مقالات | قرارات البرلمان وقيمتها القانونية / د. محمد طي - كانون الأول 2020

مقالات | قرارات البرلمان وقيمتها القانونية / د. محمد طي - كانون الأول 2020

إصدار 2020-12-08

توجه رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس النواب برسالة "لمناقشتها في مجلس النواب وفقًا للأصول واتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار بشأنها، ما يستدعي التعاون مع السلطة الإجرائية التي لا يحول تصريف الأعمال دون اتخاذها القرارات الملائمة عند الضرورة العاجلة، وذلك من أجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان وانسحاب هذا التدقيق، بمعاييره الدولية كافة، إلى سائر مرافق الدولة العامة".
رد المجلس على رسالة الرئيس قرر المجلس "إخضاع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والمؤسسات المالية والبلديات والصناديق كافة بالتوازي، للتدقيق الجنائي دون اي عائق او تذرع بالسرية المصرفية او بخلافه".

فما هي القيمة القانونية لهذا القرار؟
القرار عمل قانوني تتخذه إحدى السلطات في معرض ممارستها صلاحياتها. وهو إما أن يكون قرارًا إداريًا تتخذه الحكومة وقد يتحول إلى مرسوم، أو تتخذه سلطة إدارية أدنى، ويكون في هذه الحالة قرارًا نافذًا أي إلزاميًا للإدارة ولمن توجهه إليهم. وقد يكون قرارًا قضائيًا يتخذ للفصل في نزاع معين أو للبت في مشكلة من مشاكله. وقد يكون قرارًا برلمانيًا يتخذه البرلمان أو أحد مجلسيه إذا كنا حيال ازدواجية البرلمان Bicamérisme ou bicaméralisme. وهذا الصنف الأخير معمول به في الدول على نحو عام، ومن الأمثلة:

في فرنسا
 تتخذ القرارات البرلمانية في فرنسا في الأحوال الآتية:
المادة 34-1 من الدستور: يمكن لمجلسي البرلمان أن يصوتا على قرارات في شروط يحددها قانون عضوي organique،
المادة 68/2 من الدستور حول اقتراح أحد مجلسي البرلمان بعقد المحكمة العليا لمحاكمة الرئيس وإحالة الاقتراح إلى المجلس الآخر، إذ تتخذ القرارات تطبيقًا لهذه المادة بأكثرية ثلثي أعضاء المجلس المعني.
المادة 88/4 عندما تحيل الحكومة إلى كل من مجلسي البرلمان المشاريع التشريعية من قبل الاتحاد الأوروبي، فيمكن أن يتبنىا القرارات الأوروبية.
المادة6/1/5 من الأمر التشريعي رقم 58-1100 بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1958، لإنشاء لجنة تحقيق برلمانية في كل من المجلسين بقرار، إذ يمكن أن تنتهي مهمتها...بعد ستة أشهر من صدور فرار إنشائها
المادة 80/6 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية، التي تقضي بمناقشة تقرير لجنة التحقيق البرلمانية المصوغ على شكل قرار.
المادة 105/6 من النظام الداخلي لمجلس الشيوخ باتخاذ القرار بشأن تعليق اعتقال أحد أعضاء مجلس الشيوخ أو الوقف الجزئي أو الكلي للتدابير المتخذة ضده.

في لبنان
 يتخذ مجلس النواب اللبناني القرارات في مواضيع مختلفة. ومنها ما نصّ عليه الدستور:
أ‌-    م34،: "تتخذ القرارات (في مجلس النواب) بغالبية الأصوات"،
ب‌-    م35:  لمجلس النواب أن يقرر إعادة المناقشة في جلسة علنية" بعد الجلسة السرية.
ت‌-    م60: اتهام رئيس الجمهورية بقرار يصدر بغالبية الثلثين من مجلس النواب.
ث‌-    م70: اتهام رئيس الوزراء والوزير بقرار يصدر بغالبية الثلثين من مجلس النواب

ومن القرارات ما نص عليه النظام الداخلي لمجلس النواب، ويتعلق بعضها باللجان البرلمانية، ولن نقف عنده، ويتعلق بعضها الآخر بالهيئة العامة للمجلس، وأتت على شكلين:

•    بالنص الصريح، وهي:
أ‌-    قرار الأكثرية بعقد جلسى سرية للمجلس (م59 و60)،
ب‌-     قرار المجلس بوضع محضر للجلسة السرية (م61)،
ت‌-     قرار المجلس بوضع محضر تفصيلي لجلسته(م66)،
ث‌-     قرار الأكثرية بتصديق خلاصة محضر الجلسة النيابية (67)،
ج‌-    قرار منع الخطيب من الكلام في غير حلات المنع العائدة إلى الرئيس (م83)،
ح‌-     قرار المجلس بالتصويت على مبادرة القانون بجملتها بعد رفع التقرير بشأنها من اللجنة أو إعادتها إلى اللجان (م91)،
خ‌-    القرار برفع الأيدي للتصويت في حالات معينة (م954)،
د‌-    قرار رفع حصانة النائب (م104)،
ذ‌-    قرار بوقف مؤقت لملاحقة بدأت تجاه نائب (105)،
ر‌-     اتخاذ القرار بخصوص رسالة يوجهها رئيس الجمهورية إلى المجلس (م145)،
ز‌-     قرار بإجراء تحقيق برلماني (147)،
س‌-     قرار بإيلاء لجنة التحقيق البرلمانية صلاحيات قضائية (م151).
•    ومنها ضمنيًا:
أ‌-    كقفل باب المناقشة في الجلسة العامة للمجلس (م87 و88)،
ب‌-     استرداد اقتراح القانون بعد شروع المجلس بمناقشته (م112)،
ت‌-    الموافقة على طلب الحكومة إجراء مناقشة عامة (م141)،
ث‌-    تعيين جلسة للمناقشة العامة بموافقة المجلس (م145).

الملاحظ أن هذه القرارات المنصوص عليها دستوريًا أو قانونيًا في فرنسا وفي لبنان، تتعلق بعمل البرلمان الداخلي، يتخذها البرلمان من تلقاء نفسه، أو تتعلق بأمور تشاركه فيها الحكومة. وليس بينها ما يتوجّه إلى الحكومة ليطلب منها أمرًا ما.
هذه القرارات ملزمة لليرلمان، وهو لا يستطيع التغلب عليها إلا بالتصويت على إلغائها أو على ما يخالفها. فإذا تجاوزها إلى اتخاذ القرار بالطلب من السلطات الأخرى أن تقوم بعمل ما، فهل يستطيع إلزامها بقراره؟
برأي هيئة التشريع والاستشارات، فإن كافة مقررات مجلس النواب، باستثناء القوانين، ليست لها قيمة قانونية واضحة وبالتالي ليست لها قوة الإلزام .
وفي الفقه الفرنسي، فإن الموقف هو: إن"لكل من مجلسي البرلمان أن يصوت على قرارات ذات طابع عام، في كل موضوع. وعلى العكس من القوانين، ليس للقرارات قيمة ملزمة، فهي تعبر عن تمنٍ أو عن اهتمام أو قلق préoccupation..."   

من هنا فإن القرار الذي اتخذه مجلس النواب اللبناني والموجه إلى الوزارات وسائر المؤسسات، في موضوع التحقيق الجنائي ليس ملزمًا. لكن يمكن أن يحاسب المجلس الحكومة سياسيًا بخصوصه. ولحل المشكلة، كان يجب، لو كان في الأمر جدية، إلزام الطرفين بقانون.

 مقالات | ما بعد الأزمات: مُستلزمات عودة الناس إلى برّ الأمان الاقتصادي والاجتماعي / م. مها لطف جمول - تشرين الثاني 2020

مقالات | ما بعد الأزمات: مُستلزمات عودة الناس إلى برّ الأمان الاقتصادي والاجتماعي / م. مها لطف جمول - تشرين الثاني 2020

مقدمة
لم يكن من الضروري انتظار انتشار وباء الكورونا العالمي حتى يُتأكد من حاجة لبنان إلى إنتاج اقتصاد يؤدي إلى تلبية احتياجات المواطنين لاسيما منها تأمين فرص العمل المُجدية والكريمة.
وقد أفضى هذا الوباء ومعه السياسات المالية والنقدية للحكومات اللبنانية المتعاقبة إلى ظهور أزمات حقيقية عجزت أحيانًا عن تلبية الحاجات الأساسية من الغذاء والدواء وذلك بالنظر لغياب الاستراتيجيات المتعلقة بالأمن الغذائي خاصة مع لحظ صِغر مساحة البلد الجغرافية.

وقد أفضى تكريس واقع أن 2% من السكان يستحوذون على أكثر من 80% من الثروة1، مع ما يرافق ذلك من غياب لسياسات عدالة الإنتاج، إلى ظهور تداعيات حالات البطالة والفقر المدقع في أبشع صورها.
ويبدو أن الوباء المستجد كان "القشة التي قصمت ظهر البعير" لجهة انكشاف آلاف العائلات الفقيرة أمام الجوع والمرض بل والعوز الشديد، وهو ما كان يمكن تفاديه لو أن الحكومات انتهجت سياسات اقتصادية - اجتماعية – إنتاجية أقلّ ريعية وأكثر عدالة.
وتجدر الإشارة إلى أن المطالبة بتعديل مثل هذه السياسات ليست أمرًا جديدًا أو حادثًا، بل يمكن تتبعها من خلال نتاج جهود كثير من السياسيين والعاملين والباحثين والأساتذة الجامعيين الذين توصّلوا إلى ضرورة تحويل المجتمع اللبناني إلى مجتمع منتج مكتفٍ يستطيع مواجهة أزماته الداخلية وتحدياته الخارجية.

وعليه سوف تقدّم هذه الورقة مجموعة من المقترحات العمليّة مساهمة منها في التأسيس لحلول مستدامة لبعض مشاكل الناس الحياتية للناس لمرحلتي استمرار تفشّي الوباء ومرحلة ما بعد انتهاء الجائحة، وتكريسًا لعودة الناس إلى برّ الأمان الاقتصادي والاجتماعي- وإن كان جزء من هذا التحليل يعود إلى المرحلة السابقة للأزمة وتلك التي مهّدت لحدوثها- بحيث تقدّم اقتراحات على مستويات مختلفة منها: التخطيط والتأسيس والإشراف والرقابة، وكذلك المستوى التنفيذي.
لكن قبل عرض المقترحات ينبغي الإشارة إلى النواحي المتعلقة بالسياسات الحكومية المتّبعة -والتي يحتاج بعضها بدوره إلى تغيير وتطوير وتحديث- كونها تشكّل أحد العوائق المهمة أمام التنمية الفعلية وتوفير الفرص المجدية.


أولًا: أبرز السياسات الحكوميّة المتبعة في مجال التنمية المناطقية:
تطرح السياسات التنموية في لبنان عددًا من الإشكاليات الرئيسيّة التي تحتاج إلى مقاربات حقيقيّة بشأنها، خاصة وأن بعض تداعيات ممارستها باتت تسبب أزمات متنقلة أهمّها الديون الناجمة عن مشاريع ليست أولويات تنموية بقدر ما هي أولويات سياسية، فضلًا عن كون أغلبها لا يملك مقومات الاستدامة التمويلية أو التشغيلية الفعالة.


وقد أمكن إحصاء ثلاث عشرة إشكاليّة في لبنان على النحو الآتي:
1.    مركزيّة شديدة مع تأكيد على أولوية توفير خدمات البنية التحتية للعاصمة وبعض محيطها، فضلًا عن تمركز الخدمات والتسهيلات المختلفة، وهو ما ساهم في استقطاب السكان حول المدن- لاسيما حول بيروت، حيث أدّى هذا الأمر بالنسبة للنازحين إلى خلق فرص العمل المتناسبة مع تكاليف العيش بالحدّ الأدنى، كما قلّص الفرص المتناسبة مع الاستثمار في الأرياف.


2.    إنتاج خطط وسياسات حكومية ريعية أو خدماتية – بأغلبها- كما يمكن أن يُستنتج من الموازنات المخصصة لتطوير الإنتاج في قطاعات الصناعة والزراعة بالتحديد.


3.    من المقرر إنفاق نحو 8 مليارات2 من الدولارات من أموال الجهات المانحة فيما يُعرف ببرنامج "سيدر" على البنية التحتية وليس على مشاريع ذات طابع استثماري: كهرباء، طرق، اتصالات، مياه، صرف صحي. صحيح أن ما هو مُقترح ضروري وحيوي لتحفيز الاستثمار، إلا أنه ليس واقعًا ضمن المشاريع "ذات الطابع الإنتاجي المباشر". كذلك تجدر الإشارة إلى أن أموال "سيدر" قد استثنت أي تمويل في قطاعي التعليم والصحة فضلًا عن القطاعات الإنتاجية الأخرى.


4.    دعم الأُسر الأشد فقرًا بالمال المباشر والمساعدات العينيّة المباشرة، والواقع أن بعضًا من هذه الأُسر تحتاج إلى الدعم المباشر والفعلي خاصة مع طول الفترة التي رافقت الإغلاق العام بسبب كورونا، إلا أنّ أُسرًا أخرى تحتاج إلى توفير فرص العمل اللائقة التي تكفل لها سدّ احتياجاتها الأساسية المستدامة، لكن يبدو أن انتشار الوباء والسياسات النقدية السابقة له قد فاقمت انتشار موجة بطالة غير مسبوقة باتت تزيد عن نسبة 25% لدى الشباب بعد أن كانت تصل إلى حدود 11.1% عام 2015 بحسب دراسة الأحوال المعيشية للأسر3 .


5.    كان ولا يزال يتمّ الاعتماد على المغتربين اللبنانيين لتوفير سيولة بالعملة الأجنبية من خلال الضخّ المباشر للأموال التي تقدّم لعائلاتهم مباشرة. لكن نادرًا ما تم التعامل معهم باعتبارهم فرصًا حقيقية لنقل التجارب والخبرات فضلًا عن كونهم فرصًا لبناء الاستثمارات المباشرة.


6.    غياب المعلومات والمعطيات والداتا المركزيّة حول التنمية المناطقية التي تُسهّل التعرّف على الفرص المتاحة أو الاستثمارات المطلوبة أو الممكنة، وحتى في حال توّفر مثل هذه المعطيات فهي لا تتعدّى حدود البلديات أو الاتحادات البلديات ضمن أُطر جغرافية محددة. ويُلحظ إضافة إلى ذلك غياب الجهات المتخصصة بتطوير فرص العمل للشباب تحديدًا مما جعل اقتصاديات البلدات (خارج المدن الرئيسية) اقتصادًا مناطقيًا بامتياز غير قادر على المنافسة.


7.    تهميش واضح لدور البلديات التي هي بحسب القوانين "سلطات محلية" لكنها في الواقع وبسبب الحدّ من قُدراتها المالية، وضعف إمكاناتها الاقتصادية والبشرية هي "إدارات محليّة". لذا فإن الكثير من البلديات –خاصة الصغيرة منها- لا يمكنها القيام بأي دور أو إسهام اقتصادي أو تنموي محدد.


8.    غياب الخطط الإنمائية الرسمية المفترضة (مدن وأرياف ومراكز أقطاب)، لكن يُلحظ وجود العديد من الخطط التنموية التي قام بإعدادها اتحادات بلديات في مختلف المناطق اللبنانية اعتبارًا من العام 2008، لكن هذه الخطط بقيت مناطقية تستلهم مصالح البلدات المنضوية فيها مباشرة، دون لحظ مصالح البلدات المجاورة في أغلب الأحيان. وهذا يعود إلى الغياب الرسمي- كما أشرنا – المتعلق بمفاهيم وتطبيقات التنمية المحليّة4. بمعنى أنه لم يكن هناك رؤية شاملة وموحّدة تستلهم الاستفادة من الأراضي الزراعية أو تستفيد من الإمكانيات المتوافرة في مجال الصناعة، وهو ما أدّى إلى اعتماد أغلب البلدات اللبنانية على المضاربة في القطاع العقاري أو الاعتماد المفرط على قطاع الخدمات والسياحة.


9.    غياب السياسات الاجتماعيّة- الاقتصاديّة الحقيقيّة لا سيما في مجالات:
-    النقل العام، بحيث أدّى غياب النقل المشترك مقابل تشجيع اقتناء وسائل النقل الخاصة، إلى مشاكل في الكثافة السُكانيّة داخل الأحياء -وخاصة في المدن-، فضلًا عن ارتفاع كلفة النقل على المواطن، وفوضى عدم شمول الخدمة كافة المناطق أو الأحياء.
-   التعليم المهني، وهو الذي يُعتبر في العديد من البلدان الصناعية المتقدمة من الدعائم الاقتصاديّة المهمة. لكن، بعكس ما هو حاصل في لبنان، يتم اللجوء إلى التعليم المهني لدى الأفراد في المرحلة التي لا يستطيع معها الطالب متابعة التعليم الأكاديمي أو الدخول إلى سوق العمل بسبب عمره باعتباره مرحلة سابقة ما قبل البطالة. وبالإجمال يعاني هذا القطاع من سوء تجهيزه وعدم التجديد في الاختصاصات التي تُدرّس فيه، وعدم مواكبته لمتطلبات سوق العمل.
-    الإسكان، بحيث يوجد في لبنان آلاف الشقق السكنيّة الشاغرة، ومثلها من المساكن غير المكتملة، بعضها يحكمه وجود قانون إيجارات غير عملي وبعضها الآخر تحكمه قوانين الإيجار التملّكي الذي يتمّ تمويله عبر المصارف. وتستنزف هذه الأنماط من القروض الإسكانيّة مداخيل الفئات الشبابيّة خاصة وأن المصارف مسؤولة مباشرة -وبشكل متطرّف أحيانًا- عن تحديد قيمة القروض السكنيّة وفوائدها وعائداتها وذلك بغياب السياسات الإسكانيّة الرسميّة في البلد.
-    سوء الخدمات المخصصة للأفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة وتأمين عمليّة دمجهم في المجتمع، وقد أظهر دليل الأحوال المعيشيّة للأسر5 أن مؤشر "عدم كفاية الخدمات المقدمة لذوي الاحتياجات الخاصة" يقع كرابع أعلى مؤشر لدى الأُسر في سلّم الحرمان (بعد مؤشرات عدم توفّر مصادر مياه الشرب، وعدم توفّر الطاقة الكهربائية من الشبكة العامة، والتخلّص من النفايات).
-    عدم توفّر الخدمات المناسبة لرعاية للمسنين وذلك كنتيجة طبيعيّة لتراجع الخدمات الرسميّة أساسًا، ولغياب مراكز الرعاية النهاريّة وغيرها من الخدمات الضروريّة والحيويّة.


10.    التعاطي مع المسائل البيئيّة باعتبارها ترفًا في المجتمع، حيث لا تزال مواضيع مثل فرز النفايات من المصدر أو التقليل من حجمها أو الاستثمار في الإنتاج الزراعي من الأحراج والغابات أو الحفاظ على الحياة البريّة، أو وقف التحطيب، أو حماية مصادر المياه السطحيّة والجوفيّة أو وقف تلوّث مداخن معامل الكهرباء والترابة، وغيرها من الأمور، مسائل لا يتمّ التعامل معها بالجديّة الكافية والمناسبة من قِبل أغلب البلديات، كما لا يتمّ توفير الموازنات والدعم الفنّي واللوجيستي المتلائم مع متطلباتها من قِبل الإدارات الرسميّة المعنيّة.


11.    قلّة الاستثمارات الموجّهة لتطوير قدرات الأفراد وتنميتها، إذ لا يتمّ في أغلب الأوقات تطوير الأنشطة المواكبة واللازمة للاستفادة من الموارد البشرية الشابة المتاحة في مجالات: التطوّع، الرياضة، الكشّاف، الخدمات المجتمعيّة، الفعاليات الشبابيّة، التدريب المهني أو الحرفي، التدريب على تحسّس المشاكل والقضايا المجتمعيّة المباشرة... الخ، وذلك بغياب أي دور مؤسسّي رسمي مستدام في هذا المجال6 .


12.    ضعف آليات الشراكة بين القطاع العام والبلديات واتحادات البلديات والقطاع الخاص المعمول بها في الوقت الحالي، والتي تقتصر في بعض البلدات على إدارة بعض المشاريع وتشغيلها لاسيما منها مولّدات الكهرباء، بينما المطلوب هو أن يتم تحريك المشاريع الحيويّة المولّدة لفرص العمل.


13.    أخيرًا، تُظهر الإحصاءات أن حوالي ثُلثي القوى العاملة في لبنان هم موظفون7 في مؤسسات تابعة للقطاع العام أو الخاص، ما يعني أن استمرار أزمة الوباء لفترات زادت عن عشرة أشهر حتى الآن، أدّى إلى ضياع فرص كبيرة للأعمال لدى أرباب الأسر والفئات الشبابية على حد سواء، وساهم في غياب وجود أي شكل من حاضنات الأعمال وضعف ثقافة "العمل الحر" في تفاقم الأزمات الحالية التي بات معها نحو نصف الشعب اللبناني تحت مستوى خط الفقر.

ثانيًا: الاقتراحات على مستوى التخطيط والتأسيس والإشراف والرقابة:   
لم يكن ممكنًا الوصول إلى اقتراحات عمليّة حقيقية دون استعراض السياسات الإشكاليّة السابقة والتي هي بحدّ ذاتها تُشكّل مدخلًا يمكن أن يساعد مُتخذي القرار على إعادة النظر في تأسيس اقتصادي حقيقي منتج وفعّال، خاصة وأن تداعيات أزمة ما بعد انتهاء الكورونا سوف تستمر لفترة طويلة مقبلة مع تردي الوضع الاقتصادي، ولهذا فإن هذه الاقتراحات سوف تأخذ شكل توصيات على مستوى التخطيط والتنظيم والإشراف على النحو الآتي:
1.    مراجعة مشاريع القوانين الخاصة بالمجالات التالية (بعضها موجود يحتاج إلى تفعيل وبعضها يحتاج إلى إعادة درس) ومنها:
-    إعادة درس مشروع قانون اللامركزيّة الإداريّة بحيث يلحظ الضاحية الجنوبية (الممتدة على قضاءين) باعتبارها كيانًا واحدًا. وذلك بهدف تكريس حيّز اقتصادي قوي متماسك وموازٍ حول بيروت.
-    تضمين القروض المفترضة من "سيدر" اقتطاعات خاصة لقطاعي الصناعة والاستثمار في التكنولوجيا وحاضنات الأعمال الموجّهة للفئات الشبابية.
-    مراجعة قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص لاسيما منه المواد المتعلقة بتحفيز الاستثمارات المخصصة لفئات الشباب.
-    اقتراح مجموعة التشريعات المناسبة لتطوير بيئة الأعمال8، مضافًا إليها الإجراءات والتدابير العملية المطلوبة لتطبيق مشروع الحكومة الإلكترونية فورًا، والتي كانت قد باشرتها وزارة الدولة لشؤون الإصلاح الإداري (OMSAR)، نظرًا لأهمية هذه الخطوة في مجالات متعددة أبرزها: الحدّ من تكاليف العنصر البشري على الخزينة وضبط الهدر والتهرب الضريبي وتعزيز التنافسية في بيئة الأعمال، بالإضافة إلى توفير مجال واسع من فرص العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.


2.    إنشاء مؤسسة الإنماء والإدارة الاقتصادية: وهي عبارة عن مكتب أو هيئة أو مؤسسة خاصة مؤلفة من اقتصاديين ومختصين في التنمية والاجتماع هدفها:
-    دعم تأسيس عدد من شركات الاستشارات في مختلف المناطق تقوم بدور حاضنات الأعمال.
-    توفير حلقات الربط الكفيلة بتأمين انسيابية زيادة الصادرات من الإنتاج المحلي في البلدات، والوصول بها إلى الأسواق عن طريق تحسين الوصول إلى الأسواق الجديدة والموجودة.
-    رعاية الابتكارات والأعمال الناشئة وتقويتها من خلال تأمين شبكات داعمة تتوجّه نحو قطاع متخصصة لاسيما في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
-    تحسين عملية المنافسة من خلال زيادة توفير التجهيزات للإنتاج الحجمي بين المناطق economies of scale، وتشجيع التعاون فيما بينها وزيادة التنوّع في القطاعات الإنتاجية.
-    تأمين التمويل الميسّر للمؤسسات الجديدة النامية من خلال توفير القروض والضمانات لصغار المستثمرين والمزارعين، وخلق المزيد من الأعمال والشركات الناشئة start-up jobs.
-    الاستفادة من القيمة المضافة للدور التمويلي المصغّر في مؤسسة القرض الحسن المُعلن لتمويل أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الناشئة وذلك كشريك مؤثر ومساهم تطوير في هذه العملية الاقتصادية.


3.    تشجيع الاستثمار في المشاريع المنتجة ذات الطابع البيئي والصحي.


4.    تأسيس صندوق التنمية الاستثماري9 الخاص بتمويل وإدارة العمليات المطلوبة الناتجة عن المشاريع الاستثمارية التي يمكن استحداثها أو الإبقاء عليها مع استمرار تداعيات الكورونا والأزمة الاقتصادية في البلد، باعتباره من أبرز عوامل النهوض بالاقتصاد اللبناني.


5.    إقرار إنشاء مكاتب التنمية المحلية في اتحادات البلديات على أن يكون من مهامّها- على سبيل المثال لا الحصر:
-    التواصل مع الشركات والمؤسسات الاقتصادية في مختلف البلدات وجمع المعلومات المحلّية عن الوظائف الشاغرة ووضعها في تصرّف المواطنين وخاصة الشباب.
-    وضع مؤشرات لتحديد أولويات تنفيذ المشاريع الحيويّة في المنطقة المعنية.
-    تطوير قدرة اتحاد البلديات على تنفيذ مشاريعها وإدارتها وتوفير سُبل الاستدامة لها.
-    استقطاب المهارات والخبرات المحلية وتلك الموجودة خارج نطاق الاتحادات، وتشجيع العمل التعاوني والتطوعي والتشاركي.
-    توجيه المستثمرين المحتملين نحو الاستثمار الفعّال والمطلوب بحسب الخصائص المتكاملة في لبنان.
-    دراسة عوامل التكامل التنموية الاقتصادية مناطقيًا بحسب الموارد المتاحة (المالية والمادية والبشرية).
-    تطوير التدريب المهني المعجّل الذي تؤدّي فيه بعض البلديات حاليًا دورًا مهمًا ليشمل: تطوير اختصاصات لمستويات تعليمية متقدمة في المجال الزراعي- الصناعي والتكنولوجيا (التسويق الإلكتروني)، افتتاح المؤسسات واحتساب تكاليف الإنتاجي والخسارة... الخ.

***

   1- تعود هذه الأرقام إلى مرحلة ما قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وهي إحدى المؤشرات المعتبرة والمعبّرة عن سوء توزيع المداخيل.
   2- كانت الخطة الأساسية في سيدر تتضمن إنفاق نحو 11 مليار$ على مشاريع البنية التحتية قبل أن يُعاد تقليص المبلغ إلى نحو 8 مليارات بحيث تم استثناء تمويل عدد من المشاريع كانت مخصصة بمعظمها للتنفيذ في المرحلة الثالثة من المشروع.
   3- دليل الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية، دراسة إحصائية تشتمل على نتائج مسح الأوضاع المعيشيّة للأسر المقيمة في لبنان المنفّذة بين عامي 2014- 2015، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق 2017.
   4- يمكن في هذا المجال الإشارة إلى أن الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية الصادرة رسميًا عام 2006 عن مجلس الإنماء والإعمار، والتي يتم الاستناد إليها في خطط التنمية المحلية، هي خطة لترتيب الأراضي وليست خطة للتنمية.
   5- دليل الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية، مصدر سابق.
   6- تم رصد بعض المشاريع الحيوية التي نُفّذت بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية (مشروع التطوع على سبيل المثال)، لكنها تحتاج إلى تفعيل وتطوير لتشمل كل الشرائح السكانية التي يمكن الاستفادة من طاقاتها.
   7- دليل الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية، مصدر سابق.
   8- منها على سبيل المثال لا الحصر:
       -    قانون الضريبة التصاعدية الموحّدة على الدخل.
       -    تعديل قانون النقد والتسليف، بما ينسجم مع أهداف عملية إعادة الهيكلة وضمان عدم تكرار أسباب الأزمة النقدية والمالية الحالية.
       -    قانون نظام التقاعد والحماية الاجتماعية لجميع المقيمين.
       -    قانون المؤشرات الفنية والجغرافية.
       -    قانون تنمية الصادرات.
   9- كتاب "مؤتمر مشروع الليطاني المنسوب 800م، التحديات وسُبل الاستفادة، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق 27-28 تشرين الثاني 2018، ورقة الدكتور عباس رمضان: الرؤية الاقتصادية والمالية لمنطقة المشروع في ضوء دراسة الجدوى.

 مقالات: العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية، أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم / د. حسين العزي - تموز 2020

مقالات: العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية، أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم / د. حسين العزي - تموز 2020

إصدار 2020-07-14

مع توقيع الرئيس "ترامب" للأمر التنفيذي في الحادي عشر من شهر حزيران من العام الجاري، باتت الولايات المتحدة الأميركية ملاذًا آمنًا لمجرمي الحرب ومرتكبي الانتهاكات الجسيمة لأعراف الحرب وقوانينها، ولم يكن هذا القرار مفاجئًا للمعنيين في المحكمة الجنائية الدولية، فالسوابق الأميركية في سياق التعاون مع طلبات المحكمة كانت تؤكد هذه النتيجة.
ففي العام 2019 ألغت الولايات المتحدة تأشيرة دخول المدعية العامة للمحكمة الجنائية، "فاتو بنسودا" انتقامًا منها، بعد أن أذنت المحكمة بإجراء تحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل القوات المسلحة الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية وحركة طالبان في أفغانستان. وكان قد سبق ذلك صدور مواقف منددة ومهددة تجاه طاقم عمل المحكمة، حيث صرّح وزير الخارجية "مايك بومبيو" قائلًا "لن نقف مكتوفي الأيدي لأن محكمة هزلية تهدد مواطنينا"، في حين وجّه وزير الدفاع "مارك إسبر" حديثه إلى جنوده قائلًا: "لن تمثلوا أمام المحكمة الجنائية الدولية أبدًا، ولن تخضعوا أبدًا لأحكام الهيئات الدولية".

أولًا: في مضمون القرار
استند الرئيس "ترامب"، في فرض العقوبات على صلاحياته بموجب الدستور وقانون السلطات الاقتصادية الدولية للطوارئ، وقانون الطوارئ الوطنية قانون الهجرة والجنسية للعام 1952.
وجاء في مقدمة الأمر(القرار)، بما يشبه الأسباب الموجبة لإصداره، أن دافعه يتجلّى بتهديد الأمن القومي الأميركي. حيث ذكر القرار أن تأكيد ممثلي المحكمة الجنائية الدولية المتكرر لصلاحيتها القضائية على موظفي الولايات المتحدة وبعض حلفائها، بما فيها تحقيق مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية في الأعمال المرتكبة من قبل أفراد الجيش والمخابرات الحاليين والسابقين في أفغانستان، يهدّد بتعريض حكومة الولايات المتحدة ومسؤولين رسميين حلفاء لها. وهذه الإجراءات من جانب المحكمة تهدد بخرق سيادة الولايات المتحدة وإعاقة عمل الأمن القومي والسياسة الخارجية، وتشكل حالة الطوارئ الوطنية.
ويعلل القرار رفضه لاختصاص المحكمة بأن الولايات المتحدة ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ولم تقبل قط اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على موظفيها، وأنه مخالف لقانون الخدمة الأمريكية للعام 2002.
وبالتالي فإن العقوبات ستفرض حال حصول محاولة من قبل المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو مقاضاة موظفي الولايات المتحدة أو موظفي دول حليفة لها ليست أطرافًا في نظام روما الأساسي دون موافقة من الولايات المتحدة.

ومن أبرز ما تضمّنه القرار الآتي ذكره:
- مصادرة جميع الممتلكات والمصالح المتعلقة بها الموجودة في الولايات المتحدة، والتي تدخل اليها، أو التي تكون أو أصبحت فيما بعد في حيازة أو سيطرة أي شخص في الولايات المتحدة، من الأشخاص الآتي ذكرهم، ولا يجوز نقلها أو دفعها أو تصديرها أو سحبها أو التعامل بها بأي شكل آخر من قبل:
 (1) أي شخص أجنبي يحدده وزير الخارجية، بالتشاور مع وزير الخزانة والمحامي العام:
-  يكون قد انخرط بشكل مباشر في أي نشاط من جانب المحكمة الجنائية الدولية فيما خص التحقيق مع أي من موظفي الولايات المتحدة أو اعتقالهم أو احتجازهم أو مقاضاتهم دون موافقة الولايات المتحدة؛ ويسري ذلك على موظفي الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، إذا تمّ ذلك دون موافقة الحكومة الأميركية.
-  قدّم المساعدة المادية أو غير المادية أو الدعم المادي أو التكنولوجي..، أو
-  أن تكون ممتلكاته مملوكة أو خاضعة لسيطرة أو تصرّف شخص يدّعي بأنه يعمل لصالح، أي شخص جرت مصادرة ممتلكاته ومصالحه بموجب هذا الأمر.
-  حظر التبرعات التي تتم بواسطة لصالح أي شخص صودرت ممتلكاته ومصالحه.
- تعليق دخول المهاجرين غير المقيدين إلى الولايات المتحدة بالنسبة للأجانب ولأفراد الأسر المباشرين لهم، إذا ما قرّر وزير الخارجية بأنهم يعملون لدى المحكمة الجنائية الدولية، أو يعملون كوكلاء لها.
ويطبّق هذا القرار على أي شخص معنوي أو طبيعي متواجد على الإقليم الأميركي، كما أنه يمنح الحصانة لأفراد جيوش ومسؤولين في الدول الحليفة للولايات المتحدة" أو أي شخص آخر يعمل لصالح دولة عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو وعددها 28 دولة) أو "حليف رئيسي من خارج الناتو".

ثانيًا: في مخالفة القرار للمبادئ القانونية المطبقة في القانون الجنائي الدولي
ينتهك هذا القرار، وبشكل فاضح، بعض المبادئ المستقرة في القانون الجنائي الدولي، يمكن ذكر أبرزها كالآتي:
- المبدأ الأول: مبدأ سلَم أو حاكم  aut dedere aut judicare
يعود هذا المبدأ بجذوره التاريخية إلى الفقيه هوغو غروثيوس، الذي طرح مبدأ التسليم أو المعاقبة (aut dedere aut punire). ويؤدي هذا المبدأ دورًا محوريًا في مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم، ولا سيما في الجنايات ذات الأهمية الدولية. وبالمقابل ترتكز سياسة الولايات المتحدة على منح حصانة جنائية لأفراد جيشها أو مواطنيها من مرتكبي الجرائم الدولية وخاصة في قضايا التعذيب، كالتي شهدها العالم في سجني أبو غريب وغوانتانامو، وهذا ما يحتّم مسؤوليتها الدولية استنادًا لاجتهاد محكمة العدل الدولية حيث خلصت في قضية (بلجيكا ضد السنغال 2012) إلى أن انتهاك التزام دولي بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب هو فعل غير مشروع يترتب عليه مسؤولية الدولة. فالغرض من الالتزام بالتسليم أو المحاكمة هو منع الأشخاص الملاحقين من الإفلات من العقاب ومن حصولهم على ملاذ آمن. ويعود الالتزام بمبدأ "سلّم أو حاكم" بجذوره القانونية الى أسس متعددة وذلك على النحو الآتي:
I.    العرف الدولي فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، وبالإبادة الجماعية، وبالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وبجرائم الحرب.
II.    القواعد الآمرة (Jus Cogens) عندما ينشأ الالتزام بالتسليم أو المحاكمة عن القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي.
وفي كلتا الحالتين، تكون الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها ملزمين بموجب التسليم أو المحاكمات الجدية غير الصورية، دون حاجة لوجود صك اتفاقي أو تعاهدي مع شخص من أشخاص القانون الدولي.
(2) المبدأ الثاني: مبدأ الولاية القضائية العالمية   (Universal Jurisdiction)
ويعرّف هذا المبدأ بأنه: الاختصاص الذي يمنح لكل قضاة العالم أهلية متابعة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة طبقًا لقوانينهم العقابية، بغض النظر عن مكان ارتكابها، وجنسية الأطراف، وبهذا يعدّ الاختصاص العالمي استثناء على مبدأ إقليمية قانون العقوبات، وهو بمثابة آلية إجرائية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدوليةّ. كما يشكّل إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني وقمعها، المكرّسة في اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكوليها الإضافية للعام 1977، والمشمولة أيضًا بالقانون الدولي العرفي. وتتعدّد الأسس القانونية لهذا المبدأ، فمنها ما هو اتفاقي تعاهدي كاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984، ومنها ما هو عرفي كتجريم الرق والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم ضد السلام والتعذيب، وتجريم الفصل العنصري، والتي بمعظمها من القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي فلا يجوز انتهاكها أو تقييدها تحت طائلة البطلان وفقًا للمادة (53) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات.

ثالثًا: في تعطيل دور مجلس الأمن الدولي في تحريك قضايا تدخل في الاختصاص النوعي للمحكمة الجنائية الدولية، وعرقلة سير العدالة الجنائية.

دخل نظام روما للعام 1998 حيّز النفاذ في 11 نيسان 2002، وفي الأول من تموز من العام 2002 أصبح للمحكمة أهلية تامة لمحاكمة الأفراد المرتكبين لأشد الجرائم خطورة كما حددتها المادة (5) وهي جرائم الإبادة للجنس البشري، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.
ومن خلال تحليل هذه المواد، يتضح لنا أن قرار العقوبات الخاص بالمحكمة من شأنه أن يعطّل إعمال الفقرة (2) من المادة (13)، والتي تنص على: "إذا أحال مجلس الأمن، متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت..."، كما يقوّض صلاحيات مدعي عام المحكمة في مباشرة التحقيق بجرائم دولية عملًا بنص المادة (13) الفقرة الثالثة معطوفة على المادة (15) منه ونصها "للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل تحت اختصاص المحكمة".
وعليه، يتبيّن لنا خطورة تداعيات هذا القرار من خلال الاطلاع على مفاعيله الكارثية بحق الإنسانية، إذ يستفاد من ذلك أن الرئيس "ترامب"، بقراره هذا قد عطّل إمكانية إعمال مبدأ الصلاحية العالمية للمحكمة أو أي دولة أخرى إذا رغبت في ملاحقة ومساءلة مرتكبي الجرائم الجسيمة المشمولة بالاختصاص النوعي للمحكمة. وهذا التعطيل يصبّ في مصلحة إباحة التجريم دون الخشية من العقاب، وبالتالي انتهاك لمبدأ المصلحة الدولية المشتركة المتمثلة بتعزيز الأمن الجماعي وهو من مقاصد ميثاق الأمم المتحدة.
ولا يخفى على أحد، أن حلفاء الولايات المتحدة كالسعودية والأمارات متورّطون بجرائم حرب في اليمن، ويمكن مقاضاة الدول المتحالفة ضده عن جرائمهم وانتهاكاتهم الجسيمة لاتفاقيات جنيف للعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية بصرف النظر عن انضمامهم اليها، لأنها باتت بمعظمها أعرافًا دولية ملزمة ولا تحتاج لرضا الدول. كما أن الكيان "الإسرائيلي" متورط بجرائم حرب وإبادة في غزة، وبالتالي يمكن للسلطة الفلسطينية وهي دولة طرف في المحكمة الجنائية الدولية مقاضاة العدو الإسرائيلي على جرائمه، وهي بالفعل بدأت بذلك.

وخلاصة الأمر، يظهر بوضوح مستوى الازدراء الأميركي للقيم الإنسانية، وبالتالي عمّا قريب ستتحوّل أميركا إلى ملاذ آمن لمجرمي الحرب في العالم.


* أستاذ جامعي وباحث قانوني.

 مقالات | الأفول العسكري الأميركي والتداعيات على الكيان الصهيوني / زياد حافظ - أيار 2020

مقالات | الأفول العسكري الأميركي والتداعيات على الكيان الصهيوني / زياد حافظ - أيار 2020

إصدار 2020-05-30

بينما ينشغل العالم في مواجهة جائحة كورونا من جهة والانكماش الاقتصادي من جهة أخرى الذي يصيب كل اقتصادات العالم هناك حقائق يتّم تجاهلها علما أن تأثيرها على صراعات مزمنة في المنطقة العربية واضحة للغاية. فما زالت هناك نخب تراهن على دور أميركي في حسم الصراعات القائمة وتبني سياساتها على فرضية القدرة الأميركية التي لا يمكن الوقوف بوجهها. وتعتمد هذه النخب على قراءة مجتزئة للأحداث للتأكيد على مراهنتهم. فمثلًا، يعتبرون مضي حكومة الكيان في ضم الضفة الغربية كأمر واقع لن يخضع لأي مقاومة سياسية أو ميدانية تذكر بسبب الدعم المطلق للإدارة الأميركية الحالية. وإذا كنّا لا ننكر وجود ذلك المشهد إلاّ أن قراءة عناصر المشهد المتحرّكة تفيد أن إمكانية تثبيت قرار الضم قد تكون له كلفة لا يستطيع الكيان ومعه الإدارة الأميركية تحمّلها.  وهذه القراءة ليست قراءة رغبوية كما يسارع البعض على نقضها بل مبنية على تقدير دقيق لموازين القوّة والتي سنستعرض بعض عناصرها في هذه المقاربة. 
كنّا أشرنا في مقاربات سابقة إلى عناصر الأفول الأميركي التي تنذر بالانهيار الكامل وليس فقط التراجع كما يحاول البعض التخفيف من حدّة المسار الأميركي الحالي. وهذه العناصر تعود إلى التحوّلات في كل من البنية الاقتصادية والسياسية والسكّانية والاجتماعية مفادها عدم قدرة الولايات المتحدة التكيّف مع تلك التغييرات ضمن إطار النظام القائم والخيارات الاقتصادية السياسية المتبعة منذ حوالي خمسة عقود. وما يزيد الطين بلّة هو الأفول العسكري الذي حاولت الولايات المتحدة عبر العقود الماضية تصوير قدراتها العسكرية بأنها كافية لفرض الأمر الواقع في مختلف أنحاء العالم.  هذا ما هو مقصود بمفهوم "إسقاط القوّة" (projecting power) في العالم لجعل الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الشامل (global reach). فتراجع القدرات العسكرية بالعتاد والقيادة والرجال يحول دون تحقيق ذلك النفوذ الشامل.
وفي الحقيقة إن رداءة الأداء العسكري الأميركي أمر مزمن ويعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية. وللمؤرّخ العسكري البريطاني سير باسيل ليدل هارت مؤلفّات يقارن فيها أداء الجيش الياباني والألماني والأميركي. من سخريات القدر هي أن الأداء الأحسن لم يكن ليحقق النصر حيث الأداء الياباني والألماني كان متفوّقا على الأداء الأميركي والبريطاني ولم يكن كافيا لمواجهة المحدلة الأميركية التي كانت تستمد قوّتها من الثراء وقوّة الاقتصاد الأميركي. فلولا الثروة الأميركية لما استطاعت الولايات المتحدة من أن "تنتصر". فحتى "النصر" في المسرح الأوروبي للعمليات خلال الحرب العالمية الثانية حققته قوّات الاتحاد السوفياتي التي أنهكت قوى الجيش الألماني بينما الجبهة الغربية التي كانت تقودها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانت ثانوية بالمعنى الاستراتيجي. 
لكن بغض النظر عن تقييم ليدل هارت لأداء الجيش الأميركي يمكن التساؤل ما هي الحروب التي شنّتها وربحتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالحرب على كوريا كانت نتيجتها "تعادلًا" حيث لم تستطع الولايات المتحدة القائدة لحلف أممي آنذاك من حسم الحرب. أما في حرب فيتنام فمنيت الولايات المتحدة بهزيمة نكراء شكّلت كابوسًا على القيادات العسكرية الأميركية التي ما زالت تعاني حتى الساعة من جرّاء تلك الهزيمة. صحيح أنها استطاعت احتلال كل من أفغانستان والعراق وتدمير البلدين لكنّها لم تحقّق أي نصر سياسي بل اضطرت إلى الخروج من العراق وهي في طريقها من الخروج من أفغانستان. "النصر" الوحيد الذي حقّقته الولايات المتحدة هو ضد الجزيرة الصغيرة غراناد في بحر الكاريبي! كما لا بد من الإشارة إلى تراجع الولايات المتحدة من لبنان عام 1983 بعد تفجير ثكنة المارينز وفشل احتلالها للصومال في مطلع التسعينات. فهي الآن تدرس الخروج من كل من العراق وسورية وأفغانستان حيث وجودها أصبح عبئًا عسكريًا على قوّاتها يصعب تفاديه وحتى تخفيفه. فالولايات المتحدة كانت دائمًا مصمّمة على افتعال حروب وخوضها ولكن كانت تخسرها دائمًا وفقًا لما جاء تعليق لوليام استور، وهو ضابط سابق في الجيش الأميركي برتبة مقدّم، في افتتاحية لموقع "توم ديسباتش" في 25 تشرين الأوّل 2018. فـ "النصر" العسكري يبقى إذا في مخيّلة هوليوود التي تنتج الأفلام والمسلسلات التي تمجّد قدرات القوّات العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية! 
لكن إذا ما دققنا في جهوزية القوّات الأميركية حاليًا نرى أنها في حالة لا تتناسب مع الطموحات المقترنة بها. هناك دراسات عديدة وتقارير أميركية حول جهوزية القوّات المسلّحة الأميركية بفروعها الأربعة (الجيش، والبحرية، والطيران، وقوّات المارينز) تؤكّد عدم الجهوزية لأية مواجهة مع أي طرف يمتلك الحد الأدنى من القوّة ولكن بكثير من الثبات والعناد. فالتصوّرات الافتراضية التي قامت بها مؤسسة راند كوربوريشن وهي مركز أبحاث تابع لوزارة الدفاع الأميركية تفيد بأن أي مجابهة مع كل من روسيا أو الصين ستنتهي بهزيمة نكراء للقوّات الأميركية (استعملت المؤسسة مصطلح "rout" الذي يعنى الهزيمة النكراء). هنا لا بد من الإشارة إلى التقييم السنوي الذي تعدّه مؤسسة "أمريكان هريتاج فونديشن" (مؤسسة التراث الأميركي)، وهي مؤسسة محافظة جدّا وعريقة. هي الوحيدة التي تقوم بذلك التقييم منذ عدّة سنوات. ففي تقريرها لعام 2020 تناول فيه جهوزية كل من السلاح الجوّي والقوّات البرّية وقوّات المارينز والقوّات البحرية إضافة إلى القوّة الصاروخية تبيّن أن الجهوزية في كافة فروع القوّات المسلّحة الأميركية هي "هامشية" (marginal). هذا يتقاطع مع تصريح رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي وإن كان لأسباب سياسية يريد التخفيف من قلّة الجهوزية.
فما يزيد الطين بلّة هو شهادات قيادات هيئة الأركان المشتركة خلال السنين الماضية إلى عدم جهوزية القوّات المسلّحة لأي عمل عسكري متوسّط أو طويل المدى. هذه الشهادات أشرنا إليها بتواريخها في مقاربات سابقة. أما إفادة رئيس هيئة الأركان المشتركة الجديد مارك ميللي في 19 تشرين الثاني 2019 فور استلام مهامه في ذلك الشهر فكان تركيزه على إعادة جهوزية القوّات المسلّحة، أي إقرار بعدم الجهوزية. هذه الإفادة كانت لمجّلة "ارمي سستينمنت" (Army Sustainment) التابعة لوزارة الدفاع المختصّة بالشؤون العسكرية. عاد فيقول في شهر آذار 2020 أن الجهوزية بلغت 40 بالمائة مما هو مطلوب حيث الحد الأدنى هو 60 في المائة! أما جائحة الكورونا فأتت لتوجه ضربة قوية لجهوزية القوّات البحرية الأميركية حيث معظم قطعها وطواقمها البحرية محتجز بسبب الجائحة. هذا ما جعل بعض القيادات العسكرية تطلّق تصريحات تحذّر كل من الصين وروسيا بعدم استغلال جائحة الكورونا و"الوقوع بسوء تقدير للجهوزية الأميركية العسكرية". هذا النوع من "التطمينات" يثير القلق أكثر مما تثير الطمأنينة بالنسبة للأميركيين (لماذا تلك التصريحات؟).
وما يعزّز القلق الأميركي هو ما كشف عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه للأمة في آذار 2018 عن نوع السلاح الجديد الذي تمتلكه روسيا من صواريخ فائقة السرعة (hypersonic) التي يمكن اطلاقها من منصّات متحرّكة أو قطع بحرية أو طائرات حربية تجعل رصدها مستحيلًا أو في غاية الصعوبة. كما أنه كشف في نفس الخطاب عن سلاح جديد يتمتع بتكنولوجيا التخفّي (stealth technology) تجعل أيضًا السلاح الجوّي الروسي بعيدًا عن الرصد. هذا يعني عدم تمكّن الولايات المتحدة من رصد واتخاذ التدابير الوقائية والدفاعية لحماية قطع اسطولها في الوقت القصير جدًا (اقل من ثلاث دقائق بين إطلاق الصاروخ وإصابة الهدف). هذا جعل أحد المراقبين للتسليح الروسي يقول إن مجمل الأسطول الأميركي أصبح خردة عائمة في البحور ولا قيمة قتالية لها، فيمكن القضاء عليها خلال دقائق معدودة!
هذا النوع من السلاح التقليدي الكاسر للتوازن بات يشكّل هاجسًا عند القيادات الأميركية حيث صرّح منذ بضعة أيام الرئيس الأميركي عبر إحدى تغريداته بأن الولايات المتحدة ستمتلك صواريخ فائقة السرعة و "أحسن" من الصواريخ الروسية! من الصعب اعتماد تصريح الرئيس الأميركي واقعًا حيث اشتهر بالمبالغة وبعدم الإفصاح عن الحقيقة! هذا ما دفع الإدارة الأميركية بتخصيص أكبر موازنة في تاريخ الولايات المتحدة لشؤون الدفاع حيث تضاعفت بين 2018 (حوالي 740 مليار دولار) و2020 (حوالي تريليون ونصف دولار!) وذلك لإعادة تأهيل الترسانة النووية الاستراتيجية حيث تم اكتشاف عدم جهوزيتها، ولإعادة تأهيل العتاد الأميركي. كل ذلك لن يتحقق قبل 2024 إذا ما سارت الأمور كما يرام ودون عراقيل تقنية. وهنا بيت القصيد حيث جودة الإنتاج التسليحي الأميركي أصبحت ضعيفة مقابل ما تنتجه روسيا والصين وحتى الجمهورية الإسلامية في إيران في الحروب السيبرية.  فازدياد الانفاق العسكري لا يعني إمكانية التملّك من سلاح يوازي السلاح الروسي الجديد لأن التسليح الأميركي هو بيد الشركات الخاصة التي همّها الربح وليس الجودة أو الكلفة. والعلاقات الفاسدة بين تلك الشركات والبنتاغون هي ما جعلت المجمع العسكري الصناعي يتحكّم بالأمور في الداخل الأميركي ولكن لم يؤمّن بالضرورة الحماية الأميركية لا في الداخل ولا في الخارج. أحداث أيلول 2001 دليل على ذلك والإخفاقات في كل من أفغانستان والعراق دليل آخر. ويعتبر العديد من المراقبين أن الفجوة بين روسيا والولايات المتحدة في التسليح النوعي التقليدي وصلت إلى عشرة سنوات. أي الولايات المتحدة متأخرة عن روسيا بعشرة سنوات على الأقلّ!
غير أن من ضمن المشاريع لإعادة تأهيل القدرات العسكرية تطوير قنابل نووية تكتيكية يمكن استعمالها وفقًا للتقديرات الأميركية في الميدان دون الانجرار إلى حرب نووية شاملة تدمّر المعمورة عدّة مرّات! في هذا السياق هناك من يفكّر جدّيًا في الأروقة الأميركية وخاصة عند المحافظين الجدد أن استعمال السلاح النووي التكتيكي ممكن دون الوصول إلى مواجهة نووية شاملة. لكن ليس هناك من يضبط إيقاع تلك الحرب. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين له كلمة مأثورة هي أن بإمكان الولايات المتحدة توجيه ضربة استباقية بسلاح تكتيكي نووي غير أنهم لن يكونوا أحياء لمشاهدة صعودنا إلى السماء!  لذلك العقلانية تستبعد استعمال سلاح أوجد أصلًا لعدم استعماله لكن مستوى الرداءة في النخب الحاكمة في الولايات المتحدة من فساد وجهل يجعل الحماقة القاتلة ممكنة.
على الصعيد التسليح التقليدي فتفيد الدراسات العسكرية أن الأسطول الجوّي الأميركي من طائرات مقاتلة أف 15 وأف 16 وأف 18 أصبحت قديمة وشبه متآكلة. أما درّة السلاح الجوّي الأميركي أف 35 فتشكو من عيوب قاتلة تجعلها أقل جودة من نظيرتها الروسية سوخوي 57 وفقا لموقع "ذي ساكر" (أي الساعي) الذي نشر سلسلة من الدراسات المعمّقة عن التسليح الروسي مقارنة بالتسليح الأميركي. ويشير الموقع أن آخر منتوج أميركي من الجيل الخامس للطائرات المقاتلة لا يستطيع الطيران لمدة مستديمة بسرعة فائقة للصوت ما يجعلها ضعيفة أمام نظيراتها الروسية وحتى الصينية.
وعدم الجهوزية تتفاقم في مختلف فروع القوّات المسلحة حيث مهزلة الأداء العسكري الأميركي للقوّات المارينز في كل من أفغانستان والعراق تدلّ بوضوح أن أقصى ما يمكن أن تؤدّيه تلك القوّات هو حماية نفسها وليس دائما كما يجب. كما لا بد من الإشارة إلى السقوط في امتحان المواجهة مع الجمهورية الإسلامية في إيران حيث تجنّبت الولايات المتحدة تنفيذ تهديداتها في حال تمّ المس بمصالح حلفائها فكان السكوت هو الردّ الأميركي على استهداف الناقلات الخليجية واستهداف منشآت أرامكو. كما أن السكوت كان الرد على إسقاط درّة طائرات التجسّس الأميركية والتي وصلت كلفتها إلى 250 مليون دولار. أما اغتيال كل من رئيس الحرس الثوري قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس فكانت له نتائج عكسية خاصة أن الرد السياسي الاستراتيجي كان الإعلان على لسان السيد حسن نصر الله اخراج القوّات الأميركية من المنطقة. كما جاء الرد الإيراني على ذلك الاستهداف بقصف قاعدة الأسد مع ما شكّلته دقّة القصف من رسالة إلى القيادات الأميركية. ومؤخرًا لم تجرء الولايات المتحدة على تنفيذ تهديداتها بمنع الناقلات العملاقة الإيرانية من الوصول إلى فنزويلا محمّلة بالمشتقات النفطية والتي كسرت هيبة الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية.
أخيرًا لا بد من الإشارة إلى الفساد المتفشّي في الكلّيات الحربية الأميركية سواء في السلاح الجوّي أو البحري أو البرّي حيث تدنّت مستويات الطلاب الملتحقين بتلك الكلّيات، أي ضبّاط المستقبل، وفقًا لإحصاءات ودراسات أشارت إليها مجلّة "اميركان كونسرفاتيف" (الأميركي المحافظ) في 9 آذار/مارس 2020. الفساد المستشري أدّى إلى هبوط مستوى القبول في تلك الجامعات المرموقة كوست بوينت ويو اس نافال أكاديمي) ما يشكّل تهديدًا للأمن القومي الأميركي. وكاتب المقال هو أستاذ القانون تيم باكن ويدرّس في الجامعة العسكرية وست بوينت ما يعطى مصداقية كبيرة لكلامه. كما أن كتابه الذي صدر مؤخّرًا بعنوان مدوي: "كلفة الوفاء: سوء الأمانة، عنجهية، وفشل في القوّات المسلّحة الأميركية" (Cost of Loyalty: Dishonesty, Hubris, an Failure in the US Military).  فالأجيال الجديدة من الضباط لن تكون بالمستوى المطلوب لمواجهة مختلف التحدّيات. فهي بمعظمها ستكون محكومة بمصالحها الخاصة وبالتالي لن تكون بعيدة عن التواطؤ مع السياسيين الفاسدين للتقدّم في سلمّ الترقيات.
بناء على كل ذلك فإن الرهان الصهيوني على التدّخل العسكري الأميركي في مواجهتنا مع الجمهورية الإسلامية في إيران أمر مشكوك به بل مبني على تقديرات رغبوية وخاطئة. فحكومة العدو جعلت من عدائها للجمهورية الإسلامية لإيران، ومعها لمحور المقاومة بأكمله، نقطة ارتكاز سياستها الخارجية التي تريد توظيفها في المشهد الداخلي المتقلّب والهش. فالإخفاق في تحقيق أي تقدّم على ذلك الصعيد سيجعل باقي السياسات الصهيونية في مهبّ الريح بما فيها الاعتماد على سياسات التطبيع التي تقوم بها بعض دول المنطقة. فالتطبيع رهن "القوّة الصهيونية" والمؤثّرة على القرار الأميركي. فإذا تبعثرت تلك القوّة وتلازمت مع الضعف الظاهر للولايات المتحدة فسيأتي يوم لن يكون ببعيد تقوم به حكومات الدول اللاهثة إلى التطبيع بمراجعة تلك السياسات. وهذا ما سيضاعف العجز الصهيوني داخليًا وخارجيًا. لذلك ليس من الضروري من الهجوم على الكيان أو حتى على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة فهي رهن الانهيار من داخلها بسبب انكشاف العجز الموضوعي والذاتي فيهما. المهم هو التحلّي بالصبر الاستراتيجي والجهوزية الكاملة لمواجهة أي عمل أحمق وترك الأمور تسير بشك طبيعي نحو انهيار المحور الأميركي الصهيوني في المنطقة.
* كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

 مقالات | جائحة كورونا: نتائج وتداعيات / عبد الخالق فاروق - أيار 2020

مقالات | جائحة كورونا: نتائج وتداعيات / عبد الخالق فاروق - أيار 2020

إصدار 2020-05-30

إن السياقات الأربعة لجائحة كورونا هي التالية على مستوى الخسائر البشرية والصحية أ خلال يوما من الأزمة كانون الأول نيسان سجلت الإحصاءات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية وكذلك للدول المختلفة وفاة حوالي ألف شخص علاوة على مليون مصاب كثير منهم في حالة خطيرة ومعظمهم في الصين والولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وإيران وفرنسا الخ ب من المرجح مع استمرار الأزمة لستة شهور أخرى أن يرتفع عدد المصابين إلى ملايين وأن يتوفى منهم ما يربوا على ألف نسمة من بينهم ألف نسمة في الولايات المتحدة وحدها ج أحدث عجز دول العالم أجمع أمام هذا الفيروس هزة نفسية وثقافية للبشر جميعا وانقسموا إلى تيارين الأول التيار المؤمن الذي أعتبرها رسالة وإنذارا إلهيا للبشرية التي طغى عليها النزوع المادي والتفلت الأخلاقي أو على الأقل هي رسالة تحد لكل البناء الحضاري المادي للبشرية الراهنة حيث تسبب كائن لا يرى بالعين المجردة بتوقف مسار عجلة الحياة كلها سواء في العالم المتقدم أو المتخلف الثاني التيار المادي الذي أصابته حالة من الإحساس بالعجز والخوف والصدمة من عدم قدرة التطورات العلمية والتكنولوجية التي وصلت إليها الحضارة البشرية في مجال الطب والدواء على إنقاذ حياة مئات الآلاف ومن ثم أنتاب هؤلاء إحساس بالشك وانعدام الثقة بقدرة مجتمعاتهم على مد حبل الإنقاذ لمئات الملايين من البشر ونظن أن هذا الإحساس والمتناقض لدى التيارين سوف يستمر لسنوات طويلة قادمة د لا شك أن هذه الأزمة لن تمر دون أن تترك جراحا غائرة في النفوس لسنوات طويلة وتزرع بذور عدم الثقة بين الشعوب الأوروبية بعضها البعض وكذا بين الشعوب الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية لسوء تصرفاتها أثناء هذه الأزمة على المستوى الاقتصادي لا شك أن أزمة وباء فيروس كورونا الذي ضرب العالم كله مطلع والذي يرجح أن يستمر لعام أو عامين بعد أن تكون قد انكسرت حدته سيترك أثارا مزعجة على الاقتصاد العالمي سواء على المستوى الجماعي أو على مستوى اقتصادات الدول فرادى ومن أهم تلك الآثار والتداعيات إذا استمرت الأزمة بنفس الدرجة حتى منتصف عام فسوف ينخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحوالي إلى أي بحوالي تريليون إلى تريليون دولار تتمثل في توقف عجلة الإنتاج والخدمات والتبادل التجاري وستكون أكثر الدول المتضررة هي الولايات المتحدة الصين إيطاليا فرنسا إسبانيا والمدهش أن إيران لن تكون من المتضررين الكبار بسبب وقوعها تحت سيف المقاطعة والحصار الاقتصادي منذ فترة ليست قصيرة ستؤدى الأزمة إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل بأكثر من من القوى العاملة في العالم أي ما يزيد عن مليون عامل وستكون أكثر القطاعات تعطلا السياحة والطيران والسفر والمطاعم والخدمات الترفيهية علاوة على كثير من قطاعات الإنتاج والتجارة والخدمات ستؤدى الأزمة إلى زيادة معدلات الفقر والبؤس في كثير من دول العالم خصوصا الدول النامية ومنها مصر لثلاثة أسباب أولها سياسات الإغلاق والجلوس في البيت والعزل الاجتماعي وثانيها ضعف إن لم يكن غياب سياسات الحماية الاجتماعية الفعالة وإعانات البطالة وبرامج تعويضية كافية وثالثها كبر حجم قطاع العمالة غير المنظمة وتدني دور الدولة وسيطرة القطاع الرأسمالي الخاص الذي يفتقر إلى أرث التعاون والتراحم الاجتماعي بهذه الأزمة الجائحة دخل الاقتصاد العالمي حالة من الركود الذي يتزامن فيه انخفاض الطلب وانخفاض العرض وقد تحتاج هذه الحالة إلى عامين أو ثلاثة أعوام للخروج منها والعودة إلى مستوى التشغيل الذى كان قائما قبل الأزمة ترتب على أزمة كورونا انخفاض التشغيل وبالتالي انخفاض الطلب على البترول والغاز وسوف ينعكس هذا الوضع على التنافس غير الإيجابي بين المنتجين للنفط والغاز والدخول في حرب أسعار والصراع من أجل الاستحواذ على قطاع أكبر من السوق وهو ما بدأ فعليا في حرب الأسعار الذي بدأته السعودية في مواجهة وروسيا وربما تحت وهم خدمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حملته الانتخابية الجديدة في نهاية هذا العام سيؤدي هذا الوضع إلى خسائر فادحة لمنتجي النفط الكبار روسيا السعودية ولكنها لن تمتد بآثارها السلبية إلى بقية منتجي النفط في دول الخليج وفنزويلا والمكسيك والعراق ومشيخات الخليج العربية ويقدر حجم هذه الخسائر إذا استمرت لثلاثة شهور قادمة دون سعر دولارا للبرميل بحوالي مليار دولار على الأقل ستؤدي الأزمة حتما إلى تدني تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر على المستوى العالمي لفترة عامين إلى ثلاثة أعوام على الأقل مما سيؤدي إلى تدني مستوى التشغيل في الدول النامية وانخفاض معدل النمو في الناتج القومي لهذه الدول أدى تمادي السلوك المتغطرس والعدواني للولايات المتحدة في فرض عقوبات على روسيا وفنزويلا والصين وإيران إلى تزايد فرص كسر هذه العقوبات من جانب بعض الدول الأوروبية وغير الأوروبية برغم الخسائر الاقتصادية الكبيرة لكل من الصين وروسيا فقد عززت الأزمة فرصهما لتحسين وضعهما الدولي وصورتهما لدى معظم شعوب العالم وبعض الأنظمة السياسية في أوروبا إيطاليا جمهورية الصرب والجبل الأسود ومن ثم زيادة فرص تعزيز علاقتهما الاقتصادية وكسر الغرور والغطرسة الأميركية المؤكد أن هذه الأزمة والسلوك الأميركي السلبي جدا سوف يؤديان إلى تعزيز وتسريع خلق الكيانات والتكتلات الاقتصادية والسياسية الدولية خارج النفوذ الأميركي شنغهاي البريكس الآسيان المجموعة الأوراسية ودعم مؤسسات التمويل البديلة مثل البنك الآسيوي للتنمية الذي أسسته الصين وكذلك صناديق التعاون الاقتصادي المشترك والتخلص بصورة أسرع من هيمنة الدولار على نظام الدفع والاحتياطيات الدولية وربما تفكك صيغة بريتون وودز من المرجح أن تضعف أو تتباطأ عملية الوحدة الأوروبية وقد تجري عملية بريكست أخرى من الاتحاد وخصوصا إيطاليا واليونان نستطيع القول بأن أفول نجم الولايات المتحدة الأميركية وهيمنتها على النظام الاقتصادي الدولي والسياسة الدولية قد أخذا دفعة جديدة بسبب أزمة كورونا صحيح أن هذا لا يعني تفكك الولايات المتحدة أو انهيارها في الأجل المنظور سنة لكن المؤكد أن عملية تواري القوة والنفوذ الأميركيين قد تتسارع بحيث لن ينقضي عاما دون أن تصبح الإمبراطورية الأميركية قوة من الماضي أدت الأزمة إلى تدهور اقتصادات كثير من الدول النامية ومنها مصر وسوف تحتاج إلى عدة سنوات للعودة إلى وضع ما قبل الأزمة وهو مستوى لم يكن جيدا على أية حال صحيح إن أزمة الكورونا قد طاولت الجميع ولكن أكثر المتضررين منها هم الفئات الفقيرة وكاسبي الأجور والمرتبات المتواضعة في الغرب أو بصورة أكبر في الدول النامية التي تشكل العمالة في القطاع غير الرسمي وعمال اليومية القطاع الكبر من كاسبي الأجور والمرتبات المتواضعة أما القطاعات الاقتصادية الأكثر تضررا على مستوى اقتصادات العالم أجمع والتي حققت خسائر ضخمة فهي قطاعات السياحة والطيران والنقل والتجارة والمبادلات والمطاعم وأماكن الترفيه والإنتاج السلعي والصناعي والبترول والغاز وأخيرا قطاعات البنوك والمصارف والبورصات التي أصابها أقل الأضرار على المستوى السياسى والتحالفات الدولية والإقليمية المؤكد أن العالم ومنذ الغزو الأميركي البريطاني للعراق في آذارمارس وما جرى بعدها يشهد حالة طلق دموي لولادة جديدة في الفضاء السياسي العالمي وجاءت كارثة وباء كورونا مطلع عام لتعطي دفعة قوية جديدة لهذه التغييرات المرتقبة ومن أبرزها أولى هذه الأثار والتداعيات أن الصيغة الراهنة للاتحاد الأوروبي التي بدأت منذ عام لن تصمد كثيرا أمام كل ما جرى من سلوكيات أنانية لدول الاتحاد فرادى وجماعات ولدينا هنا احتمالان لا ثالث لهما الأول أن تجرى إصلاحات جوهرية في بنية هذا الاتحاد على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية تحفظ استمرارية هذه العملية التاريخية الثاني وهو ما نرجحه أن تخرج بعض دول الاتحاد من هذه الصيغة مثلما فعلته المملكة المتحدة وغالبا ستكون إيطاليا واليونان وصربيا بيد أن هذا يتوقف على وجود صيغة أو إطار إقليمي آخر يجمع الغاضبين والمتمردين والساخطين من هذا النظام الاتحادي الذي ثبت ضعفه إزاء تحديات داخلية كبرى كما كشفته كارثة وباء فيروس الكورونا ولدينا احتمال كبير في صياغة نمط جديد لعلاقات تعاونية وتشاركية بين بعض دول الاتحاد سواء في صيغته المعدلة أو بعد خروج بعض أطرافه وكل من الصين وروسيا وربما إيران فكاكا وتفكيكا لأسر السياسة الأميركية المتغطرسة والعدوانية والأنانية في آن واحد سواء ضد أوروبا أو غيرها من دول العالم وكما أشرنا من قبل سوف تتعزز وتتسارع صيغ التعاون والتكتلات الإقليمية والدولية التي تقودها كل من الصين وروسيا وبمشاركة أكثر فاعلية لإيران وبعض دول أميركا اللاتينية ومنها فنزويلا وكوبا وغيرهما من المرجح بعد كشف عدم كفاءة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته في إدارة الأزمة علاوة على أزمة الحكم ومشروعيته الأخلاقية أنه لن يجتاز السباق الرئاسي في تشرين الثانينوفمبر ومن ثم تتخفف البشرية وخصوصا بلدان وشعوب الشرق الأوسط من كورونا سياسية مثلها الرئيس ترامب وطاقمه الجمهوري المتطرف من المرجح أن تعود غالبا الولايات المتحدة بعد تغيير إدارة ترامب عام إلى الاتفاق النووي الإيراني وسيشكل هذا ضربة مؤلمة لتحالف الشر الرباعي في منطقة الشرق الأوسط الجديد إسرائيل السعودية الإمارات البحرين مما سيخفف التوتر العالي القائم في المنطقة منذ خروج ترامب عن الاتفاق النووي الإيراني وانعكاساته الخطيرة على العلاقات الدولية مع أن أزمة المشروعية في بعض أنظمة الحكم العربية قائمة قبل أزمة وباء كورونا إلا أن الأزمة فاقمت من مشكلة المشروعية والأرجح أن تغييرا سياسيا سيحدث في ثلاث دول عربية على الأقل في الأجل القريب هي السعودية والبحرين والعراق كما أن حدوث تغيير سياسي في الولايات المتحدة مع وجود أزمة مشروعية أخلاقية وسياسية كشف عنها الفشل في التعامل مع الأزمة وضعف وقصور النظم الصحية والعلاجية في دول مثل مصر وليبيا والعراق والبحرين والسعودية التي تعتمد على اقتصاد السوق وتخلي الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية من شأنه أن يدفع بفرص التغيير إلى الأمام هناك بؤر ساخنة في عالمنا العربي وفي بعض دول أميركا اللاتينية ومن المرجح أن تنفجر هذه البؤر المسلحة ومن أهمها العراق وسوريا واليمن وليبيا وأخيرا فنزويلا لعل صيغة جامعة الدول العربية كإطار إقليمي للعمل العربي المشترك قد فقدت صلاحيتها تماما كما فقدت ثقة الشعوب العربية والمثقفين العرب في ضرورة استمرارها نظرا لكونها قد تحولت إلى عبء على حاضر الشعوب العربية ومستقبلها علاوة على كونها باتت تشكل أزمة ضمير لكل العرب أما منظمة الأمم المتحدة فهي تعاني منذ فترة طويلة من مشكلات معقدة تؤثر في درجة فاعليتها في الأزمات الدولية وفي تحقيق وتنفيذ ميثاقها وقد تراكم شعور كثير من أعضائها ومن شعوب العالم بالإحباط تجاهها وكذا في فاعلية بعض وكالاتها المتخصصة الأونروا الصحة العالمية اللاجئين الإغاثة الدولية ونرجح أن تتزايد الضغوط الدولية من أجل إجراء تعديلات جوهرية في آليات عمل تلك المنظمة بعد كارثة وباء كورونا على المستوى العسكرى والحروب جاءت أزمة كورونا والعالم يشهد كما سبق وأشرنا حالة من العسكرة وتعدد الصراعات الحربية وربما تهدأ قليلا حدة تلك الأعمال الحربية في مناطق النزاعات والحروب لحين الانتهاء من هذه الأزمة العاصفة وإن كنا نرجح أن تزداد وتيرة وحدة هذه الأعمال الحربية بعد الإطمئنان نسبيا من اجتياز الأزمة ولهذا نرجح أن ترتفع وتيرة الحرب في اليمن والعراق وسوريا وليبيا في الشهور القادمة أما الحرب ضد الإرهاب فلن تتوقف سواء أثناء الأزمة أو بعدها ما دام هناك تنظيمات أو مجموعات إرهابية إسلامية أو يهودية أو يمينية متطرفة في أوروبا كما أن الصراع الفلسطيني الصهيوني المدعوم على كلا الجانبين سوف يستمر خصوصا وأن المجتمع الصهيوني في فلسطين يتجه باستمرار نحو مزيد من التطرف والعدوانية ضد الفلسطينيين في الداخل وضد دول وشعوب الجوار العربي بالنسبة لحلف الناتو سوف يستمر هذا التحالف العسكري بيد أن بعض وظائفه سوف تتغير بعد أزمة الكورونا لعدة أسباب بعضها يعود لتخفيف حدة الأعمال العدائية ضد روسيا والصين وبعضها الآخر لمناخ عدم الثقة بين أعضائها بعد الأداء الأناني والسيئ لبعض أطراف هذا التحالف في مواجهة بعضها البعض وبعضها بسبب التغيير السياسي المرتقب في الولايات المتحدة مما سيخفف كثيرا من حدة التوتر الدولي سوف تستمر بؤر التوتر في بعض المناطق جزيرة منشوريا الساحل الأفريقي بحر الصين والمحيط الهادئ فنزويلا وربما تهدأ قليلا بيد أن الحرب ضد المجموعات الإرهابية سوف تستمر وربما تتصاعد إلى حد كبير سيتعزز التحالف والتعاون العسكري الروسي الصيني وستلحق به إيران عند مستوى معين وستبقى حالة السباق على التسلح النوعي بين هذه القوى الثلاث من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى وورائها إسرائيل قائمة دون تغيير من المرجح أن تشتعل منطقة الشرق الأوسط بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني والإسرائيلي اللبناني المدعوم والإسرائيلي السوري مع دعم وتنسيق واسع بين قوى محور المقاومة في مواجهة العدوانية الإسرائيلية وسوف نشهد لأول مرة اصطفافات من نوع جديد في المنطقة العربية كاتب وباحث مصري

 مقالات| إيران ــ أميركا: إعادة فهم لمسألة القوة / حسام مطر - تموز 2019

مقالات| إيران ــ أميركا: إعادة فهم لمسألة القوة / حسام مطر - تموز 2019

إصدار 2019-08-02

مَن الأقوى إيران أم الولايات المتحدة؟ يكثر تداول هذا السؤال مؤخرًا ربطًا بالتوتر المتصاعد بين الدولتين منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي متنكرة لالتزاماتها الدولية. بالمناسبة ربما يكون هذا الانسحاب الأميركي الدليل الأبرز على إدراك الأميركيين لمدى تراجع هيمنتهم داخل النظام الدولي إلى حدّ التجرؤ على تقويضه في مجال بهذه الحساسية. وسبق أن أشارت استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب إلى أن منافسي واشنطن يستغلّون النظام الدولي بشكل غير عادل لاكتساب ميزات تمنحهم أفضلية تنافسية لتجاوزها. وقد استشرف المؤرخ البريطاني نيال فيرغسون هذا السؤال منذ عام 2005 عن ما إذا كانت أميركا ستلتزم بقواعد النظام الدولي حين ترى أنه لم يعد يعمل لصالحها، باعتبارها معضلة عانت منها قوى الهيمنة السابقة.
القوة والسياق
بالعودة إلى سؤال القوة، وهو سؤال شائك ويمثل لبّ السياسة الدولية، فكما يقال القوة هي "عملة" السياسة الدولية أو أن السياسة العالمية هي "مملكة القوة". إن السؤال عن من الأقوى ينطوي على ضرورة تعريف القوة والذي هو في حدّ ذاته ممارسة للقوة كما يوضح ستيفانو غوزيني، باحث في المعهد الدانماركي للعلاقات الدولية. يوضح غوزيني حجته من خلال رفض كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة خلال الحرب الباردة لكل تعريفات القوة التي تؤكد على العوامل غير العسكرية، ما أدى بهما إلى المزيد من التسلّح والتدخلات العسكرية.
هناك مقاربتان رئيسيتان لتحليل القوة في العلاقات الدولية: الأولى مقاربة "القوة كموارد" والتي تعتبر أن الأقوى هو صاحب الموارد الأكبر وبالتحديد الموارد المادية التي اتسعت بمرور الوقت من كونها تقوم على موارد السكان وعديد الجيش ومساحة الإقليم والكفاءة الزراعية إلى عناصر التكنولوجيا والتنظيم أيضًا. وفق هذه المقاربة التقليدية يمكن التقدير ببساطة أن الولايات المتحدة أكثر قوة من إيران، ولكن كيف انهزمت أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان أو كيف انتصر حزب الله في لبنان والمقاومة في غزة؟ لذلك واجهت هذه المقاربة انتقادَين رئيسيين: أولًا، إن القوة لا تتساوى تلقائيًا مع التأثير لأن الكفاءة في استخدام موارد القوة وتوظيفها هي التي تحدد مستوى التأثير، فالأهم هو "استراتيجية التحويل". وثانيًا، قابلية الموارد نفسها للتحويل، وهذه القابلية يعرّفها دافيد بالدوين، عالم سياسي في جامعة برينستون، بأنها تشير إلى "السهولة التي يمكن بها استخدام موارد القوة من مجال ما بشكل مفيد في مجالات لقضايا أخرى أيضًا". هنا ظهرت مقاربة مقابلة وهي "القوة العلائقية" أو القوة كعلاقة، والتي تفيد أن القوة تتمثل في القدرة على تحقيق النتيجة المفضلة في حالة معينة. وهذا يعني أن سؤال القوة لا يمكن إلا أن يكون مقيدًا، من الأقوى بوجه من؟ وفي أيّ نطاق؟ وأيّ مجال؟ وبأية تكاليف؟ في المقاربة "العلائقية"، القوة هي "عملية تفاعل حيث هناك دولة قادرة على ممارسة النفوذ على أعمال دولة أخرى" أو "قدرة شخص أو مجموعة من الأشخاص على التأثير على النتائج بحيث تكون أفضلياتهم لها الأسبقية على أفضليات الآخرين".
إذًا، لو كنا نطرح سؤال القوة بين واشنطن وطهران خلال النصف الأول من القرن الماضي، لكان الجواب واضحًا، بالاستناد إلى مقاربة "القوة كموارد" وبقياس الموارد المادية للطرفين واشنطن الأقوى من دون شك. إلا أننا اليوم في عالم مختلف تمامًا، فسؤال القوة غدًا معقدًا ومركبًا ومتداخلًا. فهل الولايات المتحدة أقوى؟ أي هل واشنطن قادرة على إكراه إيران على التصرف بعكس تفضيلاتها الأولية بما يناسب واشنطن؟ يعني هل واشنطن قادرة بالزجر والإكراه (العسكري والاقتصادي تحديدًا) على فرض شروطها على إيران في البرنامج النووي والباليستي والسياسات الإقليمية؟ بالنظر إلى مقاربة القوة العلائقية لماذا تبدو إيران هي الأقوى؟
أولًا: القدرة على فهم الخصم
عانى الأميركيون بالعموم من معضلة فهم إيران ومن أبرز أسباب ذلك أنهم فهموها من خلال "المهزومين"، أي أنصار الشاه الذين فروا إلى الغرب وحرضوا ضد إيران الثورة بشكل مضلل. يرى ديفيد هوتون، محاضر في علم النفس السياسي، أن الأميركيين يعانون منذ انتصار الثورة من فجوة في «تفهّم» الإيرانيين (أي تقمص الموقف الإيراني وأيديولوجيته ونظرته إلى العالم وتقويمه للوضع)، فكانت مشكلة كارتر ومستشاريه عام 1979 أنهم لم يستطيعوا فهم خيارات الإمام الخميني ولذا صنّفها الأميركيون باعتبارها سلوكًا غير عقلاني، كما لم يفهموا أهمية التاريخ في الشرق الأوسط من قبيل استمرار تأثيرات دعم الانقلاب ضد حكومة مصدّق عام 1953، على ما يقول هوتون.
يتضح حتى اللحظة أن ترامب وإدارته فشلوا في فهم صانع القرار الإيراني. ترامب تحديدًا كان جازمًا في أن الإيرانيين سيرضخون حين تشتد نتائج العقوبات وسيحصل على تسوية جديدة باسمه. فالنظام الإيراني، كأيّ نظام آخر، لن يفكر إلا بالنجاة وسيقدم التنازلات ويستطيع أن يتلاعب بشعبه كيفما كان ليخفي ذلك، هذا كان منطق ترامب. قد يكون الرئيس الأميركي مارس ما تسميه "نظرية العزو" (من علم النفس السياسي) بـ "موجّه الحضورية" التي تُستخدم عند تقدير احتمال وقوع شيء بناء على مدى حضور ذلك الشيء في الذهن لكونه حصل حديثًا. فهل قام ترامب بهذا من خلال إسقاط تجربته مع كوريا الشمالية على إيران؟ في المقابل من المحتمل جدًا أن بعض من هم في الدائرة المحيطة بترامب يدركون أن إيران لن ترضخ لهذا الابتزاز ومحاولة الإذلال الأميركية، وأن إيران ليست مجرد نظام، بل "آخر نظام ثوري على وجه الأرض" بحسب برايان هوك، مسؤول ملف إيران في الإدارة الأميركية، ولذا فإن حساباته وعملية صنع القرار فيه أكثر تعقيدًا.

 مياه الخليج هي الساحة الكبرى لأية حرب إيرانية – أميركية


في المقابل يبدو الإيرانيون أكثر فهمًا للمصالح الأميركية ولصانع القرار ولتركيبة الإدارة الأميركية، وهذا ما منحهم قدرة على فهم القيود التي تكبّل ترامب وهامش المغامرة لديه ونجحوا في تحويل الأزمة نحو الداخل الأميركي تحت وطأة الهلع من اندلاع حرب في الخليج وتحذيرات وزير الخارجية الإيراني من فريق الحرب حول ترامب. منذ حقبة أوباما كان صانع القرار الإيراني يدرك حدود التسوية مع واشنطن لكنه قبِل يومها اختبار الأميركيين لسببين، الحاجة لالتقاط الأنفاس وتحصيل موارد لاستكمال المعركة في سوريا والعراق، وثانيًا لحفظ الاستقرار الداخلي من خلال منح أنصار التسوية فرصة، رغم أن المتوجّسين من التسوية كانوا يردّدون أن أميركا حين ستحصل على مطلب ما ستنتقل مباشرة لتطالب بتنازل جديد كما يفعل ترامب اليوم في ما يخص البرنامج الباليستي.
ثانيًا: في إدارة المواجهة
في مقابل الاندفاعة الأميركية منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، كان الإيرانيون يتصرفون بهدوء بانتظار استكشاف عمق الخيارات الأميركية. من فرض العقوبات والتشدد في الملف السوري بوجه إيران ومؤتمر وارسو وثم وقف الإعفاءات وتصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، كان الإيرانيون في مرحلة كمون لاحتواء آثار الخطوات الأميركية وتحضير البدائل الداخلية والخارجية. فحين بدأت الاستجابة الإيرانية (أمنيًا وعسكريًا وسياسيًا عبر التخفيض التدريجي للالتزام بموجبات الاتفاق النووي) كان الأميركيون قد استنفدوا معظم أدوات المواجهة ما قلّص من قدرتهم على الردع. يعود هذا الفارق إلى سببين:
أ- أن ترامب تسرّع في الإجراءات لأنه شخصيًا كان يطمح لإنجاز تسوية سريعة مع الإيرانيين أكثر تشددًا من الاتفاقية النووية لأجل المكانة والصورة والنفوذ وثم استغلالها في الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية الوشيكة. الإيرانيون بدورهم لديهم أيضًا معضلة الوقت المرتبطة بالآثار الشديدة للعقوبات وإلى متى هم قادرون على احتوائها، إلا أنهم وجدوا في موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية فرصة ينبغي الرهان عليها.

ب-
حاجة الإدارة الأميركية وحلفائها الإقليميين لتشتيت انتباه وموارد قوى المقاومة بغية دفع مسار "صفقة القرن" قدر المستطاع داخل المجال الإقليمي قبل نهاية ولاية ترامب.
تفتقد إدارة ترامب لاستراتيجية ناجزة ومتفق عليها بخصوص الملف الإيراني، وقد عنونت صحيفة "لوس أنجلس تايمز" مقالًا في 20 أيار الماضي حول سياسة ترامب الخارجية "هكذا تبدو السياسة الخارجية حين لا يكون لديك استراتيجية". في الملف الإيراني تحديدًا ليس هناك اتفاق على الهدف النهائي للانسحاب من الاتفاق النووي والعقوبات، هل المطلوب الوصول لتسوية جديدة أو إخضاع إيران؟ هل المطلوب تسوية في الملف النووي فقط أم أيضًا البرنامج الباليستي ودعم إيران لقوى المقاومة؟ ما هي الخيارات في حال لم تخضع إيران؟ ما هو هامش المخاطرة لدى واشنطن في الاستجابة للردود الإيرانية؟ وقبل كل ذلك هل الملف الإيراني أو الشرق الأوسط ككل هو أولوية أميركية؟ بالتأكيد ليس الأمر كذلك لترامب الذي صرّح في مقابلة مع مجلة "تايم" (20 حزيران 2019) ردًا على سؤال حول التصعيد مع إيران بالقول: "أنا أود أن أخرج من الشرق الأوسط، كان ينبغي أن لا نكون أبدًا في الشرق الأوسط، وأنا أرغب في الخروج من هناك".
في المقابل، يبدو أن الإيرانيين يعملون وفق استراتيجية متفق عليها قوامها الصمود الاقتصادي والسياسي وعدم تقديم تنازلات وعدم التفاوض مع إدارة ترامب إلا بعد أن تتراجع الأخيرة عن خطواتها التصعيدية، وممارسة ضغوط "صلبة" منضبطة ضد مصالح واشنطن وحلفائها، وعدم الانسحاب من الاتفاق النووي بل تقليص الالتزام ببعض مندرجاته بشكل متدرج، وعدم التفاوض على البرنامج الباليستي والاستمرار في تعميق الصلات بدول الجوار والقوى الدولية المنافسة للولايات المتحدة.
ثالثًا: في عملية صناعة القرار
تعاني الولايات المتحدة من معضلتين، الأولى التباينات الحادة بين ترامب الانتهازي وفريقه الإيديولوجي وبينهم وبين الكونغرس المهجوس بمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة. وتبرز هذه التباينات بوضوح في الملف الإيراني كالموقف من تغيير النظام في إيران أو المخاطرة العسكرية. والمعضلة الثانية مرتبطة بترامب نفسه الذي يقود السياسة الدولية بالحدس والغريزة والمشاعر ويطلب من فريقه تحويلها لسياسات. فضلًا عن أن ملف إيران ليس من أولويات ترامب، أي ليس هدفًا بذاته بل غاية لاجتذاب دعم اليمين المسيحي واللوبي الإسرائيلي والدعم المالي السعودي.
في الجانب الإيراني، تبدو التباينات في حدّها الأدنى، فإيران في موقف دفاعي بالكامل وتخوض المواجهة على أرضها وفي إقليمها وليس في قارة أخرى أو من ضمن مشروع توسعي، ولذا تبدو المصالح الإيرانية جليّة وواضحة بما يقلّص الخلاف حولها. وثانيًا إن موافقة الإمام الخامنئي على منح الرئيس روحاني وما يمثّل فرصة لاختبار الولايات المتحدة ومصداقيتها من خلال الاتفاق النووي 2015 قد قلّص من مساحات التباين حول العلاقة مع الولايات المتحدة. فالإيرانيون بالعموم يدركون أن نظام بلادهم تصرّف بالمرونة الضرورية ولا يتحمل مسؤولية الإخلال الأميركي. يضاف إلى ذلك أن السياسة الخارجية الإيرانية تُصنع عادة من خلال التوافق عبر مجلس الأمن القومي حيث للاتجاهات الإيرانية الوازنة صوت مسموع. فالقرارات لا تعكس وجهة تيار واحد، بل نتيجة لإجماع أو لتسويات قد تميل يمينًا أو يسارًا ولكنها لا تهّمش أحدًا، وهنا يبرز دور الولي الفقيه الذي يمارس السلطة في حدها الضروري فقط. ولحساسية المواجهة الحالية يبرز الدور المركزي لمجلس الأمن القومي الإيراني لتعزيز الوحدة الداخلية وتنسيق المواقف وتوسعة القاعدة الاجتماعية لخيار المواجهة الحالي داخل الجمهورية الإسلامية.
رابعًا، إرادة القتال

رغم إعلان الطرفين حرصهما على تجنّب الحرب، تبدو إيران متوثبة لاختبار مستوى من استخدام القوة بدرجة أكبر بكثير من الولايات المتحدة. وهذا يعود بشكل أساسي إلى أن إيران مضطرة لتوسعة مجال المواجهة إلى ما يتجاوز المجال الاقتصادي حيث للولايات المتحدة أفضلية واضحة. حاول ستيفن والت أن يشرح لترامب في مقال في "فورين بوليسي" لماذا لن يخضع الإيرانيون ولماذا سيستمرون في إظهار القوة والتحدي بالقول: "دعني أشرح لك هذا بطريقة أنا متأكد أنك ستلتقطها. أتتذكر تلك النصيحة التي تلقيتها من روي كون، الذي أخبرك أن تقول لوزارة العدل، بعد أن جرى اتهام شركتك العقارية بالتمييز العرقي: "اذهبوا للجحيم" وأن تمارس موقفًا هجوميًا. علّمك كون أنه حينما يكون موقفك ضعيفًا عليك أن تهجم أكثر لمنع الآخرين من الاستحواذ على أفضلية عليك. هذا تحديدًا ما تقوم به إيران ولهذا فإن "الضغوط القصوى" لا تعمل. هل فهمت الآن؟".
وثانيًا لأن لدى الإيرانيين مخاوف مشروعة من جهود أميركية وإقليمية لجرّ ترامب إلى الحرب، وبالتالي يلزم طهران إبراز ردع هجومي متقدم، ولكن محسوب. لدى الإيرانيين حساسية عالية من التعرض للتهديد نظرًا لما عانوه تاريخيًا من طموحات الإمبراطوريات والقوى الكبرى، بما في ذلك تدخلات الولايات المتحدة من أيام انقلاب مصدق وصولًا إلى دعم الشاه وبعده حرب صدام وثم التحشيد العسكري المستدام في الخليج. بمعنى آخر تسعى طهران لاستعادة التوازن مع واشنطن ودفعها لخطوات تراجعية وحث القوى الكبرى على تحمّل مسؤولياتها من خلال دفع المواجهة إلى الخط الأخير من حافة الهاوية. ولذا وإن كان صحيحًا أن إسقاط طائرة التجسس الأميركية كان إجراءً دفاعيًا كونه حصل داخل المجال الجوي الإيراني، إلا أنه يأتي من ضمن مقاربة هجومية بدأت تظهر مؤخرًا لدى الجانب الإيراني.
في المقابل تبدو كوابح الحرب في الولايات المتحدة قوية جدًا، من ترامب إلى الكونغرس والبنتاغون والرأي العام. حصر ترامب خيار استخدام القوة العسكرية في حالة وحيدة هي منع إيران من حيازة سلاح نووي، فيما رفض القيام بهذا التعهد بخصوص تخزين إيران لليورانيوم واكتفى بالقول إنه خطأ كبير، وكذلك بخصوص حماية ناقلات النفط في مضيق هرمز وبرّر ذلك بأنه مسؤولية الدول المصدرة والمستوردة مثل الصين واليابان من دون أن تدفع شيئًا لأمن المضيق، وليس الولايات المتحدة التي تستقل عن نفط المنطقة. يُلاحظ أن التقويمات الأميركية لسيناريو الحرب مع إيران تسارع لمقارنتها بحرب العراق لتبرير رفض هذا الخيار. وهنا يستخدم الأميركيون ما يُسمى، بحسب هوتون، بـ "قياس التمثيل أو المماثلة"، أي استخدام التشبيهات التاريخية لنقارن موقفًا جديدًا بشيء مشابه للماضي لاستنتاج السيناريوهات. وبحسب ألكسندر هييغ وزير الخارجية الأميركي الأسبق "السياسة الخارجية تجتذب التشبيهات كما يجتذب العسل النحل".
خامسًا: القوة العسكرية اللامتماثلة
تحتاج إيران بدايةً إلى نوع من القوة العسكرية التي يردع الأميركيين عن شن الحرب، وثم في حال وقعت الحرب أن تكون قادرة على إحباط أهدافها من خلال رفع كلفتها على الأميركيين. يدرك الإيرانيون الفوارق الهائلة في الموارد مع الولايات المتحدة واختبروا خلال حرب الناقلات في الثمانينيات حدود القوة التقليدية بوجه الأميركيين. ولذا تحوّل الإيرانيون نحو أساليب القتال اللامتماثلة ذات الجوهر الدفاعي المبنية على إدراك فارق الموارد وعلى مركزية القتال البحري، وطبيعة ميدان القتال أي مضيق هرمز وسواحل الخليج، والفارق النفسي والروحي والقدرة على احتمال الخسائر. فيما الركن الهجومي في استراتيجية الردع الإيرانية يتكوّن من البرنامج الباليستي (غير قابل للتفاوض) والقوات الحليفة في المنطقة.
 

إن امتلاك الموارد الأكبر ليس معياراً كافياً لتحديد الأقوى بل القدرة والكفاءة والرغبة في استخدامها

مياه الخليج هي الساحة الكبرى لأية حرب إيرانية – أميركية ولذا طوّر الإيرانيون نوعًا من حرب العصابات البحرية قوامها مئات الزوارق السريعة "الانتحارية" وتلك المزودة بصواريخ، والألغام، والغواصات الصغيرة، وصواريخ بر _ بحر، والطوربيدات، والطائرات المسيرة، وقوات الكومندوس، وكلّها موزعة على شبكة مواقع ونقاط محصنة فوق الأرض وتحتها على طول ساحل الخليج الفارسي بشكل لا مركزي بحيث لكل وحدة قتالية مهام محددة سلفًا وهامش من الابتكار في حال الانفصال عن القيادة المركزية نتيجة الهجمات الأميركية. كلفة كل هذه الاستعدادات الإيرانية ربما لا تعادل كلفة حاملة طائرات واحدة (بلغت كلفة حاملة الطائرات الأحداث جيرالد فورد حوالي 13 مليار دولار) مع كلفة تشغيلها وصيانتها السنوية مع مجموعتها القتالية (يوميًا تكلّف 7 ملايين دولار). هكذا لا يعدّ حاسمًا مقارنة الموارد العسكرية بين البلدين، بل مجددًا الأهم هو "استراتيجية التحويل" و "سياق" المواجهة.
يضيف الإيرانيون إلى مفهوم الحرب اللامتكافئة عناصر ثقافية وأيديولوجية يجادلون أن العدو يعجز عن معرفتها أو فهمها. فحين يقال الحرب اللامتكافئة فمعنى ذلك، بحسب الإمام الخامنئي، أن أحد الطرفين يتوفر على وسائل وأدوات لا يتوفر عليها الطرف الآخر، وذلك في سياق حديثه عن سيدة تركمانية حجّت نيابة عنه وهو ما اعتبره من عوامل الانسجام والقوة التي لا يمكن للأميركيين تحليلها. ويرى الإمام الخامنئي أن الجانب الروحي والمعنوي (الثقة بالله والتوكل عليه والاستعداد للتضحية والإيمان بالنصر النهائي) هي من عناصر القوة اللامتكافئة، ففي هذه الحرب "الإرادات هي التي تحارب".
سادسًا: العقوبات الاقتصادية
هنا تتجلى الأفضلية الأميركية المستندة إلى سطوة واشنطن على الاقتصاد العالمي من خلال الدولار والمؤسسات الدولية والتفوق في مجالي التكنولوجيا والأسواق المالية. لذلك يصنف الإيرانيون العقوبات الأميركية على أنها "حرب" (ويؤكد الإمام الخامنئي على أن الحظر الحالي غير مسبوق)، وهذا يعني تلقائيًا أن الإيرانيين سيستجيبون بالمقاومة لا بالرضوخ كما يتوقع ترامب. لكن لا شيء يلزم الإيرانيين ممارسة الحرب بذات النمط الأميركي وإن كانوا سيحرصوا على عدم المبادرة لاشتباك مباشر مع الأميركيين ولكن سيخلقون بيئة صراعية مع واشنطن. وما دامت واشنطن تجد في الاقتصاد مجالًا يمنحها الأفضلية، انتقلت إيران إلى مجال آخر يمنحها الأفضلية وهو مضيق هرمز.
السؤال هنا ليس إن كانت العقوبات ستُلحق أذى بإيران وشعبها، بل إن كانت تكاليف هذه العقوبات ستؤدي إلى إخضاع النظام ودفعه نحو تفاوض وفق الشروط الأميركية. ولكي يحصل هذا الأمر لا بد من توفر جملة عناصر: (1) استمرار العقوبات لوقت كاف، (2) عجز إيران عن التكيف النسبي اقتصاديًا وماليًا ونقديًا (التقشف والإصلاحات والبدائل)، (3) تفكك الوحدة الوطنية والتأييد الشعبي حين تشتد نتائج الحصار (الرأي العام الإيراني في معظمه يجد في ما يجري محاولة لإذلال بلاده بعد التزامها بالاتفاق النووي)، (4) عجز إيران عن موازنة العدوان الاقتصادي بخطوات أمنية وعسكرية وسياسية (تقليص التزاماتها النووية) قادرة على دفع واشنطن نحو خطوات تراجعية.
 يسعى الإيرانيون إلى احتواء آثار العقوبات، وهنا يشير الإمام الخامنئي (أيار 2019) إلى الحاجة لعدة إجراءات ضرورية: تقليل تبعية الاقتصاد الإيراني للنفط وزيادة الصادرات غير النفطية، والحد من التدخل المفرط للحكومة في الشأن الاقتصادي لصالح القطاع الخاص، وتخفيف التعقيدات البيروقراطية للاستثمار والأعمال التجارية، وإصلاح النظام المصرفي، وإيجاد فرص للشباب في مجالات الابتكار، ومواجهة الاحتكارات، وتوفير بدائل محلية للتكنولوجيا اللازمة للصناعات، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في السلع الاستراتيجية ولو كان استيرادها مجدٍ اقتصاديًا أكثر كي لا تتعرض إيران للابتزاز، وترشيد الاستهلاك (كما البنزين)، وإزالة العقبات أمام الإنتاج المحلي ولا سيما الزراعة.
لكن لتقدير الأثر المحتمل للعقوبات يمكننا الإحالة إلى دراسة حديثة (آذار 2018) لمارتين سميتز، مدير قسم في مؤسسة التدريب والتعاون التقني في منظمة التجارة العالمية (نشرها قسم الأبحاث الاقتصادية والإحصاء في منظمة التجارة العالمية)، ووجد فيها أنه كلما كان مستوى الطموح والتغيير المطلوب من فرض العقوبات عاليًا، كلما أصبح أكثر صعوبة أن تُحقق العقوبات نجاحًا. والأهم وجد سميتز، بالعودة إلى عدة دراسات إحصائية، أن أثر العقوبات يبدأ بالتراجع بشكل حاد بعد السنة الأولى أو الثانية من فرضها بسبب تكيّف الدولة المستهدفة، وتشتمل هذه الملاحظة حالة الحظر على صادرات الطاقة الإيرانية. وهنا يأتي دور الطرف الثالث من خلال الانخراط في أنشطة اقتصادية مع الدولة المستهدفة كأبرز عامل في تقويض العقوبات. ورغم ما تركته العقوبات على إيران منذ 1979 (حرمتها من حوالي 160 مليار دولار من مبيعات النفط لوحدها) من أضرار اقتصادية ومالية هائلة إلا أن آثارها السياسية كانت معاكسة إذ عززت من الوحدة الداخلية للنظام وشحنت الرأي العام الإيراني بالعداء ضد الولايات المتحدة ودفعت إيران نحو الصين وروسيا والأوروبيين. ويختم سميتز بأن "إجراءات العقوبات دائمًا لها كلفة ولكن ليس على طرف واحد، فأولئك الذي يفرضون العقوبات يمكن أن ينتهي بهم الأمر بأن يطلقوا النار على أقدامهم".
خاتمة
إذًا وكما تشير مقاربة "القوة العلائقية" إن امتلاك الموارد الأكبر ليس معيارًا كافيًا لتحديد الأقوى بل القدرة والكفاءة والرغبة في استخدامها يكون أكثر أهمية. إن "الإرادة" لاستخدام الموارد مهمة جدًا إلى المستوى الذي يعتبر فيه جيفري هارت عنصر "الإرادة" أحد موارد القوة. وفي هذا السياق يصف الإمام الخامنئي المواجهة الأميركية – الإيرانية الحالية على أنها صراع إرادات. ما يُقلق الأميركيين من التجربة الإيرانية يتجاوز بروز دولة تُحسب على العالم الثالث تقوم بدور استقلالي وترفض الخضوع، الأخطر أنها تنجح في المواجهة، فليس الأمر مجرد عناد أو موقف عقائدي بل يؤدي إلى تحولات في الواقع، وكل ذلك يجري في لحظة سؤال أميركية حرجة عن موقعها في العالم. فرق كبير بين أن تسدد لكمة للمصارع الخصم في الجولة الأولى وبين أن تسددها في النصف الثاني من المباراة.

 مقالات | أي

مقالات | أي "منطلقات نظرية لبناء مستقبل سورية الاقتصادي".. وإعادة إعمارها؟/ د. عبد الحليم فضل الله - آذار 2019

يسلط د. البير داغر في كتابه الجديد1 الضوء على اتجاهات في التنمية لا تحظى، أو لم تعد تحظى، بعناية كافية في بلداننا، مثل المؤسساتية والبنيوية وأفكار جون ماينارد كينز وما بعده، فيؤسس بذلك لنقاش متجدد بشأن دور الدولة وشروط نجاحها، من دون التورط بالسرديات الجازمة والرطانات المكررة. ومع أنه كُتب على دفعات وفي تواريخ ومناسبات متعددة فقد نجح صاحب الكتاب في أن يكسبه وحدة تأليفية، وسياقًا يدور حول إشكالية من فرعين: نقد من زوايا عدة للنيوليبرالية، وتأكيد على دور القطاع العام بوصفه فاعلًا جماعيًا لا "ساحة صراعٍ بين القوى والمصالح الاجتماعية" ولا نقيضًا للقطاع الخاص، ممهدًا بذلك السبيل أمام إعادة الشرعية لدور القطاع العام في إعادة الإعمار، الذي يتعرض للاستبعاد والتهميش.
يستمد د. البير داغر مقارباته من مصادر عدة، فهو يأخذ من "ألبرت هيرشمان" رأيه بأن وظيفة الدولة في التنمية هي على وجه الخصوص "تعظيم قدرة النخب الاستثمارية على اتخاذ القرارات الاستثمارية"، ومن "ألس أمسدن" التأكيد على التصنيع المتأخر القائم على التعلم التكنولوجي من خلال الممارسة والمحاكاة والتدرج في طريق الابتكار، ومن "بيتر ايفانز" إعادة توصيف دور الإدارة العامة المتماسكة والمستقلة في التنمية، ومن جان ماينارد كينز والكينزيين الجدد تصويب النظرة إلى الانفاق الاستثماري، بوصفه عاملا أساسيًا في النمو لا مزاحمًا للقطاع الخاص على الموارد، ومن "هنري بريتون" و"ماديسون" وغيرهما النقاش النظري لتجربة استبدال الواردات وربط فشلها بتركيز الدول التي تبنتها على إنتاج سلع الاستهلاك وليس آلات التجهيز والسلع الترسملية.. كما وقف على مسافة غير بعيدة من نظرية التبعية، لكنه ربطها بدور النخب المحلية المستزلمة والمرتبطة بالخارج في التبادل غير المتكافئ مع الخارج.
القطاع العام: كيان اجتماعي أم بيروقراطي؟
في نقاشه لدور الدولة، يرسم الكاتب الصديق خطًا فاصلًا ما بين الرؤية البيروقراطية التقليدية التي تؤيد هذا الدور أو ترفضه استنادًا إلى معياري الكفاءة والفعالية، وبين الرؤية غير التقليدية التي ترى في القطاع العام كيانًا جماعاتيًا يتسم بالتماسك الداخلي، ويمتلك عصبية إدارية تجعله مؤثرًا في المجتمع ومتأثرًا به، ولا يمكن أن تستبدل به أدوار أخرى.
وفي نقده للنيوليبرالية يتعرض داغر على نحو خاص للتيار النفعي الجديد المناصر لدولة الحد الأدنى، والتي تكون فيها قوى السوق كيانًا مستقلًا عن المجتمع ومعزولًا عنه، ويتسم بجدارة لا تملكها الحكومة، فهذه بنظر مناوئيها مرتع خصب للريوع السهلة والمنافع الناشئة عن السلطة. ويضيف أنصار هذا الاتجاه بأن توسيع القطاع العام يعني زيادة الاعتماد على غير المنتخبين من الفنيين والاختصاصيين والبيروقراطيين في التخطيط وفي اتخاذ القرارات، مع أنهم لا يعبرون عن الإرادة العامة، ولا يردعهم رادع عن أن يقدموا مصالحهم الخاصة على ما عداها.
ركز الكاتب على دروس التجربة الآسيوية، التي جسدت النظرة الجديدة لدور القطاع العام في إطار ما يعرف بالفيبرية المعززة. كانت الإدارة العامة الفعالة في تجارب دول شرق آسيا، الأساس الاجتماعي لا البيروقراطي فحسب في نجاح التنمية، وعلى الرغم من وجود قطاع خاص وفاعل وشركات خارجية، لم تنشأ علاقة غير متوازنة بين الطرفين، ولم يظهر إلى الوجود نموذج الإدارة العامة القائم على النهب. كان القطاع العام هو الأساس الذي ارتكزت عليه الدولة التنموية التي احتضنت تجارب التصنيع المتأخر، القائمة على الاستثمار واكتساب التكنولوجيا وتوطينها بصفتها قاعدة الانطلاق نحو التنمية. وبخلاف ذلك أعطت نظريات التحديث والتغيير الهيكلي أهمية متقدمة للتمويل ومراكمة رأس المال المادي. لكن نظريات النمو الحديثة أو النمو باطني المنشأ دمجت التقدم التقني في نماذجها الرياضية ومعادلاتها، ووسعت مفهوم الرأسمال ليشمل الرأسمالين البشري والاجتماعي إلى جانب رأس المال المادي2 .
إن النسج على منوال التجربة الآسيوية في مجال استراتيجيات التنمية، يتكامل مع الدعوة التي يتضمنها الكتاب لاعتماد برنامج كينزي على مستوى السياسات المالية في بناء مستقبل سورية الاقتصادي، حيث يؤدي الطلب الحكومي والخاص والخارجي دورًا أساسيًا في النمو. يمكن العثور على نقاط تلاق عدة بين الفكر الكينزي وما بعده، وتجارب دعم التصدير التي قامت بها دول آسيوية عدة، ومن بين هذه النقاط على سبيل الذكر، الأهمية المعطاة للاستثمار والتصدير بصفتهما مكونين أساسيين في الطلب، والدور الإيجابي في النمو الذي يؤديه كل من التقدم التقني، وإعادة توزيع الدخل لمصلحة المنتجين، على حساب أصحاب الريوع.
النيوليبرالية: تحليل الاقتصادي ودعوة سياسية
نوافق الكاتب ولا شك على فهمه للنيوليبرالية وتيار النفعية الجديدة ونقده لهما، لكن لا يمكن إنكار امتلاكهما في بعض الأحيان أصولًا صارمة للتحليل، من اقتصاديات الرفاه لفلفريدو باريتو إلى تحليلات ميلتون فريدمان المبكرة عن استقرار دالة الطلب على النقود على المدى الطويل، واهتمامه بخلاف كينز بالعرض النقدي، الأكثر تقلبًا وتأثيرًا على الإنفاق والأسعار. ولا يمكن التقليل أيضًا من شأن الأسس الفلسفية التي استند إليها فريدريتش فون هايك والذي أنكر من خلالها المبالغة في تقديس العقل، الباحث عن يوتوبيا متخيلة، يفضي الاستغراق بها في كثير من الأحيان إلى قيام مجتمع شمولي مغلق. كان هايك متشددًا في ليبراليته لكنه رفض المبالغة في التحليل الرياضي الذي يهواه النيوليبراليون، وهو عارض التخطيط لسببين؛ أولًا لأن اتساع نطاق الدولة يزيد من صعوبة تحقيق الإجماع على القواعد المسبقة والمعروفة سلفًا التي يستند إليها حكم القانون، وثانيًا لأن هذا التوسيع يعظم من نفوذ الفئات غير المفوضة شعبيًا في اتخاذ القرارات ووضع السياسات.
إلا أنّ المفارقة هي أنّ الدعوات المناهضة لتدخل الدولة أيًا كان شكله، لم تستند إلى الأعمال العلمية والأكاديمية التي أنجزها هؤلاء، بل إلى أدبياتهم الفكرية ذات المرجعية السياسية، كما في كتابي هايك "الطريق إلى العبودية" "والغرور القاتل" وكتاب فريدمان "الرأسمالية والحرية". كان الاعتقاد الرائج بين الليبراليين الجدد في أواسط القرن الماضي وما بعده، هو أنّ الحريات السياسية تشجع الحريات الاقتصادية وتحفز آليات السوق. أبرزت الوقائع عكس ذلك، ففي دول رأسمالية عدة، ترافقت الحريات السياسية الواسعة مع ظهور دولة الرفاه القائمة وفق نسخة مخففة من التخطيط المركزي المصاحب بتدخل واسع النطاق من الدولة. وهذا ما عده هايك نكوصًا وتخاذلًا في وجه المنظومات الشمولية. وبسبب هذه الخيبة تمسك مع مفكرين ليبراليين آخرين بفكرة "المخاطر التي يحملها التنظيم المركزي على الفردانية" وشددوا من ثم على أن الحرية الاقتصادية هي المدخل إلى الديموقراطية والليبرالية السياسية ومخرج من سلوك "طريق العبودية". وبرأي فريدمان تؤدي النظم الاقتصادية دورًا مزدوجًا في الارتقاء بالمجتمعات الحرة، فمن جهة تعد الحرية في النظم الاقتصادية عاملًا لا غنى عنه لتحقيق الحرية السياسية، ومن جهة ثانية الحرية الاقتصادية مطلوبة بحد ذاتها لتحقيق الحرية السياسية3. هذه الأفكار وغيرها هي التي رجّحت كفة الليبرالية الجديدة وبشّرت بأفكارها، استنادّا إلى حجج منطقيّة عامة وليس بناء على معارف دقيقة ومتخصصة على ما يزعم أنصارها.
كان إجماع واشنطن هو الترجمة الأيديولوجية لأعمال هؤلاء وسواهم. لكن التحليل الاقتصادي (العلمي) لا يكفي وحده، فالمطلوب وجود من يتخذه حجة في برنامج سياسي أوسع، لجعله أداة طيعة في أيدي السلطة. وشكل انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي والانتصار الذي ظُنّ أنّه تاريخي وأبدي لليبرالية، فرصة لا بد من انتهازها لوضع هذه الأفكار موضع التطبيق.
مقاربات أخرى
لم يول الكتاب عناية بارزة أيضًا، وربما عن قصد، لمقاربات مفكرين بارزين في نقدهم الجذري للرأسمالية الليبرالية، مثل كارل بولانيي الذي ذكره الكاتب دون أن يشرح آراءه الرئيسية، ومن بينها أفكار لافتة يمكن البناء عليها في فهم العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع، مثل قوله بأن عوامل الإنتاج الثلاثة المعروفة هي موارد اقتصادية زائفة، إما بسبب تحكم السلطات بها (الرأسمال النقدي) أو لصعوبة وضعها في قوالب نمطية وقابلة للقياس (العمل)، أو لأنها بكل بساطة الحياة مقسمة إلى أجزاء (الأرض والثروات الطبيعية). ويقدم بولانيي أيضًا في كتابه "التحول الكبير: الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر"، محاججة نقدية قوية ضد مبدأ أصالة الملكية من منظور تاريخي، وهو يرى أنّ السوق مؤسسة مندمجة في المجتمع وغير مفصولة عنه. لم يأت الكاتب أيضًا على ذكر جون كينيث جالبريت المعدود بين المؤسساتيين، وهو ممن أعطوا أهمية للمؤسسات الاجتماعية في الاقتصاد، وأظهر على نحو فذ تبعية الأفكار للمصالح الاقتصادية القومية والمراحل التاريخية. إلا أنّ عدم استفاضة الكاتب في عرض أفكار هؤلاء يتسق مع المنهج الذي اعتمده في هذا الكتاب، والذي يقوم على انتقاء الأدبيات والاقتباسات النظرية التي تحلل التجارب التنموية الناجحة، وهذا ما وجده لدى باحثي ومفكري التنمية الذين حللوا على نحو خاص الدروس المستفادة من دول شرق آسيا (مثل أمسدن و بريتون وايفانز و هيرشمان ..).
التنمية وإعادة الإعمار:
تضمن الكتاب معالجات مستفيضة لمقاربات التنمية والنمو لكنه لم يستكمل ذلك باستعراض متمم لنظريات إعادة الإعمار وتجاربه وأدبياته، كونه مدخلًا لا بد منه لبناء سورية وتنميتها.
لا شك أن الدمار الواسع والتحول الاقتصادي الناتج عن الحروب، يعد فرصة لا بديل لها من أجل القيام بالمراجعات الفكرية والسياسية اللازمة لمقاربات التنمية واستراتيجيات النمو وما يرافقهما من سياسات، بشرط أن يأتي ذلك في سياق يلبي الحاجات الملحة ويراعي القيود الواقعية التي لا مناص من مراعاتها في رسم خطوط المستقبل. فسورية الخارجة من الحرب أو تكاد، تواجه أربعة تحديات متزامنة، يمكن التعبير عنها بالأسئلة الآتية: أي مقاربة للتنمية في مرحلة ما بعد الحرب؟ وما هي سياسات إعادة الإعمار؟ وكيف تمول برامجه وعملياته؟ وما دور الدولة في كل ذلك؟
يسلط الكاتب كثيرًا من الضوء على مسألتي الإدارة الحكومية ونموذج التنمية في مناقشته لمستقبل سورية الاقتصادي، فأيد إعادة تأسيس القطاع العام وفق مبادئ الجدارة والاستحقاق والاستقلال، للقيام بدوره في رعاية تجربة التمرين التكنولوجي والتعلم، وفي تنفيذ سياسات كينزية قائمة على تعزيز الطلب الاستثماري وتمكين المنتجين. كما حلل على نحو مسهب المدارس الجديدة في التنمية مستخلصًا الدروس الناجحة للبلدان الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي والذي تحذو حذوه بعض بلدان غرب آسيا في الوقت الراهن، وتُنصح سورية بالنسج على منوالها.
ويمكن الانطلاق من مضمون الكتاب في التفكير بالمسألتين الأخريين غير المشمولتين بالتحليل فيه؛ أي مسألتي التمويل وإعادة الإعمار، واللتين تمثلان امتدادًا طبيعيًا للرؤية التنموية والاقتصادية للدولة ودورها.
تظهر الدراسات والتجارب أن الحروب الأهلية تتسبب في انهيار واسع في سلطة الدولة وخصوصًا عندما تتعرض أراضيها للتجزئة، وهذا على مساوئه، يؤمن فرصة لإعادة بناء الاقتصاد برمته على قواعد جديدة، وعدم الاكتفاء بتعويض الخسائر المادية والاقتصادية الناتجة عن الدمار الواسع. لكن السلطة الاقتصادية المركزية في الحالة السورية، حافظت على قدر مقبول من التماسك والحضور، بل كان نطاق انتشارها أثناء الحرب أوسع من دائرة نفوذ السلطة السياسية والأمنية للدولة. وهذا ما يفسر صمود النموذج الاقتصادي الذي كان سائدًا في سوريا قبل الحرب، بمزاياه وعيوبه، مع إن ذلك قد يعقد مهمة إطلاق التنمية وفق تصورات جديدة.
وعلى ما يبدو، لم تحدث الحرب تحولًا عميقًا في الاقتصاد السياسي للدولة التي تستأنف المسار الذي بدأته قبلها4. ويردد باحثون غربيون بأن إعادة الإعمار التي تقودها الحكومة السورية تهدف إلى إعادة إنتاج النظام السياسي نفسه الذي كان سائدًا قبل الحرب، على أن  "يخدم مصالح القوى الحليفة والمجموعات الداخلية التي وقفت إلى جانب النظام"5. لكن الآخرين يسعون إلى الأمر نفسه في اتجاه معاكس، أي أنهم يخططون لأن تكون عمليات الإعمار تمويلًا وإدارةً المدخل إلى تغيير النظام أو تبديل اتجاهه، أو مصدر ضغط عليه وعلى حلفائه لتغيير سياساتهم على الأقل.
وعلى العموم لم تكن سياسات إعادة الإعمار وأدبياته إلا جزءًا من مسار يرتبط بالمصالح السياسية للدول وتصوراتها الاقتصادية. فأطروحة السلام الليبرالي على سبيل المثال والتي نفض الغبار عنها في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، عبّرت عن النزعة التدخلية في النظام الدولي القائم على الهيمنة، وهي أيضًا صدى للطروحات النيوليبرالية المدججة بأسلحة إجماع واشنطن وتوصيات المؤسسات الدولية ذات الصلة. والأمر نفسه ينطبق على ما يُعرف برأسمالية المقاولين الموكل إليهم تنفيذ برامج إعادة الإعمار تحت إشراف الجيوش (الأميركية)، وبما يكفل تحقيق الأهداف التي شنت من أجلها الحرب. وهذا يقتضي القبول برأسمالية الفوضى (Messy Capitalism) التي تنطوي على أقصى تحرر من القيود والضوابط، لكنها تُقيم من طرف خفي علاقة بين تقدم الإعمار وإتاحة التمويل من جهة وتحقيق أهداف الحرب من جهة ثانية. وفي كلتي المقاربتين (السلام الليبرالي ورأسمالية المقاولين) يكون التمويل خارجيًّا، وتُرفض خطط الإعمار المعدّة مسبقًا، وتُدان "عقلية التخطيط المركزي المهيمنة في أسواق التنمية الدولية"6. أما أفضل النتائج فيحققها القطاع الخاص بعد إطلاق يده بعيدًا عن سلطة الدولة وعين الرقابة. أي أنّ المطلوب من الجيوش التي تمارس الغزو والاحتلال أن ترعى تدخلًا اقتصاديًا يُنفذه رواد الأعمال، من دون برامج ثقيلة الوطأة يتولاها القطاع العام أو القطاع الخاص
قدم داغر في كتابه مقاربة نظرية شيقة ومتمرسة في مسألتي التنمية وإدارة التنمية، وهو مدخل لا غنى عنه لاختيار نموذج إعادة الإعمار الذي نطمح أن يكون على النقيض من أطروحات السلام الليبرالي وما يعادلها. لقد فشلت هذه الطروحات في إعمار ما هدمته الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، فيما نجح النموذج التضامني الذي طبقته المقاومة بعد حرب 2006 في تحقيق أفضل النتائج، وهو الذي بني على أساس فهم السكان لمصالحهم، لا بناء على إرادة الواهب أو رغبات الممول، ودون أدنى شراكة من المؤسسات الدولية في مراحل التخطيط والتصميم والتنفيذ كافة.
إن إعادة الإعمار في سورية هي مسألة متعددة الأوجه فكريًا وسياسيًا وتقنيًا. لا يكفي أن نختار بين اتجاهات التنمية وتياراتها، أو نرسم دور الدولة ووظائفها وسبل إصلاح أجهزتها، أو نحدد طرق التنفيذ والبرمجة والتمويل. بل علينا أن نمتلك أيضًا وربما قبل ذلك كله، إجاباتنا عن الأسئلة المحورية: هل ينبغي مراجعة النموذج الاقتصادي لسورية جوهريًا؟ وهل هذا ممكن أصلًا؟ وكيف يمكن دمج القطاع الخاص في مقاربة تقودها الدولة للإعمار والتنمية والنمو والتصنيع المتأخر؟ وما حدود دوره؟ وما هي خيارات التمويل ونماذج وبدائله؟ وما هي الصلة بين الجوانب المادية والبشرية والاجتماعية لإعادة الإعمار؟
بالخلاصة، يستمر د. البير داغر في كتابه هذا في المسار الذي بدأه منذ أكثر من عقدين في محاولته بناء مرجعية نظرية متعددة المصادر لنقد سياسات التنمية واقتراح البدائل، مستعينًا بثلاثة روافد اقتصادية وسياسية وإدارية، والتي يمتد مجراها من النظرية إلى التجربة. وهو على أي حال لا يلتمس طريقًا واحدًا في تحليله، بل يغذي مجراه بروافد فكرية متنوعة، ممزوجة بقراءة متفحصة للتجارب. وقد أحسن الكاتب قبل أي شيء آخر اختيار عنوان كتابه، دون مبالغة أو تزيّد، ليكون "منطلقًا نظريًا" إلى قضية الكتاب الرئيسية التي هي: "بناء مستقبل سورية الاقتصادي".
وإلى كتاب آخر..


  1د. البير داغر؛ منطلقات نظرية لبناء سورية الاقتصادي؛ دمشق: تجمع سورية الأم؛ الطبعة الأولى، 2018.


  2انظر مثلًا:
Paul M. Romer; The Origins of endogenous Growth; Journal of Economic Perspectives; Vol.8; number 1; Winter 1994; PP:3-22.

أنظر3:
- Milton, Friedman (1992). Capitalism and Freedom University of Chicago Press
-J.A. Hayek (2005).The Road to Serfdom. Taylor &. Francis Group                                   
                     


 "NDP 4سارعت الحكومة في نهاية عام 2017 إلى إطلاق تحضيرات "برنامج التنمية لما بعد الحرب السورية

والذي سيشارك فيه حوالي 200 خبير ومشارك موزعين على 12 مجموعة عمل منفصلة. لكن الحكومة لم تنتظر إنجاز هذا البرنامج للبدء بإقرار المبادرات والتشريعات والخطوات اللازمة للإعمار.


  5أنظر مثلًا:
Steven Heydemann; Reconstruction Authoritarianism; The politics and Political Economy of Post War Reconstruction in Syria; Project on Middle East Political Science; Carnegie Middle East Center;  
pomeps.org/2018/09/10/reconstructing-authoritarianism-the-politics-and-political-economy-of-post-conflict-reconstruction-in-syria


  للمزيد راجع:6
عبد الحليم فضل الله؛ الحرب وإعادة الإعمار في العالم العربي: مقدمات نظرية وتحليلية في مسائل الدولة والتنمية؛ بيروت: المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق-سلسلة دراسات وتقارير؛ ص:22-26.

 مقالات | هل يكون الذكاء الاصطناعي آخر ابتكارات البشر/ احمد فاعور - آذار 2019

مقالات | هل يكون الذكاء الاصطناعي آخر ابتكارات البشر/ احمد فاعور - آذار 2019

إصدار 2019-03-15

مقدمة في العام افترض العالم والباحث إن الآلات سوف تمتلك في المستقبل من الذكاء الكافي بشكل سوف تجعل نفسها أكثر ذكاءا وعندها سوف تجد المزيد من الفرص للتطور والتحسن وبالتالي تجعل الذكاء البشري وراء ظهورها لمسافات بعيدة وهذا ما أطلق عليه العلماء اسم انفجار الذكاء وبالفعل لم يحدث يوما أن شهدت البشرية مرحلة أكثر تطورا في مجال الذكاء الاصطناعي مثلما تشهده الآن فلا يكاد يمر يوم دون أن يحدث تطور جديد في هذا المجال وخلال العقدين الأخرين كثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته كعلم قد يصنع مصيرا جديدا للبشر ولكن هل سيغير الذكاء الاصطناعي حياتنا نحو الأفضل أم نحو الأسوأ هل سيجعل حياتنا أكثر سهولة أم سيزيدها تعقيدا وما هو مستقبل البشرية في ضوء هذه الثورة الصناعية الرابعة وهل سيكون الذكاء الاصطناعي الابتكار الأخير الذي سوف يقضي على البشرية هذا ما سنحاول الإجابة عنه في السطور القادمة يعرف الذكاء الاصطناعي بأنه سلوك وخصائص معينة تتميز بها البرامج الحاسوبية تجعلها تحاكي قدرات البشر الذهنية وأنماط عملها مثل القدرة على التعلم والاستنتاج والتأقلم مع أوضاع مستجدة وقد بدأ هذا العلم يشق طريقه في العديد من التطبيقات كالتشخيص الطبي ومعالجة اللغات الطبيعية وترجمتها وتمييز وتحليل الصور والتحكم الآلي وغيرها الكثير أنواع الذكاء الاصطناعي على الرغم من وجود أشكال متنوعة من الذكاء الاصطناعي باعتباره مفهوما واسعا إلا أننا يمكن أن نقسمه إلى ثلاث فئات الذكاء الاصطناعي الضعيف وهو الذي يركز على مهمة واحدة ويفتقد للوعي الذاتي والقدرة على التأقلم والتعلم الذاتي أو الذكاء الحقيقي الذكاء الاصطناعي القوي وهو الذي يحاول أن يحاكي دماغ الإنسان وسيكون هذا النوع قادرا على أداء معظم المهام التي يقوم بها الإنسان مثل السيارات الذاتية القيادة التي تتطور أنظمتها الآلية بحيث ننتج سائقين آليين يستطيعون التحكم والإستجابة بطريقة ذكية تشبه استجابات الإنسان للمؤثرات المختلفة على الطريق وبالتالي يصبح السائق الآلي قادرا على اتخاذ قرارات حاسمة أثناء القيادة الذكاء الاصطناعي الخارق وهو الذكاء الاصطناعي الذي يفوق العقول البشرية في كل المجالات تقريبا بما في ذلك الإبداع العلمي والمهارات الإجتماعية ويشكك بعض العلماء في إمكانية الوصول إلى الذكاء الاصطناعي القوي بينما يرى آخرون إمكانية تحققه ولكن ينبهون إلى ضرورة الاستعداد له منذ الآن ومواءمة أهدافه مع الأهداف الخيرة للبشرية وهم يعتبرون إن حضارتنا سوف تزدهر إذا فزنا في السباق بين القوة المتنامية للتكنولوجيا والحكمة التي ندير بها هذه التكنولوجيا لذلك فإن أفضل طريقة للفوز بهذا السباق لا تتمثل بعرقلة التقدم التكنولوجي بل تسريع مواءمة أهداف التقدم مع أهدافنا من خلال دعم أبحاث سلامة الذكاء الاصطناعي وقد أولت دول العالم وخاصة المتقدمة عناية خاصة بهذا الموضوع وأعدت له خطط مستقبلية ورصدت له موازنات ضخمة واستقطبت الباحثين من شتى أنحاء العالم فقد خصصت الصين التي تتنافس مع الولايات المتحدة على المركز الأول مبلغ مليار دولار على مدى خمس سنوات كذلك رصدت فرنسا مبلغ مليار يورو لصالح مشاريع الأبحاث في الذكاء الاصطناعي وأيضا العديد من الدول بدأت الإستعداد لهذه المرحلة القادمة من التطور في هذا المجال مع هذا التطور المتسارع ثمة سؤال بدأ يطرح حاليا حول مستقبل البشر وما هي انعكاسات هذا التطور التكنولوجي الهائل على مختلف جوانب حياته وفي معرض الاجابة عن هذا التساؤل اختلف الباحثون في التقدير ففي الوقت الذي يصف فيه أيلون ماسك الميلياردير الكبير والمدير التنفيذي لشركتي للأدوات الكهربائية و المتخصصة بتكنولوجيا الفضاء الذكاء الاصطناعي بأنه أكبر تهديد للحضارة الإنسانية يفوق حوادث السير والمخدرات ويتعلق الأمر بالتحديد في أن الآلة بالمفهوم الواسع للكلمة ستسيطر شيئا فشيئا على ما نقرأه ونتعلمه وعلى توجيه خياراتنا نحو ما تجب قراءته أو تعلمه أو اكتسابه وبالنسبة ل ماسك فإن الشركات العاملة في قطاع الأنترنت والذكاء الاصطناعي تتقدم بسرعة كبيرة دون أن تأخذ الوقت الكافي لقياس المخاطر التي يمكن أن تحتلها هذه الصناعات يوما ما على البشرية فالسيارات الذاتية القيادة ستصبح هي الغالبة خلال السنوات العشر القادمة وسينظر إلى مالكي السيارات الحالية كمالكي الأحصنة اليوم كذلك في قطاع الأعمال سيصبح من الممكن الإستعاضة عن البشر في أغلب الوظائف بينما وعلى العكس من ذلك أبدى زوكربيرغ مؤسس ورئيس فيسبوك تفاؤلا كبيرا حول هذا الموضوع فهو يعتبر أن الذكاء الاصطناعي سوف يطور من قدرة التحكم عند الإنسان وسوف يخلق له فرص عمل جديدة أكبر بأضعاف من تلك المهددة بالانقراض وسوف يحسن كثيرا من جودة الأعمال ودقتها فماهي التوقعات حول مستقبل البشرية في ضوء تطور الذكاء الاصطناعي التوقعات المستقبلية كما أشرنا سابقا انقسم الباحثون في علم الذكاء الاصطناعي في تقييمهم للتوقعات المستقبلية إلى فريقين واحد متفائل والآخر متشائم ففي حين يرى المتفائلون أن الذكاء الاصطناعي قد يساعد في التصدي للكوارث وحوادث المرور وأنه سيحسن حياة البشر في كافة مناحي الحياة من خلال منح البشر قدرات حسية خارقة مثل السمع والبصر والمشي لأصحاب الحاجات الخاصة فالإنسان غير القادر على المشي أو الذي لا يرى أو لا يستطيع السمع جيدا سوف تمنحه القدرات الاستثنائية لنظم الذكاء الاصطناعي إمكانيات تجاوز مثل هذه العوائق كما يتوقع أن يكون الطب التشخيصي أحد أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي حيث ستمكننا هذه التكنولوجيا من الحصول على إباحة تسلسل الجنيوم وحفظ التفاصيل الدقيقة للسجلات الطبية والحصول على كميات هائلة من الدراسات السريرية وتحسين طرق العرج وتطوير الأدوية كما يمكن لتطور الذكاء الاصطناعي في مجال معالجة اللغة الطبيعية مساعدة ملايين البشر الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة وبالتالي لا يستطيعون الحصول على المعلومات وذلك من خلال اعطائهم المعلومات المناسبة والإجابة على استفساراتهم المطروحة بلغتهم الطبيعية المحكاة أما التهديد الأبرز الذي يطرح فهو هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وبالتحديد الروبوتات وظائفنا وما هو مستقبل المهن وما هي التغيرات التي يمكن أن تطرأ عليها يعتقد بعض الباحثين أن فكرة الرجل الآلي الخارق التي طرحت في ثمانينات القرن الماضي من خلال أفلام الخيال العلمي والتي تتحدث عن سيطرة وحكم الرجال الآليين عام سوف تأخذ نصيبها من الوجود الفعلي في المستقبل القريب جدا وهي سوف تستحوذ على وظائف مليون عامل في العالم عام وهو ما كشفت عنه دراسة معهد ماكينزي العالمي التي أجريت العام الماضي في دولة وشملت مهنة وقد أوضحت الدراسة أن ثلث القوى العاملة في الدول الغنية مثل الولايات المتحدة وألمانيا قد تحتاج إلى إعادة تدريبها على وظائف أخرى وعلى الرغم من أن غالبية الأميركيين قلقون وبنسبة تفوق بشأن مستقبل المهن في وجود الروبوتات فإن هناك مجموعة من الخبراء ترى أن هذا القلق مبالغ فيه وهم يرون أنه يجب تدريب الموظفين للتأقلم والعمل مع الذكاء الاصطناعي لتقديم خدمات أفضل وزيادة الإنتاجية قضايا أخلاقية وفيما يلي أشير إلى ثمانية قضايا أخلاقية ينبغي التطرق لها عند الحديث عن مستقبل الحياة في ضوء تطور علم الذكاء الاصطناعي البطالة ماذا سيحدث عند أتمتة أغلب الوظائف بما أن الذكاء الاصطناعي قد وفر وسائل تقنية لأتمتة الأعمال والوظائف فهو بالتالي قد وفر مساحة أكبر للناس للقيام بأدوار أكثر تعقيدا والانتقال من العمل الجسدي الذي سيطر على عالم ما قبل الصناعة إلى العمل المعرفي الذي يميز العمل الاستراتيجي والعمل الإداري في مجتمعنا المعولم على سبيل المثال يعمل ملايين العمال اليوم في الولايات المتحدة بمهنة النقل بواسطة الشاحنات ما هو مصير هؤلاء العمال إذا اصبحت الشاحنات ذاتية القيادة ومن جهة أخرى إذا نظرنا إلى انخفاض خطر وقوع الحوادث بسبب المركبات الذاتية القيادة فإن الشاحنات ذاتية القيادة تصبح خيارا أخلاقيا أيضا إذا كانت الآلة ستحل محل الإنسان في أغلب وظائفه يصبح السؤال المطروح كيف سنقضي أوقاتنا والجواب على هذا السؤال يكون في استثمار هذا الوقت في الأنشطة الغير عمالية مثل رعاية الأسرة والإنخراط في المجتمع والمساهمة في رفع مستوى هذا المجتمع وعندها يصبح من غير المقبول أن يطلب من البشر صرف معظم وقتهم في العمل الجسدي من أجل تحصيل لقمة العيش فجوة عدم المساواة كيف ستتوزع المداخيل الناتجة عن عمل الآلات بشكل شبه مستقل يعتمد نظامنا الاقتصادي على موضوع التعويض مقابل المساهمة والذي غالبا يتم تقييمه بالأجر بالساعة ولا تزال غالبية الشركات تعتمد على العمل المأجور بالساعة عندما يتعلق الأمر بالمنتجات والخدمات ولكن مع استخدام الذكاء الاصطناعي سوف يقل بشكل كبير الاعتماد على القوى العاملة البشرية وبالتالي ستذهب العائدات إلى عدد أقل من الناس بحيث يحصل الأفراد الذي يتملكون حصصا في هذه الشركات على كل هذه الأموال وهذه الفجوة ستأخذ في الاتساع حيث يأخذ أصحاب الشركات والمؤسسون جزءا كبيرا من الفائض الاقتصادي الذي يخلقونه وهنا يطرح السؤال الكبير كيف سنهيكل اقتصادا عادلا في مرحلة ما بعد العمل التأثيرات والتفاعلات الإنسانية كيف ستؤثر الآلات على سلوكنا وتفاعلنا أصبحت البوتات الذكية الصناعية أفضل وأفضل في نمذجة الحوار والعلاقات الإنسانية ففي عام فاز بوت يحمل اسم في مسابقة للمرة الأولى فقد استطاع البوت إيهام أكثر من نصف المتابعين البشر بأنهم كانوا يدردشون مع إنسان وليس بوتا صناعيا هذا الإنجاز هو مجرد بداية عصر ستقوم فيه بالتفاعل بشكل متكرر مع الآلات كما لو أنهم بشر عاديون سواء في خدمة الزبائن أو في المبيعات الغباء الاصطناعي كيف نحترس من الأخطاء يأتي الذكاء عادة من التعلم سواء للإنسان أو الآلة بالنسبة للآلة يكون هناك مرحلة من التدريب والتعليم للنظام من خلال الأمثلة قبل أن يدخل مرحلة الإختبار من خلال أمثلة جديدة لم يتم التعرف عليها مسبقا ومن الواضح أن مرحلة التدريب والتعليم لا يمكن أن تغطي جميع الأمثلة الممكنة وهو ما قد يوقع النظام الآلي بأخطاء يمكن للبشر أن يتفادوها وهنا تطرح مسألة الثقة بالانظمة الذاتية خاصة في الموضوعات شديدة الحساسية كالصحة والتسلح وما إلى ذلك الروبوتات العنصرية كيف يمكننا إزالة التحيز الذي يمكن أن ينتج عن الذكاء الاصطناعي للآلات على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي للآلات يؤمن سرعة وقدرة معالجة تتجاوز بكثير قدرة البشر إلا أنه لا يمكن الوثوق بإنصافها وعدم تحيزها على سبيل المثال تعتبر شركة وشركتها الأم أحد رياديي الشركات في استخدام الذكاء الاصطناعي كما هو واضح في خدمة حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الأشخاص والكائنات والمشاهد وهنا قد يحدث نوع من الأخطاء أو التحيز ضد السود مثلا في موضوع التنبؤ بالمجرمين الأمن كلما أصبحت التكنولوجيا أكثر قوة كلما أمكن استخدامها أكثر لغايات جيدة أو ضارة وهذا لا ينطبق فقط على الروبوتات المنتجة مكان الجنود البشر أو الأسلحة ذاتية الاستخدام بل أيضا على أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تحدث أضرارا أذا تم استخدامها بشكل مؤذي وهنا يصبح موضوع الأمن السيبراني أكثر أهمية ففي النهاية نحن نتعامل مع نظام أسرع وأكثر قدرة من البشر بأضعاف كثيرة العواقب غير المقصودة ماذا لو تحول علم الذكاء الاصطناعي نفسه ضدنا عندما تتحدث عن آلة فلا معنى لنية الشر بداخلها أو لنية الخير وإنما المقصود هو احتمال عدم فهم السياق الكامل المطلوب من الآلة على سبيل المثال تخيل نظام ذكاء اصطناعي متقدم لعلاج السرطان والقضاء عليه بعد الكثير من البرمجة والاتمتة يمكن أن يبتكر صيغة تؤدي في الواقع إلى نهاية السرطان ولكن عبر قتل كل شخص على وجه الأرض فنظام الذكاء الاصطناعي قد حقق هدفه لا سرطان بكفاءة عالية ولكن بغير ما قصده البشر التفرد والتميز كيف نبقي سيطرتنا على نظام ذكي معقد يعتبر البشر سادة الموجودات وعلى رأس قمة السلسلة الوجودية وذلك ليس بسبب عضلات قوية يمتلكونها أو أسنان حادة لديهم وإنما بسبب ذكائهم وبراعتهم وإبداعهم وهنا يطرح سؤال خطير حول مستقبل الإنسان نفسه في ضوء تفوق الذكاء الاصطناعي هل سيكون له ميزة وتفوق علينا يوما ما وعندها لا يكفي فقط سحب القابس الكهربائي منه لإنه سوف يستبق هذا التحرك ويدافع عن نفسه خاتمة الذكاء البشري هو لحد اليوم اقوى وأهم ذكاء بيولوجي معروف ولكن موقعنا في التاريخ ربما لا يكون إننا اذكى المخلوقات الموجودة بل كوننا أول المخلوقات الذكية الموجودة على سطح هذا الكوكب إن مستقبل الذكاء الاصطناعي هو بالتأكيد أفضل بكثير من ماضيه وربما ينتهي الدور بالذكاء الاصطناعي بلعب دور حاسم ومصيري في الحضارات المستقبلية وعلى نطاق أوسع بكثير من كوكبنا هذا على غرار ما لعبه الذكاء البشري في الحضارات الماضية والحاضرة والذي سوف يلعبه مستقبلا وللاسباب عينها فان الموجودات الاصطناعية الذكية القابلة للتطوير والتأقلم الذاتي يمكن ان يكون لها أيضا وبشكل متساوي الأثر المهم في الحضارات المستقبلية ما هو المهم والأساسي ليس هو شكل هذا التطور وحجمه بل القيم التي سوف ترتكز عليها هذه الحضارات أستاذ جامعي وباحث أكاديمي

 مقالات | آسيا الأهم في المشهد الدولي/ زياد حافظ - آذار 2019

مقالات | آسيا الأهم في المشهد الدولي/ زياد حافظ - آذار 2019

إصدار 2019-03-14

معظم النخب العربية الحاكمة ما زالت متأثرة بنظرية ملكية الولايات المتحدة لتسعة وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة والقيادات الخليجية ما زالت تعتقد أن أمنها يمر عبر الولايات المتحدة وأن بوابة استرضاء الولايات المتحدة هي استرضاء الكيان الصهيوني من جهة أخرى أطلقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في عهد الرئيس كلنتون مادلين أولبرايت أن الولايات المتحدة هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها لسنا متأكدين أن الولايات المتحدة تملك تسعة وتسعين بالمائة من الأوراق وإن امتلكت شيئا فهي احتلال العقل السياسي للنظام الرسمي العربي هذا إذا كان هناك من عقل فقط لا غير والذي لم يعد يمثل الشعوب العربية بكافة أطيافها كما لا نعتقد أن الولايات المتحدة هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها كما زعمت مادلين أولبرايت فالأحداث منذ بداية الألفية الثالثة وربما قبل ذلك بعقدين تشير إلى خط بياني واضح في حالة تراجع بل إلى أفول الولايات المتحدة ودورها في العالم مجموعة البريكس ومنظمة شانغهاي من الدلائل التي تؤكد على وجود قوى صاعدة تواكب تراجع الولايات المتحدة لذلك إن ما يحصل على الصعيد الإعلامي في آسيا هو الأهم والأساس وما يحصل في الغرب وفي الولايات المتحدة هو التابع وليس أكثر ولقد أشرنا في أماكن عديدة وفي عدة مناسبات أن مقومات التفوق الأميركي والغربي لم تعد قائمة وأن هناك من ينافسها في كافة المجالات التي كانت تعتقد الولايات المتحدة احتكارا لها بدءا من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية إلى الريادة في التكنولوجيا إلى آخر مظاهر القوة الناعمة إضافة إلى رداءة القيادات الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص من هنا نعتقد أن اهتمامات النخب العربية يجب أن تكون منصبة على آسيا وخاصة الكتلة الاوراسية بشكل رئيسي وعلى دول الجنوب العام من إفريقيا إلى أميركا اللاتينية فما يحدث هناك يؤثر بشكل مباشر في الوطن العربي وتأكيدا لما نقوله تصدرت آسيا المشهد الدولي خلال الأيام القليلة الماضية فقمة هانوي التي جمعت رئيس كوريا الشمالية بالرئيس الأميركي تلازم مع أزمة عسكرية خطيرة بين باكستان والهند سرعان ما تراجعت وتيرتها وإن لم تنته أسباب المواجهة كما تلازم مع قمة لوزراء الخارجية لكل من الصين وروسيا والهند في إحدى المدن الصينية ويمكن الإضافة إلى كل ذلك التوتر ا لمستمر في بحر الصين بين الولايات المتحدة والصين وإخفاقات الولايات المتحدة في أفغانستان غير أن الإعلام الغربي لم يذكر الاجتماع بين وزراء الخارجية الثلاثة بل اكتفى بنقل وقائع وتحليلات عائدة للقمة الفاشلة في هانوي وتداعيات المواجهة العسكرية بين باكستان والهند فالاجتماع الثلاثي له دلالاته من حيث يكرس دور الكتلة الاوراسية في المشهد الدولي وتأثيره بطبيعة الحال على مسار الأمور وأخيرا وليس آخرا كان اللقاء اللافت للنظر بين مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران والرئيس السوري بشار الأسد فكيف يمكننا قراءة تلك الأحداث وربطها أولى القراءات هي أن لكل من تلك الأحداث ظروفها الخاصة فالتوتر الباكستاني الهندي مزمن ويعود إلى نشأة الدولة الباكستانية سنة ورسم الحدود بين البلدين على يد المستعمر البريطاني وإرثه الثقيل في النزاع حول مقاطعة كاشمير هذا صحيح ولكن ذلك التوتر يأخذ بعدا مختلفا بعد تشكيل الكتلة الاوراسية والطريق الواحد والحزام الواحد التي تتبناه كل من الصين وروسيا النزاع حول كاشمير ليس محور مداخلتنا إلا من زاوية الأثر على الكتلة الاوراسية والحزام الواحدالطريق الواحد كاشمير تفصل بين الهند وباكستان والصين اقتسام كاشمير بين الدول الثلاثة يأخذ بعده الجيوسياسي مع محاولات الولايات المتحدة لإضعاف الكتلة الاوراسية أو لجعل اختراق يهدد نموها تاريخيا كانت باكستان حليفة الولايات المتحدة بينما الهند كانت متصدرة مجموعة دول عدم الانحياز وعلى علاقة جيدة بالاتحاد السوفياتي مع صعود اليمين الهندوسي إلى السلطة مع حزب جانتا وتراجع دور حزب المؤتمر المؤسس التاريخي لدولة الهند بعد الاستقلال تنامت العلاقة بين الهند والولايات المتحدة ومؤخرا مع الكيان الصهيوني بالمقابل كانت علاقات باكستان والصين جيدة وذلك لإيجاد توازن جيوسياسي مع الهند من وجهة نظر باكستان خاصة بعد الحروب الصينية الهندية في ستينات القرن الماضي وهن يكمن دور باكستان المفصلي علاقة طويلة مع الولايات المتحدة وعلاقة حسن الجوار مع الصين احتمال سيطرة الهند على كل مقاطعة كاشمير يهدد مصالح الصين وخاصة مشروع الممر الصيني الباكستاني الذي يشكل حجر زاوية في مبادرة الحزام الواحدالطريق الواحد والصين على وشك إيصال أوتوستراد يوصل الصين بباكستان من هنا نفهم الاهتمام الكبير للدبلوماسية الصينية في الأزمة الباكستانية الهندية بالمقابل دور روسيا قد يكون أكبر مع الهند نظرا لعلاقات تاريخية ونظرا لفعالية سلاحها الجوي فالتوتر الأخير على الحدود الذي شهد اشتباكا جويا بين الطائرات الهندية الروسية الصنع ميغ والطائرات الباكستانية الأميركية الصنع أف أسفر على تفوق الطائرة الروسية على الطائرة الأميركية وهذا قد يعزز الإمكانية التنافسية للسلاح الجوي الروسي في أسواق جديدة في آسيا بدءا بالهند عبر تسويق طائرتها ميغ وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما كشف عنه الرئيس الروسي في العام الماضي في شهر آذارمارس عن النوعية المتفوقة للسلاح الروسي نفهم أبعاد نتائج المواجهة الجوية الهندية الباكستانية لكن بغض النظر عن الأبعاد التجارية في سباق التسلح هناك أبعاد جيوسياسية للأزمة حول الكاشمير فبالنسبة لباكستان فإن تمسكها بكاشمير لا يعود للبعد الديني ولا للبعد التاريخي حول تجاهل الهند نتائج الاستفتاء حول مستقبل كاشمير الذي أفضى إلى الرغبة في الالتحاق بباكستان فهناك الاعتبار الجغرافي حيث كاشمير هي الممر بين الصين وباكستان وبما أن تلك الدولتين تاريخيا على توافق وبما أن مشروع الحزام الواحدالطريق الواحد يشمل باكستان فإن كاشمير تأخذ بعدا جيوسياسيا دوليا وهناك بعض المواقع الإلكترونية تشير إلى دور صهيوني في الهند في التوتر مع باكستان بالمقابل رغبة عمران خان في تخفيض التوتر مع الهند يعكس أيضا رغبة صينية في ضبط الأمور ولعدم السماح للأميركيين للتسلل عبر عرض وساطة بين الأطراف المتنازعة الحدث الثاني الذي خطف الأنظار ولو لفترة وجيزة هو فشل اللقاء بين رئيس الولايات المتحدة الأميركية ورئيس كوريا الشمالية في هانوي للمكان دلالاته حيث هانوي عاصمة الفيتنام التي هزمت الولايات المتحدة والتي أصبحت اليوم معقلا للشركات المتعددة الجنسية الكبرى وهانوي على تخاصم تاريخي مع الصين خلال الحرب ضد الولايات المتحدة وبعدها وخاصة في ضرب الظاهرة الكمبودية الثورية فعقد اللقاء في هانوي كان بمثابة رسالة إلى الصين هذا من جهة من جهة أخرى تفيد الأنباء عن محاولة الرئيس الأميركي استجداء الصين في المفاوضات مع كوريا الشمالية غير أنها لم تثمر وذلك لأسباب واضحة فمن جهة يفرض الرئيس الأميركي العقوبات على الصين ومن جهة أخرى يستجديها فكيف يستقيم ذلك من الواضح أن من يتحمل مسؤولية فشل المفاوضات هو مستشار الرئيس الأميركي جون بولتون وفقا لعدة مصادر فالمعروف عنه أنه لا يؤمن بالاتفاقيات الدولية والمعاهدات التي تكبل الولايات المتحدة وذلك من حيث المبدأ لكن في الحقيقة إن أي تفاهم مع كوريا الشمالية سيسرع بالتقارب بين الكوريتين وبالتالي يتحول موضوع تفكيك المنظومة النووية في شبه الجزيرة الكورية إلى ضرورة خروج القوات الأميركية من كوريا الجنوبية الجدير بالذكر أن اليابانيين وخاصة سكان منطقة اوكيناوا حيت تتواجد أكبر قاعدة أميركية في اليابان صوتوا بكثافة وأكثرية وازنة في استفتاء خاص حول ضرورة خروج القوات الأميركية من اليابان الضغوط الأميركية على حكومة آبي جعلت الأخير يتجاهل التصويت الشعبي فهذا مؤشر عما يمكن أن يحدث في كوريا الجنوبية وبالتالي تعطيل أي اتفاق مع كوريا الشمالية يفي بالغرض من الواضح أيضا أن الرئيس الأميركي لم يقفل الباب نهائيا على إمكانية التوصل إلى اتفاق نعتقد إن الاعتبارات الانتخابية لها دور في توقيت إنجاح المفاوضات فما زالت الولايات المتحدة على مسافة من الانتخابات الرئاسية في خريف لذلك هناك احتمال الوصول إلى اتفاق ما في ربيع يستثمر في الحملة الانتخابية الجدير بالذكر أن جورج بوش الأب لم يستطع توظيف نتائج الحرب الخليج الأولى عام في حملته الانتخابية وكذلك الأمر بالنسبة لمؤتمر مدريد توقيت النجاحات على صعيد السياسة الخارجية مع مقتضيات الحملة الانتخابية مهم جدا الحدث الثالث هو انعقاد اجتماع وزراء الخارجية لكل من الصين وروسيا والهند في مدينة يوكنغ في الصين وهذا الاجتماع تجاهلته كليا وسائل الإعلام الغربية وبالتالي لم تعرف أهميته تناول اللقاء مسألة فنزويلا والتدخل الأميركي في ذلك البلد كما تناول مسألة الأزمة الحدودية بين الباكستان والهند التعقل عند كل من الصين وروسيا ربما لعب دورا كبيرا في تهدئة الأوضاع فكانت مبادرة عمران خان بإفراج الطيار الهندي التي أسقطته وسائل الدفاع الجوية الباكستانية ويشير أحد أهم المراقبين الآسيويين السفير الهندي السابق مك بهدراكومار على موقعه الإلكتروني أن كل من وزراء الخارجية الصيني والروسي بذلا مجهودا لدى حكومتي إسلام آباد ونيو دلهي لتخفيف حدة التوتر وأنهما سيستمران في مراقبة الوضع وآخر المعلومات تفيد أن الولايات المتحدة عرضت خدماتها للوساطة بين كل من باكستان والهند وذلك للحفاظ على دور ما في المعادلات الآسيوية بعد الإخفاقات في كل من أفغانستان وسورية واليمن كذلك الأمر بالنسبة لبلاد الحرمين التي عرضت وساطتها بين البلدين لتكريس ما تعتقده حصلت عليه من ود و نفوذ بعد جولة ولي العهد إلى تلك الدول فالمبادرة الأميركية مع بلاد الحرمين قد تقلق المحور الصيني الروسي في المدى القريب لكن مصالح كل من باكستان والهند هي مع دول الجوار أي دول منظمة شانغهاي في هذا السياق أكد وزير خارجية روسيا نظيره الباكستاني أن منظمة شانغهاي الأمنية قد تكون الإطار المناسب لمكافحة الإرهاب الذي سبب مؤخرا التوتر على الحدود الباكستانية الهندية ما يدعم المبادرة الروسية الصينية مصداقية رغبتهما في تخفيض التوتر وعدم وجود أجندات مخفية تجاه كل من الهند والباكستان خلافا لما يمكن توقعه من المبادرة الأميركية والعربية وحتى الأمم المتحدة غير أنه من الواضح أن حكومة الرياض تسعى أيضا من جهتها عن بدائل عن الغرب بعد تبيان انكشاف الضعف الأميركي فالمستقبل هو في آسيا وليس في أوروبا أو الولايات المتحدة أما اللقاء الهام بين مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران والرئيس السوري بشار الأسد فكان بمثابة صدمة للمراقبين الغربيين لم يفرحوا كثيرا عند نبأ استقالة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف لأن رفض الاستقالة السريع كان بمثابة صفعة للشامتين لكن بالنسبة لاجتماع يوكنغ فإن إيران تشكل موقعا استراتيجيا في منظومة شنغهاي بشكل خاص والكتلة الاوراسية بشكل عام وبالتالي التنسيق بين كل من الجمهورية الإسلامية في إيران والصين وروسيا سيستمر في سياق تكامل سياسي واقتصادية وأمني لن يستطيع الغرب منعه هذا يعني أن إيران ومعها محور المقاومة جزء من تلك الجغرافية السياسية والاقتصادية والأمنية ما يجعل خصوم أي طرف من محور المقاومة على تناقض مباشر مع منظومة الكتلة الاوراسية ويستكمل الحديث في مداخلات لاحقة كاتب وباحث اقتصادي وسياسي وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي

 مقالات | فرضيات الأزمة والحلول العاجلة: هل من سبيل إلى مغادرة النفق؟  / د. عبد الحليم فضل الله - 23 كانون الأول 2018

مقالات | فرضيات الأزمة والحلول العاجلة: هل من سبيل إلى مغادرة النفق؟ / د. عبد الحليم فضل الله - 23 كانون الأول 2018

 سنناقش بدايًة بضع فرضيات ملتبسة أو خاطئة سيطرت على أذهان واضعي السياسات العامة والممسكين بالقرار في لبنان زهاء ربع قرن، وتسببت في تضخيم الأزمة الاقتصادية وتعطيل الحلول أو تأخيرها أو زيادة ثمنها. وهنا نضع جانبًا الارتكابات الخطيرة والانتهاكات الجسيمة كالفساد والمحسوبية والزبائنية وغيرها مما بات معروفًا وغنيًا عن التكرار والذكر.
الفرضية الأولى: تستطيع الدولة السيطرة على نمو أصل الدين، أما تكاليفه فمتروكة لقوى السوق.  لنتذكر هنا أن ما يزيد عن ثلاثة أرباع الدين العام هو محلي ويعود جزء كبير منه للمصارف التجارية اللبنانية. ومع أن هذا يضع الحكومة في موقع التبعية للتمويل المصرفي، إلاّ أنّ الدولة في المقابل، أي الحكومة والبنك المركزي معًا، تتمتع بنقطتي قوة: الأولى أنها تستحوذ على الجزء الأكبر من سوق الائتمان المصرفي، فأكثر من 70 بالمئة من موجودات المصارف موظفة لدى القطاع العام (50 ألف مليار ل.ل منها في سندات الدين العام و187 ألف مليار تقريبًا لدى مصرف لبنان) وهذا يساوي 2.35 مرة من تسليفاتها للقطاع الخاص المقيم(!). وبذلك يكون القطاع المصرفي بحاجة ماسة للسوق التي تؤمنها له الدولة لتوظيف موارد تزيد عن أربعة أضعاف حجم الاقتصاد ولا يمكن للقطاع الخاص استيعابها وتحمل تكاليفها بمفرده.
أمّا نقطة القوة الثانية فهي الصلاحيات السيادية للدولة بفرض التشريعات التي تمنع بعض المؤسسات والقطاعات الاقتصادية أو الفئات الاجتماعية، من مراكمة أرباح إستثنائية وغير المبررة على حساب الآخرين، وبما يخالف مقتضيات المصلحة العامة. وفي جميع الأحوال يمكن الدولة أن تعيد صياغة معادلة الدين العام وتكاليفة من خلال إدخال عناصر اقتصادية عليها، ومن ذلك خصوصًا ربط كلفة الدين بمتغيرات اقتصادية حقيقية كعجز ميزان المدفوعات ومعدلات النمو الحقيقي، ليكون أثر الفوائد بذلك مضادًا للدورات الاقتصادية، كونها تنخفض مع انخفاض النمو وترتفع بارتفاعه، فضلًا عما يؤدي إليه ذلك من تقليص لأعباء خدمة الدين عن كاهل المالية العامة.
وهذا يحيلنا إلى الفرضية الثانية المتمثلة في الفهم المنقوص لمبدأ استقلالية السلطة النقدية عن السلطة التنفيذية. فهذا المبدأ يعمل باتجاه واحد، حيث بدت أولويات الحكومة في معظم الأوقات جزءًا لا يتجزأ من السياسة النقدية دون حصول العكس. وفي معظم الحالات، لم تكن رؤية السلطتين المالية والنقدية للمخاطر والتحديات موحدة، مما أضعف الموقع التفاوضي للحكومة تجاه الأطراف المحلية المقرضة لها، ولا سيما تجاه المصارف التي تمكنت من تحقيق أرباح طائلة بسبب مرونة أسعار الفائدة في الصعود وعدم مرونتها في الهبوط. ويؤكد على ذلك اتساع الفارق بين الفائدة في الأسواق المحلية ومثيلاتها في الأسواق العالمية في السنوات العشر الأخيرة دون مبررات معقولة، وضعف العلاقة بين معدلات الفائدة ونمو الودائع. وكما يبين الرسمان المرفقان كانت الفوائد في لبنان عشية الأزمة المالية العالمية في 2008 أعلى من معدل ليبور بثلاث نقاط تقريبًا ليتضاعف الفارق بعدها، مما كبّد الخزينة والمقترضين ثلاث نقاط إضافية من الفائدة بالرغم من النمو الكبير في الودائع وخصوصًا في السنوات 2006-2010.
  الرسم البياني (1) تطور معدلات الفائدة المدينة على الدولار في لبنان ومعدلات ليبور (2005-2017) %

 

 

 

 

 

 

 

 

 الرسم البياني (2): الفارق بين الفوائد المدينة على الدولار ومعدلات ليبور مقارنة بنمو اجمالي الودائع في المصارف التجارية اللبنانية (2005 -2017) %

 

 

 

 

 

 

 


وبوضوح أكبر تبدو السلطة النقدية في كثير من الأحيان، أقرب إلى القطاع المصرفي منها إلى السلطة المالية. ففي الأزمات يميل المصرف المركزي إلى رفع سعر الفائدة لضبط الأسواق النقدية واستقطاب السيولة بالقطع الأجنبي، وهذا يحقق للمصارف مستويات عالية ومتصاعدة من الأرباح في توظيفات ذات مكاسب فورية ومخاطر صفرية كما في الهندسات المالية، أو في توظيفات محدودة الخطر بالدولار الأميركي ذات فوائد أعلى بست نقاط عن معدل ليبور، وهامش بين الفوائد الدائنة والمدينة يبلغ ضعف مثيله في قروض الليرة اللبنانية.
الفرضية الثالثة: إنّ تحقيق نتائج إيجابية وطويلة الأمد في ميزان المدفوعات هو أمر ممكن اعتمادًا على وسائل نقدية (الفوائد المرتفعة) أو بطرق مالية (الاستدانة)، بغض النظر عن الأداء الاقتصادي. إنّ أكثر ما يعبر عن ذلك هو عدم الاتساق المزمن بين نتائج الميزان التجاري والحساب الجاري اللذين يسجلان عجوزات نسبيّة ضخمة، وميزان المدفوعات الذي حقق في بعض السنوات نتائج إيجابية. فهذا الأخير يعكس إلى حد كبير الطاقة الاقتراضية للدولة (أي استقطاب الأموال من الخارج على شكل ودائع وتدفقات مالية وديون قصيرة الأجل وطويلة الأجل)، فيما يرتبط الميزان التجاري والحساب الجاري بالطاقة الانتاجية والتنافسية للبلد، وقدرته على تصدير السلع والخدمات واستيعاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في توظيفات إنتاجية.

الرسم البياني (3): التغير في رصيدي ميزان المدفوعات والحساب الجاري نسبة إلى الناتج المحلي الاجمالي في لبنان (2005-2017)

 

 

 

 

 

 

 

 

يرتبط ذلك باعتقاد خاطئ آخر، مفاده أن الاقتصاد اللبناني يستطيع في جميع الظروف مراكمة فوائض الأموال وتحمل تكاليفها حتى لو لم تتحول إلى رساميل إنتاجية. لكن التدفقات الآتية من الخارج التي تساهم دائمًا في تصحيح نتائج ميزان المدفوعات، ستحمل الدولة والاقتصاد أعباءً ضخمة إلّا إذا أصبحت استثمارات حقيقية من شأنها زيادة مخزون الرأسمال وتوسيع قاعدة الانتاج. ولهذا الغرض لا بد من تطوير القنوات والمؤسسات التي تحول التدفقات إلى رساميل، ولا سيما منها السوق المالية التي ما زالت هامشية وضعيفة ولا تزيد قيمتها السوقية عن 23 بالمئة من الناتج المحلي، في وقت لم تتجاوز فيه أصول بنوك التسليف متوسط وطويل الأجل 9.5 بالمئة من الناتج وما لا يزيد عن 2.2 بالمئة من موجودات المصارف التجارية العاملة في لبنان.  
الفرضية الرابعة:
إنّ سعر الصرف الثابت وعجز الحساب الجاري يمكن أن يتساكنا إلى الأبد تحت سقف واحد. لكن الدفق المالي الآتي من الخارج يعرض البلد لدوامة ارتفاع سعر الصرف الحقيقي الذي يزيد الواردات ويقلل الصادرات. وهناك طريقتان للتقليل لاحتواء هذا الدفق النقدي، إما من خلال رفع معدلات الفائدة لتعزيز الاحتياطيات بالقطع الاجنبي وامتصاص السيولة بالعملة المحلية كما نفعل غالبًا، وإمّا بزيادة النمو ورفع نسبة الاستثمار الخاص والعام إلى الناتج المحلي كما لا نفعل أبدًا.
إن تثبيت سعر الصرف هو خيار يجب التمسك به ولا سيما في المرحلة الحالية، لكن علينا في وقت ما إيجاد الطريقة المناسبة لضبط تقلبات سعر الصرف الحقيقي الفعليEffective real exchange rate الذي يأخذ بعين الاعتبار فوارق التضخم بين الداخل والخارج وحركة أسعار الصرف تجاه سلة من عملات الشركاء الأساسيين للبنان.
الفرضية الخامسة: إنّ التمويل بالدين يغنينا عن تجرع كأس التصحيح المالي والإداري، مع ما يتطلبه هذا التصحيح من إجراءات حازمة وصعبة. وهذا يذكرنا بالسياسات التي اتبعت في تسعينيات القرن الماضي حين كانت الاستدانة بأكلاف باهظة ولتمويل نفقات عشوائية غير مخطط لها مسبقًا، هي البديل السهل لزيادة الضرائب والتقيد بأرقام الموازنة العامة، وهو ما ساهم في حينه بإطلاق مارد الدين من قمقمه.
إنّ هذا يضعنا أمام حقيقة التباس دور الدولة وعدم وضوح وظائفها، فلا هي دولة حماية وتدخل لنكوصها عن رعاية التوازنات الاجتماعية الأساسية وتنشيط الاقتصاد، ولا هي دولة حياد ومراقبة بسبب انغماسها العميق في ممارسات هدر وإنفاق لا طائل منها لأغراض سياسية وطائفية ومناطقية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التوازن المالي والاقتصادي وثيق الصلة بالتوازن الاجتماعي، فالنقص المتراكم في الوفاء بحاجات مستحقة في مدة زمنية معينة، يلزم الدولة في المستقبل بإنفاق تعويضي مضاعف لاستيعاب المخاطر الاجتماعية والشعبية للنقص المذكور (كما في إقرار سلسلة الرتب والرواتب)، والتقشف في الانفاق الاستثماري في بعض المجالات الحيوية أدى إلى تضخيم موازنات الدعم "الالزامي" والذي لا مفر منه، كمليارات الدولارات التي تذهب لمؤسسة كهرباء لبنان. وستضطر الحكومة في وقت من الأوقات إلى زيادة مخصصات دعم الأسر الأكثر فقرًا للتخفيف من حدة التفاوتات الاجتماعية المتفاقمة كما حصل في العديد من الدول. والقاعدة هنا هي أنّ زيادة حصة الطبقات العليا من الانفاق العام (من خلال خدمة الدين مثلًا) سيضطر الدولة عاجلًا أم آجلًا إلى أن توازن ذلك بانفاق مقابل، وغير مساوٍ له بالضرورة، على الطبقات الدنيا.
الفرضية السادسة: إنّ الدين والإنفاق العامين هما من الشؤون المالية والنقدية المعزولة عن الاقتصاد. ولذلك لا حاجة إلى تقويم المفاعيل الاقتصادية للإنفاق الحكومي، ولينصب الاهتمام على آجال الدين العام وعملاته وسبل تجديد استحقاقاته، وليس على الغرض منه وطرق صرفه. من الضروري إعادة النظر في سياسات الدين ومعايير التي نعتمدها في تقويم جدوى الإقتراض، خصوصًا أننا على عتبة موجة جديدة من الديون الخارجية بعد مؤتمر سدر. فإذا خُصصت الأموال المقترضة مثلًا للاستثمار في البني الأساسية المادية والاجتماعية، أمكن حينها المقارنة بين الكلفة والعائد، والتفريق بين مشاريع مجدية ماليًا تُمول بالدين وأخرى غير مجدية، إن هذا يمكننا أيضًا من تقدير عبء تأخير الأعمال الذي يمتد لسنوات عديدة، وتحديد كلفة الفرصة البديلة للاستثمارات المهدورة. أما إذا كان الدين العام لتمويل نفقات استهلاكية وجارية، فسيحفز الطلب الداخلي لكن على سلع معظمها مستورد من الخارج أو على خدمات غير قابلة للتبادل الدولي مما يضفي ظلالًا قاتمة على النمو، كما حصل طوال السنوات الماضية.
الفرضية السابعة:
يمكن النمو أن يتصاعد ويستمر على نحو تلقائي، ومن دون سياسات تنمية تعيد النظر في هيكل الانتاج وبنية الاستهلاك وأسواق التمويل.
في تجربة السنوات الأخيرة حصلنا على نمو متقطع يميل إلى الانخفاض، ويستند إلى قاعدة ضيقة من القطاعات متقلبة الأداء وذات روبط ضعيفة مع القطاعات الأخرى. فالقطاع العقاري الذي كان المقصد الأول للاستثمارات الخارجية المباشرة في لبنان، يمر بدورات ركود ورواج متعاقبة ولديه قدرة محدودة على توليد فرص العمل، والقطاع المالي الذي نضعه في صدارة قصص نجاحنا، يحتاج إلى إعادة هيكلة عميقة ليلبي متطلبات التنمية. وتدل الأرقام على أنّ تطوير أسواق الائتمان وإصلاح قنوات التمويل بات ملحًا في مواجهة التوزيع غير المتوازن للموارد المصرفية مناطقيًا وقطاعيًا، فمثلًا تحصل الزراعة، التي تساهم بأكثر من أربعة بالمئة من الناتج، على واحد بالمئة فقط من مجموع التسليفات المصرفية، فيما تحظى العاصمة بحصة من التمويل المصرفي تفوق مساهمتها في موارده.

فما العمل لمغادرة نفق الأزمة؟
لا بد من القول أولًا بأنّ الإصلاح السياسي هو المدخل الوحيد للمعالجات الاقتصادية والمالية الجذرية، ولتنقية الإدارة العامة من شوائبها حتى تقوم بدورها المطلوب في كبح العجز والهدر وإطلاق التنمية كما في التجارب العالمية الرائدة ولا سيما في شرق آسيا. ومع ذلك، وبانتظار قطار الإصلاحات العميقة الذي سيتأخر مروره على الأرجح، يمكن البدء بسلة من الإجراءات الفورية والعاجلة التي تخالف الفرضيات المشار إليها أعلاه، وتشق طريقها في مسارين:
المسار الأول: مالي وإداري، ويتضمن إجراءات فورية ومتزامنة لخفض العجز المالي في مدة زمنية قصيرة جدًا. وهذا يشمل قبل أي شيء آخر خفض التهرب الضريبي فورًا إلى نصف قيمه المقدرة بحوالي 8 بالمئة من الناتج المحلي، وهذا ممكن بإجراءات حازمة، وإصلاح النظام الضريبي ليكون موحدًا وتصاعديًا ومراعيًا للأهداف الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة منه، مع فرض ضرائب إضافية على كل أنواع الريوع المالية العادية والاستثنائية. لا بد أيضًا من اعتماد إدارة حديثة وشفافة للمشتريات الحكومية البالغة حوالي مليار دولار أميركي سنويًا (نصفها من خلال مجلس الانماء والإعمار)، ودراسة سبل الاستفادة من تلك المشتريات في تشجيع الانتاج المحلي وتحفيز النمو بدلًا من زيادة فاتورة الاستيراد.
إن الخفض الفوري لخدمة الدين هو أيضًا عنصر حاسم في أي تصحيح مالي، وهذا لا يكون إلّا في إطار تعاون وثيق بين السلطتين النقدية والمالية، يقوي الموقع التفاوضي للحكومة تجاه الدائنين المحليين. إن خفض كلفة الدين يدعو إلى الفصل بين الفوائد على قروض الأفراد والقطاع الخاص التي يمكن إخضاعها لآليات السوق، وبين الفوائد على الدين العام التي تخضع في لبنان لاعتبارات وسياسات غير سوقية ومخطط لها مسبقًا. يكفي أن نلقي نظرة على سلوك الفوائد في السنوات السابقة، لنكتشف قوة العلاقة بين الأرباح التي تحققها المصارف من الاكتتاب بسندات الخزينة وبين حاجاتها التمويلية في مواجهة بعض الاستحقاقات والظروف، كإعادة تكوين رساميلها وتسهيل اندماجها بعد الحرب الأهلية، وحاجتها إلى ترميم ما تكبدته من خسائر في الخارج في السنوات الأخيرة، فضلًا عن استعانتها بالفوائد العالية على شهادات الايداع وأرباح عملياتها مع مصرف لبنان في تجميع الرساميل الإضافية اللازمة لتلبية المعايير الدولية الجديدة وخصوصًا منها المعيار المحاسبي IRFS9 ونسب الملاءة المرتفعة التي فرضتها اتفاقية بازل 3. لقد آن الاوان لتُعكس الآية بحيث تكون فوائد الدين العام مخفضة (أو حتى صفرية في مدة زمنية محددة)، أخذًا بعين الاعتبار أوضاع المالية العامة وقدرة الدولة ودافعي الضرائب على تحمل الأعباء. وهذا يحمي أيضًا التوظيفات المصرفية التي ستكون في مهب الريح عند أول أزمة.
أما المسار الثاني فيقوم على خفض فجوة الصرف الأجنبي الناتجة عن عجز ميزان المدفوعات، اعتمادًا على الأدوات الاقتصادية والضريبية، بعدما تبين أنّ الوسائل النقدية غير كافية في تحقيق الخفض بكلفة مقبولة. ويمكن الشروع في ذلك باجراءات عاجلة ذات تأثيرات فورية، ومنها على نحو خاص "إعادة هندسة الرسوم الجمركية" بحيث تُرفع معدلاتها على السلع الفاخرة والكمالية والمنتجات ذات البدائل المحلية القادرة على المنافسة، وأن يترافق ذلك مع سلة من الإجراءات والحوافز والسياسات التي تدعم التصدير وتشجع الاستثمارات المباشرة وتخفض كلفة الانتاج وتحسين آليات عمل المؤسسات ذات الصلة مثل إيدال وكفالات..
يعيدنا هذان المساران إلى القاعدة الاقتصادية المعروفة عن العجز التوأم، عجز الموازنة العامة وعجز الحساب الخارجي، والتي تشير بوضوح إلى الترابط بين السياستين المالية والاقتصادية. أمّا السياسة النقدية فليست سوى عامل مساعد ومؤقت، وعنصر ضبط وتوجيه في الأزمات والمراحل الانتقالية.
"إن علينا أن نتذكر دائمًا أن معادلة نمو الدين العام مكونة من جانب مالي ونقدي يتضمن معدل الفائدة والفائض الأولي في الميزانية العامة، وجانب اقتصادي يعبر عنه النمو الحقيقي للناتج المحلي. ولئن تعاملنا مع جانبي المعادلة على قدم المساواة فسنجد أنفسنا أمام مهمة الإصلاح الشامل. أما إذا اخترنا الجانب الأول فسنكون في سباق لا ينتهي مع الزمن وتنافس محموم بين كلفة الدين وتدفق الودائع". هذا ما أوردته في نص نشر قبل أكثر من عشر سنوات ويصح تمامًا في وصف أوضاعنا الراهنة، فها نحن أمام مفترق الطريق نفسه بين الاستعانة بالدول والمؤسسات الدولية الداعمة (بمزيد من الديون خدمة الديون) أو تحميل الخزينة الكلفة الباهظة لمناوراتنا المالية والنقدية التي لا يطول أمدها، وها نحن نفعل الأمرين معًا.
    الرسم البياني (4) تطور رصيدي ميزان المدفوعات والحساب الجاري في لبنان (2005-2017)

 مقالات: مأزق الدين العام وخيارات المعالجة: من سيتحمل الكلفة؟/ د. عبد الحليم فضل الله - آب 2018

مقالات: مأزق الدين العام وخيارات المعالجة: من سيتحمل الكلفة؟/ د. عبد الحليم فضل الله - آب 2018

نشأت أزمة الدين العام في لبنان ضمن مسار اقتصادي ومالي ونقدي متشابك العناصر ومتضارب الأهداف. وفي جميع الحالات والمراحل تفوقت المعايير النقدية على غيرها، وصار جذب الأموال من الخارج أساسًا مشتركًا لهدفي تثبيت سعر الصرف من ناحية وتمكين الحكومة من تجديد ديونها وتمويل العجز السنوي الإضافي من ناحية ثانية. وإذا كان التوافق قائمًا على مبدأ الاستقرار النقدي، فإن آليات تمويل الدين وتجديده مشوبة بالالتباس، وتغري بتضخيم قيمه بدلًا من خفضها.
وبعبارة أوضح، لم تربط الحكومات اللبنانية المتعاقبة آليات الاستدانة وتمويل عجز الخزينة، بمتغيرات حقيقية كالناتج المحلي الإجمالي أو رصيد الحساب الجاري أو ميزان السلع والخدمات أو النمو الاقتصادي، وهي متغيرات يصعب توجيهها وتحسينها إلا ضمن سياسات اقتصادية تتصف بالثبات والشمول والتكامل. وبدلًا من ذلك رُبط الدين والعجز والانفاق العمومي بمتغيرات إسمية أو نقدية يسهل إدارتها صعودًا أو هبوطًا بقرارات تصدرها السلطات النقدية أو المالية. وفي واقع الحال كانت مسارات الدين والعجز أوثق صلة بمتغير "العمق المالي" الذي تعبر عنه قاعدة متنامية من الموجودات المصرفية ومحفظة متنوعة الأدوات والآجال والعملات وكتلة نقدية واسعة. فمثلًا بلغت نسبة الكتلة النقدية بمعناها الأوسع (M3) إلى الناتج المحلي الإجمالي ونسبة الموجودات المصرفية إلى الناتج نفسه، 275 بالمئة و421 بالمئة على التوالي في نهاية آذار 2018، مقارنة بأقل من 100 بالمئة من الناتج في معظم بلدان المنطقة. وبغض النظر عن طبيعة العلاقة بين العمق المالي والنمو والاقتصادي وهي عمومًا علاقة قوية في الدول المتقدمة وضعيفة في الدول النامية أو ذات التقاليد المالية المتأخرة، فإن السلطتين المالية والنقدية في لبنان بالغتا ضمنًا في جعل المؤشرات المالية والنقدية معيار تحليل أوضاع الدين العام وقياس مخاطره، دون تركيز ذي مغزى على كلفته الاقتصادية وتبعاته الاجتماعية.

 

وتبين الأرقام الواردة في الجداول والرسوم المرفقة قوة الارتباط بين زيادة مديونية الدولة ونمو الاقتصاد المالي، فطوال الوقت كانت نسبة الدين العام الى الموجودات المصرفية والودائع المالية والكتلة النقدية (M3)، مستقرة ومنخفضة وأقل من مثيلاتها العالمية، في وقت كانت فيه نسبة الدين العام الى الناتج المحلي متصاعدة ومرتفعة وأعلى من معظم دول العالم (يحتل لبنان المرتبة الثالثة عالميًا لجهة نسبة الدين العام الى الناتج). لكن انفصال مسار الدين العام عن الاقتصاد الحقيقي لا يعني أن خدمته منفصلة عنه. فمن الناحية العملية، تتولد الطاقة الاقتراضية في لبنان من القدرة على جذب التدفقات المالية، وهذا يتم بأدوات نقدية (تحريك أسعار الفائدة) أو مالية (الاستدانة من الأسواق الخارجية) أو سياسية (التفاوض مع المؤسسات الدولية وعقد المؤتمرات الداعمة..) أو من خلال انتظار صدف واحداث خارجية مؤاتية (الأزمة المالية العالمية، قوانين محاربة "الإرهاب" والتشدد في الرقابة على حركة الاموال بين الدول..)، إلّا أنّ خدمة الدين العام بالمقابل، تموّل باقتطاع موارد كان يمكن تخصيصها لعمليات الانتاج، أي من خلال مزاحمة القطاعات الاقتصادية الأخرى على مصادر التمويل الفعليّة المتاحة.

سبعة خيارات
إن نقطة الانطلاق في معالجة مشكلة المديونية في لبنان بناء على ما تقدم، هي في إحداث تحويل جذري في الاتجاه، يعيد الصلة بين حجم الاستدانة من جهة وقدرة الاقتصاد على تحمل التكاليف من جهة ثانية. وهذا ما يمكن استكشافه من خلال استعراض البدائل الممكنة نظريًا والمطروحة عمليًا في التجارب التي خاضت وتخوض صراعها مع الدين العام، ومن بينها الخيارات الآتية:
الخيار الأول: السيطرة على نمو الدين نفسه. والطريقة المثلى وربما الوحيدة لذلك هي مراكمة الفوائض الأولية، من خلال زيادة الضرائب وخفض النفقات في آن معًا. ومع أنّ هذا الخيار يبدو الأفضل في العودة إلى المسار المالي الطبيعي، إلّا أنه صعب سياسيًا ومكلف اقتصاديًا. فالدول التي تسجل ديونًا عامة مزمنة وضخمة، تعاني في الوقت نفسه وبسبب الدين، من وهن سياسي يعطل قدرتها على اتخاذ قرارات تتضمن إجراءات تقشفية قاسية أو زيادة ملحوظة في الضرائب، وسنلاحظ هنا أن مؤسسات دولية مهيمنة كصندوق النقد الدولي تفشل أحيانًا في إجبار دول تدور في فلكها على التقيد بتعليماتها، نظرًا لما ترتبه من خطر على الاستقرار الداخلي والأمن الاجتماعي. وفي سياق مماثل، تعاني الدول المثقلة بالديون أيضًا من الهشاشة الاقتصادية والركود طويل الأمد، وهذا يجعل زيادة فائض الموازنة عملية محفوفة بالمخاطر، كونها تعمق الركود وتحفّز الدورات الاقتصادية.
الخيار الثاني:
زيادة الضرائب دون خفض النفقات. هناك نقاش متشعب بشأن المفاضلة بين زيادة العبء الضريبي وزيادة عبء الدين العام. أنصار زيادة الضريبة يرونها أقل انكماشية من خفض النفقات، بل إنها تأتي في السياق الطبيعي لتوقعات الأفراد، الذين يقابلون ارتفاع الدين -وفق المكافئ الريكاردي- بزيادة استباقية في الادخار تحسبًا منهم لزيادة الضرائب في المستقبل. ولهذا السبب يصير أثر الضريبة حياديًا على الفوائد (لأن الطلب على الائتمان يُقابل بزيادة في عرض المدخرات) ومحدودًا على الاقتصاد. يركز معارضو الضريبة من ناحيتهم على آثارها المشوهة لأداء الاقتصاد، فرفع معدلات الضريبة (وفق منحنى لافر) يزيد عائداتها في المراحل الأولى قبل أن تتقلص لاحقًا.
في لبنان حصل العكس، حيث انخفضت معدلات الادخار وزادت الفوائد بالتزامن مع تصاعد الدين، أي أن الأفراد لم يتحسبوا لاحتمال إقدام السلطات على زيادة الضريبة في مقابل ارتفاع العجز، كما يصعب في الوقت الحالي فرض ضرائب إضافية لأسباب سياسية وشعبية معروفة،.
الخيار الثالث: ربط كلفة الدين العام على نحو مباشر بمؤشرات الاقتصاد الأساسية، بهدف تعقيم الأثر التوزيعي العكسي لخدمة الدين والتخفيف من آثاره السلبية على الرفاهية الكليّة للمجتمع. ويمكن تحقيق هذا الربط مثلًا من خلال إصدار سندات خزينة يُحدد عائدها على أساس معدلات النمو الإسمي إذا كان المطلوب الحفاظ على استقرار نسبة الدين إلى الناتج، أو على أساس النمو الحقيقي إذا كان مطلوبًا خفض هذه النسبة. يٌطرح هذا النوع من السندات في إطار البحث عن حلول مبتكرة لمكافحة تصاعد الديون الحكومية على النطاق العالمي، وهو حل ملائم وخلّاق كونه يضبط وتيرة الدين على إيقاع الاقتصاد فتزداد خدمته بزيادة النمو وتتراجع بتراجعه. ويبدو هذا الخيار منطقيًا بالنسبة إلى لبنان لكنه متأخر وغير كاف، فلو اعتمد في بداية التسعينيات، لكان ديننا العام الآن أقل من ربع الناتج إذا ربط العائد بالنمو الحقيقي، وأعلى قليلًا من نصف الناتج ربطًا بالنمو الاسمي.
الخيار الرابع:
التمويل بالتضخم أي من خلال ما يعرف بتنقيد الدين. يخفض التضخم القيمة الحقيقية للدين العام ويقلل العجز السنوي للموازنة، من خلال زيادة الايرادات بمعدلات تفوق نمو النفقات. بل إنّ هناك من يرى أنّ التمويل بالتضخم في المراحل الأولى للعجز هو أفضل من التمويل بالدين، فإذا اختارت الحكومة الاستدانة في وقت مبكر، فستكون مضطرة في المستقبل الى التنقيد لكن بقيم مالية أكبر بسبب تراكم العجوزات والمديونية.
وكمثال على نجاعة هذا الخيار، يلاحظ أنّ معدلات التضخم كانت أعلى من مستوياتها المعتادة، في السنوات التي شهدت تراجعًا في الدين العام في كل من الولايات الأميركية المتحدة وبريطانيا واليابان وكندا. وقبل عشر سنوات تقريبًا عرف لبنان ظاهرة مماثلة، عندما سجل التضخم في السنوات 2007-2010 معدلات أعلى من مثيلاتها العالمية، وهذا أسهم في خفّض نسبة الدين العام الى الناتج المحلي من 180 بالمئة تقريبًا إلى أقل من 140 بالمئة. وإلى جانب ذلك استفادت الخزينة وقتها من نمو حقيقي مرتفع، ومن ضبط تلقائي للإنفاق العام بسبب اعتماد القاعدة الاثنتي عشرية في عمليات الصرف.
لكن للتضخم كلفته الاقتصادية، إذ يهدد برفع أسعار الفائدة الأسمية، ويعرض المكانة التنافسية للبلد للخطر، ومن شأنه الضغط على أسواق الصرف إذا ما استمر مدة طويلة. وحتى يكون العلاج بالتضخم ناجحًا ومحدود الكلفة، لا بد وأن يكون مفاجئًا وغير متوقع وقصير الأمد. وهذا ما يفسر نجاح التضخم في ابتلاع جزء من الديون الحكوميّة عالميًّا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وإخفاقه في تحقيق ذلك في العقود اللاحقة.
وعلى أي حال، التمويل التضخمي للدين العام ليس الدواء الناجع في لبنان، للأسباب الاقتصادية المذكورة ولآثاره التوزيعية الضارة، ولأن سياسة التثبيت النقدي، ستدفع المصرف المركزي الى امتصاص السيولة الإضافية الناتجة عن التضخم، ببيع سندات خزينة أو بإصدار شهادات إيداع بمعدلات فائدة مغرية، يتحملها كلفتها القطاع العام.
الخيار الخامس:
الامتناع عن الدفع. يكثر الحديث عن هذا الخيار الذي يبدو سهلًا من وجهة نظر راديكالية، لكنه ذو تداعيات لا يمكن تحملها إلّا إذا قررت دولة ما الانفصال عن الأسواق المالية العالمية لمدة من الزمن. ويزداد الأمر صعوبة في البلدان التي تشكل الأسواق المالية، وليس الحكومات أو المؤسسات الدولية، المصدر الأول لديونها. فالتفاوض على جدولة الديون ممكن مع الدول وليس مع حملة السندات، وإثارة غضب هؤلاء من خلال التلكؤ عن السداد، سيهدم الجسور التي تعبرها الدولة الى الأسواق العالمية ذهابًا وإيابًا. وفي هذه الحالة لن تقف التداعيات عند حدّ الاستبعاد المؤقت عن تلك الأسواق (كما حصل معه روسيا التي أقصيت 12 عامًا لأنها تخلفت عن الدفع عام 1998)، بل سيتجاوزه بالنسبة الى لبنان، الذي يستحوذ فيه حملة السندات المحليون على الجزء الاكبر من الدين العام، إلى تقويض الثقة الداخلية، ونقل الأزمة على نحو عشوائي وغير منظّم إلى القطاع المالي والمتعاملين معه. وستصل الموجات الارتدادية في نهاية المطاف إلى أسواق الصرف. وبذلك يكون تنقيد الدين أقل خطورة بكثير من الامتناع عن سداده، إذا ما فرض علينا انتقاء أحد الحلول الجذرية الصعبة.
الخيار السادس: تجاهل المشكلة أطول مدة ممكنة. اليابان مثال بارز على أن العيش مع الدين العام لا يلحق بالضرورة أذى خطيرًا بالاقتصاد. تسجل هذه الدولة أعلى نسبة دين عام في العالم، تقدر بـ 236.4 بالمائة قياسًا إلى ناتج محلي يزيد عن 4.8 تريليون دولار أميركي. وعلى الرغم من نمو هذا الدين دون انقطاع زهاء ربع قرن، حافظ هذا البلد على موقع ريادي ومتقدم على قائمة الاقتصادات الكبرى، ويتمتع الفرد فيه بنصيب من الناتج يساوي أربعة أضعاف متوسطه العالمي تقريبًا، على الرغم من الركود المزمن الذي يعاني منه لأسباب اقتصادية وسياسية وجيوبوليتيكية أكثر منها مالية.
لكن إذا صح تجاهل الدين في اقتصاد صناعي وقوي وذي قدرة تصديرية هائلة، فإنه لا يصح البتة في اقتصاد ضعيف وغير منتج، ويقتطع من موازناته مبالغ طائلة لخدمة ديونه. وعلى سبيل المقارنة تلامس أسعار الفائدة في لبنان 15 بالمئة حاليًا على بعض أنواع الودائع والقروض، في مقابل معدلات سالبة في اليابان (-0.1 بالمئة)، وفيما تمتص فوائد الدين العام ما لايقل عن 50 بالمئة من ايرادات الموازنة، تقل هذه النسبة عن 8 بالمئة في الدول متوسطة الدخل و4.8 بالمئة في المنطقة العربية وجوارها وما يتراوح بين 4 بالمئة و13 بالمئة في الدول الصناعية المثقلة بالديون، ولا يتجاوز معدلها العالمي 6.5 بالمئة. وبوسع الدول الصناعية أن تستخدم عائدات التصدير الهائلة (683 مليار دولار في حالة اليابان) في تأمين حاجاتها من العملات الأجنبية على المدى الطويل، فيما تعجز صادراتنا السنوية عن تأمين ما يكفي من العملات اللازمة لتمويل شهرين من الاستيراد فقط.
الخيار السابع: رفع معدلات النمو. من الناحية النظرية يؤدي توسيع الاقتصاد إلى تقليل العجز وتحقيق فوائض تلقائيّة في الموازنة وتعزيز المتانة المالية وإراحة الأسواق النقدية.
لكن الطريقة التي اعتدنا عليها في تمويل عجز الموازنة، تغذي دائرة اقتصادية-مالية رديئة وكابحة للنشاط الاقتصادي وفق التسلسل الآتي: الفوائد المرتفعة تزيد كلفة تمويل الاقتصاد وتجتذب تدفقات مالية لا تساهم إلا على نحو يسير في تكوين رأس المال الثابت. تضغط الفوائض المالية على التوازنات الاقتصادية وتؤدي الى رفع التكاليف من خلال زيادة أسعار السلع والخدمات غير القابلة للتبادل الدولي. يقلل ارتفاع التكاليف تنافسية البلد، فينخفض النمو وتنخفض معه واردات الخزينة ما يحتّم اللجوء إلى مزيد من القروض التي ترفع الفوائد مجددًا وهكذا... وهذا يعني أن السيطرة على الدين هو شرط من شروط تعزيز النمو بقدر ما هو نتيجة من نتائجه، وأن إطلاق النشاط الاقتصادي من عقاله غير ممكن إلا إذا حٌلّ هذا التشابك وأفلتت  الأسواق من قبضة تلك الدائرة الرديئة.
وفي الخلاصة.. لسنا ملزمين انتقاء واحد من الخيارات المذكورة، بل إنّ الاستراتيجية العملانية والمركبة للخروج من مأزق الدين تقوم على جمع خيارات عدة في مزيج واحد: تنشيط الدورة الاقتصادية من خلال زيادة معدلات الاستثمار، وضبط النفقات من خلال السيطرة على كتلة الفوائد وايقاف كل انواع الهدر والانفاق غير المجدي، وزيادة الايرادات من خلال إصلاح القوانين الضريبية وتطويرها ورفع الجهد الضريبي الى مستوياته في البلدان المماثلة، ناهيك بتعزيز شبكات الأمان الضرورية لتمكين الفئات الهشّة من مواجهة احتمالات تفاقم الازمة.
لكن المعضلة هي في التضارب المحتمل بين الأهداف والمسارات.. كيف نحقق فوائض أولية في الموازنة دون أن يكون لذلك أثر انكماشي على الاقتصاد؟ كيف نزيد الجهد الضريبي دون إحداث مزيد من الخلل في توزيع الثروات المداخيل؟ وما هي الطريقة المناسبة لجعل اجراءات المعالجة واقعية ومستدامة وطويلة الأمد؟..
الإجابة الأوليّة على ذلك، هي في إحداث صدمة إيجابية تمتد آثارها إلى المجالات المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية في آن معًا، وهذا ما يمكن تحقيقه من خلال خفض طوعي وفوري لخدمة الدين العام لمدة زمنية محددة وبقيم معتد بها، ويمكن تقليص بند خدمة الدين العام في الموازنة المقبلة بنسبة لا تقل عن 10 بالمئة إذا ما اتفق مثلًا على تجديد استحقاقات الديون بفوائد منخفضة. وإذا ما أضيف الى ذلك حزمة من الاجراءات المالية والادارية الأخرى، يمكن التخلص في مدة وجيزة من ثلث عجز الموازنة العامة، دون المس بالتوازنات الاجتماعية أو التسبب بانكماش اقتصادي. ويمكن النظر إلى خفض معدلات الفائدة (على عكس الاتجاه الحالي لزيادتها) على انه الوسيلة الأفضل لإعادة ربط مسار الدين العام بقاطرة الاقتصاد الحقيقي، وهو أيضًا نقطة تقاطع بين سياسات خفض الدين وزيادة النمو وتنويع الاقتصاد وخفض تكاليف الانتاج وتسهيل الوصول إلى أسواق رأس المال وتلبية الحاجات المستحقة كالسكن بتكاليف معقولة.
وعلى العموم، إن مقاربة ناجحة لمشكلة الدين العام لا بد أن تراعي ثلاثة أمور: أن تكون جزءًا من إصلاح اقتصادي أوسع مدى وأعمق تأثيرًا يشارك فيها كل أطراف الانتاج والقرار، وأن يدرك واضعوها أن أزمتنا الراهنة هي نتيجة إخفاق الرؤية الاقتصادية المالية التي سيطرت خلال ربع قرن مضى، وأنّ يعي هؤلاء ان كلفة الخروج من مأزق الدين العام أو التعايش معه، يجب أن تقع بالدرجة الأولى وبالتناسب على الفئات الأكثر استفادة من هذا الدين ومسؤولية عنه.
لقد ولد من رحم الأزمة المالية والاقتصادية وما أحاط بها من هدر وفساد وفوضى وعدم مساواة فادحة، طبقة ضئيلة الحجم تركزت في أيديها الثروة والدخل. يحظى أغنى بضعة آلاف من هؤلاء بدخل سنوي من بضعة ملايين من الدولارات للفرد الواحد، وتتغذى ثرواتهم من نعيم الدين العام، فيما يرزح نصف الشعب اللبناني الواقع في أدنى السلم، تحت وطأة ظروف لا تختلف عن بلدان جنوب الصحراء الأفريقية، ودخل سنوي يقل عن ثلاثة آلاف دولار للفرد الواحد، ومع ذلك هم يشاطرون الدولة رغيف خبزهم في خدمة ديون قررتها أقلية رغمًا عنهم، دون ان تعود عليهم بأقل فائدة..
لا يمكن العثور على مخرج من المأزق، دون ان نقلب هذه المعادلة رأسًا على عقب، فلا تُغرم الغالبية لمصلحة الأقلية، ولا توزع الأعباء والمسؤوليات على نحو غير واقعي وغير عادل، وليكن التصحيح منظمًا وعاجلًا وفي أوانه، قبل أن تفرضه الأحداث فرضًا بمسارات عشوائية وأثمان باهظة ونتاج متواضعة.. وربما بعد فوات الأوان.


* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

 مقالات: الاعلام الغربي والارهاب، الازدواجية والتوظيف / هادي قبيسي - تشرين الاول 2016

مقالات: الاعلام الغربي والارهاب، الازدواجية والتوظيف / هادي قبيسي - تشرين الاول 2016

إصدار 2016-11-02

عام أنفقت الخزينة الأميركية بأمر من الرئيس كارتر أول مبلغ لدعم الجهاد الإسلامي ضد النظام الأفغاني برئاسة محمد تاراكي ذي الميول الاشتراكية الشيوعية وبرامجه الإستفزازية كان ذلك أول مساهمة غربية في واجب الجهاد بقيمة ستين مليون دولار ولا يزال دافع الضرائب الأميركي حتى يومنا هذا يساهم في هذا الواجب في موازنات سرية وأخرى علنية في سبيل مواجهة أعداء الولايات المتحدة من الأنظمة الظالمة والمعادية للإسلام والمسلمين كما يحلو للجوقة الإعلامية الدولية أن تصفها في تلك المرحلة قدم الأفغان والإسلاميون الذين جاؤوا من مختلف أنحاء العالم لقتال الغزو السوفياتي الملحد على أنهم محاربون في سبيل الحرية وجاء بريجنسكي للقائهم بعد شهر واحد من الغزو وقال لهم بالحرف الواحد نحن نعرف إيمانكم العميق بالله وثقتكم بأن نضالكم سيصل إلى هدفه هذه الأرض هناك أفغانستان هي أرضكم وستعود إليكم يوما ما لأنكم ستنتصرون في القتال وستسترجعون بيوتكم ومساجدكم لأن قضيتكم محقة والله إلى جانبكم وقد تعامل الإعلام الغربي ببراغماتيته المعهودة مع التحول الجديد في تموضع الإسلاميين في خندق واحد مع الإمبريالية الليبرالية وقدمهم للعالم كثوار يقاومون الإمبراطورية المستبدة وساهم الإعلام العربي والإسلامي في التجييش والتعبئة لهذه الحرب كل على طريقته ولغته وغايته ولكن المجهود كله كان يصب في خدمة أميركا وكما قال فرانك أندرسون مسؤول ملف الشرق الأوسط السابق في لانغلي من الصحيح تماما أن هذه الحرب ضد السوفيات في أفغانستان قد خيضت لخدمة أهدافنا لكن بدمائهم هم المجاهدين الأفغان قام الإعلام الغربي في تلك اللحظة بوظيفة تقديم الغطاء السياسي والدعم المعنوي لحركة الجهاد الأفغاني في مواجهة القطب الآخر في العالم كما قام بوظيفة تكييف الجهاديين مع تموضعهم الجديد في هذا الخندق فهم عن قصد أو غير قصد يقفون في الصف الأول للدفاع عن الولايات المتحدة كما قام بوظيفة أخرى هي منع أي تسوية أو عملية تفاوض باكستانية سوفياتية من الوصول إلى حل سلمي يحفظ ماء وجه الغزاة من خلال الدفع بالجهاديين نحو الإيمان والأمل بتحقيق انتصار حاسم ونهائي عبر خطاب إعلامي مبرمج فشل تجربة الأفغان العرب في مصر والجزائر بعد نجاح الحرب ضد السوفيات وانتصار المقاومة في لبنان في حرب نيسان عام أوجدا القناعة لدى البعض بالتوجه نحو العدو البعيد فكانت عمليات كينيا وتنزانيا وعملية المدمرة كول وكانت القمة الموازية لتحرير جنوب لبنان عام عمليات الحادي عشر من أيلول التي شكلت ذروة الخط البياني وفي نفس اللحظة كانت نقطة الانحدار السريع والنهائي للسلفية الجهادية عن مقاربة العدو البعيد لعب الإعلام الغربي دورا في تجنيد وتجييش الدول والمجتمعات والشعوب الغربية لمواجهة الإرهاب ليتم الق الاعلام الغربي ضاء على تنظيم القاعدة الدولي عام ووقف العمليات الدولية بشكل حاسم وإن بالتدريج وكان في الرسائل المبطنة للحرب على الإرهاب تشويه صورة الإسلام والمسلمين إذ أفادت الماكينة الإعلامية الغربية من دم المدنيين الذي سال في المدن الغربية لاختزال الإسلام بتعاليم ابن تيمية وتقديمه دينا همجيا ذباحا وإجراميا حتى في نظر المسلمين والقاطنين في دول العالم الإسلامي والعربي ناهيك عن استهداف وتقييد الجاليات الإسلامية في العالم وكان من أهداف هذه الحرب المستمرة على الدين الإسلامي كبح تقدم تعاليمه بين الشعوب الغربية ووقف رواج قيمة الإسلام الجهادي الذي أثبت جدواه في مواجهة إسرائيل منعا لتمدد هذا الفكر المنقذ للأمة من براثن الإستعمار وكانت تلك خدمة قدمها فكر ابن تيمية وممارسات أتباعه للغرب الناهب دون مقابل وقد أحسن استغلالها إعلامه في الحد الأقصى ذروة الدور الإعلامي الغربي في توظيف وتوجيه إرهاب السلفية الجهادية كانت هنا على هذه الأرض حيث تم تقديم الزرقاوي الأردني قائدا للجهاد في العالم الإسلامي ضد الغزو الأميركي للعراق وذلك في كلمة وزير الخارجية الأميركية كولن باول في مجلس الأمن الدولي قبل شهر واحد من الغزو المجرم حيث قدم بطاقة شخصية للرجل الأخطر على الكوكب وأعلن عن أسر ضابط عمليات دولية تابع لسجين جنائي أردني لم يتعلم من الإسلام شيئا وفق أستاذه أبو محمد المقدسي كان هدف هذه العملية الإعلامية الكبرى التي تدرس الآن في الكلية الحربية الأميركية بعنوان عملية الزرقاوي إعادة توجيه الزخم السلفي الجهادي نحو العدو القريب فبمعرفة الأميركيين بعقلية الزرقاوي الإجرامية استطاعوا تقديمه كبطل جهادي كبير من خلال آلاف التقارير والمقالات التي تلت خطاب كولن باول الشهير وهو الذي لم يخض معركة واحدة غير السلب والنهب والقتل في شوارع الزرقاء في بلده الأم تحول هذا الرجل المغمور والمجهول بفعل الماكينة الإعلامية الغربية إلى بديل عن بن لادن وإلى مركز استقطاب كل مقاتل جاء إلى العراق لحمل السلاح ضد أميركا وقام بتحويل اتجاه البنادق نحو الداخل العراقي بمذاهبه وطوائفه وعشائره ومناطقه المختلفة وبدأ سفك الدم حتى لم يبق شبر في العراق لم يصل إليه دم مظلوم كانت تلك الإنعطافة الأخيرة للسلفية الجهادية في عودتها نحو التجربة الجزائرية وعكوفها النهائي عن الصدام مع الغرب وتحولها إلى ماكينة تدمير للوعي الإسلامي والحضارة والمدنية والاقتصاد والأمن وكل شيء ولا تزال إلى الآن وحين انتهت مهمة ذلك الأردني المجهول وحين غرق في أوحال الأنبار ونالته أسنة العشائر هناك بالجراحات الكثيرة وأيقظت حرب تموز عام في مخيلته وجود خشبة إنقاذ أخيرة هي استهداف العدو البعيد والعودة إلى بيعة بن لادن قدمت أميركا نفسها حامية للإنسانية بالقضاء عليه وقتله في انتصار كبير على الإرهاب والإجرام بعد أن جاء بيترايوس بقوات جديدة ليقوم بواجبات الرجل الأبيض في القضاء على الوحش الذي صنعه كولن باول وكاد يخرج عن السيطرة كانت سوريا خاتمة الدورة السلفية الجهادية حيث لم يعد أمامها على الأرض مقاتلون بعيون خضر بل ثمة عرب ومسلمون فقط هنا في العراق وكان ثمة حجة أو شماعة للجهاد هي الجيش الأميركي أما في سوريا فأيقونة الإرهاب تؤدي وظيفتها بإنسانية كاملة وكان الإرهاب السلفي الجهادي ورمزه آكل القلوب أبو صقار في خندق الدفاع عن الحرية والديموقراطية في سوريا هكذا شاءت الماكينة الغربية تقديمهم مقاتلين دفعتهم أهوال الحرب التي خيضت ل الدفاع عن الكرامة نحو هدر الدم والكرامة واستباحة كل شيء فهم ضحايا الحرب ليس أكثر لقد تمت أنسنة الإرهاب في النهاية وأصبح هذا الوحش المروض خادما مطيعا وأمينا يتمشى على حدود إسرائيل في الجولان المحتل دون أن تصل طلقة واحدة عن طريق الخطأ إلى رأس جندي غاصب هنا أصبح الحضن الإعلامي الغربي مهيأ لتشريع الحرب واستمرارها بلا نهاية بين خريجي سجن بوكا الجولاني والبغدادي كانت قائمة الإرهاب جاهزة للعب دورها فأعطت للجولاني صفة الجهادي العدو الخطير للولايات المتحدة وقدمته للعالم على أنه بطل الثورة وهو الشاب الصغير في العمر المجهول الصورة والمغمور في أوساط الجهاديين وأعطي موقعا محوريا في الصورة الإعلامية بالمقارنة مع أقرانه من السلفيين الذين لهم السابقة في حمل السلاح إلا أنهم لم يكونوا من خريجي أكاديمية بوكا كما يحلو للبعض أن يسميها الخريج الآخر من سامراء كان له دور آخر الوصول بصورة الإسلام إلى مستوى يسهل على رسامي الكاريكاتير في شارلي إيبدو الإستهزاء به والتهكم على رمزه الأقدس إلى جانب الأدوار الميدانية والجغرافية من تدمير الكيانات وإعادة رسم الخرائط الموهومة والمتخيلة والتي منعها من التحول إلى الواقع دم الأحرار الذين اعتمدوا على أنفسهم في المواجهة المصيرية للبغدادي وزمرته دور إعلامي محوري وقد ظهر واضحا من حجم الماكينة الإعلامية التي واكبت الاعلام الغربي سكين الذبح أينما حلت وتحركت وكان للماكينة الغربية الدور الكبير في الترويج لهذه الصورة التي أريد منها هدفان أساسيان من ناحية فتح الطريق أمام الإمتداد الميداني لداعش من خلال صورة الرعب وجعلها المانشيت اليومي لكل الإعلام الغربي ومن ناحية أخرى التخريب النهائي لصورة الإسلام والإسلام الجهادي وتصويره وباء عالميا ووبالا على المسلمين والعرب بحيث تنتهي الأحلام التي استيقظت في الأذهان في عامي و بإمكانية الإسلام الجهادي وقدرته على هزيمة إسرائيل الممثل العسكري للغرب في المنطقة في الخلاصة عملت الماكينة الإعلامية الغربية في خدمة الاستراتيجية الغربية الشاملة التي تأسست وتكرست في حرب أفغانستان الأولى والقائمة على أساس توظيف التيارات الجهادية لضرب أي تهديد يتعرض له الغرب في منطقتنا وقد أظهرت تلك التجربة الوظيفية الأم القيمة التاريخية لهذه التيارات حيث هشمت هيبة وسمعة المشروع الشيوعي السوفياتي دون أن تسقط قطرة دم أميركية واحدة عملت هذه الماكينة بحسب الظروف وفي كل حالة وساحة ولحظة بشكل مختلف فأحيانا قدمت الإرهاب على أنه قتال في سبيل الحرية وأحيانا أعطته لباس الرعب والخوف لتعطي لدوره الإستراتيجي فعالية أكبر واستطاعت في أماكن أخرى أن توجه الحراك الجهادي نحو الساحة والعدو الذي تريد واستثمرت دوما في المدى البعيد نحو ضرب وتشويه صورة الدين الإسلامي وفي خط مواز قدم الغرب نفسه مكافحا للإرهاب كصورة مقبولة أمام الناخبين والمستعمرين وليستفيد منها كمبرر للتدخل في شؤون الدول المصابة بهذا الوباء باحث متخصص في الحركات الاسلامية

 مقالات: أفق وفرص العلاقات الاقتصادية والتجارية بين لبنان وإيران / نيسان 2016

مقالات: أفق وفرص العلاقات الاقتصادية والتجارية بين لبنان وإيران / نيسان 2016

إصدار 2016-05-17

استمرت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين لبنان وإيران في مستويات متدنية جدًا، بالرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على توقيع الطرفين إتفاقيات للتعاون الاقتصادي والتنسيق الضريبي، بقي معظمها حبرًا على ورق الحسابات السياسية الضيقة. وهذا الضعف في العلاقات الاقتصادية بين البلدين يعكسه تواضع حجم التجارة البينية الذي لم يتجاوز 61,4 مليون دولار لسنة 2014 (50,6 مليون دولار واردات و 10,7 ملايين دولار صادرات)، أي ما يشكل 0,3% من إجمالي تجارة لبنان الخارجية من جهة و0.04% من تجارة إيران الخارجية من جهة أخرى.
والواقع أن التطورات المتلاحقة على الصعد الاقتصادية والتجارية والسياسية كافة، خصوصًا بعد توقيع الاتفاق النووي التاريخي بين إيران ودول الخمسة زائد واحد (P5+1) تفرض إعادة طرح موضوع العلاقات الاقتصادية بين لبنان وإيران مجدداً والدعوة إلى إعادة تنشيط تلك العلاقات في هذه اللحظة بالذات.
فعودة إيران بقوة إلى أسواق الطاقة والمال العالمية باتت أمرًا مفروغًا منه، وإن كان يصعب التكهن بالسيناريو الزمني والعملي المتوقع لإعادة اندماج الاقتصاد الإيراني في دورة الانتاج العالمية والنظام المالي الدولي، خصوصًا مع استمرار حظر التعامل الاقتصادي والمالي مع إيران من قبل الشركات والمستثمرين الأميركيين حتى إشعار آخر، بمعزل عن توقيع الاتفاق النووي وفك الحصار، وذلك لأسباب تتصل بتضارب السياسات الدولية لكل من إيران والولايات المتحدة حول قضايا استراتيجية كموضوع المقاومة والاحتلال الصهيوني لفلسطين.
لذلك، وفي مطلق الأحوال، فإن هذه العودة الحاصلة عاجلاً أو آجلاً تحمل معها فرصًا اقتصادية لا حدود لها، ليس لإيران وحدها وإنما لطيف واسع من الشركاء التجاريين في الإقليم وحول العالم، بما في ذلك لبنان بالطبع خلال السنوات القليلة القادمة. واللافت في هذا الصدد أن الكثير من المستثمرين الأجانب من أوروبا وآسيا قد تخلوا عن حذرهم غير آبهين بتشكيك وتشويش الأوساط الصهيونية الفاعلة في الإدارة الأميركية حول جدوى واستمرارية الاتفاق النووي. فحتى قبل اتضاح معالم الاتفاق المذكور وجدنا أن هؤلاء قد اندفعوا ليس لاستطلاع آفاق الاستثمار الممكنة في الاقتصاد الإيراني وحسب، وإنما لحجز حصتهم أيضًا من العقود المحتملة والتي جرى توقيعها في قطاعات الصناعة الاستخراجية والخدمات والتجارة والنقل والبناء والسيارات والاتصالات والزراعة وغيرها من القطاعات الاقتصادية.
والواقع إن هذا الاهتمام البالغ لمجتمع الأعمال العالمي بإيران، كوجهة اقتصادية واعدة لسلعهم ورساميلهم وخبراتهم التكنولوجية، لا ينطلق من فراغ وإنما يستند إلى معطيات جغرافية وبشرية وإدارية ومادية موضوعية وصلبة.
ذلك أن إيران دولة تحتوي على أكبر احتياط للنفط والغاز في العالم، فضلاً عن المخزونات الضخمة من النحاس والحديد والزنك والرصاص. وهي تحتل المركز السابع عشر من حيث المساحة وتتوسط بموقعها الجغرافي الدول المستهلكة للطاقة ما بين الشرق والغرب. كما تضم كتلة سكانية متميزة تقدر بنحو 80 مليون نسمة، ثلثهم من سكان الحضر والبقية من سكان الأرياف. الأمر الذي يجعل من إيران سوقاً استهلاكية كبيرة جدًا، بلغ حجم إنفاقها الكلي لسنة 2014 ما يقارب 180 مليار دولار. وما يميز هذه الكتلة السكانية هو مستواها التعليمي الرفيع الذي يضاهي نظيره في الدول الغربية المتطورة، حيث الأمية شبه معدومة والمستوى الجامعي بين الشباب المتعلم يفوق 58%.
وفي مؤشر على تسارع التطور الرقمي للمجتمع الإيراني فقد تجاوزت نسبة اختراق الإنترنت 50% من السكان، رغم الحصار المفروض ومحاولات عزل إيران دوليًا. فهذا الحصار لم يمنع الحكومة الإيرانية من تعظيم استفادتها مما تمتلكه من مزايا نسبية لتوفير بيئة الأعمال المؤاتية للاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، الأمر الذي مكّنها من استعادة زخم النمو الاقتصادي الذي بلغ 4% سنة 2015 بدفع من قطاعات محددة تحت سيطرة الدولة كقطاعات التصنيع والصناعة الاستخراجية والخدمات، وذلك بعد نمو سلبي طوال السنوات القليلة الماضية. ومن أبرز معالم بيئة الأعمال المشار إليها نذكر ما يلي:

  • إقرار خطة التنمية الخمسية السادسة للفترة 2016 – 2021، والتي تولي اهتمامًا خاصًا لتحسين بيئة الأعمال، بما في ذلك إضفاء المزيد من التنافسية والمرونة والشفافية على أسواق العمل ورأس المال المحلية. وهذه الخطة التي تتوزع على ثلاثة محاور رئيسية هي:
  •     "الاقتصاد المقاوم"، و"الريادة في مجال العلوم والتكنولوجيا"، و "التسامي والتحصين الثقافي"، ترمي أيضًا إلى فتح قطاعات استراتيجية تقودها الدولة أمام القطاع الخاص، كالنفط والغاز والبتروكيماويات والنقل والبناء وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والزراعة والمياه وصناعة السفن. وتركّز الخطة أيضًا على ضرورة تحقيق نمو اقتصادي متسارع ودائم وتعزيز القدرات الدفاعية. كما تولي أهمية خاصة لصندوق الثروة السيادي (صندوق التنمية الوطنية الإيراني) من خلال منحه استقلالية تامة ودورًا أكبر في تمويل عملية التنمية وتطوير القطاعات الإنتاجية. ويتجلى ذلك في تخصيص حوالي 38% من عائدات النفط والغاز لهذا الصندوق.
  •     تطبيق قانون حماية وتطوير الاستثمار الأجنبي (FIPPA). فهذا القانون يمنح الاستثمارات الخارجية المباشرة في إيران مزايا متعددة، منها التعامل على قدم المساواة مع الاستثمارات الوطنية وصولاً إلى تملّك أسهم الشركات الوطنية بنسبة 100%، وحرية تحويل الرساميل والأرباح الموزعة، وضمانات بعدم نزع الملكية تحت أية ذريعة، وحرية التقاضي أمام المحاكم الأجنبية.
  •    إقامة مناطق تجارية حرة (FTZ) ومناطق اقتصادية خاصة (SEAs) تتمتع فيها الاستثمارات الأجنبية المباشرة بمزايا وتسهيلات متعددة، منها إعفاءات وتسهيلات ضريبية تصل إلى 100% لجميع الأنشطة الاقتصادية في هذه المناطق.
  •     الإعفاء من ضريبة الدخل لمدة 20 سنة للاستثمارات في المناطق الأقل نموًا. علمًا أن الضريبة على أرباح الشركات في إيران تفرض بنسبة مسطحة تصل إلى 25%.
  •    إعفاء النشاطات الاقتصادية غير البترولية كالزراعة والسياحة والتصدير من الضرائب بنسبة 100% ولفترة غير محددة.
  •     وجود بنية تحتية متقدمة نسبيًا وتشهد تطورًا متزايدًا، كالمطارات التي يفوق عددها 53 مطارًا، ومئات آلاف الكيلومترات من الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية ومترو الأنفاق، إلى جانب توفير خدمات المياه والكهرباء والاتصالات بتكلفة متدنية نسبيًا.
  •     توفر قوة عاملة مؤهلة ومدرّبة بشكل جيد وذات إنتاجية مرتفعة تحاكي تلك الموجودة في اليابان والولايات المتحدة الأميركية.
  •     تنامي أعداد الحاضنات ومسرّعات الأعمال الجديدة (incubators and accelerators)، في مؤشر على تزايد الاهتمام الرسمي الإيراني بتوفير البيئة المناسبة لإطلاق الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم بوصفها قاعدة مهمة للنمو الاقتصادي الذي تطمح الخطة الخمسية لتحقيقه بمعدل 8% خلال سنوات الخطة. ويذكر في هذا الصدد أن إيران قد صنّفت في المرتبة 62 من أصل 189 بلداً فيما خص مباشرة الأعمال الصغيرة والمتوسطة.
  •     السعي لزيادة المحتوى التكنولوجي للنمو الاقتصادي من خلال رفع سقف الإنفاق على الأبحاث والتطوير حتى سنة 2030 إلى 4% من الناتج المحلي، البالغ 406 مليارات دولار لسنة 2014 بحسب تقديرات البنك الدولي. وهذا التوجه يؤسّس لبيئة أعمال تنافسية متفاعلة مع احتياجات السوق العالمي.
  •     تمتّع الاقتصاد الإيراني بميزة تنافسية إضافية يوفرها تدني سعر صرف العملة الوطنية. مما يجعل الصادرات الإيرانية أقل كلفة مقارنة بالمنتجات الأخرى المنافسة. وإن كانت استمرارية هذه الميزة متوقفة على حكمة السلطات النقدية في التعامل مع الطفرة الاقتصادية والمالية المتوقعة بعد رفع العقوبات الغربية. إذ إن هذه الطفرة بما تحمله من تدفقات مالية وزيادة في الطلب على العملة المحلية مقابل عرض للعملات الأجنبية قد تتسبب بموجة تضخّم تفقد البلاد هذه الميزة وترفع من كلفة المنتجات التصديرية الإيرانية، وبالتالي تجعلها أقل تنافسية وتضعها تحت ضغوط كبيرة لصالح المنتجات غير التصديرية، كقطاع الخدمات الناشط والذي يستقطب القسم الأكبر من اليد العاملة النسائية.
  •    تدني الضريبة على القيمة المضافة كضريبة استهلاك لا تتعد نسبتها 9%، مع وجود نية لدى الحكومة لرفعها إلى 10%.

وليس مبالغاً فيه القول إن المرحلة الجديدة بعد توقيع الاتفاق النووي التاريخي تحمل معها فرصاً واسعة جدًا للاستثمار، قد لا يقل حجمها عن 500 مليار دولار في قطاعات اقتصادية مختلفة. وبما أن قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات وصناعة السيارات والصناعات الصيدلانية والبناء والخدمات المالية والملاحة الجوية والبحرية كانت الأكثر تضررًا من جراء الحصار والعقوبات المفروضة، فمن المرجح أن تكون هذه القطاعات ذاتها الأكثر استفادة وجذبًا للاستثمار الخارجي بعد رفع الحصار. فضلاً عن أن قطاعات اقتصادية أخرى تبقى بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة وتحديث، كالقطاع المصرفي والمالي عمومًا، وتجارة التجزئة، والقطاع الزراعي.
والجدير ذكره أن غالبية القطاعات المشار إليها أعلاه هي قطاعات تصديرية بامتياز وتعتمد على الاستخدام المكثّف لليد العاملة. وبذلك فإن استعادة هذه القطاعات لنشاطها من شأنه أن يؤدي إلى تخفيض نسبة البطالة بشكل ملموس من جهة، وإلى زيادة الأجور والطلب المحلي من جهة أخرى. مما يشكل رافعة إضافية للنمو الاقتصادي إلى جانب الاستثمارات العامة والخاصة على السواء. غير أن هذه الطفرة يمكن أن تؤدي إلى زيادة الفروقات بين المداخيل وتهديد الاستقرار الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب تطبيق رزمة من الإصلاحات المالية والاجتماعية لم نلحظها في مخططات السياسة الاقتصادية لإيران. ومن أبرز هذه الإصلاحات على سبيل البيان لا الحصر نذكر ما يلي:
•    تطوير نظام للضمان الاجتماعي يرعى الفئات المهمشة وغير المقتدرة معيشيًا.
•    إعادة صياغة النظام الضريبي وخصوصًا الضرائب المباشرة بصورة عادلة ومنصفة، مع التشديد على زيادة معدلات هذه الضرائب على الأنشطة الريعية.
•    ضمان فرص توظيف ونمو متكافئة ومتوازنة بين مختلف الفئات والقطاعات.
وبالعودة إلى إمكانية تطوير العلاقات الاقتصادية بين لبنان وإيران، نجد العديد من الاتفاقيات التي تحكم هذه العلاقات من حيث المبدأ. فإلى جانب لجنة اقتصادية مشتركة تجتمع دوريًا وتتولى تنسيق العلاقات الاقتصادية بين البلدين، يوجد أيضاً اتفاقية عام 1997 حول التبادل التجاري والاستثمارات واتفاقية 1998 حول الازدواج الضريبي. وتنص الاتفاقية الأولى على رعاية حقوق المستثمرين الطبيعيين والمعنويين من كلا البلدين، بما في ذلك ما يلي:
- الأموال المنقولة وغير المنقولة.
- حصص الأسهم في الشركات.
- التحويلات المالية.
- حقوق الملكية الفكرية والصناعية، بما في ذلك العلامات التجارية.
- حرية التنقيب واستخراج واستغلال الموارد الطبيعية بما يتفق مع القوانين المحلية لكلا البلدين.

وفي محاولة جديدة لإحياء هذه العلاقات، فقد جرى في شباط 2016 توقيع اتفاق التجارة التفضيلية بين لبنان وإيران على هامش زيارة وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني إلى إيران ، في إطار الدورة السابعة للجنة الاقتصادية اللبنانية – الإيرانية المشتركة التي عقدت في طهران. لكن هذا الاتفاق الذي يرمي إلى تحرير التجارة ورفع حجم التبادل التجاري بين البلدين يبقى بحاجة لمصادقة مجلس الوزراء عليه. ولا بد من استكمال هذه الخطوة الرسمية المتواضعة بجهود مدروسة وعاجلة في آن من قبل القطاع الخاص للحصول على أكبر حصة ممكنة من الطفرة الاقتصادية التي يرجح أن تشهدها المنطقة، بالتزامن مع عودة إيران إلى الأسواق العالمية وبموازاة تعزيز الصين لحضورها الاقتصادي في هذه المنطقة أيضًا. وعدم التحرك في هذا المجال يجعل لبنان مرشحًا للبقاء خارج المعادلة الاقتصادية الناجمة عن إعادة رسم خارطة العلاقات والتوازنات الاقتصادية والتجارية والمالية في الإقليم بأكمله.
وليس جديدًا القول إن لبنان الغارق في انقساماته السياسية قد خسر الكثير من دوره الاقتصادي والخدماتي مع بروز مدن كبيرة تمتلك مطارات ومرافىء متقدمة وبمواصفات تنافسية عالمية، أخذت تستقطب المزيد من الحركة التجارية والاستثمارية في المنطقة. وهذه المدن مرشّحة بقوة للاستفادة من الطفرة المشار إليها ولعب دور الوساطة المالية والتجارية بين إيران ومعها الصين في الشرق وبين والدول الأوروبية في الغرب، وذلك على حساب لبنان بطبيعة الحال. نذكر من هذه المدن على سبيل البيان مدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة، وإزمير في تركيا وطرطوس في سوريا.
وتطرح هذه التطورات تحديًا حقيقيًا أمام مستقبل الاقتصاد اللبناني. وقد تشكل الطفرة الإيرانية الموعودة فرصة لا تعوّض أمام لبنان ليس لتعزيز موقعه في مواجهة هذا التحدي وحسب بل لاستعادة دوره أيضًا من خلال توفير الكثير من الخدمات التي يمتلك لبنان فيها ميزات تفاضلية، وتشكل حاجة للاقتصاد الإيراني في آن واحد، كخدمات الوساطة المالية والتجارية بين إيران وأوروبا. وإذا كان مرجحًا أن تتصدر منتجات مثل الحديد والفولاذ والأجهزة الإلكترونية والكهربائية والمعدات لأغراض التكرير والصناعات البتروكيماوية والطاقة البديلة وقطع غيار السيارات والطائرات قائمة المستوردات الإيرانية في السنوات القليلة القادمة، لحاجة الاقتصاد الإيراني إليها في مرحلة إعادة الهيكلة والتطوير، وهي سلع غير متوفرة بطبيعة الحال في لبنان، إلا أن هناك الكثير من المنتجات والخدمات التي يمكن أن تشكل مجالاً للتبادل التجاري بين الطرفين، منها ما يلي:
 
•    منتجات الأغذية.
•    منتجات الصناعات الكيماوية والأسمدة.
•    المنتجات الصيدلانية.
•    منتجات الورق والكرتون.
•    المصوغات والمعادن الثمينة.
•    خدمات الطباعة.
•    خدمات النقل والسياحة.
•    خدمات التعليم والثقافة.
•    خدمات المعلوماتية.
•    منتجات الصناعات المعدنية.
•    السيارات.
•    منتجات الصناعة البلاستيكية.
•    خامات ومواد أولية متفرقة.
•    منتجات الأخشاب المفروشات.
 
وإلى جانب التعاون في مجال الصناعة النفطية كقطاع واعد في الاقتصاد اللبناني، فإن وضع البلدين بصفتهما عضويين مراقبين في منظمة التجارة الدولية (WTO)، يخوضان مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف مع شركائهما التجاريين الرئيسيين، يجعل من مصلحتهما التعاون والتنسيق الاقتصادي في هذه المرحلة بالذات، بما يعزز من قدرتهما التفاوضية في التوصل إلى نظام تجاري نهائي يضمن تحقيق أفضل عائد ممكن بأقل كلفة اقتصادية لكل منهما.

-------------------------------------------------------------

*باحث اقتصادي

 مقالات: العالم العربي في مواجهة مأزق التغيير: الحاجة إلى ثلاث ثورات متزامنة / د. عبد الحليم فضل الله

مقالات: العالم العربي في مواجهة مأزق التغيير: الحاجة إلى ثلاث ثورات متزامنة / د. عبد الحليم فضل الله

الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في قلب المشرق العربي وتلقي بظلالها على أرجاء أخرى منه، هي الحلقة الأخطر في سلسلة أحداث مطردة ومتناسلة بدأت ارهاصاتها مع بزوغ فجر الألفية الثالثة وبلغت ذروتها مع اندلاع الأحداث العربية قبل خمسة أعوام. لقد نجح ما سمي ربيعاً عربياً في توسيع المجال السياسي وأخرج في مراحله الأولى كتلاً اجتماعية وشعبية هائلة عن حيادها وصمتها، وبدا وكأنه يمهد الطريق أمام نشوء حركات جماهيرية كبرى كتلك التي قامت في أوروبا وآسيا وساهمت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في إحداث انعطافات تاريخية كبرى.


لكن القوى الاجتماعية والفئات المتنوعة التي انخرطت في الاحتجاجات عانت لاحقاً من إخفاقات جمة. فهي فشلت في تكوين الإجماع التأسيسي الذي لا بد منه لتحويل الانتفاضات الى رحم خصب للتغيير، ولم تتمكن من بناء رافعة تاريخية لرؤية ثورية طموحة، كما عانت في مرحلتها السلمية من تواضع في الأهداف التي لم تتناسب البتة مع ما عبرت عنه الحشود من تفويض شعبي منقطع النظير. وعلى العموم كان هناك قصور في الرؤية بعيدة الامد ساهم تارة في نجاح الثورات المضادة ومهّد تارة أخرى لاندلاع الحروب الاهلية.


في النموذج المصري - التونسي كانت الأولوية المطلقة هي لقضايا الداخل المفصولة عن البيئة الخارجية والعوامل البنيوية المرتبطة بطبيعة النظام نفسه، والمحيطة بعمل الدولة وسياساتها وتحالفاتها ومواقفها من القضايا الحيوية. يكفي حسب هذا النموذج تحسين آليات تداول السلطة، ومكافحة الفساد، وتوفير الحد الأدنى من الحقوق السياسية (وبدرجة اقل الحقوق الاجتماعية) لتحقيق التغيير المنشود. هذه الفرضية الخاطئة هي التي انتجت التوافق المبكّر بين القوى الثورية وغير الثورية على سلوك طريق الانتخابات كمدخل وحيد برأيها إلى تحقيق هدفي التغيير والاستقرار في آن معاً.


لقد اقتصر حديث الثورة في هذا النموذج على البعد المحلي للسياسة مهملاً أبعادها الإستراتيجية والتي لا غنى عنها لبسط مظلة أمان وحماية فوق أي تجربة نهضوية وتنموية تنشد الاستقلال. لكن الميل الى الحلول السهلة ونأي النخبة بنفسها عن مواجهة التحديات الخارجية، واختلال معايير التمييز بين الخصوم والأصدقاء والحلفاء والأعداء، مهد لاحقاً الى نقل الصراعات المحتملة من الخارج الى الداخل وادخل الانتفاضات الشعبية في دوامة القوالب التقليدية الراسخة التي ثارت ضدها.


في سوريا كان النموذج مختلفاً والرهانات معاكسة. الاستقطاب الصراعي بشأن هذا البلد كان ولا يزال متمحوراً حول دوره وتحالفاته وموقعه من قضايا الإقليم وتناقضاته. لم تصمد العناوين الإصلاحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية طويلاً أمام سطوة صراع المصالح والمبادئ بين محور المقاومة من ناحية والمحور المناوئ له من ناحية أخرى، ولم تكن تلك العناوين والمطالب متناسبة على أي حال مع ضراوة الحرب السورية ودمويتها. وبالمقابل أظهر تطور الأحداث أن عناصر التسوية الداخلية متوفرة إذا أمكن تحييدها عن المؤثرات الخارجية، وعبرت المصالحات المحلية عن الميل العميق لدى المجتمع السوري لانهاء النزاع مع الحفاظ على بنية الدولة والخطوط العريضة لسياساتها العامة. لنلاحظ هنا ان العواصم الدولية كانت الأكثر حماسة للتصعيد خلال العامين الأولين من الحرب السورية، ثم انتقلت الحماسة الى العواصم الإقليمية ولا سيما الرياض وأنقرة، دون أن نغفل دورين آخرين: دور الكيان الاسرائيلي المتحفز دائماً لإقصاء آخر الجيوش العربية من معادلة الصراع للتفرغ لخطر المقاومة، ودور المجموعات التكفيرية التي تستفيد من تقاطع المصالح مع أطراف عدة لتحقيق آمالها المستحيلة مشاريعها العدمية.


في بلدان عربية أخرى برز نموذج ثالث. ارتبط تطور الأحداث هناك على نحو ما بتحرك صفائح الهويات الفرعية، وترهل الهوية الوطنية تحت وطأة الاستئثار بالسلطة والثروة من قبل نخبة صغيرة العدد. وكان يؤمل من الدينامية الثورية ان تفضي الى تسويات سياسية-اجتماعية ذات قاعدة عريضة تعيد انتاج هذه الهوية على قواعد صلبة تكفل الانسجام والتنوع. لم يتحقق ذلك إما بسبب وصاية "الأخ الأكبر" (الدور الخليجي في اليمن) او بفعل الغزو الخارجي الذي جعل الفوضى والانقسام المناطقي والأهلي يحلان محل الثورة وتصحيح العقد الاجتماعي (تدخل الناتو في ليبيا).


يعبر القمع الخارجي الذي تعرضت له ثورة البحرين  عن وجه آخر من مأزق التغيير في العالم العربي. فبكل بساطة ممنوع على الاصلاح أن يطرق أبواب الدول النفطية، تلك التي تنعم بحماية عسكرية أميركية مطلقة، وتعوض عن تخلف بنيتها السياسية بعصبية دينية وقبلية تتغذى من تعبئة مذهبية متواصلة، وبموارد مالية لا تنضب. تزعم دول الخليج أنها تحقق الهدف الجوهري للديمقراطية المتمثل في الرخاء والرضي العامّين دون أن تضطر إلى اعتماد الديموقراطية سبيلاً إلى تكوين السلطة وإدارتها. لكن تقارير التنمية البشرية والإنسانية ومؤشرات الفساد تضعها في المراتب المتأخرة على صعد الحكم الرشيد والفساد ونصيب الفرد من الخدمات العامة، وتبين أنّ العائدات النفطية هي ما يمنع انضمامها الى لائحة الدول الفاشلة. وتعالج هذه الدول مخاوفها بالهروب الى الأمام، إن من خلال التصدي لأدوار تفوق  طاقاتها وخبراتها السياسية والعسكرية، او بمحاولتها وعلى نحو معاند لمسار التاريخ الانفراد بمقعد القيادة في العالم العربي.
لقد منعت الأنظمة الريعية في السابق التجربة الناصرية وغيرها من التجارب الوطنية والقومية في العالم العربي من تحقيق بعض أهدافها التغييرية، وها هي الآن تكرر الأمر نفسه مستعينة بذخيرة من الضخ المالي غير المحدود والتعبئة المذهبية غير المسبوقة.


هناك إذاً وجوه متعددة لمعضلة التغيير التي تواجهها المنطقة، وترمي بها في أتون ديناميات تفتيت وتفكك تهدد بنيتها الاجتماعية والبشرية والثقافية. يكفي أن نتابع انهماك مراكز التفكير والأبحاث الغربية ولا سيما منها القريبة من صانعي القرار، في رسم الخرائط الجديدة للمنطقة (راجع مثلاً التقرير الأخير الصادر عن مؤسسة راند)، لنكتشف أن الحديث المتكرر عن إعادة رسم حدود المنطقة بالدم تتردد أصداؤه بجدية في أروقة العواصم المؤثرة. لكن ما لا يدركه هؤلاء أن رسم خرائط جديدة على قياس الانتماءات الفرعية المتصارعة حالياً هي محاولات عقيمة، فالهويات الصغرى هي بطبيعتها ظرفية وهشة، ولن تكون أبداً المادة الصالحة لبناء جغرافيا سياسية مستقرة وبديلة للجغرافيا الحالية، بل إنها ستضاعف من خطورة الفراغ الجيوسياسي وستزيد من قوة الجذب الى الأسفل الناتجة عن المحاولات الأميركية الفوضوية للتخفف من بعض أعباء المنطقة. لكن واشنطن التي فقدت جزءاً كبيراً من ذخيرتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية في المنطقة تزيد من توتر حلفائها الحائرين والمتوترين أصلا، بإعلانها أنها معنية بحماية أمنهم لا بتبني مصالحهم.


على أنّ الخروج من نفق الأزمة والحرب لا يكون بمحاولة الرجوع الى الوراء، أي إلى المرحلة التي سبقت اندلاع الاحتجاجات العربية التي كشفت عن كثير من الحقائق المكتومة، فإعادة المارد الشعبي إلى قمقمه لم يعد ممكناً، كما لم يعد ممكناً إعادة الهويات الفرعية والصغرى الى رحم الهوية الكبرى الجامعة إلا في إطار اجتهاد نظري وسياسي لتطوير مفهوم العروبة، وعمل نضالي لاستنقاذها من الوقوع رهينة الأنظمة النفطية التي تريدها ذخيرة إضافية في صراعاتها المتزايدة.


وفي جميع الأحوال أظهرت منطويات الانتفاضات الشعبية وما تناسل منها او رافقها من نزاعات وحروب، وجود ثلاثة أبعاد رئيسية لمعضلة التغيير في المنطقة هي: أزمات الهوية، وغياب المشروع المتكامل والمتوازن، ووجود قوى ودول ترى أن مصلحتها تقوم على استعادة الوضع القديم، والوقوف في وجه التحولات أو حرفها عن مسارها.


لقد كشف صعود الانتماءات الفرعية وانفجارها الدموي عن ضعف تكوين الهويات الوطنية التي لم تصمد أمام الاختبار، ولم تنجح في أن تكون تعبيراً قطرياً عن الهوية العربية الجامعة، المفترض أنها حاضنتها الأوسع ومصدر قوتها وتماسكها. لكن تجاوز معضلة الهوية يتطلب قبل أي شيء آخر تجديد فكرة العروبة نفسها بحيث تكون رابطة رحبة يتوازن فيها البعدان العربي والإسلامي، ويكون بمقدورها الحفاظ على تنوع النسيج الثقافي والاجتماعي والعقائدي كما انتهى الينا عبر رحلة تاريخية معقدة وخلّاقة. و لا يمكن على أي حال اختزال العروبة داخل وعاء اثني او طائفي أو مذهبي ضيق، قائم على الدمج القسري أو الانصهار الإجباري.


لكن الهوية العربية الجامعة ليست أمراً افتراضياً مجرداً ولا انتماء بديهياً، إنها أيضاً حقيقة موضوعية وخيارٌ فكريٌ وسياسيٌ، ولا يمكن تجديدها إلاّ في إطار مشروع حضاري وإصلاحي شامل، يرفض في الداخل التمييز والاستئثار بالسلطة ويصون الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ويطمح على المستوى الخارجي الى المشاركة في بناء نظام إقليمي قائم على التعاون مع الجوارين الإسلامي والإفريقي من ناحية وترسيخ التوازنات المركبة في مواجهة العدو وقوى الهيمنة من جهة أخرى. وفي هذا السياق لا بد من الاستفادة من التجارب من أجل ترميم نظرية الأمن القومي العربي، إن من خلال إعادة بناء الجيوش العربية على أساس عقيدة قتالية جديدة واستراتيجية دفاعية موحدة، أو بتعميم خيار المقاومة التي نجحت في تقليص فجوة القوة بأقل الإمكانات. ويمكن للعرب في معرض  بحثهم عن المكانة والدور والتنيمة المستقلة إلى المسارعة إلى شغل مقعدهم الخالي في قطار التحالف الشرقي الآخذ بالتكون والذي تتعاظم جاذبيته الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتزداد قدرته على الاستقطاب اقليمياً ودولياً. ويضم هذا التحالف العتيد قوتين عالميتين ممثلتين في مجلس الأمن: روسيا والصين، ودولة إقليمية مؤثرة هي إيران، وتربطه علاقات تنسيق قوية مع دول أخرى عبر تجمع البريكس ومنظمة شانغهاي..


وباختصار، إن الخروج من نفق الأزمة يستدعي القيام بثورتين متزامنين: واحدة على المستوى الوطني تهدف الى بناء الدولة العربية على أسس احترام الحقوق السياسية والاجتماعية والانسانية، وثورة على المستوى الجيو سياسي من أجل بناء نظام إقليمي متجه نحو الشرق، تتضامن أطرافه فيما بينها على تحقيق التنمية ومواجهة المخاطر وتكريس التوازن  المركب  مع العدو، ويكون قادراً على الاستفادة من الفرص التي يوفرها عالم متعدد الأقطاب..


لكننا وقبل ذلك كله نحتاج إلى ثورة ثالثة تشمل منظوماتنا المعرفية، العاجزة عن فهم التحولات واستشرافها وإدراك دلالاتها، وفكرنا السياسي الذي لا يبدو صالحاً حتى الآن لصياغة تصوراتنا البديلة وتقديم مساهمات مفيدة في مسيرة العالم.

*رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق - لبنان

 مقالات: قراءة تحليلية في وثيقة الصين تجاه الدول العربية / د. نبيل سرور

مقالات: قراءة تحليلية في وثيقة الصين تجاه الدول العربية / د. نبيل سرور

إصدار 2016-04-11

تمهيد مطلع السنة الجديدة أعدت الصين وثيقة سياسية إقتصادية توجهت فيها الى دول المنطقة العربية والإسلامية والملفت ان هذه الورقة تحمل مضامين وإشارات غير تقليدية كما في السابق في مقاربة الصين لملفات المنطقة الساخنة وهي تعكس جدية في وصف الوقائع وفي رسم اطر الحلول وفي التأكيد على ابعاد سياسية وهوامش من العلاقة في اطار مفتوح بما يفتح بالمجال لعلاقات واسعة تتعدى الإطار الشكلي او الإقتصادي او التقليدي وهذا ما يؤشر بالمحصلة الى ان الصين لديها طموح جدي لكي تكون قطبا اساسيا في منطقتنا او جزءا فاعلا من محور سياسي إقتصادي بوجه حضور اميركي متردد او ضعيف ومربك بفعل الهزائم التي تلقاها في اكثر من نقطة من نقاط تواجده والإستفادة من الدور الصيني تتوقف بالضرورة على تفاعل قوى المنطقة مع هذا الحضور وعلى مدى الإستفادة من تجربة الصين في شتى المجالات وشبك علاقات تفاعلية معها وربط شبكة من المصالح المتبادلة في اطار من منهجية واضحة ومحددة خدمة لمشروعنا السياسي الجهادي الممتد في اطاره الإقليمي والعالمي أولا في قراءة وتحليل مضمون الوثيقة تعكس وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية المؤرخة في كانون ثاني جملة من النقاط الآتية صياغة الورقة تقليدية كما هي عادة الصينيين في تأكيد ثوابتهم التاريخية وجذور علاقاتهم الإقليمية والدولية لكن يمكن القول انه وبالرغم من ان الإقتصاد لا يزال هو المحور في اية علاقات للصين مع الخارج الا ان ما يميز الورقة هو انها قاربت المواضيع المتعلقة بالمنطقة بشيء جديد من اللغة السياسية يبتعد عن الأسلوب الإنشائي الوصفي والحيادي في كثير من الأحيان ليصل الى صياغة وثيقة تحدد مرتكزات أساسية وواضحة في سياسة الصين الخارجية تجاه عالمنا العربي والإسلامي وتعكس التحولات السياسية والإقتصادية المتسارعة في المنطقة كما انها تعكس برأيي توجها صينيا واضحا لحجز مكانة ما في مشهد المنطقة السياسي المرتقب في المنطقة العربية في ظل تغيرات متواصلة معمقة ومعقدة في ظل الزخم المتزايد للتعددية القطبية في هذا السياق التحليلي الإستشرافي لابد من الإشارة الى ان ثوابت الأدبيات الصينية السياسية تجاه منطقتنا تعتمد دوما تاريخيا على أمرين أ التأكيد على متانة تاريخية العلاقة بين الصين والدول العربية والمواقف التاريخية المتبادلة بين العرب والصين وتعتبر ذلك المدخل او بوابة العبور التقليدية الى واقع المنطقة السياسي والأمني وملفاتها الجيوسياسية ب تظهير التعددية القطبية بعد انتهاء الحرب الباردة وفي ظل المتغيرات المتلاحقة على المسرح الدولي بحيث تسعى الصين الى التأكيد على ان الولايات المتحدة الأميركية لم تعد هي المرجعية الأولى والوحيدة للقرارين السياسي والإقتصادي بل تريد الصين تظهير صورة عالم جديد متعدد الإقطاب حيث لا يزال العالم يمر بفترة تعديلات عميقة للإقتصاد في حين تكون العناصر الجيوسياسية أكثر حضورا وتتوالى وتتعاقب التوترات المحلية وتزداد التحديات الإقليمية غير التقليدية والتحديات العالمية بشكل مستمر تعكس الورقة تحولا جديا في مقاربة الصين لملفات المنطقة السياسية وبالتالي فالورقة برصانتها وبشموليتها هي تعبير جديد عن وعي صيني للدور المستقبلي الذي يمكن ان تلعبه سياسيا في ظل تراجع للدور الأميركي وبروز قوى جديدة تشارك في رسم معالم المرحلة الجديدة من خلال حضور سياسي وإقتصادي فاعل وربما عسكري اذا تطلب الأمر الورقة هي مقاربة سياسية شاملة لواقع وملفات المنطقة السياسية والإقتصادية بعد ان كانت تقتصر بالسابق على الموضوع الإقتصادي كما تعكس جدية في تحليل عمق قضايا المنطقة المعقدة بعد ان كانت تتعاطى مع الملفات السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة بنوع من السطحية والهامشية والمقاربات المربكة سواء من خلال دبلوماسيتها او من خلال وسائل الأعلام ث انيا تقديم العامل السياسي لأول مرة كعامل اساسي قبل الإقتصاد ذكر الحزب الشيوعي بشكل ملفت كقمة الهرم السياسي في ادارة سياسة الدولة وحرصه على مواصلة تعزيز التبادل مع الأحزاب والمنظمات السياسية الصديقة في الدول العربية يؤكد ان الصين بدأت تعطي للعمل السياسي الحزبي في العلاقات الدولية أو مع الأصدقاء دفعا واضحا ومع الوقوف عند المصطلح يمكن ان نستنتج ان الصين صارت تعطي للسياسة والعمل الحزبي دوره بعد أن وصلت الى ما تريده في الإقتصاد وهذا ما يفسح بالمجال امام عمل سياسي صيني متعدد الأبعاد السياسية والأمنية مع الدول او الأطراف التي تتعامل معها الصين او ترتبط معها بعلاقات صداقة يلاحظ في الورقة ان الموضوع السياسي قد اخذ مجموعة عناوين تتقدم على الإقتصاد وتتبلور هذه الموضوعات في الحوارات الإستراتيجية والمشارورات السياسية الدائمة وفي دعم المطالب المشروعة والمواقف الصائبة للجانب الآخر وكأنه يفهم بالتحليل لهذا المعطى ان الصين جاهزة للتعاون السياسي بقضايا تفتح المجال امام مجالات بأبعاد سياسية وكل ما فيها من مضامين حزبية وشبابية ومنظمات غير حكومية الخ مفهوم الأمن المشترك هو مفهوم جديد تريده الصين انطلاقة متميزة في علاقاتها مع شعوب وقوى المنطقة ومنها طبعا حزب الله ان هذا المفهوم يختزن مقاربات وتعاونا في المجال الأمني والسياسي الخ بما قد يفتح بالمجال أمام فتح قنوات واجراء اتصالات قد يستفاد منها او قد تصب فيما بعد بما تحمل من تفاعلات لصالح مشروعنا السياسي والعسكري والجهادي مقاربة موضوع الإرهاب واستئصاله من ظواهره وبواطنه هي الى حد ما مقاربة جديدة قد نستطيع ان نجعلها تنفتح على التكفير بكل ظواهره وقد نستفيد منها في حربنا على الجهات التكفيرية ورعاتها الإقليميين وكذلك في تقديم أوفي توضيح الصورة لدى ساسة الصين عمن يقف وراء هذه الجهات ويدعمها وذلك في سبيل بلورة موقف صيني داعم لتوجهاتنا في هذا المجال وختاما يمكن القول ان الصين من خلال ما تطرحه من أفكار وطروحات جديدة تؤطر علاقتها بالمنطقة العربية وإن كان هذا الحضور الصيني لم يزل خجولا في الكثير من تمظهراته الميدانية والسياسية فهي بالمقابل تحاول أن تقدم حضورها كقطب فاعل يسعى الى التعامل مع القوى الموجودة على الساحة العربية بفهم جديد يقارب الملفات بحكمة وتخصصية لم تكن موجودة في الماضي وهي إذ ترفض احادية الهيمنة على المنطقة والعالم من قبل قوة ما فإنها تعمل على تهيئة كل الفرص المتوافرة او المتاحة في سبيل المشاركة في اية حلول ترسم للمشهد السياسي في المنطقة العربية والذي يعتريه الكثير من التناقضات وتضارب المصالح والتعقيدات أكاديمي متخصص بالشأن الصيني

 المقاومة والمواطنة: قوة الثقافة والإنسان بمواجهة ثقافة القوة والاستكبار

المقاومة والمواطنة: قوة الثقافة والإنسان بمواجهة ثقافة القوة والاستكبار

إصدار 2013-02-01

لنتساءل ونعتبر إن المحنة في لبنان تشارف على نهايتها. المحّنة التي قضَّت مضاجع اللبنانيين كافة. أمر لم يسبق له مثيل، فئة كبيرة من اللبنانيين عانت الغبن والإهمال المزمنين تاريخياً وأمتلكت عناصر القوة العظيمة والغلبة. لم تستخدم ما أمتلكت في الداخل. فالداخل اللبناني لا يحتاج إلى عناصر القوة هذه، بل يحتاج إلى قوة سر القوة الأصيلة والتي كانت سبباً في إمتلاك القوة اللاحقة. هذه القوة هي، ما برحت، قوة الثقافة، وليس ثقافة القوة والتسلط.

 مقالات: دور الإعلام في الفتنة المذهبية

مقالات: دور الإعلام في الفتنة المذهبية

إصدار 2012-04-03

بلغ التطور الإعلامي ذروته حيث أصبح العقل التاسع (بحسب أرسطو) يرى حركة الفضاء، ومنها يشاهد ما يحدث في العقل العاشر (الأرض) ومن عليها  من الناس والأشياء. يصور ما يريد إظهاره، ويقدم الخبر الذي علمَهُ وما على قاطني الكوكب العاشر إلا أن يلتقطوا ما يرسله الأعلى إلى الأدنى(!؟). إن جميع وسائل الاتصال التي أبدعها العقل الإنساني حولت هذا العالم إلى "قرية كونية". أصبح من السهل الوصول إلى أي معلومة بكبسة زر وردة طرف. مع ذلك، وعلى تعددها وانتشارها، بقيت وسائل الإعلام - مرئية ومكتوبة ومسموعة - محتكرة بأيدي القوى المهيمنة والمسيطرة على العالم، التي تعتبر نفسها الأكثر رقيا وتطورا وهي بالتالي ملزمة بنشر التنوير بين الأمم التي تعيش في ظلمات التخلف.

 تونس..هل هي فحسب انتفاضة اجتماعية؟

تونس..هل هي فحسب انتفاضة اجتماعية؟

لم ينجل الحدث التونسي تماماً ولا تكشفت احتمالاته بعد، لكنه من دون شك ينتمي إلى زمن عربي آخر، زمن يمكننا فيه أن نفاجئ العالم ونخطف أنفاسه. وإذا كنا نملك حتى الآن قصة نجاح واحدة أكيدة هي تعطيل الذراع العسكرية للهيمنة، فإن القوى المستفيدة من الوضع الراهن، تقف موحدة لمنع ذلك النجاح من التأثير على انفرادها في فرض رؤاها الاقتصادية ومنطقها الاقتصادي على الأنظمة والدول. أما حكاياتنا الأخرى فهي إخفاقات متتالية وتفويت متواصل للفرص، في التنمية والاستقلال والوحدة، كما على صعيد تضييق فجوة التقدم مع بقية العالم، بما في ذلك البلدان الناشئة التي خطونا قبلها ببضعة عقود الخطوة الأولى على طريق التصنيع، ونستورد منها الآن معظم سلعنا.

 مقالات: نحو ترتيب جديد للأولويات

مقالات: نحو ترتيب جديد للأولويات

لعلنا نقطع الطريق نفسه لكن في الاتجاه المعاكس، فمنذ عام 1992 فرض عجز الخزينة على الحكومات اللبنانية زيادة وارداتها، لينصب الاهتمام أولاً على الاستدانة الداخلية والخارجية لتمويل فائض الإنفاق، ثم على الضرائب غير المباشرة التي زادت معدلاتها مع تصاعد الدين العام واتساع العجز الأولي. لكن الضرائب كانت تجبى أساسا من الفئات الواقعة خارج مظلات الحماية السياسية، ومن أسواق الاستهلاك ذات العائدات السهلة الوفيرة، والتي يمكن السلطة أن تتصرف بها كما تشاء نظراً إلى ضعف الفئات الرئيسية المعنية بها (السائقون العموميون وقطاع المحروقات مثلاً).

 مقالات: هل يكفي إصلاح السياسات؟

مقالات: هل يكفي إصلاح السياسات؟

هل تكمن المشكلة الاقتصادية في السياسات أم في النموذج، وهل هي نتيجة خيارات خاطئة، أم أنها العائد المتوقع لشرخ بنيوي مولد بطبيعته للأزمات. إنه السؤال التقليدي نفسه الذي يتردد في لبنان منذ عقود، وفي كل مرة يطرح فيها نحصل على إجابات متباينة، تباين النزعات التي تستوطن الفضاءين السياسي والاجتماعي.