثر البيئي الاقتصادي بحوالي 1.3 مليار دولار (ضرر + خسارة) – وهو رقم، وإن بدا افتراضيًا، يسلّط الضوء على أن كلفة الحرب ليست فقط آنية بل تمتد لسنوات في إصلاح البيئة المتضررة وإعادة التوازن الإيكولوجي.
في جانب الركام والأنقاض، وهو جزء من ملف البيئة أيضًا، قُدّر بحسب دراسات UN-Habitat حجم الردميات المتولدة عن تدمير المباني والبنى التحتية بما يراوح بين 2 إلى 4 ملايين طن. وهذا يعني الحاجة إلى خطة شاملة لرفع الأنقاض ومعالجتها بطريقة بيئية (إعادة تدوير ما يمكن أو طمر صحي لما لا يمكن معالجته). قدّر البنك الدولي جانبًا من هذه الكلفة ضمن بند “إدارة الركام” في قطاع البيئة، فضلًا عن كلفة إزالة التلوّث من التربة والمياه. ومن المتوقع أن يحتاج لبنان إلى دعم دولي في هذا المجال المتخصص، إذ إن قدرات البلد الحالية لإدارة النفايات ضعيفة حتى من قبل هذه الكارثة. وقد بدأت فعليًا برامج بإشراف الـUNDP وUN-Habitat لمسوحات تفصيلية وكميّات الركام في المناطق المختلفة كخطوة أولى نحو وضع خطة وطنية لإدارة الأنقاض.
باختصار، يمثّل قطاع البيئة الضحية الصامتة للحرب – فالأشجار المقتلعة والتربة الملوّثة والهواء السامّ لا صوت لها، لكن كلفة استعادة عافيتها عالية وستُدفع حتمًا من رصيد الاقتصاد وصحة السكان في السنوات القادمة. وإن لم تُعالج الآثار البيئية سريعًا، فقد تتسبب بأضرار مزمنة كخفض إنتاجية الأراضي الزراعية وتفشي الأمراض وتفاقم تغيّر المناخ المحلي.
رسم بياني رقم 7: كميّات الركام الناتجة عن المباني المدمّرة والمتضرّرة بحسب المحافظات

المصدر: Remote assessments by UN-Habitat, UNOSAT, and partner universities, with support from the Shelter Sector Information Management focal point, as well as information received from the Union of Municipalities of Dahieh.
القسم الثالث: احتياجات التعافي
يُظهر تحليل الاحتياجات القطاعية التي أعدّتها الجهات الدولية (البنك الدولي، منظمة الأغذية والزراعة، الإسكوا، وكالات الأمم المتحدة) أن كلفة إعادة الإعمار والتعافي في لبنان بعد حرب 2023–2024 تقدَّر بما يفوق 10.6 مليار دولار أميركي، موزّعة على مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والبنى التحتية.
يمثّل قطاع الإسكان المحور الأكبر في عملية التعافي وإعادة الإعمار، حيث أظهرت تقديرات البنك الدولي أن كلفة التدخلات المطلوبة في هذا القطاع تصل إلى ما يزيد على ستة مليارات دولار أميركي، أي ما يعادل أكثر من نصف إجمالي كلفة التعافي الكلّية. وتشمل هذه التدخلات إعادة تأهيل البنى التحتية وإصلاح الأصول السكنية المتضررة، إلى جانب الفحوص الفنية والدراسات الهندسية الضرورية لتأمين إعادة البناء وفق معايير السلامة والاستدامة. كما يتضمّن هذا القطاع ترتيبات مؤسسية وتنظيمية تهدف إلى تحسين إدارة ملف الإسكان، إضافة إلى برامج الدعم الطارئ للسكن المؤقت التي تُعدّ حلاً عاجلاً للأسر النازحة والمهجّرة. إن ضخامة هذا الرقم تعكس حجم الدمار الهائل الذي لحق بالمباني السكنية، وتجعل من إعادة إعمار المساكن أولوية قصوى لاستعادة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
الجدول رقم 3: احتياجات تعافي قطاع الإسكان بحسب البنك الدولي

أما قطاع الزراعة والأمن الغذائي، فقد قدّرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) بالتعاون مع وزارة الزراعة الاحتياجات فيه بحوالي 165 مليون دولار أميركي. وتوزّعت هذه الاحتياجات على توفير البذور والأعلاف الطارئة، وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية المتضررة، إضافة إلى إعادة غرس الأشجار ودعم الثروة الحيوانية. كما يشمل التدخل دعم سلاسل القيمة الزراعية بما يتيح إعادة تشغيل الإنتاج المحلي وتخفيف الاعتماد على الاستيراد. ويُعتبر تعافي هذا القطاع ركيزة أساسية في ضمان الأمن الغذائي لمئات آلاف الأسر الريفية وتعزيز قدرة المجتمعات المحلية على الصمود.
رسم بياني رقم 8: احتياجات إعادة الإعمار والتعافي في قطاع الزراعة (بملايين الدولارات الأميركية) بحسب منظمة الفاو

المصدر: FAO. 2024. DIEM-Impact. In: Data in Emergencies (DIEM) Hub. Rome. [Cited 28 March 2025]. https://data-in-emergencies.fao.org/pages/impact
في القطاعات الاجتماعية، برزت الصحة والتعليم كأولويات ملحّة. فقد بلغت كلفة إعادة تأهيل القطاع الصحي حوالي 409 ملايين دولار، فقد تضرّر نحو 885 مرفقًا صحيًا، بينها 40 مستشفى بحاجة إلى إعادة بناء كامل. وتشمل التدخلات أيضًا شراء الأدوية واللقاحات وتقديم الحوافز والدعم للكوادر الطبية. وبالمثل، يحتاج قطاع التعليم إلى حوالي 554 مليون دولار لإعادة بناء وتأهيل أكثر من 350 مدرسة تضرّرت أو دُمّرت، إلى جانب برامج دعم استمرار التعليم وتدريب المعلمين. هذان القطاعان يُعدّان استثمارًا مباشرًا في رأس المال البشري وضمانًا لعودة الخدمات الأساسية التي تمسّ حياة المواطنين اليومية.
وتشير التقديرات كذلك إلى أن كلفة إعادة تأهيل البنى التحتية والخدمات العامة تصل إلى نحو مليار دولار، موزعة على إصلاح شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وإعادة تأهيل الطرق المدمّرة التي يتجاوز طولها 930 كيلومترًا، فضلًا عن دعم البلديات في إزالة الركام وإصلاح المرافق العامة. إن إعادة تشغيل هذه الخدمات الأساسية تمثّل شرطًا مسبقًا لعودة السكان إلى مناطقهم وتفعيل الدورة الاقتصادية.
من جهة أخرى، يحتاج الاقتصاد الكلّي، ولا سيما قطاعات التجارة والصناعة والسياحة، إلى حوالي 1.8 مليار دولار. وتتمثل التدخلات في دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، واستعادة الوظائف المفقودة، وتحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، بما يضمن إعادة تشغيل عجلة الاقتصاد الوطني.
ويوازي ذلك الحاجة إلى نحو 444 مليون دولار لمواجهة التحدّيات البيئية وإدارة الردميات التي تقدَّر كمّيتها بين 50 و100 مليون طن. وتشمل هذه الجهود أيضًا إعادة التشجير واستصلاح الغابات والمراعي المتضررة، وتطوير أنظمة إدارة النفايات المستدامة، وهي عناصر ضرورية لحماية البيئة وتسهيل عمليات الإعمار.
في المحصّلة، تكشف هذه التقديرات عن صورة شاملة لاحتياجات لبنان في مرحلة ما بعد الحرب، حيث تتجاوز الكلفة الكلّية عشرة مليارات دولار. إن الاستجابة لهذه الاحتياجات تتطلب خطة وطنية متكاملة توازن بين إعادة البناء المادي للقطاعات الأكثر تضررًا وبين الاستثمار في رأس المال البشري والبيئة، مع تحديد أولويات واضحة وآليات شفّافة للتمويل والتنفيذ.
الجدول رقم 4: احتياجات التعافي الكليّة في مختلف القطاعات الاقتصادية بحسب التقارير الدولية

القسم الرابع: مقارنة بين التقارير
بعد استعراضنا التفصيلي لمحتوى كل تقرير قطاعيًا، ننتقل الآن إلى مقارنة مباشرة للأرقام الواردة في التقارير المختلفة لكل قطاع.
• البنك الدولي (RDNA): قدّم أرقامًا شاملة لكل القطاعات الرئيسية. يظهر أن إجمالي الأضرار المباشرة 6.834 مليار دولار والخسائر 7.164 مليار دولار. أكبر بند أضرار هو الإسكان (4.58 مليار دولار) يليه المياه (356 مليون دولار) فالبيئة (512 مليون دولار) والنقل (198 مليون دولار). أما الخسائر فأعلى ما تكون في التجارة والصناعة (3.41 مليار دولار) ثم البيئة (790 مليون دولار) فالصحة (700 مليون دولار) فالزراعة (742 مليون دولار). هذه الأرقام تشمل فترة ممتدة (14 شهر حرب + 12 شهر تعافٍ أولي)، لذا تبدو الخسائر مرتفعة نسبيًا.
• الإسكوا/UNDP: لم تقدّم أية تقديرات بالدولار، بل ركّزت على المؤشرات الكميّة (مبانٍ متضررة، نسبة بطالة، عدد مدارس مغلقة...) لتحليل الأثر. هذا يعود ربما إلى أن تقريرها صدر في مطلع 2025 قبل إنجاز التقييم المالي الكامل، وكان وهدفه توصيف السياق ودق ناقوس الخطر إنسانيًا واجتماعيًا أكثر من تقدير الخسائر نقديًا. ومع ذلك، بيانات الإسكوا كانت مكملة للتقييمات الأخرى (مثلاً عدد 769 مدرسة متضررة يتماشى مع كلفة الأضرار التعليمية التي قدّرها البنك الدولي).
• منظمة الفاو: ركّزت على قطاع الزراعة فقط، فأعطت رقمًا (704 ملايين دولار) لهذا القطاع يقارب ما أعطاه البنك الدولي (821 مليون دولار بين ضرر وخسارة زراعية). لكن في التفاصيل نجد اختلافًا، قدّر البنك الدولي أضرارًا زراعية أقل (79 مليون دولار مقابل 118 مليون دولار من الفاو) ربما لأنه اعتبر بعض ما خسرته الزراعة ضمن البيئة أو قطاعات أخرى، بينما قدّر خسائر أعلى (742 مليون دولار مقابل 586 مليون دولار) لأنه حسب تأثير الحرب على موسمي 2024 و2025 معًا. هذا يبرز أثر اختلاف فترة التقدير. الفاو أنهت حسابها في نهاية 2024، بينما البنك الدولي مدّد التقدير لما بعد ذلك (تقديرات حتى نهاية 2025 لبعض المحاصيل). أيضًا استخدمت الفاو بيانات تفصيلية عبر وزارة الزراعة جعلتها ربما ترفع تقدير الأضرار المباشرة (مثلاً حصر كل نُظم الري المدمرة)، فيما اعتمد البنك الدولي تقديرات أكثر تحفظًا للأضرار المباشرة لكنه وسّع نطاق الخسائر المستقبلية المحتملة. النتيجة أن كلا المصدرين متقاربان في المجموع لكن متفاوتان في التقسيم.
• المجلس الوطني للبحوث (CNRS-L): لم يقدّم أرقامًا مالية في تقريره. الاستثناء هو ذكره رقم 400 مليون دولار لخسائر الكهرباء والمياه معًا نقلًا عن تصريح رسمي، وهذا لا يمكن توزيعه بدقة بين القطاعين لذا أوردناه كملاحظة. غياب الأرقام لا يقلل من قيمة هذا التقرير، فقد ركّز كما أسلفنا على جمع الأدلة الميدانية وتحليل أنماط الدمار. هذه البيانات النوعية استفاد منها البنك الدولي وغيره لضبط حساباتهم. مثلًا، لم يكن ممكنًا تقدير تكلفة رفع الركام (790 مليون دولار ضمن البيئة) لولا معرفة الحجم التقريبي للركام من دراسات الأمم المتحدة والمجلس الوطني للبحوث. كذلك عدد المباني المدمرة (63,000) الذي استخدمه البنك الدولي اعتمد جزئيًا على إحصاءات المجلس الوطني للبحوث وUN-Habitat وبالتالي فإن التفاوت هو في طبيعة الدور، فالمجلس الوطني للبحوث قدّم البيانات، والبنك الدولي حوّلها إلى أرقام ودولارات.
• UN-Habitat والجامعات اللبنانية: لم تقدّر قيمًا مالية أيضًا، بل وفّرت مخرجات تقنية (خرائط الدمار، عدد المباني المتضررة بالنسبة لإجمالي المباني في كل منطقة، حجم الأنقاض). هذه المخرجات شكّلت حجر أساس لتقديرات كلفة الإسكان والبيئة. على سبيل المثال، لو لم يتحدد أن 15,633 مبنى دُمرت، لكان يصعب الوصول إلى رقم 4.6 مليار دولار أضرار إسكان. فبقسمة قيمة أضرار الإسكان على عدد المباني المدمرة نجد متوسط تكلفة إعادة بناء للمبنى حوالي 300 ألف دولار، وهو معقول جدًا بمعايير كلفة البناء في لبنان 2023 (لمنزل من 3 طوابق مثلاً). هذا التناسق أعطى مصداقية لتقديرات البنك الدولي. وكذلك تقدير 2.7 مليون طن ركام بُني عليه جزء من كلفة إدارة النفايات.
• التقييم السريع للاتحاد البلدي بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: هذا التقرير كان محليًا بامتياز، أعدّه اتحاد بلديات الجنوب في مطلع 2024 بمساندة تقنية محدودة. لم يتضمّن أرقامًا مالية دقيقة بالدولار، لكنه ركّز على حصر مباشر للأضرار في القرى والبلدات، مثل عدد المنازل المهدّمة، كلفة أولية لإصلاح شبكات المياه المحلية، وعدد المدارس والمراكز البلدية الخارجة عن الخدمة. أهميته تكمن في كونه أول وثيقة حاولت أن تعطي السلطات المحلية صوتًا موثقًا في النقاش حول التعافي، مبيّنةً أن غياب التمويل والقدرات المالية لدى البلديات يعرقل أي استجابة. وقد شكّل هذا التقرير أساسًا اعتمد عليه كل من البنك الدولي وUN-Habitat لاحقًا لمعايرة تقديراتهم، خصوصًا في بند البنية التحتية والخدمات البلدية.
وبالتالي، يمكن ملاحظة غياب أية جهة محلية رسمية عن التقديرات الكميّة خلال الحرب (باستثناء تصريحات متفرقة لوزراء). فقد اعتمدت الحكومة اللبنانية بشكل كبير على شركائها الدوليين (البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) في تقييم الخسائر، وربما يعود ذلك لضخامة المهمة وضعف القدرات المحلية في خضمّ الأزمة المركّبة. هذا يختلف مثلًا عن حرب 2006 حين قدّرت الحكومة سريعًا الخسائر وطلبت المساعدات بناء عليها؛ أما في 2024، فانتظرت التقييم المشترك. نتيجة لذلك، لا يوجد رقم رسمي موحّد تبنّته الدولة اللبنانية علنًا للخسائر الإجمالية حتى أوائل 2025، بل مجموعة أرقام من مصادر متعددة كما عرضنا.
من أسباب التباين أيضًا اختلاف منهجيات وأساليب التقدير. فالبنك الدولي اتبع نهجًا شاملًا top-down يجمع كل القطاعات ويستخدم بعض النماذج الاقتصادية لتقدير الخسائر (مثلاً منهجية قياس الناتج المحلي الذي فُقد بسبب الحرب)، بينما ركّزت وكالات أممية كالفاو واليونيسيف وغيرها على تقييمات تفصيلية ميدانية sectoral bottom-up (حصر الخسائر محصولًا محصولًا، أو منشأة منشأة). الاختلاف بين الطريقتين قد يؤدي لمخرجات مختلفة قليلاً، لكن المفيد أنه تم إجراء تقاطع للنتائج وتبادل للبيانات لتضييق فجوة التقدير. مثلًا، استعان البنك الدولي ببيانات منظمة الفاو التفصيلية للمحاصيل أثناء إعداد رقمه الإجمالي للزراعة، كما اعتمد على مسوحات الإسكان التي نفذها UN-Habitat/الجامعات. لذا يمكن القول إن التباينات ليست تضاربًا بقدر ما هي تكامل من زوايا مختلفة، باستثناء فروقات منهجية مثل فترة الخسائر (سنة أو سنتين) وتركيب القطاعات (دمج الصناعة والسياحة معًا لدى طرف وفصلهما لدى آخر).
أحد التحديات أيضًا كان عزل تأثير الحرب عن الأزمة الاقتصادية السابقة. فلبنان كان يشهد انكماشًا اقتصاديًا منذ 2019 (خسر 40% من ناتجه قبل الحرب)، وبالتالي عند حساب الخسائر (وخصوصًا خسائر الناتج أو الدخل) هناك تساؤل: ما الذي سبّبته الحرب فعلاً وما الذي هو استمرار للأزمة؟ البنك الدولي حاول الإجابة بافتراض سيناريو يستثني الحرب (baseline) ثم يقيس الفرق. وبحسب تقديره، أدت الحرب إلى انكماش إضافي يقارب 5.7% من الناتج المحلي في 2024 عما كان متوقعًا بدونه. أي أن جزءًا كبيرًا من الخسائر الاقتصادية المحسوبة هو "فوق" خط الانهيار المستمر أصلًا. هذا عامل منهجي قد يفسّر لماذا فضّل تقرير الإسكوا عدم تقديم رقم جامد للخسائر الإجمالية – لأنه يصعب فصلها بدقة عن مسار الأزمة الشاملة في لبنان.
في المحصّلة، وعلى الرغم من التباينات المذكورة، نلاحظ تقاربًا عامًا في النظرة إلى الحجم الكارثي للضرر. فمعظم المصادر تُجمع على أن قطاع الإسكان هو الأكثر تضررًا مادياً، وأن الخسائر الاقتصادية (انكماش الإنتاج، البطالة، وغيرهما) جسيمة وتتجاوز قيمة الأضرار المادية نفسها. كما تتفق التقارير على الأولوية القصوى لإعادة إعمار المساكن والبنى الأساسية وتوفير الدعم لاستعادة سُبل العيش (للمزارعين وأصحاب المؤسسات الصغيرة وغيرهم). أما الاختلاف في الأرقام المحددة لكل قطاع، فيعود كما رأينا لأمور فنية (منهجية وفترة التقدير) أكثر منه اختلافًا في قراءة الواقع على الأرض.
خاتمة واستنتاجات
بعد تحليل جميع التقارير والتقديرات الصادرة حول العدوان الإسرائيلي على لبنان، يمكن استخلاص جملة من الاستنتاجات الرئيسية حول حجم الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة:
1. الحجم الإجمالي للخسائر الاقتصادية: تُشير أحدث وأشمل التقديرات (تقييم البنك الدولي) إلى أن إجمالي الأضرار المادية المباشرة يقارب 6.8 مليار دولار أميركي، فيما تبلغ الخسائر الاقتصادية غير المباشرة حوالي 7.2 مليار دولار. أي أن الكلفة الكلّية للحرب على الاقتصاد اللبناني (مباشرة وغير مباشرة) تُناهز 14 مليار دولار خلال المدى القصير إلى المتوسط. وهذا رقم هائل بالنسبة لاقتصاد منهار أصلًا (يعادل نحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 بالأسعار الجارية). بطبيعة الحال، ينطوي هذا الرقم على قدر من عدم اليقين، لكنه يعكس الواقع المرير الذي خلّفته الحرب، خسارة آلاف الوحدات السكنية والإنتاجية وما يرافقها من نشاط اقتصادي، وانكماش إضافي للاقتصاد المنكمش أساسًا، وتعاظم كلفة إعادة الإعمار في ظل تضخّم جامح وانهيار العملة. إذا ما ركّزنا على الخسائر المباشرة فقط (أي كلفة تدمير الأصول)، فيمكن اعتبار رقم 7 مليارات دولار رقمًا "واقعيًا" وأقرب ما يكون إلى الحجم الفعلي للأضرار المباشرة للحرب. هذا الرقم مدعوم بإحصاءات مفصّلة: عشرات آلاف المنازل والمباني المدمرة، قرى بأكملها سُوّيت، بنى تحتية حيوية ضربت وتعطلت، مزارع وأراضٍ أتلفت…. وإذا أردنا مقارنة تاريخية، فهو يفوق بكثير كلفة أضرار حرب تموز 2006 (التي قُدّرت بحوالي 2.8 مليار دولار آنذاك)، مما يجعل عدوان 2024 أشد فتكا بالاقتصاد اللبناني نظرًا لاتساع رقعة الدمار واستهدافه المتعمد لمقدرات مدنية كبيرة.
2. هيكلية الخسائر – تركيزها في بضعة قطاعات: يتبيّن أن الخسائر ليست موزعة بالتساوي على القطاعات، بل يتركّز معظم الضرر في قطاع الإسكان (قرابة ثلثي الأضرار المباشرة) الذي يُعتبر "خزّان الثروة" الأساسي للأسر اللبنانية، يليه قطاعا البيئة والبنية التحتية (مياه، كهرباء، نقل) وإن كان بنسبة أقل. أما من ناحية الخسائر غير المباشرة، فالنصيب الأكبر كان لقطاع التجارة والصناعة والسياحة (نحو نصف مجمل الخسائر غير المباشرة)، يليه القطاع الزراعي ثم البيئي والصحي. تعني هذه التركيبة أن معالجة تبعات الحرب تتطلب تدخلات مركّزة كإعادة إعمار المساكن لإعادة إيواء الناس واستئناف أنشطتهم؛ دعم أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة ماديًا لإعادة تشغيل مشاريعهم وخلق فرص عمل؛ إنقاذ ما يمكن إنقاذه من موسم الزراعة القادم عبر دعم المزارعين؛ إطلاق مشاريع كثيفة العمالة (كإزالة الركام وإعادة التشجير) لتضميد جراح البيئة وخلق وظائف مؤقتة. أي باختصار، أولويات التعافي هي السكن ثم سُبل العيش ثم البنية التحتية – وهي نفس الأولويات التي أكدت عليها التقارير الأممية.
الفرق بين الخسائر المباشرة وغير المباشرة: أوضحت منهجية DaLA والتطبيقات هنا أن الخسائر غير المباشرة قد تضاهي بل تفوق الأضرار المباشرة. في العدوان الأخير، يظهر أن الخسارة الاقتصادية بسبب توقّف الأعمال والإنتاج والنزوح (7.2 مليار) تفوق قليلًا كلفة إعادة البناء (6.8 مليار). هذا أمر منطقي إذ إن الاقتصاد اللبناني كان يعاني من ضعف شديد قبل الحرب، فجاء توّقُف ما تبقّى منه ليعمّق الانكماش. لكن من جانب آخر، تُظهر بعض القطاعات “خسائر غير مباشرة” أقل من الأضرار (مثل الإسكان 363 مليون خسائر مقابل 4.6 مليار أضرار) لأن المساكن المدمرة لا تدرّ دخلًا مباشرًا، بينما قطاعات أخرى خسائرها أكبر بكثير من أضرارها (كالبيئة 790 مقابل 512، والتجارة 3410 مقابل 612) لأن الموجودات فيها ليست غالية لكن دورة عملها هي التي تخلق القيمة. مغزى ذلك لصنّاع القرار أنه لا يكفي إعادة بناء الحجر ليتعافى الاقتصاد، بل ينبغي استعادة تدفّق النشاط الاقتصادي وتأمين الظروف لعودة الناس إلى الإنتاج سريعًا. فمثلًا، إعادة بناء سوق تجاري لا تعيد الحياة إليه ما لم يعد أصحاب المحال ويدور رأس المال مجددًا – وقد يحتاج الأمر لدعم مالي وحوافز حكومية.
في ضوء ما سبق، إذا طُلب تحديد أكثر الأرقام واقعية لحجم الخسائر الاقتصادية الإجمالية بعد الحرب– لا سيما المباشرة منها – فيمكننا القول إن نحو 7 مليارات دولار كأضرار مباشرة يبدو الأقرب للواقع الحالي. هذا الرقم مدعوم بمسح ميداني وفضائي شبه كامل وشبه إجماع بين الخبراء. أما الخسائر غير المباشرة، فرقم ~7 مليارات دولار على 26 شهرًا يظل تقديريًا وقد يتغير بحسب سرعة التعافي، فإن تحسن الوضع الأمني والسياسي في 2025 وتسارعت جهود إعادة الإعمار، فقد تُخفَّض خسائر العام 2025 الاقتصادية عما قُدّر لها، مما يجعل إجمالي الخسائر غير المباشرة الفعلية أقل من 7.2 مليار وربما أقرب إلى 5 مليارات. والعكس صحيح، إذا تأخر التعافي وظلت المصانع مقفلة والحقول بوراً لفترة أطول، خاصة في الجنوب، فقد تتجاوز الخسائر غير المباشرة التقديرات الحالية. لذا من الحكمة عدم التعامل مع رقم الخسائر غير المباشرة كرقم جامد بل كمؤشر على حجم الضرر الاقتصادي القابل للتفاقم أو الاحتواء بناء على السياسات المتخذة.
علماً أن الخسائر غير المباشرة قد تُرمّم بعد بدأ إعادة الإعمار وبتأثير مضاعف الإنفاق ومعجّل الاستثمار انسجاماً قي الدورة الاقتصادية، ما قد يكون له أثر تعويضي كما حصل في مرحلة ما بعد حرب تموز 2006. لذلك، على الاهتمام الإحصائي أن ينصب على تقدير الخسائر المباشرة.
في المحصّلة، توافق مختلف التقارير على أن العدوان الصهيوني عام 2024 – والذي ما زال مستمراً إلى اليوم رغم إعلان وقف إطلاق النار– كانت كارثة وطنية كبرى فاقمت الانهيار الاقتصادي للبنان وزادت سنوات طوالًا من المعاناة التنموية. لقد تركّزت الخسائر في تدمير مقدّرات الشعب (منازلهم، مدارسهم، مستشفيات مناطقهم، أرزاقهم) أكثر من أي شيء آخر. ولعل هذه الحقيقة تستدعي أن يكون نهج التعافي مختلفًا هذه المرة ويركّز على الإنسان كما الحجر. فلا يكفي أن نبني ما تهدّم إنمائيًا، بل يجب توفير شبكات أمان اجتماعي ودعم نفسي واقتصادي مباشر للأفراد والعائلات المتضررة كي يتمكنوا من الصمود وإعادة بناء حياتهم – وهذا درس أشار إليه تقرير الإسكوا بشكل خاص. كذلك، أظهرت هذه الأزمة ضرورة تعزيز القدرات المحلية على التقييم والاستجابة بدل الاعتماد الكامل على الجهات الدولية، فوجود أرقام وطنية موثوقة يساعد في حشد الدعم الداخلي والخارجي بسرعة. أخيرًا، وبرغم فداحة الخسائر، فإن توحيد الجهود بين الحكومة وشركاء التنمية يمكن أن يفتح باب "إعادة البناء على أسُس أفضل" وهي فرصة نادرة للبنان لإصلاح قطاعات حيوية (كهرباء، مياه، إدارة نفايات) خلال عملية إعادة الإعمار. لكن ذلك مرهون بمدى جديّة الإصلاحات ووقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على الجنوب والبقاع لاستقرار الأمن. فالحرب لم تنتهِ والاعتداءات العسكرية ما زالت مستمرة كما أن المعركة الاقتصادية مستمرة، وربحها يتطلب الشفافية في عرض الأرقام كما فعلنا، والتخطيط العلمي استنادًا إليها، والأهم الإسراع في ضخ الأموال لاستعادة مفاصل الحياة الاقتصادية واستثمار كل دولار يُمنح لإعادة الإعمار بكفاءة وعدالة لتحقيق تعافٍ حقيقي ومستدام.