مقدمة
بعد مضيّ عامين على عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من حروب وأحداث، لا تزال "إسرائيل" في قلب الأخبار والنقاشات في الأوساط النخبوية والشعبية في العالم بشأن وكيفية تأثير عملية 7 أكتوبر عليها، ومدى هذا التأثير، والمسار الذي نتج عنها، والواقع الذي تعيشه الآن إثر كل ما جرى. وفي محاولة لتوسيع فهم حقبة ما بعد 7 أكتوبر وتأثيراتها على الكيان الصهيوني من المفيد فهم التقييمات الغربية للواقع الإسرائيلي في الذكرى الثانية لهجوم طوفان الأقصى.
لتحقيق ذلك جرت مراجعة الكتابات الصادرة عن مراكز الأبحاث والصحف الأميركية والبريطانية (36 مصدرًا) في الفترة بين 15 أيلول و30 تشرين الأول 2025 التي تناولت تقييمًا لواقع الكيان الإسرائيلي بمناسبة حلول عامين على هجوم طوفان الأقصى وما تبعه من حروب إسرائيلية متواصلة في عدد من الجبهات. في المجمل تم الوصول إلى 140 مادة (مقالة، دراسة، بودكاست) حول موضوع البحث في هذه الفترة.
بعد مراجعة الكتابات المرصودة وتم فرز محتواها إلى عدة محاور كالآتي:
• صورة "إسرائيل" في الخارج والتأثير على علاقاتها الدولية
• التأثير على اقتصاد "إسرائيل" وصفقات الأسلحة
• الإستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع التحديات والتهديدات
• التغيرات والتحولات الداخلية في "إسرائيل"
• أداء نتنياهو وحكومته
• التطلعات المستقبلية
أولًا: صورة "إسرائيل" في الخارج والتأثير على علاقاتها الدولية
حصل هذا العنوان والكلام الذي يندرج ضمنه على الحيّز والاهتمام الأكبر من قبل كافة المصادر من صحف ومراكز دراسات ومقابلات مع شخصيات معنية إذ مثّل تحوّلًا معاكسًا في معركة السردية الصهيونية والإسرائيلية، فلأول مرة يتم الحديث عن "عزلة" "إسرائيل" وانتشار مصطلح "Pariah State" أو "دولة منبوذة" لوصف وضعها الحالي على الساحة الدولية. فقد أدت قرارات "إسرائيل" في الشرق الأوسط وخصوصًا ممارساتها في غزة إلى قلب الرأي العام العالمي ضدها وحشد المسيرات والتظاهرات المطالبة بوقف الإبادة في غزة ومناهضة الصهيونية بشكل لم يكن ممكنًا من قبل.
كل ذلك أدى إلى اعتراف عالمي واسع بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، خصوصًا من قبل دول تعتبر مقربة من "إسرائيل" كبريطانيا وفرنسا وكندا والعديد غيرها، ودفع نتنياهو إلى الاعتراف بهذا الواقع عبر تعبيره بأن "إسرائيل" ستصبح "إسبرطة خارقة" من أجل مواجهة هذه الموجة الصاعدة. وتسببت سياسة "إسرائيل" في غزة بإعلان الأمم المتحدة ارتكابها الإبادة الجماعية والمجاعة وجرائم حرب، وصدور مذكرات اعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، وبتراجع جدوى تهمة "معاداة السامية" كسلاح يمكن الاستعانة به لتبرير ممارسات "إسرائيل" كما أشارت مثلًا نافي بيلاي (Navy Pillay)، وهي محامية وعضو في "لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وإسرائيل" وقاضية سابقة في المحكمة الجنائية الدولية، فأصبحت سمعة "إسرائيل" متضررة بشدّة في الأمد الطويل وفي وعي الشعوب خاصة الشابة منها والصاعدة وبالتالي خسرت الحرب الإعلامية.
ومن أبرز الدلالات على هذه الخسارة زيادة ميزانية الهاسبارا (الدعاية العالمية) بأربعين مليون دولار زيادة على ارتفاع سابق بقيمة 150 مليون دولار عما كانت تقوم به بالفعل حيث خُصص من هذا المبلغ24 مليون دولار لما يسمّى "حملات التأثير العالمية"، و16 مليون دولار لتمويل الوفود الدولية التي تزور "إسرائيل" ودفع سبعة آلاف دولار للموثرين المعروفين على منصة X لكل منشور داعم لـ "إسرائيل" بحسب معهد كوينسي(Quincy Institute). وشبّهت بعض الصحف البريطانية مثل "The Guardian" و "Financial Times" هذه الحملة المعادية لـ "إسرائيل" بتلك التي ظهرت ضد جنوب إفريقيا إبّان نظام الفصل العنصري. إضافة إلى ذلك، تم الحديث عن اضطرار طائرة نتنياهو "جناح صهيون" خلال رحلته إلى الأمم المتحدة لتفادي الطيران فوق فرنسا ومعظم أوروبا القارية نتيجة لمذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو. ونتيجة تعرّض صورة "إسرائيل" للهجوم والانتقاد فإن علاقاتها مع العديد من الدول بلغت من السوء لدرجة دعوة الرأي العام في تلك الدول وغيرها الى مقاطعة الكيان الإسرائيلي في مسار يتجه نحو العزلة وفق ما يلي من العناوين الفرعية.
1.1 العلاقة مع أميركا ونظرة الأميركيين الى "إسرائيل":
تُعدّ العلاقة مع أميركا شديدة الأهمية بالنسبة لـ "إسرائيل" ولهذا السبب فإن المتغيرات التي شهدتها الساحة الأميركية على مستوى الرأي العام وصنّاع القرار تشكّل نقطة بارزة جدًا لفهم وضع "إسرائيل" الحالي من بعد 7 أكتوبر.
على مستوى الرأي العام، ظهر الاستياء الكبير من "إسرائيل" وسياستها في غزة، خصوصًا عند ناخبي أو مؤيدي الحزب الديمقراطي الذين أحسوا بالشرخ القيمي الكبير بينهم وبين "إسرائيل" وحكومتها الحالية، أما عند الجمهوريين أو الطبقة المحافظة فلا يزال التأييد لـ "إسرائيل" مرتفعا نسبيًا إلا أنه يشهد أيضا لأول مرة انخفاضًا ونقدًا لاذعًا عند هذه الفئة التي تعتبر أن الدعم المالي والعسكري لـ "إسرائيل" من قبل أميركا بات يشكّل عبئا وهدرًا للمال ويدفع أميركا إلى الانخراط في حروب خارجية مستمرة بدل التركيز على هموم ومشاكل الأميركيين في الداخل. إضافة إلى نشوء جيل جديد من الجمهوريين لم يعد يرى في "إسرائيل" النووية والقوية صورة "داود الصغير المحاط بجواليت العرب" كما رآها الجيل الأميركي الأقدم. حتى أن اليهود في أميركا أبدوا تراجعًا في تأييدهم لـ "إسرائيل" وعدم اعتبار الصهيونية جزءًا أساسيًا من هويتهم أو حتى نبذْها من قبل البعض. كل هذا الانقلاب تظهره بعض الاستطلاعات:
• في استطلاع لـ«غالوب»(Gallup) أجري مؤخرًا، قال 46% فقط من الأميركيين إنهم يدعمون "إسرائيل"، وهي أدنى نسبة منذ بدأت «غالوب» تتبع هذا المؤشر قبل 25 عامًا.
• يفيد استطلاع حديث لـ"ذي إيكونوميست/يوغوف"((YouGov/Economist أن 43% من الأميركيين يعتقدون أنّ "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية في غزة، مقابل 31% فقط خالفوا هذا الرأي. ويرى نحو أربعةٍ من كلّ عشرة يهودٍ أميركيين(39%) الأمر ذاته، وفق استطلاعٍ جديد لصحيفة واشنطن بوست" (Washington Post)، بينما يرى الباقون(61%) أن "إسرائيل" ارتكبت جرائم حرب في غزة.
• أظهر استطلاع لـ"نيويورك تايمز/سيينا" ((New York Times/Siena أنّ التعاطف مع الفلسطينيين يتقدّم، ولو بفارقٍ طفيف، على الدعم لـ "إسرائيل"، بنسبة 35% مقابل 34%.
• وفقًا لاستطلاع حديث جدًا أجرته منظمة IMEU، قال71% من الناخبين الديمقراطيين إنهم سيصوتون في انتخابات عام 2028 لمرشحٍ صوّت لصالح حجب الأسلحة عن "إسرائيل".
• أظهر استطلاع "القضايا الحرجة" لجامعة ميريلاند في آب/أغسطس 2025، أنّ 24٪ فقط من الناخبين الجمهوريين بين سنّ 18 و34 عامًا يتعاطفون مع الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين.
• وفقًا لمركز بيو للأبحاث(Pew Research Center) قال39% من الأميركيين إن "إسرائيل" أفرطت في عمليتها العسكرية ضد حماس. وقد ارتفعت هذه النسبة من 31% قبل عام، و27% في أواخر عام 2023. والآن فإن 59% لديهم رأي غير مُواتٍ (سلبي) تجاه الحكومة الإسرائيلية، ارتفاعًا من 51% في أوائل عام 2024. ويقول 56٪ من البالغين في الولايات المتحدة إن لديهم نظرة إيجابية تجاه الشعب الإسرائيلي وهذه نسبة متراجعة بمقدار 8 نقاط مئوية منذ عام 2024، و11 نقطة مئوية منذ عام 2022.
أما في أوساط الحزبين الديمقراطي والجمهوري فـ "إسرائيل" لم تسلم من الانتقادات خصوصًا عند الحزب الديمقراطي، فوفق الدراسة التي أجراها مركز "بيو" الديمقراطيين أكثر ميلًا من الجمهوريين بكثير إلى القول إن "إسرائيل" أفرطت في نهجها في إدارة الحرب"، فاليوم،60% من الديمقراطيين و19% من الجمهوريين يقولون ذلك. مع ذلك، فإن الجمهوريين اليوم أكثر ميلًا من الديمقراطيين إلى القول إنهم غير متأكدون من طريقة تعامل "إسرائيل" مع الصراع (35% مقابل 27%). ومع هذا، فإن نسبة مَن يقولون في كلا الحزبين إن العملية العسكرية لـ "إسرائيل" ذهبت بعيدًا أكثر مما ينبغي قد ارتفعت مقارنة بالعام الماضي:
• 60% من الديمقراطيين يقولون الآن إن نهج "إسرائيل" في إدارة الحرب يذهب بعيدًا أكثر مما ينبغي، بزيادة قدرها 10 نقاط مئوية عن العام الماضي.
• رغم أن نسبة الجمهوريين الذين يقولون إن "إسرائيل" تُفرِط في نهجها تجاه الحرب لا تزال منخفضة نسبيًا، فإن هذه النسبة ارتفعت أيضًا مقارنة بخريف العام الماضي (19% اليوم مقابل 13% في أيلول/سبتمبر 2024).
على المستوى الفني في هوليوود، وقّع أكثر من 4,500 ممثل ومخرج وغيرهم على "تعهّد بإنهاء التواطؤ" استلهم تحرّكات صُناع الأفلام ضدّ جنوب أفريقيا إبان الفصل العنصري حيث يتعهّد الموقّعون "بعدم عرض الأفلام، أو الظهور في، أو التعاون بأيّ شكلٍ مع المؤسّسات السينمائية الإسرائيلية… المتورّطة في الإبادة الجماعية والفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني". وأنهت الممثلة هانا إينبايندر كلمتها خلال تسلّمها جائزة الإيمي بالصراخ: «الحرية لفلسطين!»، وسار الممثل خافيير بارديم على السجادة الحمراء مرتديًا الكوفية.
إن الدعم القوي التقليدي لـ"إسرائيل" من الحزبين في الكونغرس الأميركي بدأ يتآكل، ومع تزايد تشكّك الأجيال الشابة في طبيعة هذه العلاقة، بات النقاش هل إن الرؤساء الأميركيين القادمين سيكون موقفهم المؤيد بقوة ل"إسرائيل" هو نفسه الموقف الذي أبداه بايدن وترامب.
1.2 العلاقة مع أوروبا:
مثّلت التحولات في مواقف أوروبا النقطة المفصلية الأبرز في مسار العزلة الذي سلكته "إسرائيل"، فقد شهدت المدن والساحات تظاهرات حاشدة تندد بوقف الإبادة في غزة تبعتها مواقف حادّة من الدول الأوروبية واتخاذ بعضها سياسات دبلوماسية مواجهة لـ"إسرائيل"، من الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وانتقادات تعامل "إسرائيل" مع قارب الصمود "Flotilla" إلى نداءات المقاطعات الفنية واسعة لـ"إسرائيل" في مختلف المجالات. بحسب استطلاع الاتجاهات العالمية في ربيع 2025 الذي أجراه مركز "بيو" للدراسات حول النسب المئوية لمن لديهم آراء مؤيدة أو غير مؤيدة تجاه "إسرائيل" في بعض الدول، يتبين وجود أغلبية غير مؤيدة كما يوضح الرسم البياني الآتي:

وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، يبدو أن "إسرائيل" فقدت الدعم الضمني الذي كانت تحظى به من خمس عشرة دولة ذات توجهٍ غربي كانت تمتنع في السابق عن التصويت على القرارات المتعلقة بها، وهي: أستراليا، بلغاريا، كندا، كرواتيا، جورجيا، ألمانيا، إيطاليا، لاتفيا، ليتوانيا، هولندا، بولندا، رومانيا، سلوفاكيا، أوكرانيا، المملكة المتحدة. وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، قدّمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين رسميًّا اقتراحًا بفرض إجراءات اقتصادية عقابية ضد "إسرائيل". ومن أبرز التحولات في العلاقات الدبلوماسية هو موقف إسبانيا من "إسرائيل" حيث انضمت إلى تكتّلٍ من 34 دولة مناهضة لـ "إسرائيل" يُعرف باسم "مجموعة لاهاي" (The Hague Group)، وهو قرار اتُّخذ خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة .
أما في المجال الفني، فقد أخذت دعوات مقاطعة "إسرائيل" من مسابقة Eurovision السنوية المشهورة الزخم الأكبر في الإعلام نظرًا لمشاركة "إسرائيل" فيها وفوزها في سنوات سابقة، فقد أكد "الاتحاد الأوروبي للبث" (EBU) أنه سيجري تصويتًا عبر الإنترنت في تشرين الثاني قد يُفضي إلى طرد هيئة البث الإسرائيلية "كان" من المسابقة العام المقبل جراء تهديد عدة هيئات بث أوروبية، من بينها مؤسسات في إسبانيا وهولندا وإيرلندا وآيسلندا وسلوفينيا، بمقاطعة الدورة المقبلة. وعندما اتُهِمت "إسرائيل" بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، قدّم عشرات الموسيقيين، ومنهم جيمس بليك، PinkPantheress، وSaint Levant عروضًا أمام قاعةٍ مكتظّة في لندن خلال حفلٍ حاشد بعنوان «معًا من أجل فلسطين» بمشاركة ناشطين فلسطينيين وممثلين من هوليوود.
وفي المجال الأدبي، وقّع في أيار الماضي 380 كاتبًا ومنظّمة، من بينهم زيدي سميث وإيان ماك إيوان، رسالةً تصف الحرب في غزة بأنها إبادة جماعية وتدعو إلى وقفٍ فوريّ لإطلاق النار، وذلك بعد رسالةٍ سابقة من الأوساط الأدبية أعلنت مقاطعة معظم المؤسّسات الثقافية الإسرائيلية. وفي أيرلندا يُعامَل أفراد المجتمع الفني الذين يُبدون تعاطفًا مع "إسرائيل" "عمليًا كأنهم نازيون" بحسب قول ديفيد آيرلند، وإن الوضع في "إسرائيل" وغزة يُعدّ "موضوعًا يستحيل الحديث عنه" لبعض العاملين في الفنون. وقالت داليا شيندلين، وهي محللة واستطلاعية إسرائيلية، إن نشر الكتب باللغة الإنجليزية لمؤلفين إسرائيليين صعب بسبب عدم رغبة منتديات أكاديمية مختلفة أو نقابات مهنية بوجود تمثيل إسرائيلي.
أما على مستوى الرياضة، فالاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) والاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) يواجهان ضغوطًا لحظر "إسرائيل" من المنافسات الدولية مثل حملة "GameOverIsrael". كما طالب رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بمنع "إسرائيل" من جميع الرياضات الدولية ما دامت "همجيتها" في غزة مستمرة، وقد جاء حديثه بعد احتجاجاتٍ استهدفت فريق الدراجات الإسرائيلي الخاص "إسرائيل" بريميير-تيك" وأدّت إلى إلغاء المرحلة النهائية من سباق "لا فويلتا إسبانيا" للدراجات. وكان قبل أيام قد انسحب لاعبو شطرنج إسرائيليون من بطولةٍ إسبانية بعدما أُبلغوا أنّهم لا يستطيعون اللعب تحت علمهم الوطني. ودَعَت رابطة مدربي كرة القدم الإيطالية إلى تعليق مشاركة "إسرائيل" في المسابقات الدولية.
أضفت مثل هذه التحركات إلى جانب التظاهرات الحاشدة في عواصم أوروبية على مجموعاتٍ ناشطة مثل "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) "إحساسًا متجدّدًا بالزخم فقد حظرت المملكة المتحدة مشاركة الإسرائيليين في "الكلية الملكية للدراسات الدفاعية" المرموقة للعام الأكاديمي المقبل، وكانت قد اتخذت لجنة السلامة الاستشارية في برمنغهام وشرطة ويست ميدلاندز قرارًا بعدم السماح للمشجعين الإسرائيليين بحضور مباراة فريق "مكابي" الإسرائيلي في ملعب فيلا بارك في 6 تشرين الثاني قبل التراجع عنه لاحقًا.
ثانيًا: التأثير على اقتصاد "إسرائيل" وصفقات الأسلحة
فيما يتعلق بالاقتصاد الإسرائيلي وتأثره خلال السنتين الأخيرتين، فإن أول ما يبرز هو التأثر بالعزلة الدولية التي دخلتها "إسرائيل" والتي اعترف بها نتنياهو عندما اختار التعبير عن دولته بأنها ستصبح "إسبرطة خارقة" تعتمد على نفسها، بينما اقتصاد "إسرائيل" قائم على تصدير يعتمد على قطاع التكنولوجيا وقوة عاملة عالية التعليم ومرتبطة عالميًا. وتكفي رؤية العقوبات التي نوقشت للفرض ضد "إسرائيل" لمعرفة مدى احتمالية تضرره جرّاء العزلة الدولية.
ذكرت صحيفة بوليتكو (Politico) في 17 أيلول أن نائبة رئيس المفوضية الأوروبية كايا كالاس كانت قد كشفت عن خططٍ لخفض مستوى العلاقات التجارية مع "إسرائيل" وفرض عقوبات على مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى بسبب سياسات "إسرائيل" في غزة بحيث يتم فرض رسوم جمركية على نحو 6.8 مليارات دولار من الواردات الإسرائيلية، وتعليق اتفاقية التجارة الحرة، إضافةً إلى فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين. وأضافت الأمم المتحدة في 26 أيلول 68 شركة إلى القائمة السوداء للشركات التي تعتبر أنها تنتهك حقوق الفلسطينيين من خلال ممارسة أنواع محدّدة من الأنشطة التجارية مع التجمعات الإسرائيلية في الضفة الغربية .
إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أضعفت عدّة قطاعات اقتصادية على الرغم من أن الاقتصاد الإسرائيلي بوجه عام لا يزال مستقرًا، مع توقّع صندوق النقد الدولي نموًا منخفضًا إلى متوسط للناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5% في عام 2025، حتى بعد الحرب مع إيران. فقد تضرّرت السياحة وعمليات الموانئ بسبب المخاوف الأمنية، وكذلك الزراعة وقطاع البناء اللذان يعتمدان بشكل كبير على العمالة الفلسطينية، التي قُيِّدت بشدة نتيجة الإلغاء التام لتصاريح العمل لسكان غزة والقيود المفروضة على تصاريح الفلسطينيين من الضفة الغربية. وأدّى استدعاء جنود الاحتياط المستمر وهجرة الأدمغة إلى إبطاء النمو الاقتصادي. وخفّضت وكالة الخدمات المالية الدولية "ستاندرد آند بورز "(S&P) التصنيف الائتماني لـ "إسرائيل" من A+ إلىA/A-1 .
بين نيسان وحزيران 2025، انكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 3.5% على أساس سنوي، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى حرب الأيام الاثني عشر بين "إسرائيل" وإيران، وهذه هي المرة الثانية التي ينكمش فيها الاقتصاد الإسرائيلي منذ بداية الحرب؛ إذ كانت المرة الأولى في الربع الرابع من عام 2023، مباشرة بعد اندلاع الحرب. في حين شهدت بعض القطاعات الإسرائيلية نموًا، مثل قطاع الصادرات الدفاعية الذي سجّل زيادة قدرها 13% بين عامَي 2023 و2024 ليصل إلى 14.8 مليار دولار وذلك إلى حدٍّ كبير بسبب الصفقات العسكرية مع الدول الأوروبية، فإن قطاعات أخرى، مثل السياحة، شهدت تراجعًا كبيرًا بسبب المخاوف الأمنية الإقليمية . وقد وافق الكنيست في تموز على زيادة الإنفاق الدفاعي بمقدار 12.5 مليار دولار في عامَي 2025 و2026 لتمكين "إسرائيل" من مواصلة القتال في غزة وضد تهديدات إقليمية أخرى. ويبلغ الإنفاق الدفاعي لـ"إسرائيل" في عام 2025 نحو 9% من الناتج المحلّي الإجمالي، ومن المرجّح أن يرتفع قليلًا خلال السنوات المقبلة، مع بلوغ تكاليف الحرب 300 مليار شيكل، ما يعادل 90 مليار دولار أميركي.
وبحسب مقالة في صحيفة Financial Times البريطانية تحت عنوان "نتنياهو يُقوِّض الاقتصاد الإسرائيلي" لـ Eran Yashiv فقد تحقّقت الآن التحذيرات المتكرّرة من المخاطر الاقتصادية الصادرة عن 25 من كبار الأكاديميين، بينهم حائزون على نوبل، و84 من أبرز الاقتصاديين الإسرائيليين. فالبيانات الرسمية تشير إلى أنّ ناتج قطاع الأعمال بالأسعار الثابتة ارتفع بنسبة هامشية قدرها 0.2% تراكميًّا في عامي 2023 و2024، بعد نموّ بلغ 7.4% في 2022؛ كما تراجع الاستثمار الإجمالي الحقيقي تراكميًّا بنسبة 17% في هذين العامين، فيما انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 1% مع تباطؤ نموّ الإنتاج.
ومنذ مطلع 2023، غادر "إسرائيل" ما يقرب من 170 ألف شخص، معظمهم من الشباب ذوي المهارات، وعاد أقل من 60 ألفًا (يعمل في قطاع التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلي، الذي يساهم بخمس الناتج المحلي وأكثر من نصف صادرات الخدمات، نحو 400 ألف عامل فقط). وفي هذه الأيام، تؤسَّس الشركات الناشئة في الولايات المتحدة بدلًا من تأسيسها محليًا في "إسرائيل"، ومع فرار المستثمرين المحتملين وبالمعدلات الحالية، قد يختفي هذا القطاع إلى حدٍّ كبير كصناعة قائمة في "إسرائيل" خلال بضع سنوات.
ومن المحتمّ أن ترتفع الضرائب، وأن تُخفَّض الخدمات الحكومية، وأن تتسع فجوة عدم المساواة في الدخل. وسيتسارع ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، مع خفوضات إضافية محتملة في التصنيف الائتماني. وقد تنشأ حلقة مفرغة: تراجع في الاستثمار، وانخفاض في الناتج للفرد والاستهلاك، وبطء في النمو في حين تتحول "إسرائيل" من اقتصاد مزدهر قائم على رأس المال البشري إلى اقتصادٍ يواجه خطر الخروج من نادي الاقتصادات المتقدّمة إذا لم يتراجع عبؤها العسكري. أمّا توقّعات نموّ الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة 3–4% فهي غير واقعية إلى حدٍّ كبير، في ظلّ الهجرة، والعقوبات التجارية، والانخفاض الحاد في الاستثمار.
وفيما يعاني اقتصاد "إسرائيل"، تظل صفقات الأسلحة والأموال المخصصة لخوض الحروب آمنة ومُعتمدة في ظل الحاجة المستمرة لتأمين الأسلحة وتطويرها. فقد شهد شهر أيلول الإعلان عن إدخال سلاح الليزر في المنظومة الدفاعية لـ"إسرائيل" الذي صنع بتعاون مع شركة "رافائيل" حيث كان قد استخدم خلال الحرب ضد حزب الله لإسقاط المسيّرات، كما بلغت قيمة الصادرات الدفاعية الإسرائيلية 14.8 مليار دولار في عام 2024، ذهب أكثر من نصفها إلى الدول الأوروبية، وذلك وفقًا لبيانات وزارة الأمن. وحتى أثناء تهديد الحظر، أقرّت ألمانيا صفقة بقيمة 415 مليون دولار لشراء حاضنات التهديف «لايتنينغ» من شركة الأسلحة الإسرائيلية "رافائيل" لصالح مقاتلات "تايفون" الألمانية حيث تُركّب هذه الحاضنات تحت أجنحة الطائرة وتهدف إلى تحسين قدرات التهديف والملاحة.
وفيما علقت بعض الدول تصدير الأسلحة لـ"إسرائيل" والبعض الآخر حظرها كليًا، مثل سلوفينيا وإسبانيا ، ليبلغ إجمالي الصفقات الملغاة نحو مليار دولار، لم تُقدِم سوى قلّة من الدول على وقف مبيعات السلاح إلى "إسرائيل" أو تقييدها. فقد أوقفت ألمانيا مبيعات الأسلحة التي يمكن استخدامها في غزة، لكنها تواصل التجارة في أنظمة أخرى، وبحسب SIPRI، تمثل الولايات المتحدة وألمانيا أكبر مصدرين في العالم تليهما إيطاليا، ما قد يدل على أن قرارات الحظر والمنع (من 7 دول) قد لا يكون لها تأثير كبير حاليًا. وحتى مع تصويت عدد كبير من أعضاء الكونغرس الأميركي لوقف بيع "إسرائيل" الأسلحة أثناء خوضها الحرب، شهدت هذه الفترة أكبر دعم مالي أميركي لـ"إسرائيل" بغية استعماله في القتال. فالولايات المتحدة موافقة بشكلٍ مبدئي عبر مذكرة تفاهم على تقديم 3.8 مليارات دولار سنويًا لـ "إسرائيل" حتى عام 2028، بما يشمل 500 مليون دولار سنويًا للدفاع الصاروخي.
وبحسب معهد كوينسي (Quincy Institute)، بين تشرين الأول 2023 وأيلول 2025، قدّمت الولايات المتحدة 21.7 مليار دولار كمساعدات عسكرية لـ"إسرائيل"، في حين أن مبالغ إضافية تراوح بين 9.65 و12.07 مليار دولار أنفقتها على عمليات في اليمن وإيران ومناطق أخرى من المنطقة ذات صلة بتداعيات الصراع. في السنة الأولى من حرب غزة، قفز ذلك الرقم إلى 17.9 مليار دولار، وهو أعلى مستوى على الإطلاق. أما في السنة الثانية من حرب غزة، فعاد إلى المستوى المعتاد البالغ 3.8 مليارات دولار.