مقالات: التحديات أمام العالم العربي

مقالات: التحديات أمام العالم العربي

إصدار 2025-07-01

الموضوع الذي سأتحدث عنه له علاقة بإستراتيجية المواجهة، مواجهة الهجمة الأمريكية على المنطقة، وتحديداً له علاقة باهتماماتنا بحزب الله على النحو الأساسي؛ أي ما يتعلق بلبنان، وبدور المقاومة فيها، والتحديات التي تتصل بهذا الموضوع. لذلك، وقبل أن أستعرض هذا الأمر، أريد أن أسترشد بتقريرين أمريكيين يتناولان الوضع اللبناني خلال الأشهر القادمة على نحو مفصل، صدرا، مؤخراً، عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. وعندما نقوم بالمقارنة بين الأحداث التي تتالت على الساحة اللبنانية وبين هذين التقريرين، نجد أن ثمة تشابهاً كبيراً، وثمة ما يمكن أن أقول إنه يشكل ترجمة من ناحية الأحداث لمضمون هذين التقريرين الأمريكيين.

 مئات الخروق الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، للبنان الحق باستئناف الحرب والمطالبة بالتعويض

مئات الخروق الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، للبنان الحق باستئناف الحرب والمطالبة بالتعويض

إصدار 2025-01-11

واظب العدو الصهيوني، منذ الساعات الأولى لسريان وقف إطلاق النار الذي أعلن بتاريخ 27/11/2024، على خرقه، من خلال تماديه في اعتداءاته على لبنان، محاولًا تحقيق ما عجز عن تحقيقه خلال عدوانه الأخير من جهة، ومن جهة أخرى تظهير صورة "انتصار" ليقدّمها إلى مستوطنيه الذين "يشعرون بإحباط لكون حزب الله لم يُهزم ولم يكن قريبًا من الهزيمة" وفق ما أعلنته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 29/11/2024. وأمام تمادي "إسرائيل" بالخروق، وجد المبعوث الأميركي إلى لبنان عاموس هوكشتاين، عرّاب وقف إطلاق النار، نفسه بتاريخ 2/12/2024 مرغمًا على انتقادها بقوله إنّ "إسرائيل تطبِّق وقف إطلاق النار بطريقة عدوانية للغاية"، وأنّ إدارة بايدن "تشعر بالقلق لأنّ الإسرائيليين يلعبون لعبة خطيرة"، إلّا أنّه امتنع عن اتّخاذ أي إجراء يلزمها بوقف هذه الخروق.

 مقال | المحتوى المحلّي لعملية إعادة إعمار المناطق المتضرّرة من العدوان الصهيوني / كانون الثاني 2025

مقال | المحتوى المحلّي لعملية إعادة إعمار المناطق المتضرّرة من العدوان الصهيوني / كانون الثاني 2025

أولا مقدمة حول مفهوم وأهداف سياسة المحتوى المحلي لقد نتج عن العدوان الصهيوني الأخير على لبنان ولفترة تزيد عن الشهرين بين أيلول و تشرين الثاني خسائر مباشرة تمثلت في تدمير وتضرر عشرات آلاف الوحدات السكنية والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والبنى التحتية والحقول والمحاصيل والمزروعات وكذلك خسائر غير مباشرة منها ضياع إنتاج زراعي وصناعي وخسارة الصادرات وعائدات سياحية ومداخيل وإيرادات مالية عامة وتفويت استثمارات مباشرة وتدمير البيئة لم يجر تقديرها وحصرها كلها بصورة نهائية حتى تاريخه بالإضافة إلى خسارة الموارد البشرية المتمثلة في الوفيات والهجرة وارتفاع معدلات البطالة وعموما يتبين بحسب التجارب العالمية أن معدل تكلفة الخسائر الاقتصادية الناجمة عن أعمال العنف في الدول الأكثر تضررا من الحروب يقدر بحوالي من ناتجها المحلي وهذه الورقة تسلط الضوء على جانب من سياسات المحتوى المحلي لاحتواء التحديات الاقتصادية التي يتوقع أن تترافق مع عملية إعادة إعمار وترميم الأضرار التي خلفها العدوان الصهيوني وصولا إلى تحويل هذه التحديات إلى فرص لتعزيز النمو الاقتصادي خصوصا في بلد كلبنان يعاني أساسا من عجوزات مزمنة في ميزانه الجاري والموازنة العامة ومن مديونية مرتفعة وشح في موجوداته الخارجية بما لا يسمح له بالتوسع بالاقتراض لتغطية تكاليف عملية إعادة الإعمار وفي سبيل الحد من التأثيرات السلبية لهذه العملية وتحويل التحديات التي تفرضها عملية إعادة الإعمار إلى فرص لزيادة وتسريع النمو الاقتصادي وخلق المزيد من الوظائف وتعزيز المداخيل لا بل توطين خبرات وتقنيات عمل جديدة مستحدثة تؤدي إلى زيادة المداخيل بما يحد ليس فقط من الاعتماد على المساعدات الخارجية وإنما تعويض الخسارة في الناتج المحلي الناجمة سواء عن العدوان الصهيوني أو الأزمة المالية والاقتصادية الممتدة التي تعصف بالبلاد أصلا فإن هذه الورقة تدعو إلى إدماج مبادئ المحتوى المحلي التي نتناولها بالتفصيل فيما يلي في السياسات والبرامج والإجراءات المتعلقة بشراء المواد والخدمات وتخطيط وتصميم وتنفيذ العمليات المتصلة بإعادة الإعمار والترميم ومن المعروف أن مبادئ المحتوى المحلي تنطلق في تصميم وتنفيذ سياسات وبرامج عملية إعادة الإعمار من مفهوم أوسع لهذه العملية يتجاوز الموجودات المادية المدمرة إلى تمكين المجتمعات المتضررة الحضرية والريفية من استعادة قدراتها الإنتاجية والاستهلاكية على السواء تمهيدا لإعادة إدماجها في دورة النشاط الاقتصادي بفاعلية أكبر على المستوى الوطني وهذه المبادئ تتضمن أيضا آليات محددة تعطي الأولوية في توريد مستلزمات عملية إعادة الإعمار للصناعات والأعمال والموارد البشرية المحلية وذلك لضمان أن مردود عملية التعافي والقيمة المضافة المترتبة عليها تعود بالفائدة الآنية والمستقبلية على المجتمعات والقطاعات المحلية بالدرجة الأولى خصوصا في قطاعات رئيسية مثل التوظيف والبنى التحتية والصناعة والزراعة والخدمات والتنمية عموما وبذلك فإن الهدف الأبعد لسياسة المحتوى الداخلي يتمثل بغرضين رئيسيين هما أولا إيجاد الشروط والظروف الداخلية لإعادة تنشيط الاقتصاديات المحلية وتمكينها من خلق فرص عمل ووظائف جديدة وثانيا الحد من وطأة زيادة الاستيراد على الميزان الجاري وبالتالي على الموجودات الخارجية للدولة مما يعني أن هذه السياسة تؤسس لتنمية اقتصادية محلية ديناميكية ومستدامة من جهة وتدعم جهود الاستقرار المالي العام من جهة أخرى ثانيا مصفوفة المبادرات والإجراءات العملية لتطبيق سياسة المحتوى المحلي يوضح الرسم أدناه مجموعة المبادرات والإجراءات العملية لتطبيق سياسة المحتوى المحلي مع شرح مرفق له وذلك دون أن تتحمل الدولة أية أعباء مالية مباشرة على الشكل الآتي تشريعات ناظمة وترمي هذه التشريعات إلى جذب المستثمرين ورجال الأعمال للتوظيف في المناطق المتضررة سواء الحضرية أو الريفية حيث إمكانات المشاريع الزراعية والتصنيع الزراعي متوفرة وذلك من أجل تسريع إعادة إعمار هذه المناطق بما فيه البنى التحتية وخلق فرص العمل فيها وتوفير الاستقرار الاقتصادي في المدى المنظور وتتمحور هذه التشريعات حول المسائل الآتية تحديد السقف الأدنى في جميع صفقات إعادة الإعمار المتعلقة بالسلع والمواد والخدمات واليد العاملة التي ينبغي توفيرها من مصادر محلية في حال توفرها بالمواصفات المطلوبة تقديم حوافز ضريبية ودعم وتسهيلات للشركات والأعمال المنخرطة بعملية إعادة الإعمار طوال فترة هذه العملية مقابل إعطاء الأولوية لاستخدام الموارد البشرية والمادية المحلية في تلك العملية تضمين دفاتر الشروط الخاصة بعمليات إعادة الإعمار أن يعود جزء ملحوظ من أعمال الشركات المتعاقدة بهذا الشأن خصوصا الأجنبية منها بالفائدة على الأعمال والقوى العاملة المحلية بناء المهارات البشرية وضع برامج للتدريب المهني المعجل بالتزامن مع انطلاق عملية إعادة الإعمار وتكون مهمة هذه البرامج إعادة تأهيل وتطوير مهارات القوى العاملة المحلية والمؤسسات المنخرطة في إعادة الإعمار والتنمية وتصبح هذه البرامج أكثر ضرورة في ظل النقص المتوقع في اليد العاملة المتخصصة نتيجة عودة عشرات الآلاف من النازحين السوريين المقيمين في لبنان إلى وطنهم مع انتفاء الأسباب السياسية والأمنية للنزوح ويمكن تنفيذ هذه البرامج المستعجلة بالتعاون مع معاهد محلية للتعليم التقني بحيث يفضي التدريب المكثف ضمن فترة زمنية قصيرة إلى منح الخريجين في مجالات محددة الكهرباء والنجارة والألمنيوم والسباكة والبناء والتأهيل الزراعي وتقنيات الزراعة الحديثة شهادات تؤكد استيفاء حاملها لمعايير الأمان والجودة وتكون الأفضلية في الاستفادة من التسهيلات والإعفاءات الحكومية للأعمال والشركات التي تستخدم هؤلاء الخريجين اللبنانيين العمل على نقل وتوطين التكنولوجيا تعتبر عملية إعادة الإعمار بكل أبعادها فرصة لتشجيع نقل وتوطين التكنولوجيا من خلال الشراكة سواء ضمن مشاريع مشتركة مع مقاولين عالميين محترفين أو مع منظمات غير حكومية وجهات دولية متخصصة والعمل بهذا التوجه يساهم في بناء القدرات المحلية خصوصا في أعمال وقطاعات مثل البناء والطاقة والهندسة والتصنيع والبرمجة والتصميم وما إلى ذلك دعم المؤسسات الصغيرة بما أن غالبية المؤسسات الاقتصادية القائمة في لبنان عموما والمناطق المتضررة خصوصا هي مؤسسات صغيرة بطبيعتها وبما أن عمليات إعادة الإعمار والترميم تتطلب غالبا خبرات بمستوى ومواصفات محددة خصوصا أن نسبة لا بأس بها من هذه العمليات نتوقع أن تجري وفق مواصفات حديثة وجديدة تواكب التطورات وليس كما كانت في الماضي وبالتالي تستلزم قدرات تمويلية أكبر قد لا تتمكن من توفيرها العديد من المؤسسات المتضررة مما يخلق فجوة كبيرة لا بد معها من تدخل طرف ثالث لجسر هذه الفجوة وتمكين هذه المؤسسات والأعمال من الحصول على التمويل المطلوب أو حتى توفير المساعدة التقنية من مصادرها المتاحة محليا وبأسعار مدروسة وهذا الطرف الثالث يمكن أن يكون على شكل صندوق تنموي محلي خاص بعملية إعادة الإعمار وتكون مهمته محصورة بتقديم القروض الميسرة للمؤسسات والأعمال الاقتصادية المتضررة والمدمرة خصوصا الصغيرة والمتوسطة القابلة للاستمرار والتطور التي تحتاج إلى تمويل لإعادة البناء واستئناف نشاطها وهذا الصندوق يكتسب أهمية خاصة في ظل تعاظم مخاطر التسليف والفوائد المرتفعة بسبب الأوضاع الحالية للقطاع المصرفي اللبناني وعدم الاستقرار السياسي مما يشكل تحديا كبيرا لقطاعات الأعمال الصغيرة ويجري تأسيس الصندوق وفق واحدة من الصيغتين التاليتين إما تحت إشراف مصرف لبنان ويجري تمويل هذا الصندوق من خلال مصادر متعددة منها اعتمادات استثنائية تفتح لهذه الغاية في الموازنة العامة القروض الميسرة والهبات من مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية المتخصصة كالصندوق الكويتي والبنك الإسلامي تسديدات المؤسسات المقترضة نفسها أو ضمن دائرة غير رسمية تحت إشراف مؤسسة القرض الحسن ويجري تمويله من خلال المصادر الآتية ميزانية يحددها حزب الله بالتعاون مع الجمهورية الإسلامية في إيران وتسديدات المؤسسات المستفيدة وجزء من الأموال الشرعية وتبرعات المتمولين في بلاد الاغتراب تطبيقات قانون الشراء العام وذلك باعتماد سياسة تفضيلية في تنفيذ قانون الشراء العام أولا من خلال إعطاء الأعمال والشركات المحلية المستوفية لشروط المساهمة في إعادة الإعمار أفضلية لكسب المناقصات وعقود تنفيذ المشاريع بهذا الخصوص وثانيا عبر تضمين دفاتر الشروط ضرورة استخدام نسبة محددة بالحد الأدنى من الموارد والمعدات المنتجة محليا واليد العاملة المحلية في مشاريع البناء بما فيها المباني والطرق والجسور ومرافق الخدمات العامة وذلك عملا بالمواد التالية من القانون المذكور مادة تجزئة الشراء العام لمصلحة تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة مادة إعطاء حوافز للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وللإنتاج المحلي والخبرات الوطنية مادة منح أفضلية بنسبة للسلع والخدمات الوطنية تكامل عمليات التنمية دعوة الجهات المشرفة على عملية إعادة الإعمار المحلية إلى التأكد من أن تصميم وتنفيذ السياسات والبرامج والإجراءات المتصلة بهذه العملية يتكامل وينسجم مع استراتيجيات التنمية بشكلها الأوسع على الصعيد الوطني بما في ذلك التصورات البعيدة المدى للبناء والنهوض الاقتصادي الوطني لناحية التنويع الاقتصادي ورقمنة الأنشطة والقطاعات الاقتصادية بالإضافة لتوليد فرص عمل جديدة وتندرج في هذا الإطار ضرورة إبقاء فرص وإمكانات نمو وتوسع قطاعات ذات أفضلية معينة للبنان عموما والمناطق المتضررة خصوصا متاحة وتملك ما يكفي من المرونة للتحول والتكيف تبعا للتطورات المستقبلية ومن هذه القطاعات على سبيل المثال قطاعات التكنولوجيا والبحوث وخدمات النقل والاتصالات والمال والبنى التحتية الذكية والطاقة البديلة والزراعات الحديثة والتي يعول عليها مستقبلا في خلق فرص عمل جديدة ودفع النمو الاقتصادي التشبيك ويقصد بذلك التشبيك مع موردين محليين للمواد الأولية ذات المنشأ المحلي بغالبيتها ممن يضمنون توفر هذه المواد بالمواصفات والزمان والمكان المحددين وبالأسعار المناسبة تعزيز الاستثمارات المباشرة وهذا يتطلب مبادرات حكومية سريعة تواكب عملية إعادة الإعمار من أجل تشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية المباشرة لتعزيز قدرات التصنيع المحلية ذات الصلة بعملية إعادة الإعمار للحد من الاعتماد على المستوردات ولمصرف لبنان دور رئيسي في هذا المجال لناحية إدارة التدفقات الخارجية الضخمة المتوقعة من العملات الصعبة لتمويل عملية إعادة الإعمار بما يخدم تعزيز الاستثمارات المباشرة من جهة والحؤول دون الضغط سلبا على الليرة من جهة أخرى ومن القدرات الصناعية المطلوب تطويرها وتفعيلها محليا صناعات الأسلاك والأنابيب صناعات الحديد والألمنيوم صناعات الزجاج والبلاستيك صناعة المعدات والأدوات الكهربائية صناعة الأخشاب صناعة معدات النقل والتحميل والرافعات صناعة الجرارات والأسمدة الزراعية وتجدر الإشارة أن أسواق هذه الصناعات لن تبقى محصورة في لبنان بل ينتظرها مستقبل واعد للتوسع في أسواق دول ومناطق عربية مجاورة لديها برامج ضخمة لإعادة الإعمار مثل سوريا والعراق مما يمنح لبنان فرصة سانحة لا ينبغي تفويتها ولتعزيز المحتوى المحلي في هذه الاستثمارات يفترض أن تقترن التسهيلات الحكومية مع تعهد المستثمرين بتشغيل موظفين محليين واستخدام موارد محلية متى كان ذلك متوافرا دعم القطاعات الإنتاجية المتضررة وهذا الأمر يتطلب تحركا استثنائيا للوزارات المعنية ففي الزراعة لا بد من وقوف الوزارة عمليا وبشتى السبل إلى جانب المزارعين المتضررين ليس لتمكينهم من استئناف العمل في مزارعهم وحقولهم والحصول على الموارد اللازمة لاستعادة الإنتاج الزراعي المحلي عافيته في أسرع وقت وحسب بل لدعم استقرارهم في أرضهم أيضا خصوصا أن قطاع الزراعة في المناطق المتضررة في الجنوب والبقاع يلعب دورا رئيسيا في تثبيت المواطنين في أرضهم من خلال إيجاد فرص العمل اللائقة بالإضافة إلى أهمية هذا القطاع في توفير الأمن الغذائي ورفع المستوى المعيشي وتعزيز الصادرات وصولا إلى تأمين الاستقرار المالي للبلاد عموما الأمر نفسه ينطبق على قطاعي الصناعة والبناء المحليين فقطاع الصناعة يمكن أن يساهم بشكل فاعل في توفير جزء هام من المواد الأولية اللازمة لإعادة البناء مثل الترابة والأسلاك الكهربائية والأحجار والأدوات الصحية والبلاط والدهانات والجفصين والبلاستيك والألمنيوم بالإضافة إلى اليد الماهرة المحلية في مختلف هذه المجالات كما أن الاستعانة بالخبرات المحلية المتوفرة في قطاع الخدمات وتحديدا الاتصالات والنقل والتصميم والديكور والطباعة الثلاثية الأبعاد وبرامج المعالجة الآلية يعتبر أمرا ملحا في تطوير المحتوى المحلي لعملية إعادة الإعمار مشاركة واحتضان المجتمعات المحلية تعتبر هذه العملية من الدعامات الأساسية في نجاح واستدامة سياسات وبرامج تعظيم المحتوى المحلي وهي تتضمن أبعادا عدة أبرزها ثلاثة على الشكل الآتي أولا عدم إغفال ضرورة إشراك المجتمعات المحلية المتضررة والمعنية في تصميم البرامج والتدخلات ومن ثم تصويب اتجاهات التنفيذ ميدانيا مما يساعد الجهات العليا القائمة بالتنفيذ ليس فقط في التأكد من أخذ الاحتياجات الآنية والتوجهات المستقبلية لهذه المجتمعات بعين الاعتبار في مختلف مراحل عملية إعادة الإعمار بل في تمكين هذه المجتمعات من الاعتياد على تحمل المسؤولية وبالتالي تمكين الجهات المشرفة من تخفيف بعضا من أعباء إعادة الإعمار عنها ثانيا الالتفات إلى أن العدوان الصهيوني الأخير المدمر وغير المسبوق قد أحدث عاهات مستدامة لدى الآلاف من المواطنين ممن باتوا معوقين ولذلك فإن سياسة المحتوى المحلي تتطلب أيضا من جهة أن تلحظ برامج وسياسات إعادة إعمار المناطق والقطاعات المدمرة الاحتياجات الآنية والمستقبلية لهذه الفئة لضمان استمرار اندماجهم في مجتمعهم وبقائهم عناصر منتجة وفاعلة غير معطلة أو عالة على بيئتها ومن جهة أخرى أن يتم إدماج وإشراك ما أمكن من الراغبين والقادرين من أفراد هذه الفئة للمساهمة في عملية إعادة الإعمار بمختلف أشكالها ثالثا معالجة موضوعية ومتأنية ضمن برامج متخصصة ومدروسة لما أصاب النسيج الاجتماعي لبيئة المقاومة من تشوهات وندوب من جراء الضربة الصهيونية يشكل تركها دون معالجة فورية خطرا على مستقبل المقاومة ذاتها ومنفذا للمغرضين للعبث بساحتها في الحوكمة والشفافية والمقصود هنا أمرين أساسيين هما أولا استحداث نظام للرقابة والإشراف من أجل تتبع إنفاق الأموال المخصصة لإعادة الإعمار في مختلف المناطق المتضررة بصورة شفافة وعملية لضمان تحقيق الغاية من هذه العملية خصوصا أننا في بلد يعاني من ارتفاع مستويات الفساد والإهدار وهو شهد تجربة سابقة من إعادة الإعمار خلال الفترة تراوحت خلالها معدلات الفساد بين إلى من قيمة عقود الإعمار أو ما يقدر بنحو مليار ونصف المليار دولار سنويا في الفترة المشار إليها ثانيا تقييم دوري لتأثيرات ونتائج سياسات وبرامج إعادة الإعمار الجاري تنفيذها من أجل التأكد من تحقيق أهدافها على مستوى تعظيم المحتوى المحلي لهذه العملية وبأن العملية تجري على أفضل وجه وبالتالي العمل لتصحيح أي خلل يثبت وجوده ثالثا خارطة طريق لتنفيذ استراتيجية المحتوى المحلي الانطلاق من تقديرات حجم الأضرار على أنواعها في مختلف المناطق من أجل تصنيف دقيق للمستلزمات المادية والبشرية والمالية المطلوبة لإعادة الإعمار والبناء ضمن فترة زمنية محددة وبالتالي تحديد مصادر توفير هذه المستلزمات محليا وخارجيا حشد الطاقات المحلية من خلال تكثيف اللقاءات وورش العمل المستمرة من أجل تصميم وبلورة أطر واضحة ومشتركة لسياسات وبرامج المحتوى المحلي وذلك بمشاركة المؤسسات الحكومية المعنية ومنها وزارات الزراعة والصناعة والبيئة والداخلية ومجلس الإنماء والإعمار والتنظيم المدني والقطاع الخاص المحلي عبر هيئاته التمثيلية مثل جمعية الصناعيين وجمعية التجار وتجمع المقاولين والهيئات الزراعية ونقابات المهن الحرة والنقابات العمالية ومنها المحامين والمهندسين والأطباء وأصحاب الاحتياجات الخاصة والبلديات والاتحادات البلدية والهيئات غير الحكومية اختيار برامج تجريبية ذات أولوية في تعظيم المحتوى المحلي لعملية إعادة الإعمار لناحية استخدام الموارد واليد العاملة المحلية على أن يجري التوسع تدريجيا في هذه البرامج أفقيا وعاموديا ويمكن في هذا المجال التواصل مع مؤسسات ومنظمات دولية وإقليمية مثل الإسكوا وصناديق التنمية العربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والدول الصديقة والمنظمات غير الحكومية للاستفادة من خبراتها في مجالات المحتوى المحلي لعمليات إعادة الإعمار وعلى سبيل المثال قد يكون مجديا تخصيص برامج زراعية مستعجلة لإعادة تأهيل المزارع والحقول التي تعرضت لعمليات قصف وتدمير إسرائيلي مكثف خصوصا في قرى وبلدات الحافة الأمامية على الحدود الجنوبية بحيث تعطى الأولوية في المرحلة الأولى لقطاعات زراعية متضررة ذات ثقل في الاقتصاد الزراعي تحدد بالاستناد إلى تقديرات الأضرار المشار إليها في البند من خارطة الطريق أدناه كالتصنيع الزراعي والصناعات الحرفية والثروة الحيوانية وزراعة حقول وبساتين معينة كالزيتون والبرتقال والموز في كل من الجنوب والبقاع وبالتالي يتم حشد ما يلزم من طاقات وموارد ومساعدات محلية وخارجية للنهوض بهذه القطاعات تحديدا في هذه المرحلة ملحق رقم تشريعات ناظمة ربطا بعملية إعادة إعمار المناطق اللبنانية المتضررة من جراء العدوان الصهيوني إصدار مرسوم مستعجل ينص على ما يلي أولا التطبيق التلقائي لمفاعيل ومدرجات قانون الاستثمار رقم تاريخ على جميع مشاريع الاستثمار وإعادة الإعمار الجديدة والقديمة في المناطق اللبنانية المتضررة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لمدينة بيروت من أجل تسهيل وتسريع عملية إعادة الإعمار في تلك المناطق التي تواجه تحديات وعقبات كبيرة جدا في هذا المجال وذلك بمعزل عن أحكام القانون المتصلة بحجم رأس المال ونوع المنتجات وتاريخ التأسيس ثانيا تنطبق على مشاريع الاستثمار وإعادة الإعمار الجديدة والقديمة في المناطق المذكورة أعلاه أحكام المرسوم الاشتراعي رقم الصادر بتاريخ المتعلق بإعفاء الشركات الصناعية من الضرائب والرسوم ثالثا تنطبق أحكام الإعفاءات والحوافز الممنوحة للمنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس على مشاريع الاستثمار وإعادة الإعمار الجديدة والقديمة في المناطق المذكورة أعلاه المباشرة فورا بتأسيس مناطق اقتصادية خاصة تخدم عملية إعادة الإعمار في المناطق اللبنانية المتضررة حيث تستفيد الأعمال والشركات المنشأة ضمن هذه المناطق من خدمات البنية التحتية المتوفرة فيها ومن الإعفاءات والتسهيلات المشار إليها في البند أعلاه بالإضافة أن مستوردات وصادرات السلع والمنتجات من وإلى هذه المناطق وإجراءات التأسيس والتوظيف تكون معفاة من الرسوم والضرائب شرط أن تكون هذه المناطق متخصصة بأنشطة اقتصادية محددة سلفا وتعمل على توطين أساليب عمل جديدة وتشكل اليد العاملة المحلية الجزء الأساسي من العاملين فيها ويمكن أن تتوزع هذه المناطق جغرافيا بالاستناد إلى المعطيات المتوفرة عن أملاك الدولة والأملاك البلدية للحد من كلفة المشروع وعلى أية حال تتوفر في العديد من المناطق نوى لقواعد صناعية يمكن الانطلاق منها لتأسيس مناطق اقتصادية خاصة على سبيل المثال مناطق الشويفاتالعمروسية في الضاحية الجنوبية والزهرانيالغازية في الجنوب كما أن مناطق أخرى متضررة بشدة في الجنوب تكاد تكون معزولة عن دورة النشاط الاقتصادي على الصعيد الوطني وهي مهددة من قبل الاحتلال الإسرائيلي مثل منطقة عيناثابنت جبيل بحيث أن إقامة منطقة اقتصادية فيها يساهم في تعافيها الاقتصادي وتثبيت السكان في أرضهم أما في البقاع نجد أن مناطق مثل الهرملالقاع وبريتالالنبي شيت ربما تكون مؤهلة لمشروع إقامة منطقة اقتصادية خاصة نظرا لرخص أسعار الأراضي نسبيا وتوفر المساحات الكافية والقرب من الحدود البرية مع سوريا بالنظر إلى ضعف الإمكانات المالية والمادية واللوجستية لدى الدولة اللبنانية وبسبب حجم الدمار الذي لحق بالكثير من البنى التحتية ومرافق الخدمات العامة التي تعاني أصلا من الترهل والضعف والتي يتطلب إعادة إعمارها وتحديثها سريعا خبرات وإمكانات ذات ديناميكية وفعالية عالية فإننا نؤكد على ضرورة تحرك مجلس الوزراء لإطلاق ورش وحلقات نقاش تشريعية عاجلة بهدف تسريع عملية إحياء وتعديل قانون تنظيم العلاقة بين القطاعين العام والخاص رقم تاريخ وذلك من أجل تبسيط إجراءاته حتى يصبح قابلا للتطبيق وقادرا على جذب المستثمرين خصوصا بما يتناسب مع المشاريع المتوسطة والصغيرة نسبيا في المناطق المتضررة أعلاه كما ينبغي العمل أيضا في موازاة ذلك على تشكيل المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة وتعيين أمين عام جديد له بعد انتهاء ولاية أمينه العام السابق زياد حايك حسم موضوع إقرار تشريعات وقوانين الضم والفرز في المناطق الريفية المتضررة في الجنوب والبقاع وذلك نظرا لأهمية هذه التشريعات في تسريع عملية تعافي هذه المناطق وتشجيع الاستثمار فيها كما أن العقبات القانونية الناجمة عن غياب التنظيم العقاري في بعض هذه المناطق قد يعرقل عملية تعويض الأضرار بحد ذاتها قيام التنظيم المدني بنشر مخططات توجيهية توضح استخدامات الأراضي خصوصا في المناطق المتضررة من أجل ضبط ومنع استغلال عملية إعادة إعمار هذه المناطق أو تشويه المجال البيئي بالإضافة إلى أهمية هذه المخططات في توجيه المستثمرين إنشاء الوكالة الوطنية لتشجيع الاستثمار في المناطق المتضررة أو توسيع صلاحيات المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات إيدال لاتخاذ الإجراءات المناسبة من أجل تحفيز الاستثمار المباشر وإعادة الإعمار في المناطق المتضررة في بيروت والجنوب والبقاع ومن أجل تحقيق هذه الغاية تتولى هذه الوكالة التنسيق مع الهيئات والأطر الإدارية المعنية مثل الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار واتحادات البلديات والتنظيم المدني في وزارة الأشغال والمحافظين والقائمقامين لا سيما في المجالات التي تتطلب تقديم الدعم والمعلومات وتسهيل الحصول على الخدمات والرخص وتذليل العقبات أمام المستثمرين المحليين والأجانب بعيدا عن البيروقراطية المعهودة ملحق رقم مشاريع تجريبية رائدة لخدمة عملية إعادة إعمار وتنشيط الدورة الاقتصادية للمناطق المتضررة

 مقال | مجزرة 17 و18 أيلول في ميزان القانون الدولي - د. محمد طي / كانون الأول 2024

مقال | مجزرة 17 و18 أيلول في ميزان القانون الدولي - د. محمد طي / كانون الأول 2024

إصدار 2024-12-28

ارتكب العدوّ الصهيونيّ في 17 و18 أيلول/ سبتمبر 2024، جريمة مروّعة بتفجيره أجهزة البيجر، المدنيّة أساسًا، التي يحملها أعضاء من حزب الله المدنيّين، طاولت آلاف الأشخاص، بشكل غادر، فاستشهد عدد ممّن كانوا يحملونها، وجرح العدد الأكبر، والعشرات منهم جروحهم خطيرة.


فما هي طبيعة هذه الجريمة؟

يشكّل هذا الفعل جريمة حرب وجريمة ضدّ الإنسانية


أوّلًا - جريمة حرب:

 لأنّه أتى ضمن مخطّط عامّ وكان يستهدف عددًا كبيرًا من الناس، وخاصّة المدنيّين الآمنين وهو يلبّي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (م 8) الذي ينصّ على أنّ القتل العمد للأشخاص المحميّين أو الممتلكات المحميّة باتفاقيات جنيف، وتعمّد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحّة، عندما يجري في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق، يشكّل جريمة حرب.


ثانيًا - جريمة ضدّ الانسانيّة:

 لأنّه جرى على نطاق واسع ومخطّط، وضمن معركة مستمرّة بين العدوّ ولبنان بمقاومته، وعن معرفة لدى العدوّ أنّه يستهدف مدنيّين، وذلك طبقًا لمفهوم الجريمة ضدّ الإنسانيّة الوارد في النظام الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، حيث ورد في مادّته السابعة: "لغرض هذا النظام الأساسيّ، يشكّل أيّ فعل من الأفعال الآتية جريمة ضدّ الإنسانيّة متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجيّ موجّه ضدّ أيّ مجموعة من السكّان المدنيّين وعن علم بالهجوم: القتل العمد، الإبادة...".


لقد طالت هذه العمليّة بشكل عشوائيّ حاملي الأجهزة من أطبّاء وعاملين صحيّين ومستشفيات ومراكز صحيّة وتجّار ومحالّ تجاريّة وغيرها، فلم يجرِ تمييز بين المدنيّين والعسكريّين أو بين الأهداف العسكريّة والأعيان المدنيّة، ولم يسبقها إنذار المدنيّين، ولا تتّسم بالضرورة العسكريّة ممّا يجعلها تحت طائلة البروتوكول الأوّل الملحق باتّفاقيّات جنيف لسنة 1949 (م 12 و15 و16 و51 و52 و57 و58 و76 و77).

وهي تخرق اتّفاقيّة جنيف لحظر وتقييد استعمال الأسلحة مفرطة الضرر أو عشوائيّة الأثر لسنة 1980، كما تخرق البروتوكول بشأن "الشظايا التي لا يمكن الكشف عنها بالأشعّة السينيّة لسنة 1980، اللتين صادق عليهما العدوّ الصهيونيّ بتاريخ 22 آذار 1995، وكذلك بروتوكول فيينا "لحظر أو تقييد استعمال الأسلحة المُعمِية، لسنة 1995، الذي صادق عليه العدوّ بتاريخ 30/10/2000".

هذه الجرائم جميعًا ارتكبها قادة العدوّ الصهيونيّ في 17 و18 أيلول 2024، وهي إلى جانب كونها بحدّ ذاتها جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، تشكل إذا وضعت في إطار الإجرام الصهيونيّ المتمادي الذي يمارس منذ ما قبل 1948 حتّى اليوم، جريمة إبادة جنس بشريّ Genocide، لأنّها تأتي ضمن مخطّط للإهلاك الكلّيّ أو الجزئيّ لجماعة بشريّة قوميّة ودينيّة، كما تقضي به المادّة الثانية من اتّفاقيّة منع ومعاقبة جريمة إبادة جنس بشريّ لسنة 1948.

أمّا المسؤولية، فتترتّب على قادة العدوّ الذين أمروا بارتكاب هذا الفعل الإجراميّ الرهيب، والذين نفّذوه من أعلاهم إلى أدناهم.

لكنّ الأمر لا يقتصر على المسؤولين الصهاينة، بل هناك شركاء لهم في فعلهم هذا، هم الشركة المنتجة الرئيسيّة في تايوان، أو في المجر، التي قد تكون سمحت بشكل أو بآخر بالتدخّل في عملها  والإعداد للتفجير، كما يتحمّل المسؤوليّة الوسيط الذي اشترى الأجهزة، وقد تكون الحكومة في بلد المنشأ متواطئة في هذه الجريمة.

إلى جانب هؤلاء جميعًا، هناك الدول التي تمدّ العدوّ بالوسائل التكنولوجيّة لتمكينه من ارتكاب هذه الأفعال، أو التي يمكن أن تكون ساهمت بشكل ما في العمليّة تخطيطًا و/أو تنفيذًا، والتي سارعت إلى تبرير فعل العدوّ، كما فعلت الولايات المتّحدة الأميركيّة التي ادّعت، على لسان مسؤوليها، أنّ "إسرائيل" تمتلك حقّ "الدفاع" عن نفسها ضدّ ما تسمّيه "الإرهاب".

ولمّا كانت العملية جرت ضمن العدوان الذي يشنّه العدوّ الصهيونيّ على غزّة وسائر فلسطين، وكان يمتد إلى لبنان واليمن وسوريا، ولمّا كانت الدول الغربية، الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا ودول أخرى تمدّ العدوّ بالأسلحة وسائر المساعدات الماديّة وتوفّر له الغطاء السياسيّ والدبلوماسيّ والمعنويّ، فهي تتحمّل المسؤوليّة الأخلاقيّة وحتّى القانونيّة عن هذه الجريمة.


المواجهة

أمّا فيما يرتبط بطريقة المواجهة، فإلى جانب العمل العسكريّ، لا بد من الشكوى إلى مجلس الأمن، ووضعه أمام مسؤوليّاته، وحتّى لو استخدمت الدول الغربيّة فيه حقّ النقض (الفيتو) وأفشلت المسعى، فلا أقلّ من إحراج أعضاء المجلس وفضح العدوّ.

ولو تمكنّا من دعوة الجمعيّة العامّة في حال فشل مجلس الأمن نتيجة استخدام حقّ النقض، لتقوم بواجبها بدلًا منه في حماية السلم والأمن الدوليّين، بناء على القرار 377، الاتّحاد من أجل السلام، فعلينا ألّا نتوانى عن ذلك.

ثمّ إنه بالإمكان طرح الأمر على المنظّمات الدوليّة الأخرى المعنيّة بشأن المرأة والطفل والاتّصالات...

وإلى جانب هذا يمكن رفع دعاوى أمام محاكم الدول التي تتمتّع بـ "الصلاحيّة العالميّة"، Compétence universelle وهي محاكم معظم الدول الأوروبيّة، خصوصًا من قِبل من يملكون جنسيّة هذه الدول، أو ضدّ الصهاينة الذين يملكون هذه الجنسيّة.

أمّا النتيجة، إن لم تكن الإدانة والتجريم من قبل الجهات الدوليّة، فمن المرجّح أن تأتي من قبل المحاكم ذات الصلاحيّة العالميّة التي يمكن أن تحكم بالسجن والغرامات على الصهاينة والدول والأشخاص المتورطين مباشرة في العمليّة.

 مقالات | الاستهداف الرقمي للّوبي الإسرائيلي في أميركا لحزب الله (حزيران - تموز) 2024

مقالات | الاستهداف الرقمي للّوبي الإسرائيلي في أميركا لحزب الله (حزيران - تموز) 2024

تاريخ النشر "26 آب 2024"

 

للّوبي "الإسرائيلي" في الولايات المتحدة تأثيرٌ ونفوذٌ داخل مؤسّسات صنعِ القرار، لا سيّما في الكونغرس. فهو يدعمُ الأجندةَ والمصالحَ الإسرائيلية في واشنطن، مؤكدًا تجانسها مع تلك الأميركية، كما يحاولُ التأثيرَ على النخبِ السياسيةِ والأكاديمية، معزّزًا حضوره في وسائل الإعلام بما يروّج ويدعم لسردياتٍ ومطالباتٍ تخدمُ كيانَ العدوّ الصهيوني.
وفي إطار فهمِ توجهاتِ اللوبي "الإسرائيلي"، وتعزيزِ القدرةِ على بناء استنتاجاتٍ وترجيحاتٍ حول المواقف والسياساتِ الأميركية مستقبلًا، تقوم مديرية الدراساتِ الإستراتيجية في المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق بعملية ممنهجة ومستمرّة لرصدِ وتحليلِ مواقفِ اللوبي الإسرائيلي، بناء على ما يتم نشره على منصة "إكس".
لهذا الهدف، تم تحديد 206 حسابات على منصة "إكس" تتبع لمؤسسات اللوبي "الإسرائيلي" اليمينية الناشطة في الولايات المتحدة وللباحثين العاملين فيها. وفي الفترة من 4 حزيران إلى 5 آب 2024، تم رصد 1508 تغريدات متعلقة بتطوّرات جبهة المساندة في جنوب لبنان التي أطلقها حزب الله للضغط على العدوان "الإسرائيلي" الهمجي على قطاع غزة المحاصر. بعد فحص التغريدات وتحليلها تم فرزها على مجموعة من العناوين بما يتيح فهم خلفيات نشاط اللوبي الإسرائيلي وأهدافه بوجه حزب الله في المرحلة الحاليّة.



التركيز على مقاطع فيديو تظهر
مسيّرات حزب الله أجزاء من شمال "إسرائيل"
واعتبارها "تباهيًا واستفزازا" سيجر لبنان إلى حرب مدمرة



1. اتهام إيران وحزب الله بجر "إسرائيل" والمنطقة إلى حرب واسعة:

  •     التحذير من أن إيران تسعى لتوريط "إسرائيل" في حرب على جبهتين يشنها "وكلاؤها" في لبنان وغزة.
  •     تكرار السردية التي تحمّل حزب الله مسؤولية تدهور الأمور وتوسيع رقعة المواجهة بشكل "متعمد وخطير".
  •     التركيز على مقاطع الإعلام الحربي في حزب الله التي تظهر تصوير مسيّرات للحزب أجزاء من شمال "إسرائيل" واعتبارها تمثل "تباهيًا واستفزازا" سيجر لبنان إلى حرب مدمرة لا يريدها أحد.
  •     توجيه انتقادات لمن يتجاهلون "حقيقة" أن الاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط تنبع من الحرب التي بدأتها حماس، ومن مشاركة حزب الله الطوعية في الحرب.
  •     تكرار التصويب على إيران وتحميلها مسؤولية تمويلها وتسليحها لحماس وحزب الله و"الحوثيين".
  •     تسليط الضوء على تدحرج الأمور نحو "المواجهة الشاملة بما هو أسوأ" وتوقعات تشير إلى إمكانية نشوب حرب إقليمية حقيقية، باتت أقرب من أي وقت مضى، لم تشهد لها منطقة الشرق الأوسط مثيلًا.
  •     الترويج لمواقف دايفيد شينكر التي عبر فيها أن الحرب على الجبهة الشمالية قد يتم تأجيلها لكن لا مفر من اندلاعها.
  •     الهجمات الصاروخية والمسيّرة من شأنها أن تجعل "الحرب الشاملة في الشمال حتمية".
  •     الاستشهاد بحادثة "مجدل شمس" للقول إن الحرب واسعة النطاق بين حزب الله و "إسرائيل" هي مسألة "متى"، وليس "إذا".


التباهي بنجاح جيش العدو
في اغتيال مسؤولين في الحزب



2. استعراض الإنجازات العسكرية الإسرائيلية وتفنيدها وتضخيمها:

  •     تضخيم الأهداف الإسرائيلية وإعطاء بعضها توصيفات مثل "مجمع عسكري حسّاس".
  •      التباهي بنجاح جيش العدو في اغتيال مسؤولين في الحزب، والترويج لسردية تعبر عن قلق قيادته من أن "جيش العدو يعرف عنهم أكثر بكثير مما يعرفونه عنه"، وإظهار مشاعر الفرح، واعتبار هذه العمليات "انتكاسة كبيرة لحزب الله".
  •     التغنّي بالقدرات الاستخباراتية والعملياتية الإسرائيلية "التي أظهرت تفوقًا لا تمتلكه سوى قلّة من الدول".
  •     الترويج لسردية تعكس "عجز حزب الله" خلال الأشهر التسعة الماضية عن حماية قادته وشخصياته البارزة.


3. تحميل حزب الله مسؤولية الدمار والقتلى المدنيين على الجبهة اللبنانية:

  •     الترويج أن الحزب يخاطر بحياة الأبرياء وتبرير سقوط "قتلى" من المدنيين اللبنانيين وتوقع ارتفاع الخسائر في صفوفهم بسبب مزاعم بربط حزب الله مواقعه ومخزونات أسلحته بالسكان المدنيين.
  •     تبني خبر صحيفة "التلغراف" البريطانية الذي يتهم حزب الله بتحويل مطار بيروت الدولي إلى مستودع للأسلحة واستنكار أي رأي يشكك بالرواية.
  •     تبرير الغارات الإسرائيلية في منطقة عدلون وتحميل حزب الله المسؤولية عن وضع مستودع أسلحة بين السكان المدنيين.


4. التهويل بالحرب والحشد الأميركي لها:

  •     الحديث عن طمأنة أميركيّة بأنه إذا اندلعت حرب شاملة على الحدود الشمالية فإن إدارة بايدن مستعدة تماما لدعم "إسرائيل" بكل ما تحتاجه من سلاح وذخائر.
  •     تداول تقدير ينطوي على تهديد صريح لحزب الله بأنه في حال نشبت الحرب مع "إسرائيل" فإن القتال في غزة سيكون مجرد عرض لما سيلقاه الحزب من ضربات.
  •     افتراض سردية أنه تم القضاء على حماس وأن ما تبقى من فلولها يهرب ويختبئ، وأن حزب الله قد يكون هو التالي ولا مفر له.


المطالبة بإعادة إرسال حاملة الطائرات الأميركية
 مقابل الساحل اللبناني لتكون الرسالة واضحة ورادعة

 

5. التصويب على سياسة بايدن وحث الدعم الأميركي والغربي لـ "إسرائيل":

  •     التصويب على خطة بايدن لوقف الحرب "فعندما يرى قادة إيران وحزب الله سلوكه، سيستخلصون أنه يمكنهم ضرب "إسرائيل" والاختباء وراء جبن بايدن السياسي".
  •     مطالبة القيادة المركزية الأميركية بإعادة إرسال حاملة الطائرات مقابل الساحل اللبناني لتكون الرسالة واضحة ورادعة.
  •     دعوة الاتحاد الأوروبي - وخاصة فرنسا - بإدانة حزب الله ومعاقبته ووضعه على لائحة الإرهاب بجناحيه العسكري والسياسي.
  •     مطالبة الولايات المتحدة أن تجعل الحزب يدرك أنه "بعد ما حدث لحماس، سيكون هو التالي".
  • تحريض إدارة بايدن لإعادة إطلاق استراتيجية تجمع بين الملاحقات القضائية والعقوبات والدبلوماسية بحق قيادات ومؤسسات حزب الله.
  •     مطالبة الولايات المتحدة أن تضمن حصول "إسرائيل" على الموارد التي تحتاجها لحماية عائلاتها وتدمير قدرات حزب الله.


خلاصة
تواصل آلة اللوبي "الإسرائيلي" في واشنطن مساندة الإبادة الجماعية في غزة وتعمل بطاقتها القصوى للضغط باتجاه إيقاف جبهة المساندة من لبنان عبر تشويه موقف حزب الله ودوره وتحميله مسؤولية التصعيد وتبرئة الكيان من استهداف المدنيين وتضخيم نتائج الهجمات الإسرائيلية والضغط على الإدارة الأميركية لزيادة الدعم لكيان العدو. وقد استجد خلال الشهرين الأخيرين تزايد الحديث عن وقوع حرب واسعة في الجبهة الشمالية وذلك للضغط على واشنطن لتقديم مزيد من الدعم العسكري والسياسي لتل أبيب، مع تقديم كيان العدو في موقف دفاعي بوجه إيران وحزب الله. ويسعى اللوبي إلى بث مناخات من الثقة بالقوة الإسرائيلية والإسهاب في الحديث عن "منجزاتها" وذلك للتخفيف من التصورات المنتشرة حول عجز العدو الإسرائيلي عن تحقيق أهداف الحرب وحاجته المستمرة للمساعدة الغربية بحيث يظهر أنه يتحول إلى عبء استراتيجي على حلفائه.

 

 مقالات | التكامل بين لبنان وسوريا والعراق نموذج مثلّثات النمو - آب 2024

مقالات | التكامل بين لبنان وسوريا والعراق نموذج مثلّثات النمو - آب 2024

 نشرت بتاريخ "26 آب 2024"

تستحق التنمية في بلادنا نظرة ثانية بسبب خصوصية أوضاعها وتكرّر أزماتها وفرادة تكوينها. ففي القرن الماضي رُسمت الحدود الوطنية في المنطقة على نحو مغاير للحدود الاقتصاديّة المناسبة للتنمية، وهذا جعل التكامل وتعميق أواصر الصلة بين البلدان حبل النجاة لا غنى عنه لبلوغ حدٍّ أدنى من الازدهار. وأدّت النظم السياسية للدول دورًا محبطًا للتنمية، فهي إمّا قامت على مؤسسات مركزيّة استحواذيّة وريعيّة تحبط حوافز الإنتاج، أو اتصفت بلامركزيّة قريبة من الفوضى. وفي العموم كان التاريخ السياسي والاقتصادي للمنطقة وتعرضها لتدخل خارجي كثيف، سببًا في إخفاق التنمية على المستوى الوطني، ليكون التعاون الإقليمي القائم على التكامل بوابة خروج من ظروف التبعية ذات الاتجاه الواحد، ومن التخلّف العائم على بحرٍ من الموارد البشرية والماديّة الوفيرة.


لكن طريق التكامل محفوف بتحدّيات وعقبات يصعب تجاوزها. ونقصد به التكامل الشامل والرسمي الذي يقوم بين اقتصادين أو أكثر. لقد خاضت الدول العربيّة هذه التجربة منذ الاستقلال ومهّدت لها بخطوات قانونية ومؤسساتيّة، وعقدت من أجلها اتفاقات ومعاهدات، لكن المحصّلة كانت أقرب إلى الإخفاق والفشل. ومرّد ذلك فيما يمكن حصره من أسباب، إلى ضعف التوافق على خوض تجربة المشاريع الكبرى المشتركة في قطاعات حيويّة، وتغليب الخلافات السياسية على المصالح الاقتصاديّة، ووضع خطوات الشراكة على مسار سياسي يعجّ بالخلافات والصراعات، بخلاف النموذج الآسيوي الذي حرّر مشاريع التعاون الاقتصادي من التبعات السياسيّة (كما في تجربة الصين والهند في منظمة شانغهاي ومجموعة البريكس). وفيما مهّدت اتفاقيّة التيسير العربية لقيام منطقة اقتصاديّة عربيّة حرّة، فإنها لم تنعكس إيجابًا على حصّة التجارة البينيّة من إجمالي التجارة مع الخارج، ولا قرائن تُذكر على تحسّن نواتج الدول جراء انضمامها إلى الاتفاقية، كما لم يجر تحريك العجلة باتجاه قيام سوق مشتركة.


وتفتقر بلدان المنطقة إلى شرط أساسي لنجاح التكامل على المستوى الكلّي، وهو بلوغ مرحلة النضج في سلّم التنمية أو الاقتراب منها، وفيما ربطت دول عربيّة عدّة تكاملها في القرن الماضي باستراتيجيات النمو المتوازن الطموحة والتي تنطوي على استثمارات ضخمة لإعطاء دفعة قويّة  Big push للاقتصاد، فإنّ التكامل الجزئي القطاعي والمناطقي أقرب إلى استراتيجيّات النمو غير المتوازن المناسبة لأحوال الدول التي تعاني من مشاكل اقتصاديّة. وتتوافق هذه الاستراتيجية مع ظروف الدول التي لا تمتلك أساسًا سياسيًّا صلبًا لإقامة شراكات شاملة، أو التي تتفاوت مستويات التنمية والدخل فيما بينها.


ومن نافل القول أنّ الدولة الوطنيّة في المنطقة، ولا سيما في المشرق العربي، لم تقدر على القيام وحدها بأعباء التنمية، كما تبيّن ذلك الإخفاقات التي أصابت تجاربها والمشكلات المتراكمة وجسامة التحدّيات التي تواجهها. ولذلك، إنّ من شروط تغلّب بلداننا على الأزمات المستعصية والتقدم في طريق التنمية وانضمامها من ثمّ إلى ركب الدول الصاعدة، يحتاج إلى رؤية للتكامل الإقليمي المشرقي، كي نواجه معًا التحديات الجيوسياسيّة والحصار، ولإيجاد قاعدة متينة للنهوض، ولإتاحة فرصة الاستفادة من المشاريع الدولية الكبرى ولا سيما في آسيا (كمشروع الحزام والطريق) وإيجاد قاعدة متينة لتبادل المنافع الناتجة عن الشراكة. والتكامل هو المشروع البديل للتطبيع الاقتصادي، الخطير في دلالته السياسيّة والثقافيّة والدينيّة، والذي بيّنت الوقائع والمؤشرات على نحو لا لبس فشله في أن يكون رافعة للتنمية والتقدّم1 .


وبما أنّ طريق التكامل الشامل والفوري بين دول المشرق العربي مليء بالموانع والعقبات، ويقتضي تجاوزها وقتًا قد يكون طويلًا، يمكن تبنّي استراتيجيّة التكامل الجزئي التي من أبرز تطبيقاتها نموذج مثلثات النمو Growth triangles الذي حقّق نتائج طيّبة في أكثر من منطقة من العالم وكان جزءًا من قصّة النجاح في جنوب شرق آسيا. وينطلق هذا النموذج من مبادئ نجدها في نُهج متعدّدة للتنمية. فإلى جانب استراتيجيّة التنمية غير المتوازنة التي لا تشمل كل القطاعات ولا كل المناطق كما ذُكر، تبرز فكرة العالم الفرنسي فرانسو بيرو  F. Perreux عن أقطاب النمو التي تساعد على نشر ثمار التنمية من المركز إلى الأطراف، فالنمو بطبيعته ليس متساويًا ولا متوازنًا، بل ينبثق حسب بيرو من بؤر تتصف بالكثافة السكانيّة والإمكانات المادية والبشرية وبنى تحتيّة متطورة، ولديها قدرة على جذب الصناعات والأعمال الجديدة وتحفيز النشاط الاقتصادي في الأماكن المحيطة به. ومن شأن وجود مثلثات النمو أن ينقل المفاعيل الاقتصاديّة لأقطاب النمو إلى خارج الحدود، كما يسمح وجودها بتعظيم أثر سياسات التنمية في البلدان المجاورة.


خصائص المثلثات

ومثلثات النمو بالتعريف هي مناطق اقتصادية فرعيّة ما دون وطنية، تشمل أنحاء مدينية وريفية في ثلاث بلدان متجاورة أو أكثر، وتتّصف بتنوع الموارد والخيرات. أُطلق المصطلح لأول مرّة من قبل رئيس الوزراء في سنغافورة عام 1989 في سياق وصف التعاون الاقتصادي الذي كان قائمًا بين أقاليم جغرافيّة محدّدة في بلده وأندونيسيا وهونغ كونغ والصين. لكن هذا النوع من المثلّثات كان موجودًا من قبل وانتشر على نطاق واسع في آسيا2 وساهم في تسريع عجلة النمو والتجارة وعزّز القدرة على استثمار الموارد المحليّة. وتنبثق مثلّثات النمو من تفاعل قوّتين: التعاون الاقتصادي الٌإقليمي ووجود تدفّق كبير في الاستثمارات المباشرة. ومن إيجابيّاتها؛ زيادة حجم السوق وتعظيم القيمة المضافة من خلال التكامل في الإنتاج وربط سلاسل القيم بعضها ببعض والاستفادة من وفورات الحجم الكبير في المنافسة وخفض التكاليف. ولا تخلو المثلثات من سلبيّات مثل التفاوت في الأجور وزيادة فجوات التنمية في البلد نفسه وتصعيد التنافس على تدفق الاستثمار المباشر بين البلدان وداخل البلد الواحد.


وينشأ التكامل الذي تستند إليها المثلّثات من الاختلاف في مراحل التنمية الاقتصاديّة بين الأطراف المنضوية فيها، واختلاف المتوفر من عوامل الإنتاج بين الأقاليم التي يتشكّل منها المثلث. وبذلك يكون التباين لا التشابه المفتاح الأساسي لنجاح التجربة. فمثلًا كان السبب وراء قيام مثلث نمو يشمل مناطق في سنغافورة وأندونيسيا وماليزيا وجود صناعات كثيفة العمالة في الأولى وقوة عمل فائضة وشابّة في الثانية وامتلاك ماليزيا موارد مائيّة وافرة.


ويفترض أن تكون الأقاليم في المثلثات متجاورة لتحقيق الإنسيابيّة في حركة عوامل الإنتاج وإحراز وحدة السوق، مع وجود التزام سياسي قوّي للتغلّب على العقبات وإنفاذ الإجراءات والسياسات والقوانين ذات الصلة والتي قد تواجه معارضة داخليّة، كتلك المتعلّقة بالتعرفات وتنظيم سوق العمل والتمويل والاستثمار وسوق الصرف.


ويأخذ الاستثمار في البنى التحتيّة حيّزًا واسعًا في تجربة المثلثات، إذ ينطلق التعاون ما دون الإقليمي عادة من الرغبة في تحسين كفاءة المشاريع وتحفيز الاستخدام المشترك للموارد الطبيعية، وبالخصوص في مجال شبكات النقل والاتصالات والموارد المائيّة (يطلق على ذلك في بعض التجارب Five opens and one leveling والذي يعني: جعل إمدادات المياه والطاقة والطرقات والاتصالات، مفتوحة الاستخدام لقطاع الأعمال وغيره، وإتاحة استثمار الأراضي للبناء). وإلى جانب القرب الجغرافي والمصلحة المشتركة في التنميّة، يُنظر إلى الروابط الثقافية والأثنية على أنها عاملٌ رئيسي مساعد في توطيد فرص التعاون العابرة للحدود.


وبناء عليه، تتوزع العوامل المؤثرة في إنشاء المثلثات بين مجموعتين: عوامل مردّها الاختلاف والتباين وتشمل المزايا التفاضليّة والموارد المتاحة والأسعار ودرجة التقدّم، وأخرى تنبثق من التشابه والقرب وتضمّ الاتصال الجغرافي والثقافة والهوية والالتزام السياسي.


 

خيارات التكامل
يرتبط نجاح التكامل الاقتصادي الكلّي بين بلدين أو أكثر بالتنمية الاقتصادية في الإقليم، فكلما ارتفع مستواها زادت إمكانية أن يحقّق التكامل أهدافه وعظمت مفاعيله. وتعبّر "منهجيّة تقويم التكامل الإقليميRIE3 "  التي أعدّها ونشرها بنك التنمية الآسيوي عام 2010، عن ذلك من خلال مؤشرات كميّة رئيسيّة وفرعيّة.


وتتضمن المنهجية أربعة مراحل: الأولى: إعداد قاعدة بيانات واسعة ومتعددة الأغراض عن الإقليم محلّ البحث. الثانية: قياس مؤشرات التنمية الإقليمية الشاملة الأربعة: التنمية السياسيّة X1 والاجتماعية X2 والاقتصاديّة X3 والتكنولوجيّة X4 والتي يتكون كل منها من مجموعة من المتغيرات الفرعيّة. الثالثة: قياس المؤشر الشامل للتنمية الإقليمية RGD والذي يساوي حاصل جمع القيم الناتجة عن ضرب المتغيرات الزوجية المتتالية الموضوعة على محورين أفقي وعامودي (X1,X2) و (X2,X3) و (X3,X4) و (X4,X1). والرابعة: قياس مؤشر التكامل الإقليمي RIS الذي يساوي المتوسط الحسابي لمؤشرات التنمية الأربعة.


لو طبقنا هذه المنهجية على النطاق المشرقي الذي يضمّ لبنان وسوريا والعراق، فسنحصل على مؤشر منخفض للتكامل الإقليمي  RISربطًا بضعف ركائز التنمية فيها. وهذا مماثل لوضع دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) الذي يساوي مؤشر التكامل فيها نصف مثيله تقريبًا في منطقة الإتحاد الأوروبي، علمًا أنّه شهد ارتفاعًا من 30 في الثمانينيات إلى 41 في العقد الأول من الألفيّة، بسبب تحسّن أوضاع التنمية في دول المنطقة، فيما تراجع مؤشر الإتحاد الأوروبي من 83 إلى 78 في المدتين بعد انضمام دول ذات مستوى تنمية أقل مثل قبرص ودول شرق أوروبا والبلطيق.


وبخلاف التكامل الكلّي بين الدول الذي من شروطه المسبقة التقدّم الاقتصادي وتقارب مستوى التنمية، فإن مبرّرات قيام مثلّثات النمو يكمن في وجود فروق في التنمية والدخل والموارد ومجالات الاهتمام بين المناطق المنضوية فيها. وبذلك تكون فرص النجاح المرجو من التكامل الجزئي في النطاق المشرقي المذكور أقرب منالًا من التكامل الشامل.


ويُستند في التحليل المناطقي لإمكانيّة قيام مثلّثات النمو إلى عناصر عدّة نختار منها الآتي: وجود أقطاب مركزية لديها القدرة على نقل آثار النمو إلى أقطاب ثانويّة والمناطق المجاورة لها، وشبكات بنى تحتيّة فعّالة، وتاريخ من العلاقات التجارية والاقتصاديّة بين السكان، بما يسهّل التكيف مع التحولات الناجمة عن ربط المناطق بعضها ببعض.


ومن الناحية النظريّة يقع النطاق التكاملي للبنان في خمس دوائر: دائرة دول المشرق العربي (العراق وسوريا والأردن) ويضاف إليها في الثانية مصر ودول الخليج وفي الثالثة إيران وتركيا، وفي الرابعة الامتدادان المتوسطي والآسيوي وفي الخامسة باقي العالم. لكن فضاء التكامل الفعلي للبنان يرتكز عمليًّا إلى الدول التي ما زالت تلتزم سياسة المقاطعة مع العدو، والتي ترفض الانجرار إلى مخطّط التطبيع الهادف إلى ربط مصالح دول في المنطقة بـ "إسرائيل". وبذلك تكون سورية والعراق العمق الجيو- اقتصادي للبنان الذي يمثّل بدوره أحد المنافذ المتوسطيّة الهامّة للداخل العربي وللمشاريع الآسيوية الطموحة.


مقارنة المزايا في النطاق اللبناني-السوري-العراقي
منهجيًّا، يُفترض أن لا ينحصر تحليل أوضاع المثلّثات بالأقاليم المرشّحة أن تكون جزءًا منها، بل يتعداها ليشمل المزايا التفاضليّة للاقتصاد ككل التي تتفرع منها المزايا المناطقيّة في كلّ بلد. ويكتسي هذا الأمر أهميّة خاصة في لبنان في ظل ما تواجهه مشاريع التعاون والشراكة مع الدول العربيّة من تحديات وعقبات وعقوبات.


ولعل مقاربة الاكتشاف الذاتي  Self-discoveryللمزايا، هي الطريقة الأفضل في تحرّي الإمكانات التي تنطوي عليها مثلثات النمو، بحيث يُخطّط للتنمية انطلاقًا من التجارب الناجحة التي يحقّقها المبادرون وروّاد الأعمال والتكنولوجيا الجديدة. وهذه المقاربة هي البديل عن النهج التقليدي الذي يستكشف المزايا بناءً على تقديرات الباحثين والمخطّطين الذين يضعون تصوراتهم عنها باستخدام أدوات وتقنيّات معقّدة، انطلاقًا من فرضيّات يضعونها بأنفسهم.


وفي هذا السياق، تلتقي الدراسات التي حلّلت نقاط قوّة الاقتصاد اللبناني على امتلاكه مزايا تنافسيّة في قطاعات التعاقد الخارجي في مجال المعرفة والتصنيع الزراعي والسياحة الداخليّة المتنوعة والصناعات الكيماوية. ويُظهر لبنان ريادةً في خدمات التعليم والصحة ومهارات التسويق، ويمكنه كذلك أن يكون مركزًا للسياحة الاستشفائيّة والإبداع إقليمي وموطنًا للصناعات الغذائيّة وإنتاج مواد البناء والمنتجات الاستهلاكيّة ذات التصاميم المبتكرة. وبطبيعة الحال لا يمكن التحقّق مما إذا كانت هذه المزايا مازالت قائمة في ضوء ما أبرزته الأزمة من حقائق، لكن استخدام أسلوب الاكتشاف الذاتي أبرز قوة تنافسيّة في مجال البرمجيّات وصناعة الإعلان والأعمال الهندسيّة والصناعات الغذائيّة. وتشير المعاينات الأوليّة إلى زيادة قيم الاستثمار في الإنتاج الحيواني وصناعة الأدوية وبعض مواد البناء، كما أسهم الاستثمار الكثيف في أنظمة الطاقة الشمسيّة إلى خلق ميزة إضافية يمكن أن تتطور مع مرور الوقت.


في المقابل تتمتع سورية بمزايا تنافسيّة (قبل الحرب) في قطاعات الزراعة (حوالي 20 بالمئة من الناتج) والنفط، والصناعة التي لامس ناتجها الناتج المحلّي (23.2% عام 2011). يتسم الاستثمار الصناعي في سورية بحضور قوي للقطاع العام الذي كان يدير حوالي 40 بالمئة من المؤسسات الصناعية والباقي تولّاها القطاع الخاص. وتستخدم في الصناعة السوريّة التقنيات التقليدية في العديد من المجالات (كالمنسوجات والصناعات الغذائيّة والإسمنت) مع حضور متنامٍ للتقنيّات المتوسطة والعالية في مجالات أخرى كصناعة الأدوية والأجهزة الكهربائيّة والإلكترونية وتجميع السيارات التي انطلقت قبيل الحرب لخدمة السوق المحلّي. ويستفيد الاقتصاد السوري من الانخفاض النسبي للأجور ومن خصائص الموقع الجغرافي وتوفر بعض الموارد الطبيعيّة، لكنه لم يكن قد استنهض بعد مزاياه التنافسية الكامنة المتصلة بالابتكار والتجديد. ولذلك كانت سورية أقلّ قدرة من جوارها على جذب الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة برصيد قارب 10.3 مليار د.أ عام 2011، في مقابل 40.6 مليار د.أ للبنان و31.4 مليار د.أ لتونس و23.4 مليار د.أ للأردن. ومع ذلك كانت حصة الصناعة من مجموع هذه الاستثمارات أكبر في سورية منها في لبنان.


ويمكن القول بأنّ سورية تتمتع بميزة في المجالات ذات التكنولوجيا المتوسطة، وفي القطاعات كثيفة العمالة، فرغم تحسّن مستوى التعليم في صفوف القوى العاملة ما زال حملة الإجازات الجامعيّة فيها أقل من ثلث ما كان عليه الحال في لبنان قبل الأزمة (6 بالمئة في سورية مقابل حوالي 20.1 بالمئة في لبنان). ويقف القطاع العام السوري وراء تقدّم بعض الصناعات الحيويّة كالأدوية والكيماويات فضلًا عن قطاع الاستخراج الذي تبددت عوائده بعد الحرب.


أمّا لبنان فيحظى بفرص واعدة في المبادرات الإبداعية التي تحتضنها المؤسسات الناشئة، وبأفضليّة ملحوظة في الأنشطة القائمة على المعرفة وقوة العمل الماهرة رغم أزمته الماليّة وقصور سياساته. ويبرز ذلك في تقدم لبنان على سورية (قبل الحرب) في مؤشر الابتكار (المرتبة 61 عالميًّا للبنان و132 لسورية) وفي التنمية البشرية (المرتبة 93 مقابل 119؛ وبقيمة المؤشر: 0.73 مقابل 0.63). ويتقدّم لبنان بأشواط عدّة على سورية في مؤشرات الجاهزيّة التقنيّة: جودة التعليم (المرتبة 12 للبنان و96 لسورية) وجودة تعليم الرياضيات والعلوم (المرتبة 6 مقابل 62)، جودة المدارس وكليات الإدارة (المرتبة 18 مقابل 108)، البحث والتدريب (المرتبة 54 مقابل 110). وفي المقابل يتجلّى ضعف القطاع العام في لبنان في تدني مؤشرات جودة البنى التحتية؛ في مجال الطرقات (الرتبة 115 للبنان و68 لسورية) والطاقة (141 مقابل 92) لكنه يتقدم في القطاعات شبه المخصخصة كالموانئ (المرتبة 62 للبنان مقابل 112 لسورية) والنقل الجوي (43 مقابل 125) وتتقدم سورية على لبنان بثلاث مراتب في مجال الأداء اللوجستي.


وتتركّز مقوّمات المنافسة في العراق في قطاع النفط مع وجود إمكانات كامنة في مجالات التمويل والطاقة وإلى حدّ ما في الزراعات الواسعة والصناعات القاعديّة الثقيلة. وتبدو المزايا النسبيّة للعراق (المرتبطة بالموقع والموارد الطبيعيّة) متطابقة إلى حدّ كبير مع ميزاته التنافسيّة (المحدّدة على أساس حركة الإنتاج والمدخلات البشرية والمعرفيّة) نظرًا إلى الحصة الوافرة للنفط من ناتجه المحلّي القائم (42.9 بالمئة عام 2020). فيما لا تمثل الصناعات التحويليّة أكثر من 1.3 بالمئة منه والزراعة حوالي 4.7 بالمئة، والنقل والاتصالات 8.4 بالمئة، ما يؤكد اعتماد اقتصاده على المواد الأوّليّة والموارد المحليّة غير القابلة للتبادل الدولي.


وبناء عليه، هناك قاعدة قويّة للتكامل بين دول المشرق العربي الثلاث، تستند إلى عوامل التقارب المتمثلة في الإرادة السياسية والجوار الجغرافي والروابط التاريخية، وعوامل التباين التي يعبّر عنها تنوع المزايا النسبية والتنافسيّة واختلاف درجات التنمية بدلالة متوسط الدخل الفردي ( الذي كان يساوي في لبنان ضعف مثيليه في سورية والعراق عشيّة الحرب السوريّة)، وما يزيد خيار التكامل أهميّة وجدوى مساهمته، الأكيدة في  تخفيف أثر العقوبات وتعطيل بعض مفاعيل قانون قيصر الذي يمنع إعادة إعمار سورية وينعكس سلبًا على الأداء الاقتصادي للدول المحيطة بها.
ومن العناصر الأخرى المؤيدة للتكامل، تنوع الموقع، فالعراق يطلّ على الخليج وله حدود طويلة مع إيران تجعله الممرّ الأسهل إليها، وتمتلك سواحل لبنان مزايا مكانيّة عدّة بالنسبة إلى وسط سورية وجنوبها والأردن ووسط العراق وجنوبه، ولدى موانئ الشمال السوري خصائص مماثلة تجاه الشمالين السوري والعراقي. ويمهّد التنوع الجغرافي لقيام اعتماد متكافئ متبادل بين الدول الثلاث في خطّ الذهاب والإياب بين شواطئ المتوسط من ناحية والخليج وآسيا من ناحية ثانية، والذي هو محلّ عناية دول التطبيع من خلال الحديث عن ربط ميناء جبل علي بمرفأ حيفا، في مقابل طريق التنمية الذي يصل ميناء الفاو بالساحل الشرقي للمتوسط في سورية ولبنان.


وبالتقاطع مع ذلك يتنافس مشروعان آسيويان على الاستفادة من الموقع الحيوي للخليج والمشرق العربي: الأول يتمثل في مبادرة الحزام (البري) والطريق (البحري) التي أطلقتها الصين عام وتطمح من خلالها إلى ربط بلدان العالم بعضها ببعض عبر استثمارات ضخمة في البنى التحتيّة (تقدّر بـ 26 تريليون د.أ حتى عام 2030) التي ينتظر اكتمال مخطّطاتها عام 2049. وتمرّ نصف خطوط هذه المبادرة في منطقة الخليج والمشرق العربي وجوارهما، الأمر الذي يحثّ بكين على تكثيف صلاتها بالمنطقة وتعزيز شراكتها بدولها وزيادة استثماراتها في خطوط النقل البحري ولا سيما في موانئ الخليج.
وتواجه الولايات المتحدة الأميركيّة التمدّد الصيني في المنطقة بمشروع ثانٍ يهدف إلى ربط الهند بالشرق الأوسط وبلاد الشام عبر الموانئ الخليجيّة وشبكة من السكك الحديدية تعبر بلدان المنطقة وتصل إلى شواطئ المتوسط. وقد ناقشت واشنطن الأمر مع السعودية والهند والإمارات في اجتماع عقد في أيار 2023. لكنّ فكرة المشروع تعود لـ "إسرائيل" التي طرحتها في منتدى A2 U2 (تأسّس عام 2021 ويضم دولة العدو وأميركا والإمارات والهند) وتطمح من ورائها إلى تعزيز موقع الكيان على خارطة التجارة الدوليّة. وكانت الإمارات وقّعت في شباط من عام 2022 اتفاقيّة شراكة استراتيجيّة مع الهند تهدف إلى مضاعفة حركة التبادل مع الهند، وتشمل مشاريع طموحة من بينها إنشاء قطار فائق السرعة تحت البحر يربط إمارة الفجيرة بمومباي.


استطلاع الطريق نحو مثلثات النمو في المشرق العربي:
يضمّ لبنان على ما ورد في الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي أربع مجموعات سكانيّة4: المنطقة المدينيّة المركزيّة في بيروت وجبل لبنان، وعاصمة الشمال، والتجمعات السكانيّة الكبرى في البقاع (محور زحلة – شتورا - بعلبك) والجنوب (صيدا وصور والنبطيّة). وفي إطار ذلك تقترح الخطة هيكليّة مدينيّة على امتداد الأراضي اللبنانيّة، تضمّ بيروت الكبرى والمدن/المعابر (جبيل وصيدا) وعاصمة الشمال وضواحيها، وأقطاب التوازن في الداخل (زحلة وشتورة والنبطيّة)، والمدن التراثية العظمى (صور وبعلبك). وتمثّل هذه الأقطاب انطلاقًا من مزاياها الاقتصاديّة بؤرة تحريك للتنمية التي تمتد من المراكز الرئيسيّة إلى عشرات الأقطاب الثانوية وما يحيط بها أرياف (الهرمل، اللبوة، دير الأحمر رياق، جب جنين....، حاصبيا، مرجعيون، الخيام، جزين، جويا، قانا، بنت جبيل، تبنين، ... البترون، تنورين التحتا، اهدن، زغرتا، القبيات، شدرا، ...).


وفي كثير من الأحيان تتجاوز الوظائف الاقتصاديّة الممنوحة لأقطاب النمو الحدود اللبنانيّة. فتأهيل ميناء طرابلس المقترح في الخطّة هو خيار استراتيجي غرضه اكتساب الأولويّة في تأمين حركة نقل البضائع والترانزيت من سورية والعراق وإليهما عبر خط سكة حديد. الأمر نفسه بالنسبة إلى قطب التوازن (زحلة-شتورا)، الذي يمكنه احتضان منطقة صناعيّة حديثة تُربط بشكل فعّال بشبكة طرق وخط قطارات متجه نحو دمشق، ومن شأن ذلك أن يوفّر عامل جذب للاستثمارات التي يستفيد منها البلدان وتتحاشى بطريقة ما العقوبات.


وفي السياق نفسه يُفترض أن تكتسب النبطية وظائف جديدة ترفعها إلى مرتبة قطب مركزي، فتشكّل امتدادًا خدماتيًا ولوجستيًّا للمنطقة الصناعيّة على محور الغازية الزهراني، وتستفيد من موقعها المتميّز على خط الترانزيت المحتمل بين الساحل المتوسطي والداخل العربي السوري والأردني العراقي فيما لو جرى استحداث مرفأ جديد متخصص جنوب صيدا (الزهراني). وتتاخم هذه المنطقة الإقليم الجنوبي السوري الذي تطمح بعض الدراسات5 إلى جعله منطقة تنمية (تضمّ السويداء، درعا، القنيطرة)، تشغل حوالي 6 بالمئة من مساحة سورية وتضمّ (قبل الحرب) حوالي 15 من سكانها. هذه الخصائص تمهّد لقيام مثلث نمو يخترق الحدود اللبنانيّة السوريّة، والسوريّة- العراقيّة- الأردنيّة، ليكون (بعد تخطي الأزمات الراهنة) قطبًا اقتصاديًا (بامتدادات إقليمية وعالميّة)، يحظى بإمكانات زراعيّة وصناعيّة وحرفيّة كبيرة، وبموقع جغرافي يضعه على تماس مع أربع دول، ويمكنه في وقت ما أن يحتضن قاعدة خدماتية ولوجستيّة داعمة لعمليات إعادة إعمار سورية.


وفي العموم، ينبغي دمج المقدرات المتاحة في المثلثات المشرقيّة: الإمكانات السوريّة في الصناعات الاستهلاكيّة والكيميائيّة والقدرات التي أبرزها لبنان في مجال التكنولوجيا والمعلوماتيّة، وخبرة كلا البلدين في الصناعات الغذائيّة. يمكن الارتكاز أيضًا إلى تباين جودة البنى التحتيّة بين البلدين، فيستفيد لبنان من الأفضليّة السوريّة في قطاعات الطاقة والمياه والطرقات، وسورية من أرجحيّة لبنان في مجالي النقل الجوّي والبحري. ويفترض أن يُلحظ في أي توزيع محتمل للمهام الأسبقيّة التي يتمتع بها القطاع الخاص في لبنان والقطاع العام في سورية، ويفترض تصميم مشاريع مشتركة يكون الغرض منها توطين الكفاءات اللبنانيّة وامتصاص فوائض سوق العمل في البلدين، وإيجاد موئل للخبرات الصناعية السورية المهاجرة.


يجب التفكير أيضًا بتوطيد الصلة بين المناطق السياحيّة في البلدان الثلاث، التي بوسعها أن تستوعب حزمًا موحّدة من الخدمات بتكاليف مخفّضة، وتلبية كل أنواع الطلب السياحي (سياحة دينيّة، بيئيّة، ثقافيّة، عائليّة، ترفيهيّة ...) والاستفادة إلى أقصى حدّ من اختلاف بنية الأسعار وتكاليف الإنتاج في البلدان الثلاث.


ثلاثة محاور:
في التحليل أعلاه، تبنينا المقاربة التي ترى أنّ خيار التكامل ما بين المناطق الفرعية في لبنان وسوريا والعراق، أكثر واقعيّة وجدوى من التكامل على المستوى الكلّي. وتعزّز فروق التنمية والموارد وتنوّع المقدرات الاقتصادية فرص قيام مثلثات النمو، فيما تؤدي دورًا معاكسًا في التكامل الإقليمي الشامل الذي يظلّ خيارًا مطلوبًا في المدى البعيد لكنه محفوف بصعوبات وعقبات كثيرة في الأفق المنظور.
ويحتاج تحديد المثلثات في المجال المشرقي إلى دراسات مستفيضة وتحليلٍ مفصّل للموارد والإمكانات في جميع أقاليم هذه البلدان ومحافظاتها، كما يفترض انتظار جلاء غبار الأزمات والتوترات والسياسات الخارجيّة الراهنة التي تحول دون تطوير السياسات العامة والاستراتيجيّات المشتركة في المنطقة. ومع ذلك يمكن أن ننطلق من الاستطلاع الأولي أعلاه لتحديد المحاور الجغرافيّة الأساسية التي يفترض أن تتموضع في أماكن منها مثلّثات النمو.


وقد راعينا في اختيار المحاور الثلاثة أدناه توفّر خمسة خصائص: وجود منفذ بحري واحد على الأقل، وإمكانية إقامة نظام نقل بري سريع ومتطور عماده السكك الحديديّة، والقرب من التجمّعات السكانية الكبرى بوصفها في آن معًا خزانًا لقوة العمل وسوقًا لتصريف البضائع، ووفرة الموارد الطبيعيّة ومصادر الطاقة، وامتلاك ركائز إنتاجية يمكن البناء عليها في جذب الاستثمارات. والمحاور هي الآتية:
 - محور الزهراني/ النبطيّة/ الجنوب السوري امتدادًا إلى العمق العربي. والذي يحظى بموقع متميز ومنفذ على المتوسط (مرفأ الزهراني) يصلح لعبور البضائع إلى الداخل وتأمين مستلزمات إعادة الإعمار في سورية بأكلاف مخفّضة. يمكن هذا المحور أيضًا أن يستقبل مناطق خدماتية متقدّمة قادرة على استيعاب التكنولوجيا الحديثة وأيدي عاملة متنوعة الخبرة، وبوسعه كذلك أن يحتضن مناطق صناعيّة مشتركة في لبنان وسورية، وستحظى هذه المناطق بفرصة الحصول على إمدادات طاقة بأسعار منافسة من العراق. من الممكن أيضًا إقامة مصافي تكرير النفط ومحطّات تسييل الغاز في أماكن مختارة من الساحل الجنوبي للبنان، وسيكون لوفورات الحجم الكبير انعكاسات ملموسة على تنافسيّة النشاط الاقتصادي في هذا المحور الذي سيشهد تطورًا هامًّا في حال العثور على البترول في الرقعة رقم 9 على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة.


- محور خط العواصم الذي يضمّ بيروت ودمشق وبغداد مرورًا ببعلبك-زحلة وامتدادًا إلى وسط العراق وجنوبه. يتمتع هذا المحور بموارد وإمكانيات كبيرة في مجال نقل البضائع والأشخاص، والتي يؤدي تعزيزها بين البلدان الثلاث إلى خفض تكاليف النقل وتمهيد الطريق أمام قيام نطاق سياحي وتجاري متكامل، وفي هذا السبيل يفترض توزيع الأنشطة المرفئيّة وحركة العبور والسياحة والخدمات الماليّة، بين المناطق في هذا المحور بما يتناسب مع خصائصها ومميزاتها.
إن قيام مثلث نمو أو أكثر على هذا المحور سيمنح البلدان الثلاثة دورًا مفصليًّا في المشاريع الاقتصاديّة الآسيويّة، ويمكن الاستناد إلى التكامل بين العواصم في تعظيم فعاليّة الاستثمار في الموارد العراقيّة، والتخلّص من آثار الحرب السوريّة، وإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني بعد الأزمة الماليّة، وبالخصوص معالجة أوضاع القطاع المصرفي من خلال إعطائه طابعًا استثماريًّا ما فوق وطني وإدخال مساهمين إقليميين فيه.


- محور طرابلس والهرمل الذي يضمّ أيضًا أجزاءً من الشمالين السوري والعراقي وصولًا إلى الخليج. تحتوي هذه المنطقة على مقدرات صناعية وزراعية وخدماتية تسهّل وصل لبنان وسوريا بطريق التنمية. يحتوي المحور منفذًا بحرّيًا هو ميناء طرابلس الذي يمكن تطويره ليغدو قادرًا على خدمة بعض مناطق الشمال السوري والعراقي ووسطهما وصولًا إلى منطقة الخليج عبر مرفأ الفاو المستحدث. يمكن أيضًا تقاسم مهام النقل البحري ضمن شبكة تضم مرفأ طرابلس ومينائي اللاذقية وطرطوس.


ويمتلك المحور قدرة على استيعاب الاستثمارات الصناعيّة المهاجرة من حلب، المدينة التي كانت تحتضن قبل الحرب مناطق صناعية هائلة ضمّت حوالي 12 ألف مؤسسة صناعية تعمل في مجالات الصلب والحديد والأجهزة الكهربائية والأدوية والإلكترونيات والبرمجيات والصناعات الاستهلاكية. ويمكن إعادة إطلاق بعض هذه الصناعات في مناطق أخرى في البقاع والشمال اللبنانييّن ولو بصورة مؤقتة بانتظار إعادة إعمار المدينة. ويقع في نطاق المحور نفسه سهل الغاب الذي تقارب مساحته الألف كيلومتر من الأراضي الزراعية الخصبة، والتي يمكن أن تتكامل زراعيًّا وفي مجال الإنتاج الحيواني مع سهل البقاع ومنطقة الهرمل.


 


في الخلاصة، يظهر التحليل الأولي المزايا التي يمكن اكتسابها من مثلّثات النمو بوصفها رافعة للتنمية الوطنيّة والإقليميّة. تحتوي المحاور الثلاث آنفًا على إمكانات واعدة للتكامل، ومن شأن ربط سلاسل الإنتاج بعضها ببعض أن يوفر عوائد إضافية مقارنة بالوضع الراهن. وبطبيعة الحال نحتاج إلى تحليل فني وتقني معمّق ومفصّل من أجل تحديد النطاقات الاقتصادية والجغرافيّة لمثلّثات النمو العابرة لحدود البلدان الثلاث، ويجب الاستناد في ذلك إلى رؤية عامّة للتعاون على المستوى الاقتصادي الكلّي وللمشاريع الكبرى المشتركة ونظرة مستقبليّة استباقيّة إلى موقع دول المشرق من التحولات الاقتصاديّة في العالم. والطموح هو أن تكون المنطقة نقطة جذب للاستثمارات الآسيوية في مجال البنى التحتيّة، وهذا يقتضي توسيع نطاق التعاون فيما بين بلدانها وتعميق التشابك بين قطاعاتها ولا سيما في المجالات التي باتت تكتسب في عالم التنافس العالمي المحموم قيمة جيو- اقتصاديّة عالية.

 

*******************************************************************************************************************************************************
   

1 نورد في الآتي نماذج لمشاريع إقليمية تطبيعيّة من شأن تنفيذها أو إتمامها إلحاق ضرر أكيد وجسيم بالأدوار الاقتصاديّة والتنافسيّة لمصر ولبنان وسورية:


- قناة البحر الميت التي وُقّع اتفاق بشأنها في كانون الأول 2013 بين الأردن وفلسطين ودولة الاحتلال برعاية البنك الدولي، ويقضي المشروع بربط البحر الأحمر بالبحر الميت عبر أربعة خطوط أنابيب لنقل بطول 180 كلم لنقل 100 مليون م3 سنويًّا من المياه. ومن الممكن تطويره في المستقبل ليكون قناة يجري استكمالها لتصل إلى البحر الأبيض المتوسط وتنافس بذلك قناة السويس.
- خط سكك الحديد تل أبيب- إيلات لربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر بمسافة 350 كلم، والذي بوسعه نقل البضائع خلال مدة لا تزيد عن ساعتين، وقد أعلن العدو عن هذا المشروع عام 2013 بكلفة 70 مليون د.أ ويزداد جدوى هذا المشروع إذا انخرط فيه الأردن.
- طرح وزير خارجية العدو في تموز 2019 خلال زيارته لأبو ظبي مبادرةً للربط بين السعودية ودول الخليج مرورا بالأردن بشبكة السكك الحديدية "الإسرائيلية" وميناء حيفا في البحر الأبيض المتوسط. تتمخض المبادرة بزعمه عن طرق تجارة إقليمية، أقصر وأرخص وأكثر أمانا (...). وهذا المقترح يؤثر سلبًا على قناة السويس والموانئ العربيّة على الشاطئ الشرقي للمتوسط ولا سيما منها مرفأ بيروت.
- في 16 أيلول 2020، وقعت شركة موانئ دبي العالمية، سلسلة مذكرات تفاهم مع شركة "دوفرتاور" الصهيونيّة، تشمل التقدم بعرض مشترك لخصخصة ميناء حيفا المطل على البحر المتوسط، وهو واحد من ميناءين رئيسيين في الأراضي المحتلة. وتغطي مذكرات التفاهم مجالات تعاون، تشمل قيام "موانئ دبي العالمية" بتقييم تطوير الموانئ الإسرائيلية، وكذلك تطوير مناطق حرة، وإمكانية إنشاء خط ملاحي مباشر بين ميناءي إيلات وجبل علي، وهو ما بدأ فعلًا بعد ثلاثة أشهر من تاريخه. وهذه التفاهمات تساهم أيضًا في تهميش دور مرفأ بيروت الذي شكّل تاريخيًا صلة الوصل الأفضل بين المتوسط والداخل العربي.
 2  من المثلثات الآسيوية: مثلث يشمل مقاطعات في الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وآخر يضمّ مقاطعات ماليزيا الشماليّة وشمال سومطرة وجنوب تايلند ومثلث نمو آسيان الشرقية الذي يشمل مينداو في الفليبيبن وسيلاوزي في أندونيسيا وشان كان في ماليزيا. وهناك مثلث يضم مناطق في أندونيسيا وسنغافورة، وآخر بين أندونيسيا وماليزيا وتايلند. للمزيد انظر:
Ming Tang and Mayo Thant; Growth Triangles: Conceptual Issues and Operational Problems; Staff Paper No54; Feb 1994; Philippines: Asia Development Bank.
3 Donghyun Park and Mario Arturo Ruiz Estrada; A Multi-dimensional Framework for Analyzing Regional Integration Evaluation (RIE) Methodology; Asian Development Bank ADB; ADB Working Paper Series on Regional Economic Integration; No 49.

4  رئاسة الحكومة اللبنانيّة؛ الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية - التقرير النهائي؛ بيروت: مجلس الإنماء والإعمار؛ تشرين الثاني 2005.
5   رهام فاخوري ورولا ميّا؛ استراتيجيّة مثلثات النمو؛ الرياض: مجلة العمارة والتخطيط؛ م (26)؛ 2014-1435؛ ص: 25-59.
 

 مقالات| قضايا جوهرية في المعالجة والإنقاذ / د. عبد الحليم فضل الله - آب 2024

مقالات| قضايا جوهرية في المعالجة والإنقاذ / د. عبد الحليم فضل الله - آب 2024


تظهر البيانات التقديرية، ما قبل الحرب العدوانيّة على غزّة، اتجاهًا إيجابيًّا في مؤشرات الاقتصاد الكلّي. وهذا لافت في توقيته، فالعجلة السياسية متباطئة أو متوقفة، والحلول منعدمة، وإلى الآن لم نتقدم خطوة إلى الأمام في معالجة الأزمة المالية والمصرفيّة، وتُرك الأمر إلى إجراءات آنية تصدر بقرارات أو تعاميم. ولا يقف الأمر عند حدّ التلكؤ في إقرار القوانين والبرامج الإنقاذيّة وعلى رأسها معالجة أوضاع المصارف والتوازن المالي ووضع ضوابط استثنائيّة ومؤقتة على رأس المال، بل يتعدّاها إلى التغاضي عن استحقاقات حرجة، وفي مقدمها مثلًا تعليق دفع سندات اليوروبوندز، أو عودة العجز في ميزان المدفوعات مع ما له من تأثيرات ضارّة على سوق النقد.

المصارف تفترض أنّ حدود مسؤوليتها القصوى
يجب أن لا تزيد عن قيمة بالخسائر المحقّقة حاليًّا


تعارض التقديرات
إنّ توفر معطيات دقيقة ومفصّلة ومتفق على صحّتها عن الخسائر، هي نقطة الانطلاق الصحيحة في أي معالجة، حتى لا يلجأ كلّ طرف إلى تصوّرات تبعد عنه المسؤوليّة. ويتفق المعنيّون بالأزمة عمومًا على أنّ الخسائر المصرفيّة (عدا خسائر اليوروبوندز خارج القطاع المصرفي) تزيد عن 70 مليار د.أ، لكنهم يختلفون عمّن هو معني بتسويتها. تفترض المصارف أنّ حدود مسؤوليتها القصوى يجب أن لا تزيد عن قيمة بالخسائر المحقّقة حاليًّا، وهذه تقارب قيمتها 7 مليارات د.أ بعد اعتماد سعر صرف 15 ألف ل.ل لكل دولار أميركي قبل حوالي سنة، وقد تزيد باعتماد سعر الصرف في السوق. بوسع عدد من المصارف تسوية هذه الخسائر فيما تعجز عنها أخرى. وستستفيد المصارف المحظيّة من طرق عدّة في إعادة الرسملة، ومنها، إلى جانب التقديمات النقديّة واستخدام ما كوّنته المصارف من مؤونات في السنوات الماضية: إعادة تقويم الموجودات العقارية وبيع أصول خارجيّة وتحويل جزء من المطلوبات إلى حساب رأس المال. وستستفيد المصارف القادرة على الاستمرار من المهل الطويلة الممنوحة لها لإعادة الرسملة (والتي تمتّد لثلاث سنوات بحسب مشروع قانون معالجة أوضاع القطاع المصرفي). وبالمقابل تحيل المصارف الخسائر الباقية، أي أكثر من 60 مليار د.أ، إلى المصرف المركزي والحكومة جرّاء توقفهما عن الدفع، الأول في أيلول عام 2019 والثانية في آذار 2020. ولا ضير، من منظور المصارف، من أن تعبئ الدولة إيراداتها الضريبية وعائدات أملاكها العامّة وأصولها التجاريّة ومواردها المستقبليّة المحتملة كالنفط والغاز، في تسديد ما هو متوجّب من خسائر.  

المصرف المركزي يتبنى مقاربة ضمنيّة مختلفة للخسائر،
يعبّر عنها التوزيع المعدّل لميزانيّته المؤقتة
Interim balance sheet


وفي المقابل يتبنى المصرف المركزي مقاربة ضمنيّة مختلفة للخسائر، يعبّر عنها التوزيع المعدّل لميزانيّته المؤقتة Interim balance sheet. وتظهر أرقام هذه الميزانيّة المنشورة في 15/2/2024 البنود الآتية للموجودات (مقوّمة بالدولار الأميركي): 16.7 مليار د.أ ديون على الحكومة ناتجة عن تمويل الدولة بالعملات (وهذا ليس دقيقًا) . وفروقات إعادة التقييم التي نقلها المصرف المركزي من جانب الموجودات إلى جانب المطلوبات والتي تقدّر قيمتها بـ 40.5 مليار د.أ، ما يعني أنّ على طرف ما تسديد هذا المبلغ وإلّا تحمّلته الخزينة. وبذلك يلقي المصرف المركزي على عاتق الحكومة تبعات تسوية حوالي 57 مليار د.أ من الخسائر. ويرد في جانب الموجودات أيضًا 118 ألف مليار ل.ل تكاليف عمليات سوق مفتوحة مؤجلة (يرتبط معظمها بالهندسات الماليّة)، فيما جرى خفض قيمة بند موجودات أخرى محاسبيًّا (Other assets) من حوالي 68 مليار د.أ في ميزانية مصرف لبنان المؤقتة بداية العام الماضي إلى أقلّ من 100 مليون د.أ في آخر موازنة منشورة.

الحكومة تلتزم
شكليًّا عدم المسّ بالودائع


تلتزم الحكومة من جانبها شكليًّا بعدم المسّ بالودائع، لكنها تخفّضها عمليًّا من خلال إعادة تصنيف الودائع بالعملات، المتبقية لدى القطاع المصرفي، ما بين مؤهلة (40 مليار د.أ) وغير مؤهلة (46 مليار د.أ)، بحيث تكون نسبة الاسترداد للودائع المؤهلة أعلى (ما بين الضعفين وثلاثة أضعاف) من نسبة الاسترداد للودائع غير المؤهلة، فضلًا عن تدابير استثنائيّة ومتشدّدة بخصوص الودائع غير المشروعة. وبحسب السيناريو التقريبي المتصل بمشروع قانون معالجة أوضاع القطاع المصارف تتعرّض الودائع لجملة من الاقتطاعات المباشرة وغير المباشرة بعضها مبرّر وبعضها الآخر غير مبرّر، وذلك على النحو الآتي:
(1) اقتطاع حوالي 7.5 مليار د.أ على الأقل من الودائع المؤهلة وغير المؤهلة بوصفها ودائع غير مشروعة وفقًا للنموذج المحدّث لأعرف عميلك KYC الواردة في مشروع القانون. (2) شطب حوالي 10 مليارات د.أ من الفوائد الزائدة. (3) تحويل جزء من الودائع ما فوق 500 ألف د.أ إلى أدوات رأسمالية Bail in بمعامل تحويل: 5 دولارات من الودائع المؤهّلة و10 دولارات من الودائع غير المؤهلة مقابل دولار واحد من رأسمال المصرف، ونتيجة ذلك يُحسم ما يعادل 13 مليار د.أ من الودائع في مقابل أن يحصل أصحابها على أسهم بقيمة ملياري د.أ تقريبًا، أي ما يوازي نصف مجموع الرأسمال الجديد للمصارف بعد إعادة الهيكلة.
(4) التسديد التدريجي والتصاعدي للمبلغ المحمي من الودائع الذي لا يتجاوز 100 ألف د.أ للودائع المؤهلة و36 ألف د.أ للودائع غير المؤهلة وبما لا يتجاوز نصف هذه المبالغ في المصارف الخاضعة للتصفية. والقيمة الإجماليّة للودائع المحميّة تُقدّر بحوالي 22 مليار د.أ، تُدفع مناصفة بين المصارف والمصرف المركزي (تُقتطع من حسابات المصارف لديه). وحيث أنّ السقف الزمني لتأدية هذه الودائع هو 15 عامًا تكون قيمتها الحالية الصافية NPV  13 مليار د.أ تقريبًا (أي أنّه إذا أُصدرت سندات دين مكفولة بالمبالغ المحمية المقسّطة على النحو المذكور، فإنّ إيرادات بيعها فورًا تعادل حوالي 60 بالمئة من قيمتها الدفتريّة المقسّطة على 15 عامًا). (5)  تحويل ما يقارب 30 مليار د.أ من الودائع المؤهلة وغير المؤهّلة إلى سندات ماليّة من فئة (أ) وما فوق (A and above) تستحقّ بعد 30 سنة للودائع المؤهّلة و40 سنة للودائع غير المؤهّلة . ولا تزيد القيمة الحاليّة المحسومة لهذه السندات عن 6 مليارات د.أ يُسدّد نصفها مباشرة من المصارف ونصفها الآخر نقدًا من حساباتها لدى مصرف لبنان. (6) تحويل حوالي 3 مليارات د.أ طوعًا إلى الليرة اللبنانيّة بسعر صرف مخفّض (يتراوح بين 20 بالمئة و50 بالمئة من سعر الصرف بالسوق).
(7) بالمقابل تلتزم الحكومة بإعادة رسملة مصرف لبنان بمليارين ونصف مليار د.أ من خلال إصدار سندات مالية أو بأي وسيلة أخرى. وتخصّص أيضًا بعض إيراداتها المستقبليّة وفق معايير محدّدة لتكوين موجودات صندوق استرداد الودائع.

خطّة الحكومة لا تلبي
معايير العدالة والوضوح والتوازن

وفق هذا السيناريو:
(1)  من الناحية الفعليّة، يسترد المودعون بالقيمة الحاليّة الصافية حوالي 30 بالمئة من قيمة ودائعهم (أي أن القيمة السوقيّة للودائع ستتضاعف من حوالي 15 بالمئة إلى 30 بالمئة) ويمكن لنسبة الاسترداد هذه أن تزيد أو تنقص تبعًا لدرجة المخاطر ونجاعة إجراءات التعافي ووجود ما يكفي من الضمانات الماليّة للمودعين ولا سيما عن المبلغ المحمي من حساباتهم.
(2) إسميًّا، يحصل المودعون على حوالي ثلثي ودائعهم عند الاستحقاق، شرط أن تكون الظروف الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة مؤاتية وتتسم بقدر كافٍ من النمو والاستقرار لتمويل الاسترداد التدريجي للودائع.
(3)  تتحمّل الحكومة ومصرف لبنان كلفّة ماليّة مقدارها 17 مليار د.أ بقيمة حالية صافية تقارب 12 مليار د.أ، فيما يقع على عاتق المصارف تأدية 14 مليار د.أ، زائدًا ملياري دولار للرسملة، وبذلك تكون أيضًا الكلفة المحسومة الصافيّة لمجموع ما ستتحمّله المصارف 12 مليار د.أ.
لا تلبي خطّة الحكومة معايير العدالة والوضوح والتوازن، لكنها تنطوي على عناصر يمكن البناء عليها في إعداد مقاربة جديدة تنصف المودعين، وتتجنّب بعض التصنيفات المعقّدة والمجحفة. فيمكن مثلًا دمج الودائع غير المؤهلة بالودائع المؤهلة، بعد إعادتها إلى القيمة التي كانت عليها عند تحويلها من الليرة اللبنانية إلى الدولار، ويفترض أن يُعامَل المودعون في المصارف قيد التصفية معاملة غيرهم من المودعين، إذ يصعب فصل العوامل الذاتية التي تؤدّي إلى تصفية مصرف ما عن الأزمّة النظاميّة العامّة. ويجب أن تتسم المعايير المعتمدة في تشخيص الودائع غير المشروعة بالمعقوليّة فنيًّا وقانونيًّا. ويمكن زيادة القيمة الفوريّة للودائع عن النسب المقدّرة أعلاه، من خلال تخصيص الجزء الأكبر من الموجودات الجيدة المتبقية في القطاع المالي لضمان الودائع المحميّة، وتحسين رسملة صندوق الودائع من خلال مدّه بأصول حقيقيّة جديدة، كأن تُخصّص له مثلًا حصّة وازنة من رخصة ثالثة للخليوي، يجري إصدارها في ظرف اقتصاديّ مناسب. وبدلًا من دفع أموال طائلة إلى الخارج لشراء سندات أجنبيّة من فئة أ وما فوق، يجب التفكير بصيغة أخرى ملائمة للمودعين وتغذي الدورة الاقتصاديّة للبلد في الوقت نفسه.
أمّا في توزيع الخسائر، فيفترض أن تتحمل المصارف كلفة تساوي أرباحها الموزعة من عام 2011 زائدًا أرباح الهندسات الماليّة، وأن يُعاد رسملة المصرف المركزي تدريجيًّا بما يتناسب مع الحجم الإجمالي لميزانيته بعد التسوية، على أن يلتزم المصرف أيضًا بتكوين تدريجي لمؤونات تساوي قيمة الموجودات الأخرى وأعباء عمليات السوق المفتوحة المؤجّلة بعد شطب ما يمكن شطبه منها. ويقع على عاتق الحكومة ما يوازي القيمة الفعليّة لسندات اليوروبوندز.
متلازمات الإنقاذ
لا تقف فعاليّة الإجراءات عند إقرار ما هو مطروح ومعروف من قوانين وبرامج، فهذه لن تجدي نفعًا ما لم تكن جزءًا من مروحة إصلاحات واسعة تغطي كل مجالات الأزمة، والتي نورد منها ما يتصّل مباشرة بالأزمة:
(1) تعديل قانون النقد والتسليف على نحو يكرّس استقلاليّة المصرف المركزي عن السلطة المالية والعكس بالعكس، ويقلّل الاعتماد المتبادل بين السياستين المالية والنقديّة في تمويل عجز الموازنة وتحقيق الاستقرار النقدي، ويضفي طابعًا مؤسساتيًّا لا فرديًا على عمل المصرف المركزي. ويفترض بالتعديل المنشودة أن يضع قيودًا قانونيّة تمنع تكرار تجربة الخسائر الضخمة التي سجّلها مصرف لبنان أو تقلّل من احتمال حدوثها، وأن يزيد مستوى التخصّص الداخلي للمصرف من خلال إيجاد وحدات جديدة فيه تكون مهمّتها تطبيق أعلى المعايير الاحترازية في إدارة المخاطر، مع الفصل ما أمكن بين مهام الرقابة والإدارة التنفيذيّة وإدارة السياسة النقديّة.
(2) الالتزام بأعلى معايير الرقابة. لقد دفعنا حتى الآن ثمن فهمنا المبسّط للمخاطر، فاختزلنا مقرّرات بازل الاحترازيّة تقريبًا بالتعميم الصادر عن مصرف لبنان في كانون الأول 2011 والذي ألزم المصارف بزيادة الحدود الدنيا لرأس المال تدريجيًّا إلى 12 بالمئة حتى نهاية 2015 أي إلى أكثر مما قرّرته لجنة بازل 3. لكنّ الالتزام الشكلي بكفاية رأس المال وحدوده الدنيا لا تدرء وحدها المخاطر عن القطاع المصرفي ما لم تندرج ضمن نظام رقابة فعّال ومتعدد البعد يتناسب مع المخاطر الحقيقيّة.
والممارسات الرقابيّة المصرفيّة العالية ليست ثابتة بل يجب، حسب مبادئ بازل، أن تتطوّر عبر الزمن وتستخلص الدروس والعبر من التجارب والعثرات والمحن، وتلحظ في تطبيقاتها نمو الأعمال المصرفيّة وتقدمها. وإذا انطلقنا من ذلك يكون على السلطات الرقابية في لبنان، إلى حين استعادة التعافي في أقل تقدير، أن تصمّم نظام رقابة معزّز يتضمن المعايير الدولية ويضيف إليها معايير أخرى تلحظ خصوصيّة الأزمة في لبنان. والأهم من ذلك هو تبنّي منظور واسع وشامل للرقابة يقوم، بخلاف الممارسة الرقابية الهشّة في لبنان، على المواءمة بين سياسات الرقابة والشروط المسبقة المحيطة بعمل المصارف، وفي صدارة هذه الشروط: (أ) وجود سياسات اقتصادية كليّة سليمة وطاردة للخطر، و(ب) إطار عمل يضمن الاستقرار المالي، و(ج) سياسات احترازيّة كليّة واضحة ترصد التفاعل الخطر بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المصرفي والمالي. و(د) بنية قانونية ومؤسساتيّة قويّة تشمل فيما تشمله قوانين ناجزة وسلطة قضائية مستقلة، على الأقلّ في المجال المالي، ومبادئ محاسبيّة متطورة وخطط طوارئ معدّة بعناية. و(ه) التعامل بجديّة مع مخاطر التركّز ولا سيما منها مخاطر التعرّض الكبير. إذ يجب أن لا يتجاوز التعرّض المرتبط بالمؤسسات 10 بالمئة من رأسمال المصرف و25 بالمئة في التعامل مع الأفراد، فيما وصل التعرض قبيل الأزمة إلى 500 بالمئة في تعامل المصارف مع مصرف لبنان و75 بالمئة في تعاملها مع الحكومة.
والعبرة التي يمكن استخلاصها من تجربة الأزمة في لبنان هو أنّ تقيّد القطاع المالي والمصرفي بالمعايير التقنيّة والفنيّة، لا يعني أنّه يتقيّد بالخطوط العامّة للرقابة الشاملة والمتكاملة التي تقيه وحدها مخاطر الائتمان والسوق ومخاطر التشغيل والسيولة.  
 (3) تبني موازنة عامّة استثنائية تتضمن إصلاحات جوهرية في جانبي الإيرادات والنفقات، وتكون مدخلًا إلى خطة إنقاذ متوسطة الأمد. والقطاع العام في جميع الحالات هو ركيزة أساسيّة للخروج من الانهيار المالي والمصرفي ولاستهلال مسيرة التعافي الاقتصادي، ولا بد له حتى يؤدّي دوره المطلوب من:
(أ) استرداد الانتظام الوظيفي من خلال تحسين التقديمات المالية والاجتماعيّة بما يتناسب مع المتوسط العام للأجور والتقديمات في البلد، مع تجنّب الدخول في متاهة سلسلة جديدة للأجور قبل تحقيق الاستقرار ووضوخ الأفق المستقبلي للاقتصاد. (ب) تمكين الخزينة من الوصول إلى كامل المبالغ المودعة لدى المصرف المركزي بالعملات الوطنية والأجنبيّة، والتي وصلت في منتصف شباط 2024 إلى 386.5 ألف مليار (بما يعادل 4.3 مليار د.أ) 15 بالمئة منها تقريبًا بالدولار الأميركي. لكن المصرف المركزّي يمتنع عن تحويل إيرادات الدولة المودعة بالليرة اللبنانيّة إلى العملات الأجنبيّة لزوم تمويل مشتريات الدولة من الخارج (كالفيول لشركة كهرباء لبنان). وبذلك تؤدّي الضرائب والرسوم وظيفة عمليّات السوق المفتوحة، على حساب دورها الأصلي والتعاقدي المتمثّل في تمويل المنافع العامّة الأساسيّة وتمويلها. فضلًا عن ذلك، فإنّ احتجاز جزءٍ من إيرادات الضرائب في المصرف المركزي، يضاعف من مفاعيلها الانكماشية على الاقتصاد، وهذه طريقة ملتوية أخرى في تخفيف العرض النقدي بالليرة والطلب على العملات الأجنبيّة. (ج) زيادة النفقات العامّة الأوليّة لتساوي على الأقل نسبتها في البلدان المماثلة (20 بالمئة من الناتج المحلّي بالمتوسط). وتنويع إيرادات الدولة من حيث العملة (عملة وطنية وأجنبيّة بحسب وعاء الإيرادات) لمنح الحكومة الاستقلاليّة تجاه المصرف المركزي، ومن حيث المصدر (دخل، استهلاك، أملاك..) لتحسين الحصيلة الضريبيّة وعدالتها. ما يحتّم وضع المسوّدة المنجزّة لقانون الضريبة الموحّدة على الدخل، على جدول الأعمال.

الوضع الاقتصادي ما زال بعيد من الناحيتين المنهجية والسياسية عن الولوج في بوابة الحلول الناجعة

اقتصاد الأزمة من جديد
لأول مرّة منذ عام 2011 يسجّل لبنان فائضًا في ميزان المدفوعات، بعد عجز تراكمي أفضى إلى الأزمة الماليّة في لبنان. ويقدّر فائض ميزان المدفوعات للعام 2023 بـ 1675 مليون د.أ مقارنة بعجز مقداره 402 مليون د.أ عام 2022. وعجز تراكمي بمقدار 23.74 مليار د.أ في السنوات 2018-2022. ويفسر الفائض المحقّق في سنة 2023 الاستقرار الذي يشهده سوق الصرف، وهو الذي مكّن المصرف المركزي من زيادة إحتياطيّاته حوالي 900 مليون د.أ منذ نهاية تموز الماضي. ولكنّ هذا الفائض في ميزان المدفوعات قد ينقلب في أي لحظة إلى رصيد سالب في ظلّ العجز الهائل في الميزان التجاري (أكثر من 9 مليارات د.أ) وفي الحساب الجاري (حوالي سبعة مليارات د.أ). علمًا أن فائض ميزان المدفوعات لا سياسة تجفيف السيولة في السوق، هو الذي أدّى إلى تثبيت سعر الصرف وامتصاص الضغوط التضخميّة.
ويستعيد الناتج استقراره النسبي مع تراجع معدلات الانكماش الاقتصادي مقارنة بانكماش متراكم في السنوات 2019-2022 قارب 67% بالأرقام الأسميّة و54 بالأرقام الحقيقيّة. ولأوّل مرّة أيضًا نما متوسط الناتج الفردي (GDP per capita) بحوالي 1.2 بالمئة بعد خسارة مقدارها 47 بالمئة بالقيم الحقيقيّة و65 بالمئة إسميًّا في السنوات الثلاث السابقة. ويعود الاستقرار النسبي في النشاط الاقتصادي إلى محرّكات اقتصاديّة "إيجابية" تتمثّل في نمو الاستهلاك وأداء القطاع الخاص وزيادة أعداد السياح بأكثر من خمسين بالمئة. لكن ذلك ترافق مع نسبة عالية للاستهلاك قياسًا إلى الناتج (110 بالمئة تقريبًا) وعودة العجز في الميزان التجاري وفي الحساب والجاري نسبة إلى الناتج إلى ما كانا عليه قبل الأزمة، فيما حافظت تحويلات المغتربين على قيمتها تقريبًا طوال السنوات الماضيّة، مع زيادة في نسبتها إلى الناتج بسبب تراجع هذا الأخير، وقد ارتفعت هذه النسبة من 14.3% وسطيًّا في الأعوام 2009-2017، إلى 22.3% في السنوات 2019-2022. ومن المتوقع أن يتلقى لبنان حوالي 6.5 مليار د.أ من التحويلات في عام 2023 تتوزع مصادرها على الشكل الآتي: 1114 مليون د.أ من السعوديّة (17% من مجموع التحويلات)، ثمّ الولايات المتحدة الأميركيّة 1002 مليون د.أ، وأستراليا 719 مليون د.أ، وتليها كلٌّ من وكندا وألمانيا وفرنسا والإمارات.. ويعتقد أنّ التحويلات ستكون في السنوات القادمة الدعامة الأساسيّة للأسر التي عوّضت عن فقدان القدرة الشرائيّة بتصدير قوة العمل المدرّبة.
وبغض النظر عن دقة الأرقام ومتانتها واستمرارها، وقد تكون عابرة ومؤقتة، فإنّ دلالتها الأبرز أننا نعود بعد سنوات عاصفة من الأزمة إلى الاقتصاد نفسه الذي أوجدها، حيث (1) التعايش بين عجز الحساب الجاري وعجز الميزان التجاري من ناحية وفائض ميزان المدفوعات من ناحية ثانية، ما يبقي الاقتصاد رغم تدفق الأموال في وضعيّة اقتراض وزيادة غير منظورة في المديونيّة الإجماليّة للبلد، واعتماد زائد وغير منطقي على التحويلات للأسر. ولنتذكر هنا أن تسجيل عجز في ميزان المدفوعات سيضعنا أمام احتمالين، إمّا استئناف السحب مما تبقى من احتياطيّات بالعملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان للتعويض عن هذا العجز، أو تدهور إضافي في سعر الصرف، أو الأمرين معًا.
 
(2) عودة ظاهرة المرض الهولندي (لعنة الموارد) لتطلّ برأسها من جديد، ويدلّ على ذلك أنّ مضاعف الأسعار من بداية الأزمة (مؤشر أسعار المستهلك CPI) قد تجاوز في بداية عام 2024 الزيادة المضاعفة في سعر صرف الدولار إلى الليرة اللبنانيّة. هذا يعني أن أسعار السلع والخدمات عادت إلى الارتفاع مقوّمة بالعملة الأجنبيّة، وأنّ معدّلات التضخم (الإجماليّة التي تشمل كلّ السلع والخدمات والمحليّة التي تركّز على المنتج المحلّي) باتت أعلى من مثيلاتها في العالم.
 
(3) يستعيد الاقتصاد ملامحه السابقة دون الاستفادة من فرصة انخفاض تكاليف الإنتاج بفعل تدهور سعر الصرف وتدنّي الأجور. فالاستهلاك بقي المحرّك الأساسيّ للنشاط الاقتصادي، والمنتجات القابلة للتبادل لم تزدهر بما فيه الكفاية وظلّ توزيع الناتج على حاله تقريبًا منذ عام 2020، الذي شهد تحسّنًا محدودًا في حصة الزراعة والصناعة من الناتج لكن مع زيادة أكبر في حصّة التجارة والخدمات التي استفادت من تراجع نسبة الضرائب غير المباشرة من الناتج إلى أقل من 3 بالمئة عام 2023 (تقديريًّا) مقارنة بأكثر من 11 بالمئة عام 2018.
وبالمحصّلة ما زلنا بعيدين من الناحيتين المنهجية والسياسية عن الولوج في بوابة الحلول الناجعة، فهذه تحتاج إلى أن نستجمع ما بقي لدينا من موارد مالية وبشرية وبنى مؤسساتيّة قادرة على العمل لتأهيل الاقتصاد ومن ثم الإدارة العامّة والقطاع المالي، وإلى أفق جديد من المقاربات المستندة إلى إرادة تغيير حازمة وشجاعة في تحمّل النتائج والتبعات.

 مقالات| الدبلوماسية القسرية الأميركية بوجه حزب الله  في جبهة المساندة / د. حسام مطر - آب 2024

مقالات| الدبلوماسية القسرية الأميركية بوجه حزب الله في جبهة المساندة / د. حسام مطر - آب 2024

إصدار 2024-08-16

هناك نوعان من الإرغام الأول هو لفرض عدم تغيير سلوك محدد ويكون بالردع والثاني وهو قسر لتغيير سلوك محدد وهو يتحقق إما بالابتزاز أو الدبلوماسية القسرية الدبلوماسية القسرية هي استراتيجية سلمية لممارسة القوة بهدف التأثير أو السيطرة على طرف أو حدث أو مسألة لوقف عمل عسكري فهي استراتيجية لإدارة الأزمة وبتعريف أدق هي استراتيجية سياسية ودبلوماسية تهدف للتأثير في إرادة العدو أو بنية الحوافز لديه لوقف سلوك قد بدأ وهي تجمع ما بين التهديد باستخدام القوة وإن كان ضروريا استخدام محدود ومحدد للقوة بجرعات منفصلة متزايدة ومسيطر عليها كما قد تشتمل على إغراءات إيجابية الدبلوماسية القسرية هي استراتيجية سلمية لممارسة القوة بهدف التأثير أو السيطرة لوقف عمل عسكري أولا أسس الدبلوماسية القسرية تهدف الدبلوماسية القسرية إلى ضبط التصعيد وإدارة الأزمة أو جلب الخصم للرضوخ أو جلبه للتفاوض وفق شروطنا بالمحصلة هي جهد لدفع العدو لوقف عمل عسكري أو التراجع عنه والعودة إلى حال ما قبل القيام بالفعل تركز بعض التعريفات على أن الدبلوماسية القسرية مرتبطة بدفع طرف ما لوقف فعل عسكري بشكل أساسي تحتاج الدبلوماسية القسرية إلى استراتيجيات محكمة ودقيقة حتى تحقق غايتها في تطويع المستهدف من ناحية دون أن تؤدي إلى الانزلاق إلى حرب من ناحية ثانية فالدبلوماسية القسرية تلوح بالقوة من باب الإخضاع ووقف العمل للعسكري للخصم ومن شروط نجاحها أن لا تؤدي إلى نشوب حرب ولذلك عليها أن تبدو كجهد دفاعي مضاد لتهديد عسكري يقوم به المستهدف وكونها لذلك لا تتضمن الدبلوماسية القسرية استخداما واسعا للعنف بل التهديد به أو استخدامه بشكل رمزي وتواصلي وهو ما يعني أن العقاب أو التهديد الناتج عنها تبقى له حدود تؤثر في فرص نجاحها والدبلوماسية القسرية أصعب من الردع لجهة أنها تريد إيجاد تغيير في الواقع وقف فعل المستهدف وليس المحافظة على الواقع خلاصة تعريفات الدبلوماسية القسرية مطالب محددة واضحة خلق شعور بالإلحاح التهديد بالعقاب استخدام حوافز وإغراءات إيجابية في خلاصة التعريفات هناك جملة عناصر في الدبلوماسية القسرية مطالب محددة واضحة يعرضها المكره في وجه المستهدف وينبغي أن تكون هذه المطالب غير صفرية أي أنه يمكن الاستجابة لها بثمن يمكن احتماله وإلا إن كانت المطالب تعرض المستهدف لهزيمة تامة فسيفضل المغامرة بالمواجهة العسكرية على المكره أن يقدم مطالبه على أنها شديدة الأهمية له بحيث لا يمكنه التراجع عنها خلق شعور بالإلحاح لدى المستهدف ويكون ذلك من خلال وضع مهل زمنية قصيرة أمام المستهدف سواء بشكل واضح أو بالإيحاء وعلى المستهدف أن يشعر أن لا وقت لديه وأنه في الوقت الضائع قبل تجسد التهديد ولذلك قد يستخدم المكره أسلوب الإنذار النهائي في لحظة ما التهديد بالعقاب بحال عدم الاستجابة وينبغي أن يبدو التهديد موثوقا لدى المستهدف ولذا من المهم فهم ما الذي يخشاه المستهدف وما هي مصالحه الحيوية وكذلك لا بد من الاهتمام بلغة بالتهديد وليس مضمونه فقط وهل يكون واضحا أم ضبابيا يمكن تصنيف التهديدات وفق فئات تتدرج في القوة من أدنى إلى أعلى وفق الآتي أ تهديد منخفض الطلبات والتهديدات ضمنية وغير حاسمة الاحتجاج الدبلوماسي العقوبات قطع العلاقات وقف التعاون الغموض ترك الخيارات المفتوحة وتجنب الالتزامات الواضحة الخضوع تقديم عوائد إقناع الآخر بالإكراه لإخافته ب تهديدات غامضة إفعل وسترى التهديد التدريجي تحريك البرغي وضع القوات عند حالة الإنذار تعبئة القوات إظهار القوة الحظر التجاري والاقتصادي الغموض الاستراتيجي التهديد بالتصعيد وفق عتبة محددة ج تهديدات علنية حاسمة حيث يجري تحديد طلبات واضحة من المستهدف عليه تلبيتها ضمن إطار زمني محدد مع تهديد واضح وموثوق بالعقاب إذا يلب تلك الطلبات يقم بتلبيتها الحصار تحريك قوات وأصول عسكرية بحيث يقع العدو تحت عبء اتخاذ قرار التهديد بالحرب استخدام حوافز وإغراءات إيجابية تؤدي إلى حفظ ماء الوجه وإيجاد مساحة من المصالح المتبادلة مع الإشارة إلى أن تقديم الجوائز ينبغي أن يتم بطريقة حذرة جدا حتى لا يتأثر الجانب الإكراهي في الاستراتيجية الكلية في تطبيق هذه العناصر لا بد من مراعاة المعايير الآتية التناسبية بين المطالب الملقاة على عاتق المستهدف والإجراءات التي يمكن للمكره أن يستخدمها التبادلية بين ما يقدمه المكره وما يتنازل عنه المستهدف بشكل تدريجي خطوة مقابل خطوة موثوقية الإكراه خلق تصور في ذهن المستهدف أن امتناعه عن التعاون سيكون له عواقب وخيمة الانتباه إلى السياقين المحلي والدولي اللذين تجري في إطاريهما الدبلوماسية القسرية فالظروف المحلية والدولية المرتبطة بالطرفين قد تعزز أو تضعف العناصر الثلاثة السابقة لنجاح الدبلوماسية القسرية لا بد من التأثير على الطرف المستهدف من خلال عواطفه وتصوراته وثقافته وقيمه ومعاييره ثانيا كيف يمكن زيادة فرص نجاح الدبلوماسية القسرية الدبلوماسية القسرية تعمل بشكل أساسي للتأثير في حسابات قيادة الطرف المستهدف ولذلك هي بحاجة للتأثير على عواطفه وتصوراته وثقافته وقيمه ومعاييره وتشكيل رؤيته لمصالحه فهي تطمح من خلال الجمع بين التهديد والحوافز إلى دفعه للقبول بالمطالب المرغوبة وهو ما يوجب التنسيق والتناغم بين الاستراتيجيات الإكراهية والسياسية والعسكرية تشكيل قرار الخصم يستوجب فهما معمقا له والتعرف على نواياه وكيفية اتخاذه القرار والقيود الداخلية هنا تفيد نماذج مستخلصة حول سلوك هذا العدو بذاته وهناك صعوبة في تحديد عزم القادة قبل وإثناء الأزمة وصعوبة في فهم نوايا العدو بشكل دقيق ومبكر وصعوبة في قياس أثر التهديد عليه الخصم قد يخضع إما نتيجة لحساب عقلاني أو لخلل في الحسابات نابع من تعرضه للتلاعب أو نتيجة قصور ذاتي أو لنقص في المعلومات على المستهدف أن يقتنع بأن التعاون مع طلبات المكره هو الخيار الأفضل سواء لسبب عقلاني أو عاطفي أو قيمي تزداد احتمالات خضوع المستهدف للدبلوماسية الإكراهية كلما توفرت الشروط التالية على مستوى المطالب حين تكون المطالب واضحة كفاية حتى لا يؤدي سوء الفهم إلى رفض المستهدف ولا إلى الخشية من توسعة المطالب عند التطبيق حين يتمكن المكره من إقناع المستهدف أن المطالب تمثل حاجة حيوية له ولا يمكن له التنازل عنها وأنه مستعد للمخاطرة من أجلها حين لا تكون المطالب صفرية بحيث لا يكون هناك تناقض تام بين الطرفين بل يجب أن تكون هناك إمكانية لقسمة ما للمطالب فالإكراه ينجح حيث يوجد مجال للمساومة لذلك على صاحب التهديد المطالبة بالمصالح الحيوية فقط وتجنب المس بمصالح حيوية للطرف المقابل يهتم القادة بشكل كبير بانعكاس المطالب على سلطتهم واستقرار حكمهم وقدرة نظامهم على الصمود على مستوى الإلحاح حين يكون هناك لا تماثل في الدوافع لصالح المكره أي أن يشعر المستهدف أن دوافع خصمه للوصول إلى مطالبه أعلى بكثير من دوافعه وبذلك يتصور أن خصمه جاهز للمخاطرة أكثر وتحمل ثمن أكبر حين يشعر المستهدف أن التهديد على وشك أن يتحول إلى واقع وأنه لم يعد لديه وقت وأنه أمام ثمن قريب وداهم على مستوى التهديد حين يقوم المكره بتعهد واضح يضع سمعته على المحك بحال لم يلتزم بتهديده حين يكون التهديد موثوقا وفي الوقت عينه يكون ثمن الخضوع وتضرر السمعة للمستهدف أقل من ثمن المواجهة حين يظهر المكره أن لديه دعما داخليا ودوليا كافيا لتنفيذ تهديداته حين يظهر أن لدى المكره تصميما وطنيا لتحقيق المطالب بأي ثمن حين يظهر أن المكره جاهز فعلا لمستوى عال من التصعيد إلى مستوى لا يمكن للمستهدف احتماله حين تبدو قيادة الطرف المكره قوية وقادرة وراغبة في تنفيذ تهديداتها حين تقوم النخب المحيطة بالقيادة بإيصال التهديدات والضغوط الخارجية إليها أحزمة نقل بدل أن تقوم بحجبها عن القيادة أو التخفيف منها ومن آثارها الجوائز حين تتضمن الدبلوماسية القسرية مكاسب للمستهدف تعوضه عن جزء من الثمن الذي سيدفعه نتيجة تلبية مطالب المكره حين تتضمن الصفقة عوائد رمزية ذات أثر إيجابي على سمعة المستهدف وصورته ثالثا في تطبيق الدبلوماسية القسرية الأميركية ضد حزب الله في جبهة المساندة المطالب وقف الهجمات عند الحدود الجنوبية والدخول في ترتيبات حدودية تشمل ابتعاد قوات حزب الله عن الحدود بعمق لم يتم تعريفه بحدود واضحة بعد فواشنطن تتجنب تظهير مطالبها بشكل يتناقض تماما مع مصالح حزب الله فيما تعمل واشنطن وتل أبيب على إطلاق مواقف تؤكد أن عودة المستوطنين مسألة لا هوادة فيها وهي أكثر أهمية بالمقارنة النسبية من حاجة الحزب لفتح جبهة المساندة إيجاد شعور بالإلحاح يتعمد الحلف المعادي إطلاق تصريحات وتسريبات تفيد باقتراب العدو الإسرائيلي من بلوغ نقطة اللاعودة والدخول في الحرب وأن على الحزب أن يتوقف فورا عن هجماته أو تسريب مواعيد زمنية محددة أو الحديث عن أيام وأسابيع تفصل عن قرار إسرائيل بالحرب إذا لم تتوقف الهجمات وتقوم واشنطن غالبا عبر تسريبات رسمية بالترويج لتزايد خطر اندلاع حرب بما يخدم المسعى الإسرائيلي وتستخدم واشنطن ذلك للضغط في الاتجاهين ضد الحزب وكيان العدو عبر القول إن الضمانة لوقف القتال في شمال الكيان تكون من خلال وقف الحرب في غزة وبذلك تأمل أن يضغط حزب الله على حماس لتخفيض سقوفها التفاوضية وللضغط على حكومة نتنياهو لوقف تعنتعها وتعطيلها لمقترح وقف الحرب التهديد بالقوة واستخدام محدود لها توظف واشنطن الهجمات الإسرائيلية ضد لبنان ضمن استراتيجيتها القسرية بالإضافة إلى استعراض القوة مثل نشر حاملات الطائرات تحت عنوان ردع التصعيد الإقليمي كما يطلق الحلف المعادي تهديدات واضحة تجاه حزب الله والمجتمع الحاضن والدولة اللبنانية وعموم اللبنانيين وحتى حلفاء الحزب على المستوى الإقليمي وهذه التهديدات يعبر عنها الإسرائيلي بشكل مباشر وواضح فيما يقوم الأميركي بالتعبير عنها على شكل مخاوف وتحذيرات والتعبير عن الالتزام بدعم الكيان عسكريا ويتم تدعيم تلك التهديدات بإجراءات عسكرية متنوعة بالإضافة إلى حملات نفسية الحوافز والمغريات في هذه الحالة يتكفل الأميركي بهذا الجانب من خلال الحديث عن تراجع إسرائيلي عن بعض النقاط الحدودية المتنازع عليها وتقديم حزم دعم اقتصادي لجنوب لبنان والدولة اللبنانية ووقف العدو لإجراءات عسكرية مثل القيام ببعض أنواع الطلعات الجوية فيما يخص معايير تطبيق هذه العناصر الأربعة تتمثل التناسبية في الحذر الأميركي الإسرائيلي في تحديد مطالب واضحة ونهائية من حزب الله حول تراجعه عن الحدود وذلك لمحدودية القدرة الإسرائيلية والإرادة الأميركية بعدم التصعيد في التبادلية تركز المقاربة الأميركية على إظهار التراجع عن التصعيد على أنه وفق خطوات متبادلة ما يتيح للطرفين خروجا لائقا من الأزمة أما موثوقية الإكراه فتبرز في محاولة الكيان إخافة حزب الله بالتحشيدات والمناورات والاغتيالات والتصريحات وهو ما تكمله بعض الإجراءات والتصريحات الأميركية لكن بحذر وفيما يخص السياقين المحلي والدولي فهما لا يعملان عموما في صالح الدبلوماسية القسرية للعدو نظرا للانقسامات العميقة داخل الكيان والتباين بين نتنياهو وبايدن والضرر الشديد اللاحق بصورة الكيان على الصعيد الدولي إلا أن واشنطن توظف الانقسام اللبناني المعهود ونفوذها في مجموعة الدول السبع وعلاقاتها الإقليمية لتعزيز فعالية التناسبية والتبادلية والموثوقية بوجه الحزب

 مقالات | الاستهداف الرقمي للّوبي الإسرائيلي في أميركا لحزب الله - إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - حزيران 2024

مقالات | الاستهداف الرقمي للّوبي الإسرائيلي في أميركا لحزب الله - إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - حزيران 2024

يمتلك اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة تأثيرًا ونفوذًا داخل مؤسّسات صنع القرار الأميركية لا سيّما في الكونغرس. ويسعى هذا اللوبي إلى دعم الأجندة والمصالح الإسرائيلية في واشنطن والتأكيد على تجانس المصالح الأميركية الإسرائيلية. وفضلًا عن التأثير في مؤسسات صنع القرار، يحاول اللوبي التأثير على النخب السياسية والأكاديمية ويعزّز حضوره في وسائل الإعلام لترويج أخبار ومعلومات محدّدة يمكن توظيفها لدعم حجج وسرديات ومطالبات تخدم كيان العدو الصهيوني. لذلك من الضروري فهم توجهات اللوبي الإسرائيلي بما يسهم في سبر غور العقل الإسرائيلي (لناحية الأهداف والغايات والسياسات والمخاوف والتصورات) من ناحية، ويعزّز من القدرة على بناء استنتاجات وترجيحات حول المواقف والسياسات الأميركية مستقبلاً من ناحية ثانية.

 مقالات| حركة الاحتجاج الطلابية في الولايات المتحدة الأميركية رفضًا للحرب الإسرائيلية على غزة / إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - أيار 2024

مقالات| حركة الاحتجاج الطلابية في الولايات المتحدة الأميركية رفضًا للحرب الإسرائيلية على غزة / إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - أيار 2024

يحاول هذا المقال تقديم فكرة عن الخلفيات وحدود انتشار ومدى تأثير الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية، المستمرّة بشكلها الحالي منذ 18 نيسان 2024، والتي ليس من المتوقّع أن تنتهي قريبًا، أو أن تحقّق ذاك الخرق الكبير في المعادلة لصالح القضية الفلسطينية، لكنّها دون أدنى شكّ ستؤسّس لمرحلة مستقبلية أكثر حضورًا للقضية الفلسطينية.

 مقالات | الاستهداف الرقمي للّوبي الإسرائيلي في أميركا لحزب الله - إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - أيار 2024

مقالات | الاستهداف الرقمي للّوبي الإسرائيلي في أميركا لحزب الله - إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - أيار 2024

تم تحديد حسابات على منصة إكس تتبع لمؤسسات اللوبي الإسرائيلي اليمينية الناشطة في الولايات المتحدة وللباحثين العاملين فيها وما بين آذار إلى نيسان تم رصد تغريدة متعلقة بتطورات الجبهة الشمالية مع حزب الله بعد فحص التغريدات وتحليلها تم فرزها على مجموعة من العناوين بما يتيح فهم خلفيات نشاط اللوبي الإسرائيلي وأهدافه بوجه حزب الله في المرحلة الحالية التغريدات هي تناقل لأخبار وترويج لمعلومات وآراء وتعزيز سرديات وتبني تحليلات تصب في مصلحة كيان العدو الإسرائيلي في مواجهة حزب الله الترويج للهجمات العسكرية الإسرائيلية ضد حزب الله وتضخيم نتائجها التباهي بعمليات الاغتيال التي نفذها العدو الإسرائيلي لعدد من عناصر المقاومة في جنوب لبنان مع نشر معلومات ملتبسة حول الكوادر المستهدفة من باب تضخيم الإنجاز الترويج للغارات الإسرائيلية على سوريا وأنها شملت أهدافا للحزب وأصابتها بدقة اعتبار أن الحزب محبط أمام الهجمات الإسرائيلية وأن لديه تقييم بأنه سيخسر سريعا بحال شنت إسرائيل حربا واسعة عليه ولذا فإنه مرتدع عن شن هجمات كبيرة الحديث عن استهداف العدو للقنصلية الإيرانية والمستشارين فيها وهم على صلة وثيقة بالحزب وأمينه العام الاعتبار بأن حزب الله انزلق إلى مأزق ودفع ثمنا باهظا لم يكن يتوقعه نتيجة قراره في أكتوبر مساندة غزة الزعم بأن إسرائيل حققت مكاسب دقيقة وملحوظة في لبنان ولا لزوم لأن تتورط في حرب الترويج لاغتيال الموساد للصراف محمد سرور المتهم بتحويل أموال من فيلق القدس إلى حماس والادعاء بأنه عضو بارز في الحزب الضغط على طرف ثالث حتى يتخذ إجراءات ضد الحزب أو يمتنع عن مساعدته الترويج لخطر حزب الله وتهديداته التصعيدية لتبرير مهاجمته توثيق هجمات حزب الله الناجحة لتحميله مسؤولية التصعيد منها نشر أخبار عن إسقاط حزب الله لطائرات إسرائيلية مسيرة من نوع هيرمس وهيرمس والهجوم الناجح لحزب الله في قرية عرب العرامشة الذي أدى إلى إصابة أكثر من جنديا إسرائيليا وذلك بهدف التحذير بأن حدثا واحدا قد يؤدي إلى تصعيد الصراع الاعتبار بأن إيران وحلفاءها في المنطقة بما في ذلك حزب الله يجرون مناورات لمساندة غزة واستخدام ذلك في إطار تحريض الولايات المتحدة ضد محور المقاومة الادعاء بأن حزب الله ينقل السلاح من إيران عبر سوريا وهو ما يمثل تهديدا كبيرا وذلك لتبرير القصف في سوريا ضد أهداف مفترضة لإيران وحزب الله الإيحاء بأن حزب الله يستهدف منازل ومناطق مدنية في المستوطنات مع إغفال بأن بعضها يشغله جيش العدو أو أن ذلك يأتي في سياق الرد على استهداف الجيش الصهيوني للمدنيين في الجهة اللبنانية ترويج تحليلات بأن حزب الله يتمادى في شن الهجمات ضد إسرائيل والاستنتاج بأن الجبهة الشمالية على وشك الانفجار وذلك في إطار تحميل الحزب مسؤولية التصعيد اتهام حزب الله بأنه تعمد إطلاق دفعات من الصواريخ على المستوطنين أثناء عيد الفصح التحليل بأن حزب الله يخوض حرب استنزاف نيابة عن إيران ولا بد من إبعاده عن الحدود ولم يعد من خيار أمام إسرائيل إلا شن حرب ضد الحزب لإعادة المستوطنين الاستنتاج بأن الاغتيالات لن تكون كافية على أهميتها لأنها تدفع الحزب لتغيير استراتيجيته بشكل جذري وذلك في إطار التبرير لزيادة التصعيد ترويج تحليل مفاده أنه على الرغم من التقدم في المقترح الفرنسي لكن التهديدات الإسرائيلية بعملية واسعة يجب أخذها على محمل الجد وهو أمر يقصد به التهويل الزعم بأنه بعد فشل الهجوم الإيراني أصبح اعتماد إيران بشكل شبه حصري على الحزب للنيل من إسرائيل تخصيص تغطية كبيرة لذكرى تفجير السفارة الأميركية في بيروت ولكون حزب الله هو المسؤول عن الهجوم الإرهابي ويداه ملطخة بدماء الأميركيين وذلك في إطار تعبئة الجمهور والنخبة الأميركية ضد الحزب الاعتبار بأن ترسانة حزب الله الصاروخية والطائرات المسيرة التي يمتلكها تشكل تهديدا كبيرا ولا بد من ردع الحزب الترويج لاتهامات بأن الحزب قتل باسكال سليمان من حزب القوات الضغط على طرف ثالث حتى يتخذ إجراءات ضد الحزب أو يمتنع عن مساعدته الدعوة إلى ردع تهديدات إيران التي تستخدم وجودها في سوريا لتهريب السلاح إلى الحزب حض واشنطن على نقل المزيد من السلاح ل إسرائيل لشن حرب شاملة ضد الحزب نشر تحليل يدعو للضغط على اليونيفيل لتغيير طريقة عملها حتى تكون فعالة في مراقبة وتعطيل أنشطة الحزب دعوة الأطراف الدولية للضغط على الحزب لوقف هجماته أثناء عيد الفصح اليهودي تشجيع المانحين اليهود على حجب الأموال عن الجامعات الأميركية التي تسمح لطلابها برفع راية حزب الله الاعتبار بأن على العالم دعم إسرائيل في مطالبتها بسحب الحزب قواته بعيدا عن الحدود دعوة الخليج إلى عدم المساهمة في تمويل إعادة إعمار جنوب لبنان للإضرار بشعبية حزب الله ترويج أفكار موجهة إلى الشعب الأميركي مفادها بأن عليه الوعي بأن المعركة في الشرق الأوسط هي بين أميركا و إسرائيل من جهة وإيران وحماس وحزب الله من جهة ثانية التحريض ضد معارضي قرار إدانة هتاف من النهر إلى البحر فلسطين ستتحرر في الكونغرس واعتبار أنهم بمثابة أعضاء تابعين ل خامنئي و نصر الله حث الاتحاد الأوروبي على تصنيف حزب الله منظمة إرهابية تشكل تهديدا للسلام والأمن العالميين تشويه السمعة تقديم اعتقال مكرم رباح أستاذ في الجامعة الأميركية تم اعتقاله من جهاز الأمن العام اللبناني على خلفية تصريحات إعلامية مشبوهة على أنه أمر جرى بطلب من الحزب لإسكات معارضيه الترويج لاتهامات بأن الحزب قتل باسكال سليمان من حزب القوات اللبنانية نشر أخبار نقلا على مصادر إسرائيلية بأن حزب الله هو المسؤول عن العبوة التي أصابت قوة لليونيفيل عند الحدود

 مقالات | قراءة في نتائج الانتخابات المحلّية في تركيا - إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - نيسان 2024

مقالات | قراءة في نتائج الانتخابات المحلّية في تركيا - إعداد مديرية الدراسات الاستراتيجية - نيسان 2024

بتاريخ آذارمارس جرت الانتخابات المحلية في تركيا في محافظة و بلدية وشارك فيها مرشحا من حزبا وقد أدلى مليونا بأصواتهم وقد بلغت نسبة المشاركة بينما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة وانخفاض هذه النسبة كان أحد العوامل المهمة التي أثرت على نتائج الانتخابات حيث تبين أن أكبر عدد من الناخبين الذين لم يذهبوا إلى الصناديق الانتخابية كانوا من ناخبي حزب العدالة والتنمية وتعتبر نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة أدنى معدل مشاركة منذ عام أظهرت نتائج الانتخابات تقدم حزب الشعب الجمهوري المعارض في عموم البلاد بنسبة مسجلا بذلك إنجازا لم يحققه منذ انتخابات عام وحل حزب العدالة والتنمية في المرتبة الثانية بنيله من إجمالي الأصوات وكان المركز الثالث من نصيب حزب الرفاه من جديد بنسبة هناك مجموعة عوامل أثرت على خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات وعلى رأسها يأتي الوضع الاقتصادي الصعب للأتراك حيث لم تنجح كل محاولات أردوغان لتحسينه خلال الفترة الماضية كما كان لسياسات أردوغان اتجاه حرب غزة وخاصة استمرار التجارة مع كيان العدو تأثير وعلى توجه الناخبين الذين فضل جزء منهم التصويت لحزب إسلامي آخر حزب الرفاه من جديد ولا شك أن النتائج شكلت صدمة للجميع في تركيا فأكثر المتشائمين في حزب العدالة والتنمية لم يتوقعوا هذه الهزيمة المدوية ويتوقع كثيرون أن يقوم أردوغان بخطوات إيجابية اتجاه الغرب في محاولة لتحسين الوضع الاقتصادي أولا استعراض النتائج شكلت الانتخابات المحلية البلديات في تركيا قفزة نوعية للمعارضة حافظت فيها على بلديات كانت بحوزتها في الدورة السابقة وأضافت لها بلديات أخرى في هزيمة واضحة للحزب الحاكم الذي أقر بضرورة مراجعة أسبابها على لسان زعيمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

 مقالات | توسيع إطار البريكس، الآثار السياسية المحتملة / د. حسام مطر - أيلول 2023

مقالات | توسيع إطار البريكس، الآثار السياسية المحتملة / د. حسام مطر - أيلول 2023

إصدار 2023-09-13

انتهت قمة البريكس التي عقدت في جنوب إفريقيا باتخاذها قرارًا تاريخيًا بدعوة 6 أعضاء جُدد للانضمام إلى التكتل هم إيران والسعودية والإمارات ومصر وأثيوبيا والأرجنتين. وكانت حوالي 40 دولة أبدت اهتمامها بالانضمام إلى التكتل فيما تقدّمت 20 دولة بطلب رسمي للانضمام. وبحسب رئيس جنوب إفريقيا فإنّ عمليات ضم أخرى ستجري في مراحل تالية. وتُعتبر هذه الخطوة محطة رئيسية في مسار التكتل بعد إقرار بنك التنمية الجديد عام 2014. يعكس توسيع البريكس احتدام الصراع بين الأقطاب الدولية وسعي دول الجنوب للاستفادة من الفرص التاريخية في ظل تراجع المعسكر الغربي. ومع الأخذ بعين الاعتبار تنوّع هذه الدول وتعدّد دوافعها التي تقف وراء الانضمام فإن معظمها يسعى إلى أن يكون حاضرًا في مسار بناء النظام العالمي الجديد والتغلّب على المخاطر المصاحبة لأفول النظام الحالي. وبطبيعة الحال انقسمت التحليلات بين متفائلة بشأن ولادة كتلة عالمية متماسكة قادرة على مقارعة الهيمنة الغربية وأخرى متشائمة وجدت في الخطوة إجراءً رمزيًا محدودًا.


الآثار الإيجابية المحتملة:

-    تكريس فكرة صعود كتلة من دول الجنوب العالمي بمقدار من التماسك البيني بهدف تصويب اختلالات النظام الدولي القائم، وتأكيد سردية وجود كتلة صاعدة شرقية في مواجهة المنظومة الغربية. هذا الأمر يشجع الدول خارج المعسكر الغربي على الثقة أكثر بالتحوّلات الدولية وإبداء الرغبة بتحدّي المنظومة الدولية الغربية الليبرالية ومنح فكرة تعدّد الأقطاب زخمًا إضافيًا.
-    اكتساب البريكس مصداقية إضافية بتأكيد وجود حد أدنى من التوافق الداخلي وأنه على الرغم من وجود تعارض في بعض المصالح بين أعضائها فإنها تطوّر مساحة المصالح المشتركة مثل بناء مسار مختلف للتنمية وإصلاح المؤسسات الدولية وتطوير شكل جديد من العولمة. وهكذا يصبح للجنوب العالمي القدرة على التعبير عن صوته ومصالحه ورؤاه بوضوح أكبر. ولذا من الممكن أن يبرز تكّتل البريكس كشريك موثوق في مقابل التخبّط داخل المعسكر الغربي الذي ما يزال يحاول إعادة بناء روابطه مع الدول التي أنكرها طويلًا.
-    يمنح الإطار الموسّع حصانة إضافية للقوى الدولية والإقليمية المعادية لواشنطن ويوفّر لها مرونة وقدرة على الصمود والتفاعل. إن التكتّل هو مسار مرن يصعب مواجهته بالطرق نفسها التي تواجه أميركا بها الصين وروسيا وإيران. وبناء عليه تصبح هذه الدول أقدر على تخفيف آثار العقوبات والعزل الأميركي لها، كما أنه يساعد دولاً مثل الهند على التملّص من الضغوط الأميركية للانحياز إلى واشنطن في الصراع الدولي ويساعدها على إقامة علاقات متوازنة.
-    اكتساب التكتّل وزنًا جيوسياسيًا وجيواقتصاديًا وجيواستراتيجيًا أعلى. فالبريكس أصبحت أكثر تنوّعًا لا سيما من حيث ضمها لأبرز الدول المصدّرة والمستهلكة للطاقة، وهو ما يحسّن من موقعها التفاوضي مع الغرب. ولدى عدد من الأعضاء الجدد قدرات استثمارية هائلة مع مزايا اقتصادية متكاملة يمكن دمجها. كما أن لعدد من الأعضاء الجدد موقعًا جيواستراتيجيًا حيويًا مثل مضيق هرمز والبحر الأحمر وقناة السويس.
-    ستصبح دول التكتّل أكثر قدرة على بناء أطُر مشتركة في مجالات التنمية والعملات والاقتصاد وكذلك على مواجهة الإجراءات الأحادية الغربية مثل العقوبات المالية والحظر التجاري. إن انضمام هذه الدول يقوى من إمكانية تعزيز أطر التعاون المالي وتقليص هيمنة الدولار في التبادلات التجارية من خلال التبادل بالعُملات المحلية أو أنظمة دفع خارج السويفت أو اعتماد المقايضة، وهو ما يمكن أن يرسي القواعد لنشوء عُملة جديدة بعد سنوات.
-    تصبح قدرة الغرب على منافسة القوى الصاعدة على اجتذاب دول الجنوب العالمي أكثر صعوبة وهو ما يجعل كلفة هذه المنافسة عالية على الغرب. وهذا من شأنه منح الكتل الاجتماعية المعادية للهيمنة الغربية في دول الجنوب العالمي زخمًا ومشروعية يساعدها في تطوير وجودها داخل الأطر السلطوية والتأثير في توجّهات السياسة الخارجية لبلادها. إن احتدام التنافس على اجتذاب دول الجنوب العالمي يولّد مخاطر وفرصًا، مخاطر ناتجة عن محاولة الغرب ممارسة الإكراه للإمساك بهذه الدول، وفرصًا متولّدة من محاولة الأقطاب الدولية تقديم حوافز ومنافع لاجتذاب تلك الدول.
-    تعزيز المخاوف الأميركية من الصعود الصيني، فهذه التوسعة اعتبرت نجاحًا صينيًا في المقام الأول وهو نجاح تلا دورها في الوساطة بين إيران والسعودية العضوين الجديدين في التكتل. وإن كانت الولايات المتحدة على لسان مستشار الأمن القومي جايك سوليفان حاولت التخفيف من آثار الخطوة بالقول إن البريكس ليست ندًا جيوسياسيًا لبلاده، فمجيء الخطوة في هذا التوقيت يُنظر إليه على أنه جزء من مسار متسارع وهو ما يظهر في الجهود الأميركية من خلال التحضير لقمة الـ 20 المقبلة في الهند والتي من أهدافها الأساسية اجتذاب دول وازنة تتبع استراتيجية التحوّط.
-    تمثّل دول تكتّل البريكس، بما فيها تلك المدعوّة للانضمام، أنظمة سياسية غير ليبرالية تتبنّى خليطًا من الهوية القومية والدينية وترفض وجود صيغة عالمية للديمقراطية بل تنادي بخصوصية التجارب المحلية للمشاركة الشعبية. ولذلك تمثل هذه التوسعة ضغطًا إضافيًا على النظام الدولي الليبرالي وتشجّع دولًا أخرى على مواجهة محاولات التطويع واللبرلة ومحاولات التدخل في شؤونها الداخلية. فقد تجد أنظمة سياسية أخرى في الانضمام لبريكس خطوة تساعد على تحصين استقرارها الداخلي والقدرة على العمل مع شركاء غير غربيين بدون شروط مرهقة ذات نزعة تدخّلية.


تحدّيات ما بعد توسعة العضوية
-    أصبحت البريكس تضمّ دولاً أكثر لديها توتّرات بينية حسّاسة مثل الصين والهند أو إيران والسعودية أو مصر وأثيوبيا. يمكن للتكتّل أن يساعد في تهدئة هذه التوتّرات ويشجّع على الحوار ولكنها مهمّة صعبة نظرًا لعمق تلك الخلافات ولكون البريكس إطارًا اقتصاديًا على عكس مجموعة شانغهاي التي تختص بقضايا الأمن. في المقابل قد تساهم البريكس في تنمية المصالح الاقتصادية المشتركة ما يسمح بإيجاد حوافز للتعامل مع التوتّرات الأمنية. مع العلم أنه يمكن لضم الدول الجديدة في بريكس إلى مجموعة شانغهاي أن يمثّل رافعة إضافية لمعالجة المسائل الأمنية وتعزيز الروابط بين مجالي الأمن والاقتصاد لدى الدول الأعضاء.
-    يفرض ازدياد عدد أعضاء البريكس ضرورة تطوير آليّات التشاور واتخاذ القرار وإلا تتكبّل بالانقسامات والتباينات الداخلية. فهل سيتمكن التكتل من تفعيل بنك التنمية وإيجاد أطُر إضافية قادرة على توليد الثروة وتعزيز التبادل وإتاحة الفرص لا سيّما مع التيقّظ الغربي لمحاولة تنشيط مؤسّسات النظام الدولي؟
-    من بين الأعضاء الستة الجدّد خمسة على علاقة جيدة بالولايات المتحدة، مما قد يزيد من حذر التكتّل من قرارات تؤدّي إلى استفزاز واشنطن. مثلاً تؤكّد الهند وجنوب إفريقيا على رفض فكرة أن البريكس تتبنّى معاداة الغرب أو معاداة أميركا، كما تختلف مواقف دول التكتل من الحرب في أوكرانيا. ثم إن عددًا من أعضاء البريكس هم أيضًا في مجموعة العشرين ويشاركون في اجتماعاتها وتحرص واشنطن في الفترة الأخيرة على استرضائهم بتبنّي مطلب إصلاح المؤسسات الدولية على سبيل المثال. وفي هذا السياق أعلن البيت الأبيض أن قمة نيودلهي لمجموعة العشرين المقبلة ستكرّس دول القمة كمنتدى رئيسي للتعاون الاقتصادي. وعليه فإن أعضاء التكتل متفقون على الرغبة بالخروج من الأحادية ولكنهم يتمايزون في قضايا مرتبطة بالبدائل ويختلف مستوى تشبيك مصالحهم مع النظام الدولي القائم. وهنا يمكن أن تكون البريكس منصة نقاش وحوار داخلي في القضايا المشتركة.
-    ما تزال الفروقات في الوزن الاقتصادي بين دول التكتل كبيرة، فالصين هي القطب الاقتصادي للتكتل فيما تعاني مصر من أزمة اقتصادية حادّة وتواجه إيران وروسيا حصارًا غربيًا مشدّدًا. وتعكس الأرقام التي تنشر حول قوة البريكس القوة الاقتصادية للصين ثم الهند بشكل أساسي ولكل من دول التكتل تحدّيات اقتصادية شديدة وتمرّ بفترات من التراجع والركود. كما أن بعض دول التكتل مستقرة سياسيًا وأمنيًا بينما تعاني دول أخرى من توتّرات ملحوظة مثل أثيوبيا ومصر وروسيا.
-    إن توسعة البريكس ستحفّز الجهود الغربية لإعادة التواصل مع دول الجنوب العالمي واسترضائها ولا سيما الاقتصاديات الصاعدة منها ولذا يطرح الغربيون أفكارًا حول إصلاح المؤسسات الدولية لمنح هذه القوى بعض ما تطالب به، إضافة إلى مشاريع وشراكات اقتصادية وتنموية ودمجها في شبكات سلاسل توريد غربية وتخفيف التدخّل في شؤونها الداخلية. هذه المحاولات من شأنها أن تضع ضغوطًا على قدرة أعضاء البريكس على صناعة السياسات وتوحيد المقاربات. وهنا يجب طرح احتمال أن تضغط واشنطن على الدول الحليفة المدعوّة وتغويها للامتناع على قبول دعوة الانضمام والذي له مدى زمني ينتهي في كانون الثاني 2024.
-    إنّ المركزية الصينية داخل البريكس تجعل من أية أزمة في القوة الصينية، مثل أزمة اقتصادية كبيرة، تهديدًا جوهريًا لنموذج بريكس. كما أن هذه المركزية تجعل بكين تتحكّم إلى حدّ ما في سرعة ومسار التكتل بما يوائم سياستها الخارجية التي لا تتطابق بالضرورة مع خيارات الدول الأخرى.


الخلاصة:
إن خطوة توسيع تكتل البريكس هي نقلة ضمن مسار، ولذا إن تقويمها لا يصح بالنظر إليها من خارج سياق اللحظة الدولية الحالية ولا بتجاهل تنوّعات البنية الداخلية للتكتل وظروف كل من دوله. إن مسار البريكس مستدام وغير صراعي ومتدرّج لكنه طويل الأمد ويرتكز على قضايا يمكن التوافق عليها ويعبّر عن التحوّل المتواصل منذ سنوات في النظام الدولي. وقد أبدى هذا المسار مقدارًا من المرونة بحيث أنه حتى مع حصول تحوّلات داخلية في دول مثل الهند والبرازيل حين وصل للحكم شخصيات يمينية مقرّبة من واشنطن، استمر التكتل في الحفاظ على تماسكه وتقدّمه.
عزّزت هذه الخطوة من فكرة الانقسام بين المنظومة الغربية وباقي دول العالم التي تظهر إرادة التحدي والاستعداد للمنافسة لالتقاط فرصة ثمينة لاستعادة أدوارها التاريخية التي حرمت منها على مدى 200 عام على الأقل. إن بعض آثار هذه الخطوة لن تتحقق قبل سنوات بحال اكتمال شروطه، مثل التمكّن من تحييد الدولار من معاملات هذه الدول أو إدخال عملة دولية جديدة، ولكن يمكن تطوير بدائل أقل راديكالية من ذلك ضمن المدى المنظور، بما يضعف الإجراءات الأحادية الغربية كالعقوبات.
إن دعوة الجمهورية الإسلامية إلى بريكس بعد أسابيع من انضمامها إلى منظمة شانغهاي تمثل تكريسًا لشراكة إيران الإقليمية والدولية وحيوية دورها للقوى الكبرى، كما أنّ ذلك يقوّي التيار الثوري في داخل الجمهورية بتأكيد الأولوية المطلقة لخيار العمق الشرقي. علاوة على أن اجتذاب التكتل لكلّ من السعودية والإمارات ومصر يمثّل رافعة لدمج دول المنطقة مع العمق الآسيوي سواء الحليف (اليابان، كوريا الجنوبية) أو المنافس لواشنطن، وهو ما يعزز من واقعية طروحات الاتجاه شرقًا، ويؤكد وجود بدائل للخيارات الغربية. وأخيرًا يمكن للبريكس أن تكون إطارًا إضافيًا للتفاعل الإيجابي بين إيران والدول العربية الثلاث.

 

 مقالات | نُعيد نشر ورقة مترجمة بعنوان أمير ثالث لتنظيم القاعدة قريبًا؟ نبذة عن سيف العدل - آب 2022

مقالات | نُعيد نشر ورقة مترجمة بعنوان أمير ثالث لتنظيم القاعدة قريبًا؟ نبذة عن سيف العدل - آب 2022

بعد اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، يجري الحديث عن احتمال اختيار القيادي في التنظيم "سيف العدل" كخليفة محتمل له. في هذا الإطار، نعيد نشر ورقة مترجمة بعنوان "أمير ثالث لتنظيم القاعدة قريبًا؟ نُبذة عن سيف العدل"، صادرة عن مركز محاربة الإرهاب في الكلية العسكرية الأميركية في ويست بوينت، شباط 2021

 مقالات | منطلقات للتحقيق في انفجار المرفأ / د. محمد طي - كانون الثاني 2022

مقالات | منطلقات للتحقيق في انفجار المرفأ / د. محمد طي - كانون الثاني 2022

إصدار 2022-01-13

لقد حصل لبس شديد في قضية انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، حتى لتكاد تضيع الحقيقة التي ينتظرها أولياء الضحايا ومن أصيبوا بالخسائر. وفيما يأتي سنحاول رسم الطريق إلى التحقيق العلمي والجاد في هذه القضية الخطيرة.
يجب أن يتخذ التحقيق مسارين:
مسارًا خارجيًا، كون النيترات جرى شراؤها من بلد أجنبي لصالح شركة أجنبية.
ومسارًا داخليًا، لأن من تعاطوا مع الموضوع موظفون ومسؤولون لبنانيون.
المسار التحقيقي الخارجي
في الوقائع الظاهرية، قامت شركة "سافارو ليميتد" المسجّلة في أوكرانيا، بالنيابة عن "شركة" Fabrica di explosivos  الموزمبيقية، بشراء 2755 طنًا من نيترات الأمونيوم من شركة جورجيّة، لكن دون أن تحوز الترخيص اللازم لشراء المتفجرات. وتم ذلك بواسطة عقد يبدو أنّه صوري لوجود الكثير من النواقص فيه، بما فيها عدم تحديد الثمن. وذلك بعد فتح اعتماد كفالة من البنك المركزيّ الموزمبيقي للشركة البائعة.
أبرمت شركة سفارو عقدًا، بواسطة وكالة أغروبلند، مع شركة تيتوشيبنغ لمتد ، لاستئجار سفينة لغرض الشحن. فاشترت هذه الوكالة سفينة (Mv Rhosus) من صناعة 1986، وقيل إنها متهالكة.
لكن هناك معلومات جدية تنفي ملكيتها لشركة تيتو شيبنغ .
انطلقت السفينة من مرفأ باتوم في جورجيا حاملة علم مولدافيا، وبعد رحلة بسيطة، وصلت إلى إسطنبول حيث بقيت يومين في مرفأ توزلا، فأبدل بالقبطان القديم أباكوموغ فياشكيف قبطان آخر هو بوريس بروكوشيف، وترك البحارة لأسباب مالية واستبدل بهم بحارة آخرون.
تابعت السفينة سيرها ثم توقفت في مرفأ بيرايوس في اليونان لتتدبّر أمر المال لدفع نفقات المرور في قناة السويس، لكن دون جدوى، فتوجهت إلى مرفأ بيروت، من أجل تصليح بعض الأعطال، وأن تحمل إلى الأردن معدات كشف زلزالي كانت استقدمتها شركة سبكتروم البريطانية من الأردن للبحث عن البترول في البر اللبناني، لكنها عجزت عن الحمل. وذلك دون معرفة أصحاب البضاعة، التي كان مقررًا أن تصل بين 15 و18/12/2013 إلى ميناء بيرا في موزمبيق. وترتبت على السفينة أموال لصالح المرفأ ولشركات قدمت لها خدمات، فتقرر حجزها.
بعد أن علمت الشركة صاحبة الشحنة بتوقف السفينة في بيروت منذ 16/12 2013، وبحجزها، قامت بمحاولات عديدة لاستعادتها، وكلفت السيد سمير النعيمي، صاحب شركة سيلاين، بأن يكون ممثلها في لبنان، واستمرت المحاولات سنة كاملة، وكان القبطان يطالب بأموال إضافية ويهدد بأن البضاعة لن تصل ما لم تدفع الأموال. إلى أن حضر جورج موريرا مندوبًا من قبل الشركة ووجد أن النيترات قد تضررت كثيرًا فاستغنت الشركة عنها، لذا فهي لم تدفع ثمنها.
هذه الأمور تطرح ضرورة التحقيق مع الجهات الآتية:   
- مع أصحاب السفينة المفترضين البائع والمشتري لسفينة متهالكة، فهل كانت متهالكة فعلًا أم ألصق الوصف بها لكي تسيّب بعد إنجاز المهمة، كما حصل فعلًا.
- مع القبطانين وسبب استبدال وأحدهما بالآخر.
-مع القبطان الجديد بشأن معرفته أن الباخرة متهالكة ولا تتحمل أحمالا إضافية. ومطالبته مجددًا بالأموال بعد أن كان بدل الشحن قد دفع مسبقًا. وهل كان ذلك لغاية في نفسه؟
- مع الملاحين ومعرفة السبب الحقيقي لترك المجموعة الأولى وقبول الثانية ما دام هناك مشاكل مالية.
-مع صاحب المعدّات الأردني عصام فايز سمارا.

المسار الداخلي
ينصب هذا المسار على الهيئات المسؤولة في المرفأ وهي تتوزّع على أربع فئات: إدارية وأمنية وقضائية إضافة إلى الجمارك.

الجهة الإدارية

يخضع مرفأ بيروت لنظام الاستثمار من قبل "اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت"، لقاء بدل مالي، حيث احتفظت الدولة بملكيتها للمرفأ وتحملت المخاطر والمسؤولية القانونية وبحق الرقابة الإدارية والمالية والإشراف عليه بواسطة وزير الأشغال العامة والنقل.
تُسأل اللجنة المذكورة، بموجب نظام المرافئ اللبنانية (القرار رقم 31 تاريخ 26/1/1966، م73) عن تنظيم دخول السفن، ومنع السرقات ومراقبة البضائع الخطرة على السفن وعلى الأرصفة، وأن تتخذ التدابير اللازمة للحفاظ على السلامة العامة في المرفأ.
قامت هذه الجهة بما يأتي وبالتواريخ المبينة:
20 تشرين الثاني، سمحت إدارة المرفأ بدخول الباخرة إلى المرفأ مع علمها أنها تحمل مواد خطرة شديدة الانفجار.
25/11، جهاز الرقابة على السفن، التابع للمديرية العامة للنقل، أوصى بأن يدفع مالك السفينة أجور الميناء ورواتب البحارة. وأن تنقل السفينة إلى الحوض الجاف لإصلاحها من عيوب كثيرة تهدد بغرقها.
2 نيسان 2014، أمر مدير عام النقل عبد الحميد القيسي بالكشف على السفينة واكتشفت عيوبها مجددًا.
20/12/2013، طلب المحاميان بارودي إلى رئيس المرفأ اتخاذ تدابير تمنع حصول الكارثة.
8/4/2014، طلب مدير عام النقل القيسي إلى هيئة القضايا في وزارة العدل تعويم الباخرة وبيعها بالمزاد العلني.
14/4 كتاب آخر إلى هيئة القضايا
30/4/2014، طلب وكيل وزارة الأشغال عمر طرباه من قاضي الأمور المستعجلة تعويم السفينة وبيعها.
2/6/2014، طلب جديد من مدير عام النقل إلى هيئة القضايا لاتخاذ التدابير العاجلة.
2/9، طلب مدير عام النقل من حسن قريطم مدير عام هيئة إدارة واستثمار مرفأ بيروت تأمين أماكن لتخزين النيترات نظرًا لخطورتها.
رد قريطم بالموافقة على تخزينها في عنبر المواد الخطرة، العنبر رقم 12 وكان مسؤوله جورج ضاهر قد نقل من مركزه هذا سنة 2012. وأُعلم رئيس المرفأ محمد المولى بالأمر من قبل الخبير زياد شعبان وبخطورة المواد، غير أن المولى كان لا سلطة حقيقية له بعد تعيين اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار المرفأ.
13/11/2014، عين محمد المولى حارسًا قضائيًا على البضاعة، لكنه تحفظ، لأنه ليس له سلطة على العنابر، وأنها من مسؤولية الجمارك وإدارة المرفأ.
2/12/2017، طلب القيسي بواسطة يوسف فنيانوس وزير الأشغال من هيئة القضايا الاستعجال ببت قضية الباخرة.
8/12، وجه القيسي كتابًا إلى هيئة القضايا.
5/3/2018، وجه القيسي كتابا جديدًا إلى هيئة القضايا.

إذًا لم تقصّر إدارة المرفأ في القيام بواجباتها، على ما يبدو، باستثناء تأمين حراسة العنبر الذي خلعت أبوابه وفتحت فجوة في جداره.  
لكن مع التحفظ في جانب مراجعة القضاء كما سنرى.

الجمارك:

تقوم مهمة الجمارك، حسب قانونها الخاص ، وبعد أن علمت بنوع البضاعة في 16/11/2013،  على السماح بالإدخال والتخزين والمراقبة.
تشمل إنشاءات التخزين "المستودعات العمومية"، وهي التي تخزن فيها البضائع لحساب الغير لكنها خاضعة "لرقابة إدارة الجمارك وتدار بموافقتها من قبل جهات عامة أو خاصة (م 195).
على أن لا تتجاوز مدة إقامة البضائع سنتين في المستودع العمومي، ويمكن لمدير الجمارك العام أن يسمح بتمديد هذه المهل لكن بشرط أن تكون البضائع المودعة محفوظة في حالة جيدة ، على أن تراعى في هذه الحالة الشروط اللازمة في هذه المستودعات التي يحددها مدير الجمارك العام. حتى لو لم ينصّ عليها هذا القانون . (م202)
لم تقم الجمارك بواجب مراقبة العنبر رقم 12 ولم تراعَ فيه الشروط الضرورية لتخزين المواد المتفجرة.
إلا أن الجمارك لم تقصر في المطالبة بالتخلص من النيترات:
 24 شباط 2014، وجه العقيد جوزيف سكاف، رئيس شعبة مكافحة المخدرات وتبييض الأموال في جمارك المرفأ، رسالة تحذيرية إلى ضابطة بيروت للعمل مع السلطات الأمنية لإبعاد السفينة.
5/6/2015 طلب شفيق مرعي، المدير العام للجمارك إلى قاضي الأمور المستعجلة يذكره بكتاب سابق ويطالب بإعادة تصدير البضاعة نظرًا للخطورة الشديدة.
27/2/2016، يبلغ مرعي قيادة الجيش بخطورة البضاعة.
20/5/2016، يخبر مرعي قاضي العجلة بمتابعته مع قيادة الجيش
17/6/2016، يوجه مرعي إلى الوزير علي حسن خليل، كتابا بالموضوع، ويطلب منه خليل بتاريخ 10/9/2016، مخاطبة قاضي العجلة، نفذ مرعي القرار،
ووجه مرعي كتابًا إلى هيئة القضايا في وزارة العدل.
19/7/2017، وجه بدري ضاهر المدير العام الجديد للجمارك كتابًا إلى قاضي الأمور المستعجلة للترخيص بإعادة تصدير البضاعة.
28/12/2017، كتاب من الجمارك إلى قاضي ا الأمور المستعجلة.

وهكذا فإن الجمارك لم تقصر ظاهريًا في موضوع العمل على إخراج النيترات من العنبر ومن المرفأ. لكن ألم يكن هناك تقصير في حراسة العنبر الذي حصل التخريب في أبوابه وفتحت فجوة في جداره
مع التحفظ لجهة مراجعة القضاء.

الجهات الأمنية والعسكرية:

تشمل هذه الجهات الجيش وجهاز أمن الدولة والأمن العام
الجيش:
تحدد المادة الأولى من قانون الدفاع الوطني  دور الجيش في ضمان سيادة الدولة وسلامة المواطنين.
وتنص المادة 33 من قانون الأسلحة والذخائر  على أن لوزير الدفاع الوطني (قيادة الجيش ) أن ترخص بمرور المعدات والأسلحة والذخائر من الفئات الأربع الأولى  عبر الأراضي اللبنانية بعد موافقة مجلس الوزراء.
لا تعطى الرخصة إلا لأشخاص معينين ينتمون إلى قوى مسلحة نظامية تابعة احدى القوى المعترف بها أو مكلفين رسميا من قبلها لهذه الغاية أو لأشخاص لديهم إجازات قانونية من السلطات المختصة في الدولة التي ينتمون إليها.
وهو مكلف بمساعدة اليونيفيل في منع دخول السلاح الذي لا تسمح به الحكومة اللبنانية (التزامًا بالقرار 1701).
20/12/2013، فتّش الجيش السفينة بطلب من اليونيفيل، وأبلغها أن السفينة نظيفة.
2/10/2014، تبيّن للجيش أن إدارة المرفأ وإدارة الجمارك لم تقوما بدورهما لتبيان الخطورة وإعادة الشحن.
14/11/2014، موجز معلومات رقم 246 من جهاز أمن المرفأ بتعويم السفينة بناء على قرار قاضي الأمور المستعجلة.
21/10/2015، رفعت مديرية المخابرات كتابًا إلى قيادة الجيش للكشف على البضاعة.
19/11/2015، طلبت قيادة الجيش من الجمارك تحديد نسبة الآزوت في النيترات.
29/3/2016، أبلغت قيادة الجيش شفيق مرعي أنها ليست بحاجة لهذه الكمية من النيترات وليس لها القدرة على إتلافها-علمًا أنها يمكن أن تحل بالماء- وأن يجري بيعها إلى شماس. لكن شماس لم يوافق.
اكتفت قيادة الجيش بهذا ولم تقم بأي خطوة أخرى.
اذًا ألم يكن من الواجب استجواب قيادة الجيش عن السماح بدخول السفينة التابعة لشركة غير مرخص لها بنقل المواد المتفجرة وعن سبب عدم المتابعة بعد ردها بعدم حاجتها وقدرتها...

جهاز أمن الدولة:
بموجب المادة الأولى من قانون الدفاع الوطني ، تتولى هذه المديرية العامة جمع المعلومات المتعلقة بأمن الدولة الداخلي، واستقصاء المعلومات الخارجية من الأجهزة القائمة، والتحقق منها وتحليلها وتصنيفها وحفظها أو إحالتها إلى الجهات المختصة ...
دخل جهاز أمن الدولة إلى المطار في 19/11/2018، وتمركز فيه في آذار 2019. برئاسة الرائد جوزيف النداف. اكتشف النداف ثغرات في العنبر 12، فالباب مخلوع، وهناك فجوة في الحائط الجنوبي، فنظم تقريرًا لقيادته في 9/12/2019.
طلب اللواء صليبا من نداف أن ينسق مع مديرية أمن المرفأ التابعة للجيش، فتواصل مع العميد أنطوان سلّوم ويقول إنه أبلغه بمحتوى التقرير، لكن سلوم نفى. وطلب منه مراجعة نعمة البراكس مسؤول المانيفست في الجمارك، الذي أكد علمه بوجود النيترات.
قرر صليبا مراجعة القضاء المختص:
28/5/2020، اتصل صليبا بمفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس وأطلعه على الملف فرد بعدم اختصاصه. لأن قاضي العجلة أمر بإفراغ السفينة في العنبر فأصبح الأمر من اختصاص قاضي العجلة. فاتصل نداف بالنائب العام التمييزي غسان عويدات، وأطلعه على الملف وشرح له خطورة الوضع. فأشار بالتواصل مع إدارة المرفأ واستدعاء الموظف المسؤول عن الأمن في المرفأ للاستماع إلى إفادته ومخابرته مجددًا. وتأمين حراسة للعنبر وتعيين رئيس مستودع له ومعالجة الفجوة وصيانة الأبواب وإقفالها بإحكام وختم المحضر وإيداعه إياه.
4/6/2020، أرسلت مديرية أمن الدولة كتابًا إلى إدارة المرفأ بناءً على طلب عويدات، وإلى وزارة الداخلية، القصر الجمهوري، الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع، الأمانة العامة لمجلس الأمن الداخلي المركزي، النائب العام التمييزي، النائب العام المالي، العماد قائد الجيش، مديرية المخابرات، قائد لواء الحرس الجمهوري، المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، المديرية العامة للأمن العام، مديرية الجمارك العامة، المدير العام لوزارة الاقتصاد والتجارة-مصلحة حماية المستهلك، مجلس النواب، الهيئة العامة للإغاثة، مجلس الخدمة المدنية، وزارة الدفاع-الغرفة العسكرية، رئيس هيئة التفتيش المركزي.
وهكذا يكون جهاز أمن الدولة قام بواجبه على أكمل وجه.
وقد أصبح جميع المعنيين على علم مباشر بالخطر القائم، ما عدا رئيس الحكومة.

الأمن العام:
مرسوم اشتراعي رقم 139 -  صادر في 12/6/1959.
المادة 1- ... a يساهم الأمن العام في التحقيق العدلي ضمن حدود المخالفات المرتكبة ضد أمن الدولة الداخلي والخارجي.
ويساهم كذلك مع قوى الأمن في مراقبة الحدود البرية والجوية والبحرية ومراقبة الأجانب على الأراضي اللبنانية، كما يتولى إعطاء إجازات المرور.
4/6/2020، كتاب صليبا إلى المديرية العامة للأمن العام.
ليس من صلاحياتها القيام بأي عمل.

القضاء
جرت مراجعة النيابة العامة التمييزية، دائرة تنفيذ بيروت، قاضي الأمور المستعجلة، هيئة القضايا.

النيابة العامة التمييزية
3/6/2014، القاضي شربل بو سمرة يكلف سمير حمود بالاستعلام عن السفينة ووضعية الطاقم.
28/5/2020، اتصل النداف بغسان عويدات، فطلب معالجة الوضع ...
يتبين أن هذه النيابة العامة قامت بواجبها.

دائرة تنفيذ بيروت
في 19/12/2013، طلب من مكتب المحاماة بارودي، من دائرة تنفيذ بيروت إلقاء الحجز الاحتياطي على السفينة.
31/10/2013، ألقت دائرة التنفيذ الحجز على السفينة وحظرت مغادرتها حتى إشعار آخر، من أجل دفع المستحقات، لكن دون حجز النيترات. وتكرر الحجز لصالح جهات مختلفة في 19/12/2013، 20/12/2013، 30/4/2014، 5/5/2014، 6/9/2014، 27/3/2015.
12/9/2019، تقرر بيع حطام السفينة بالمزاد، دون النيترات.
قامت هذه الدائرة بالمطلوب منها، ويبقى التساؤل حول عدم حجز النيترات.
 
قاضي الأمور المستعجلة
تنص المادة 579 من أصول المحاكمات المدنية على أن لقاضي الأمور المستعجلة أن ينظر في طلبات اتخاذ التدابير المستعجلة في المواد المدنية والتجارية دون التعرض لأصل الحق.
منعت السفينة من السفر بناء على قرار قاضي الأمور المستعجلة نبيل زوين.
30/4/2014، طلب أمر على عريضة من قاضي الأمور المستعجلة، لتعويم السفينة ونقل الشحنة.
27/6، قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف يرخص بتعويم السفينة ونقل المواد إلى مكان مناسب وتخزينها وحراستها، وتكليف زياد شعبان الكاتب القضائي بالتنفيذ.
لكنه رد طلب بيع السفينة لعدم الاختصاص.
8/12/2014، رد القاضي معلوف طلبًا جديدًا بالبيع لعدم الاختصاص.
5/6/2015، كتاب شفيق مرعي إلى قاضي الأمور المستعجلة: الخطورة الشديدة
1/7، قرر معلوف إحالة الكتاب إلى هيئة القضايا.
20/7، قرار معلوف إيضاحات من الجهة المستدعية.
16/9/2015، استدعى معلوف وكيل الباخرة.
20/5/2016، مرعي يبلغ معلوف بمتابعته مع قيادة الجيش، وطلب الترخيص بإعادة التصدير.
1/6، رد المعلوف الطلب شكلًا.
19/7/2017، كتاب من بدري ضاهر إلى قاضي الأمور المستعجلة للترخيص بإعادة التصدير
14/8، كرر المعلوف موقفه السابق، وطلب البحث في الاختصاص القضائي.
28/12، الجمارك تكرر الطلب من قاضية الأمور المستعجلة كريستين عيد فأكدت على القرارات السابقة.
كان هذا القاضي يرد باستمرار بعدم اختصاصه عندما يطلب إليه الترخيص ببيع السفينة أو إعادة تصدير النيترات. وهذه مسألة قابلة للنقاش، لكن أما كان من حل لهذه المسألة؟ سنجيب فيما بعد.

هيئة القضايا
تنص المادة 18 من المرسوم الاشتراعي رقم 151 الصادر في 16/9/1983 (تنظيم وزارة العدل).
على أن تتولى هيئة القضايا:
1- إقامة الدعاوى باسم الدولة والدفاع عنها في الدعاوى المقامة عليها...
4- القيام بجميع الأعمال التي يتطلبها الدفاع عن مصالح الدولة أمام المحاكم سواء كانت مدعية أو مدعى عليها،
وقد جرت مراجعتها على النحو الآتي:
8/4/2014، كتاب القيسي إلى هيئة القضايا للبت بقضية الباخرة.
14/4، كتاب آخر إلى هيئة القضايا.
2/6، كتاب القيسي إلى هيئة القضايا للاستعجال ببيع السفينة.
14/11، كتاب القيسي إلى هيئة القضايا
2/1/2015، كتاب رئيس هيئة القضايا إلى وزارة الأشغال لإنفاذ كتاب المحامي طرباه، الذي يقول عن لسان القاضي المعلوف، إن وزارة النقل لم تنفذ واجباتها بالشكل الصحيح.
1/7، تحويل كتاب من معلوف إلى هيئة القضايا.
16/10/2016، كتاب من مرعي إلى هيئة القضايا.
21/12/2017، كتاب من القيسي إلى هيئة القضايا.
5/3/2018، كناب فنيانوس إلى هيئة القضايا، بعد غرق السفينة، لا جواب.
لم تقم هذه الهيئة بأي عمل رغم المطالبة المتكررة، ما يطرح مساءلتها أمام الجهات المختصة.

الوزراء وسائر المعنيين بالأمن
في 25/6/2014، اتصلت الحكومة الروسية بواسطة السفير بالوزيرين أشرف ريفي ونهاد المشنوق تسأل عن حجز الباخرة وعن صحّة القبطان، وهو مواطن روسي.
16/6/2016، تواصل شفيق مرعي مع وزير المالية علي حسن خليل، فطلب منه مراجعة قاضي الأمور المستعجلة.
18/12/2017، أبلغ القيسي الوزير فنيانوس بأمر السفينة، وطلب فنيانوس من هيئة القضايا اتخاذ القرار.
4/6/2020 كان ممن راسلتهم المديرية العامة لأمن الدولة، وزارة الداخلية، القصر الجمهوري، الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع، الأمانة العامة لمجلس الأمن الداخلي المركزي، العماد قائد الجيش، المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، مجلس النواب، وزارة الدفاع-الغرفة العسكرية.
وإذا كان الوزيران خليل وفنيانوس طلبا مراجعة قاضي الأمور المستعجلة، فإن الباقين، بمن فيهم الوزيران ريفي والمشنوق لم يفعلا شيئا.
3/8/2021، علم رئيس الحكومة حسان ديلب بوجود النيترات وقرر زيارة المرفأ في اليوم التالي، لكن أحد الضباط أكّد له أنها أسمدة زراعية، فصرف النظر.
من هنا فيجب أن يحقق مع هؤلاء المسؤولين، كل لدى الجهة المختصة باستجوابه.

تحقيقات أخرى
عندما كان قاضي الأمور المستعجلة يدلي بعدم صلاحيته، لماذا لم تراجع محكمة الاستئناف بشأن قراراته حسب المادة 586 من أصول المحاكمات المدنية.
ولما كانت هناك عمليات سرقة بعد خلع الأبواب وفتح فجوة في الحائط كان لا بد من البحث عمن فعل ذلك، ولصالح من.
وأخيرًا لماذا لم تسلم أميركا صور الأقمار الصناعية، ولماذا سارعت مخابراتها إلى التحقيق؟ هل تكشف تلك الصور والتحقيق أدوارًا، يراد إخفاؤها لأميركا أو لـ "إسرائيل" وشركائها الذين يريدون جعل ميناء حيفا ميناء الشرق الأوسط الرئيسي؟
هذا مع العلم أن العدو الصهيوني يخطّط منذ احتلال فلسطين لمدّ سكّة حديد من ميناء حيفا إلى الخليج، فيكون الميناء المذكور ميناء إمارات الخليج على المتوسّط. وهذا ما بدأت اليوم تظهر بوادر تحققه مع عزم الإمارات العربية على تطوير ميناء حيفا وإقامة خطّ ترانزيت منه إلى أبو ظبي، وحيث سيقيم أحد مصارفها شراكة مع بنك لئومي בנק לאומי, وهو البنك الثاني لدى العدوّ، لتشجيع المشاريع المشتركة.
فهل وضع الصهاينة لتحقيق ذلك خطّة لتدمير مرفأ بيروت؟
وهل يعجز العدوّ الصهيونيّ عن أن يستخدم أشخاصًا وشركات وجهات ليتوصّل من خلفهم إلى جلب نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت لتدميره وتحقيق حلمه؟
لذا، وهذا هو الأهم، من الواجب التحقيق حول ذلك، فإذا صح، معرفة مع من تواصل العدوّ من بين أفراد الأجهزة المذكورة أعلاه أو من غيرهم.

 مقالات | الطبيعة القانونية للاحتياطي الإلزامي وتوظيفات المصارف الإلزامية / الدكتور حسين العزي - أيار 2021

مقالات | الطبيعة القانونية للاحتياطي الإلزامي وتوظيفات المصارف الإلزامية / الدكتور حسين العزي - أيار 2021

إصدار 2021-05-10

يحظى موضوع الاحتياطي الإلزامي وما يشبهه من إيداعات نقدية لدى المصرف المركزي باهتمام متزايد عند الباحثين وغيرهم، إذ فرض الواقع الاقتصادي - المالي المتدهور مجموعة من المعضلات التي تحتاج إلى حلول سريعة وأيضًا مجموعة من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابة موضوعية على ضوء القوانين المرعية الإجراء والممارسات العملية السابقة في الأوضاع مماثلة مرّت على لبنان.
ومن أبرز القضايا الملحّة اليوم مسألة الاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية وتوظيفات المصارف الإلزامية لدى المصرف المركزي فضلًا عن ودائع المواطنين في المصارف اللبنانية. فما هي الطبيعة القانونية لجميع تلك الايداعات؟ وهل هي متشابهة أم تتباين فيما بينها؟ وماهي القواعد القانونية التي ترعى المعاملات الخاصة بها؟
في هذه الورقة سنحاول مقاربة موضوع التوظيفات الإلزامية للمصارف اللبنانية لدى المصرف المركزي، محددين طبيعتها القانونية مقارنة بالاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية، وذلك استنادًا لقانون النقد والتسليف اللبناني وجميع النصوص المعنية من قرارات أساسية وتعاميم صادرة عن حاكم مصرف لبنان.

أولًا: الأساس القانوني الخاص بالتوظيفات الإلزامية للمصارف لدى المصرف المركزي.
أ: تعميم أساسي رقم 86 / القرار الأساسي 7926 / 2001 المعنون بـ " توظيفات المصارف الإلزامية".

بناءً على قانون النقد والتسليف ولاسيما المواد 79 و174 و177 منه؛
المادة الأولى:
1- على المصارف كافة العاملة في لبنان أن تودع لدى مصرف لبنان، لقاء الفوائد التي يمنحها هذا الأخير على الودائع لديه لأجل بالعملات الأجنبية، نسبة 15% من العناصر التالية المكونة بالعملات الأجنبية:
- جميع أنواع الودائع التي تتلقاها مهما كانت طبيعتها.
- سندات الدين وشهادات الإيداع والشهادات المصرفية التي تصدرها والقروض التي تستحصل عليها من القطاع المالي ولم يبق على تاريخ استحقاق كل منها سوى سنة أو أقل.
2- ملغاة بموجب القرار الوسيط رقم 9029 /2005.
3- تحتسب النسبة المذكورة في هذه المادة وفقًا لنفس المهل وطريقة احتساب الاحتياطي الالزامي النقدي بالليرة اللبنانية، كما هي محددة في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان.
ب: الأساس القانوني للتوظيفات الإلزامية الوارد في قانون النقد والتسليف:
ورد في بناءات القرار الأساسي محل البحث، انه استند الى المادة 76 فقرة "و" والمادة 77 (مصححة إلى 79) و174 من قانون النقد والتسليف: فما هي مضامينها:
- المادة 76 / و:
-    أن يقبل، في ضوء الحالة النقدية العامة ودائع لقاء فوائد يحددها المصرف.

- المادة 79-معدلة وفقا للمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973
-    يمكن المصرف المركزي أن يعمل أيضًا على التأثير في أوضاع التسليف العامة وذلك بتحديد حجم التسليف من انواع معينة او الممنوح لأغراض معينة او لقطاعات معينة، وبتنظيم شروط هذا التسليف.

- المادة 174-معدلة وفقا للمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973
-    للمصرف المركزي صلاحية اعطاء التوصيات واستخدام الوسائل التي من شأنها أن تؤمّن تسيير عمل مصرفي سليم.
-    يمكن أن تكون هذه التوصيات والوسائل شاملة او فردية.
-    وللمصرف المركزي خاصة بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان أن يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها.
-    كما أن له أن يحدّد ويعدّل كلما رأى ذلك ضروريًا قواعد تسيير العمل التي على المصارف أن تتقيّد بها حفاظًا على حالة سيولتها وملاءتها.

ثانيًا: الأساس القانوني الخاص بالاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية
أ: تعميم أساسي رقم 84 / القرار الأساسي رقم 7835 الصادر بتاريخ 2 /6/2001.

نص التعميم على الآتي:
بناءً على قانون النقد والتسليف ولا سيما المواد 70، 76، 77، 78، 79، و174.
أولًا: الالتزامات الخاضعة للاحتياطي الإلزامي:
المادة الأولى: تحديد الالتزامات الخاضعة للاحتياطي الإلزامي: ....
ثانيًا: الاحتياطي الإلزامي النقدي.
المادة الثالثة: نسبة الاحتياطي الالزامي النقدي
1- يفرض على المصارف العاملة في لبنان، باستثناء مصارف الأعمال ومصارف التسليف المتوسط والطويل الأجل، تكوين احتياطي الزامي نقدي لدى مصرف لبنان على مجموع الالتزامات الصافية بالليرة اللبنانية الخاضعة للاحتياطي الإلزامي (أي بعد إجراء التنزيلات المسموح بها من الالتزامات) وذلك على الشكل التالي:
أ- بنسبة خمس وعشرين بالماية (25%) من المتوسط الأسبوعي لمجموع الالتزامات تحت الطلب.
ب- بنسبة خمس عشرة بالماية (15%) من المتوسط الأسبوعي لمجموع الالتزامات لأجل معين.
2- ....

-  المادة 76-معدلة وفقا للقانون رقم 28/67 تاريخ 9/5/1967 والمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973) من قانون النقد والتسليف:
يُخوّل المصرف المركزي، إبقاءً على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف وبين مهمته العامة المنصوص عليها بالمادة 70، صلاحية اتخاذ جميع التدابير التي يراها ملائمة وخاصة التدابير التالية التي يمكنه اتخاذها منفردة أو مجتمعة أو مع التدابير المنصوص عليها في الباب الثالث من هذا القانون:
أ‌-    تحديد وتعديل معدلات الحسم وحدوده القصوى وكذلك معدلات الاعتمادات الأخرى المجاز له منحها للمصارف وللمؤسسات المالية وحدودها القصوى.
ب‌-    اللجوء للعمليات المشار اليها بالمادة 75.
ج- شراء وبيع السندات في السوق الحرة وفقا للمواد 106و107و108.
د- إلزام المصارف بان تودع لديه أموالًا (احتياطي أدنى) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والاموال المستقرضة التي يحددها "المصرف" باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف أخرى ملزمة أيضًا بإيداع الأموال الاحتياطية هذه.
"ويمكن للمصرف المركزي أن يعتبر، إذا رأى ذلك مناسبًا، توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له امر تحديدها.
هـ- إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالًا (احتياطًا أدنى خاصًا) حتى نسبة معينة من الموجودات التي يحددها المصرف.
و- أن يقبل، في ضوء الحالة النقدية العامة ودائع لقاء فوائد يحددها المصرف.

تستدعي قراءة هذه النصوص القانونية التوقّف عند بعض الملاحظات ليُبنى على الشيء مقتضاه
ومنها:
 
1- إلغاء هذا الإيداع للتوظيفات الإلزامية بالعملة الأجنبية والعملة الوطنية بموجب قرار أساسي رقم 13217 الصادر في نيسان 2020.
2- لماذا تغيّرت التسمية إلى توظيفات إلزامية بموجب القرار الوسيط الصادر عن حاكمية المصرف المركزي رقم 8371 للعام 2003، وما هي التسمية القديمة؟
3- هل هناك فرق في الطبيعة القانونية لهذه الايداعات المصرفية بالعملة الأجنبية "التوظيفات" وبين الاحتياطي الإلزامي؟
لقد انقسمت الكتابات بشأن الطبيعة القانونية، فمنها ما لم يميّز بينهما واعتبرهما ودائع نقدية، وبالتالي يقعان هذه الودائع ضمن عقود عارية الاستهلاك (عقد انتفاع من الشيء المودع) ما يعني أن ملكية هذه التوظيفات بالعملة الأجنبية للمصرف المركزي مع ما يستتبع ذلك من حرية تصرف، بشرط اعادتها الى أصحابها في الأجل المحدد، وذلك سندًا للمادة 691 من قانون الموجبات والعقود ونصها "إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود أو أشياء من المثليات، وأُذن للوديع في استعمالها، عُدّ العقد بمثابة عارية استهلاك".
بعضها الآخر ميّز بين الايداعات الاختيارية (الارادية) واعتبرها خاضعة لأحكام عارية الاستهلاك، بينما الايداعات المفروضة بحكم القانون هي أمانة لدى المصرف المركزي ولا يحق له التصرف بها بتاتًا تحت طائلة جرم إساءة الأمانة، أو خاضعة لعقود الوديعة بشرط ان تكون بلا أجر، والا تحوّلت الى عقد مقاولة، وبالتالي ساوى بينها وبين الاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية لجهة الطبيعة القانونية معتبرًا أنه لا يحق للمصرف المركزي التصرف بها، وذلك  لأن التعميمين المذكورين قد اشتركا بالاستناد إلى نص الماد 174 من قانون النقد والتسليف، وقد خلص هذا الرأي إلى أن موجب إيداع الأموال لدى مصرف لبنان – أكان حاصلًا تحت تسمية الاحتياطي الإلزامي بالنسبة للودائع بالليرة اللبنانية، أم تحت تسمية التوظيفات الإلزامية بالنسبة للودائع بالدولار الأميركي – إنما يهدف إلى الحفاظ على سيولة المصارف المودعة وملاءتها. وهذا يعني أنه لا يجوز لمصرف لبنان استعمال هذه الأموال أو التصرف بها، لأن ذلك يتعارض مع موجب محافظته على ملاءة المصارف وسيولتها وعلى مهمته بالمحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي (المادة 70 من قانون النقد والتسليف).


ولكن، برأينا أن السؤال الأساس الذي يحتاج الى إجابة هو: هل أن ما سماه القرار الأساسي بتوظيفات مصرفية الزامية (15%) بالعملات الأجنبية، تدخل ضمن توصيف الاحتياطي الالزامي المنصوص عليه بموجب القرار الأساسي رقم 7835؟
للإجابة نورد الآتي:
أولًا: في اختلاف الطبيعة القانونية بين التوظيفات الإلزامية وبين الاحتياطي الالزامي بالعملة الوطنية

إن قراءة متأنية للقرارات الأساسية ذات الصلة (7926، 7693، 7835) وكذلك لسندها القانوني في مواد قانون النقد والتسليف تسمح من الناحية القانونية الموضوعية البحتة باستنتاج الآتي:
في العبارات المستخدمة في صياغة القرار الأساسي رقم 7926 الخاص بتوظيفات المصارف الإلزامية مقارنة بنص القرار الأساسي الخاص بتكوين احتياطي الزامي بالعملة الوطنية؛
ينص القرار 7926: على المصارف ... أن تودع لدى مصرف لبنان، لقاء الفوائد ... بالعملات الأجنبية
بينما جاء القرار 7835 بصياغة مختلفة وهي: يفرض على المصارف العاملة في لبنان، ...  تكوين احتياطي الزامي نقدي ... بالليرة اللبنانية.
إن استعمال عبارة تودع، وليس "يفرض"، تفيد بأن هذه التوظيفات المصرفية الإلزامية (15%) هي ودائع، وبالتالي تخضع لأحكام عقد الوديعة، الأمر الذي يصح معه وصفها بعقد عارية استهلاك، ما يعني ان الأموال المودعة كتوظيفات الزامية تنتقل ملكيتها للمصرف المركزي ويحق له التصرف بها، بشرط إعادتها أو إعادة قيمتها بالعملة الوطنية استنادًا لنص لمادة 307 تجارة الآتي: "إن المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغًا من النقود يصبح مالكًا له، ويجب عليه أن يردّه بقيمة تعادله دفعة واحدة أو عدة دفعات، عند أول طلب من المودع او بحسب شروط المهل او الاعلان المسبق المعينة في العقد.
وايضًا استنادًا للمادة 301 من قانون التجارة البرية على ما سيجري تفصيله أدناه.
وعلاوة على ذلك، يمكن للمصرف المركزي تعديل نسبة (15%) زيادة أو نقصانًا، كما يمكن له إلغاء هذا الموجب بإعفاء المصارف من تلك التوظيفات المالية بالعملات الأجنبية، وذلك في سياق دور مصرف لبنان كناظم للسياسة النقدية وناظم للعلاقة بينه وبين المصارف لجهة الحفاظ على السيولة والملاءة لدى المصارف، وهذا ما فعله بموجب القرار الأساسي رقم 13217 المعدل بقرار وسيط رقم 13226 للعام 2020. واللافت بالأمر أن القرار الوسيط رقم 13226 للعام 2020، الذي نصّ على الإعفاءات المذكورة، جاء معنونًا بـ " إعفاءات استثنائية من الاحتياطي الإلزامي ومن توظيفات المصارف الإلزامية" ما يؤكد أنهما ليسا شيئًا واحدًا بل إنهما مختلفان من حيث الطبيعة القانونية. وبالتالي نرجّح أن تخضع التوظيفات الإلزامية لأحكام الودائع العادية النقدية، وتطبق عليها أحكام عارية الاستهلاك.

 
كما يمكن له أن يخفّض نسبة تلك التوظيفات المودعة لديه من 15% الى 10 % بموجب قرار أساسي، وخاصة انه أعفي المصارف من هذا الموجب في العام 2020. وبتخفيض تلك النسبة يكون قد حرّر جزءًا يسيرًا من 18 مليار دولار، وبالتالي استعمله في ترشيد الدعم وفقًا لسياسة واضحة وسليمة مختلفة عما هو مطبق حاليًا.
ولمزيد من التأكيد على ما تقدّم، ينبغي الاستفادة خلافًا لرأي بعض القانونيين، من نص المادة 76 الفقرة الأولى للاستنتاج الآتي:


نص الفقرة "د" من المادة 76:
"ويمكن للمصرف المركزي أن يعتبر، إذا رأى ذلك مناسبًا، توظيفات المصارف في سندات حكومية أو سندات مصدرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له أمر تحديدها".
لذا، يستفاد من نص الفقرة "د"  إن التوظيفات المصرفية الإلزامية المنصوص عليها بالقرار الأساسي رقم 7926/ 2001 لا تدخل من حيث المبدأ ضمن " الاحتياطي الزامي، إلا اذا رأي المصرف ذلك مناسبًا، بدليل استعماله لعبارة كجزء من الاحتياطي ، "إذ يستفاد من ورود حرف "ك" للتشبيه، أن التوظيفات الالزامية بالعملة الأجنبية الموظفة في سندات الحكومية لا تدخل في الأصل ضمن نطاق "الاحتياطي الالزامي"، بل يمكن اعتبارها كذلك استنادًا للسلطة الاستنسابية للمصرف المركزي، ما يعني أن الاحتياطي الالزامي والتوظيفات بالعملة الأجنبية هما فئتان مختلفتان وليسا شيئًا واحدًا، وبالتالي تكون توظيفات المصارف بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي هي توظيفات كما يستفاد من تسميتها ومن دورها الوظيفي لدى المصرف المركزي، وهي خاضعة لأحكام الودائع المصرفية العادية، والتي يجوز للمصرف المركزي التصرف بها بشرط إعادتها بالعملة الأجنبية أو بالعملة الوطنية وفقًا للتفصيل الآتي.
ثانياُ: إمكانية إعادة توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي بالعملة الأجنبية أو بما يعادلها بالعملة الوطنية
.
تنص قوانين النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود وقانون التجارة البرية على إلزامية قبول الإيفاء بالليرة اللبنانية، أيًا تكن العملة التي حرّر بها العقد، إذا كان الدفع يجب أن يحصل في لبنان.
حيث نصّ قانون النقد والتسليف في المادة 7: (عدلت بموجب قانون 361/1994).
"للأوراق النقدية التي تساوي قيمتها الخمسماية ليرة وما فوق قوة إبرائية غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية".
ما يعني أن العملة اللبنانية من الفئة المذكورة يمكن استخدامها في أي عملية إيفاء.

ومن لا يقبل الليرة اللبنانية يعاقب سندًا للمادة 192 التي تنص على أن:
المادة 192: تطبق على من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية بالشروط المحددة في المادتين 7 و8 (حسب فئات العملة) العقوبات المنصوص عليها في المادة 319 من قانون العقوبات.

أما قانون الموجبات والعقود فيطلق حرية التعاقد لكن بشروط، فقد نصت المادة 166 على ما يأتي:
المادة 166: إن قانون العقود خاضع لمبدأ حرية التعاقد، فللأفراد أن يرتبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون بشرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة الزامية.
إلا أن المادة 221 تشترط حسن النية في تنفيذ العقود.
ما يسمح بنوع من المرونة فيما يخص التنفيذ بين الدولار والليرة اللبنانية أو بنوع من التسوية، لكن الدفع ليس إلزاميًا إلا بالليرة اللبنانية في حال عدم الاتفاق الودي، وذلك سندًا للمادة 301 التي تنص
على أنه عندما يكون الدين مبلغًا من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجباريًا بعملة الورق، يظل المتعاقدون أحرارًا في اشتراط الإيفاء نقودًا معدنية معينة أو عملية أجنبية.
ولكن التعامل بالعملة الورقية في وقتنا الراهن إجباري، لأن النص المذكور وضع في زمن كان التعامل بالعملة الورقية يشكل استثناءً وليس الأصل، خلافًا ليومنا هذا.
كما يؤكد قانون التجارة البرية إلزامية قبول الليرة اللبنانية أيًا تكن العملة التي حرر بها العقد فقد جاء في المادة 356 التي نصت إذا كتب في سند السحب أنه قابل للإيفاء بعملة غير متداولة في محل الإيفاء فيجوز أن تدفع قيمته بعملة البلاد حسب سعرها في يوم الاستحقاق. وإذا تأخر المدين فيجوز لحامل السند أن يطلب حسب اختياره دفع قيمة السند بعملة البلاد أما بحسب سعرها في يوم الاستحقاق وأما بحسب سعرها في يوم الدفع.


تحدد قيمة العملة الأجنبية بحسب العرف المرعي في محل الإيفاء على أن الساحب يمكنه أن يشترط أن القيمة تحسب وفقًا لسعر معين في السند.
بيد أن القواعد المبينة فيما تقدم لا تطبق عندما يشترط الساحب أن الإيفاء يجب أن يتم بعملة معينة (شرط الإيفاء الفعلي بعملة أجنبية).
وإذا كانت قيمة السند معينة بعملة لها تسمية واحدة في محل إصدار السند ومحل إيفائه ولكن قيمتها تختلف في هذين المحلين، فيقدر حصول الاتفاق على عملة محل الإيفاء.
إذًا هي تسمح في مادة سندات السحب باشتراط سعر معين للعملة الأجنبية أو الدفع بعملة أجنبية، لكن هذا ينطبق مبدئيًا على التجارة، لأنها واردة في قانون التجارة. إذًا هي قاعدة خاصة تسري في مواجهة القاعدة العامة استثناءً عليها ولا تعمم.
ولا يمكن تطبيقها في عقود أخرى.
رأينا خلافًا لبعض الآراء المطروحة، هو أن إيفاء المستحقات بالدولار يمكن، من حيث المبدأ، أن يجري بالليرة اللبنانية، لكن على أساس قيمتها الفعلية بالنسبة إلى الدولار. كما ورد في الفقرة الثانية من المادة 356 من قانون التجارة البرية أي "بحسب العرف المرعي في محل الإيفاء".
إلا أن ذلك في الظروف المماثلة للوضع الحالي قد يتعارض مع إحدى مهام المصرف الواردة في المادة (70) من قانون النقد والتسليف، والتي تقضي بالحفاظ على سلامة النقد اللبناني وخاصة إذا ما كان الإيفاء على نطاق واسع وغير مغطى بأصول خارجية، كما قد يتعارض أيضًا مع مصالح المودعين الذين يستحقون استعادة ودائعهم بقيمتها الحقيقية.
أما فيما يتعلق بالمستحقات بالليرة فهي تسدد بالليرة حسب اجتهاد القضاء رغم ما في ذلك من إجحاف عندما يتبدل سعر العملة بشكل كبير، ما يسمح لنا شخصيًا بالقول: "إنه يجب أن يؤخذ بالحسبان ما يطرأ على سعر الليرة في هذه الحالة".


وعليه، نخلص إلى الآتي:

  •    إنه يجب عدم الخلط بين مصطلحي "الاحتياطي الالزامي" وهو الاحتياطي الالزامي المفروض تكوينه بالعملة الوطنية لدى المصرف المركزي بموجب القرار الأساسي رقم 7835/2001 وبين "توظيفات المصارف الإلزامية" المنظمة بموجب القرار الأساسي رقم 7926 /2001 والتي تمّ إعفاء المصارف منها في العام 2020، فهما شيئان مختلفان من حيث الطبيعة والدور الوظيفي.
  •    إن التوظيفات الإلزامية للمصارف ما هي إلا ودائع لدى المصرف المركزي وتخضع لأحكام الودائع المنصوص عليها في قوانين النقد والتسليف والتجارة البرية والموجبات والعقود.
  •    يمكن للمصرف المركزي أن يتصرف بتلك التوظيفات الموجودة لديه بالعملات الأجنبية بشرط إعادتها أو إعادة قيمتها بالعملة الوطنية وفقًا للسعر الرائج الخاضع لآلية العرض والطلب.

* أستاذ جامعي وباحث قانوني.

 مقالات | تعيين الحدود البحرية للبنان / د. محمد طي - 25 آذار 2021

مقالات | تعيين الحدود البحرية للبنان / د. محمد طي - 25 آذار 2021

إصدار 2021-03-25

من مقتضيات سيادة الدولة وسيطرتها على مواردها أن ترسم حدودها البريّة والبحريّة والنهريّة. وبالنسبة إلى لبنان أصبح الأمر ملحًا أكثر بعد اكتشاف وجود المواد الهيدروكاربورية من نفط وغاز في المنطقة الاقتصادية التابعة لكل من لبنان والدول المجاورة، وبعد أن عبّر العدو عن مطامعه بحصتنا في المنطقة الواقعة بين مياهنا ومياه فلسطين المحتلّة. فما هي الطرق الممكنة لتعيين هذه الحدود؟
قبل البدء بصلب الموضوع لا بدّ من إيضاح بعض المصطلحات لغير الاختصاصيين.
فالبحر الإقليمي mer territoriale هو اليوم الشريط البحري الممتد من أدنى مستوى الجزر قرب الشاطئ (راجع قرار محكمة العدل الدولية حول المصائد النرويجية بتاريخ 18/كانون الأول/ ديسمبر 1951 ص 128) إلى مسافة اثني عشر ميلًا بحريًا.
والمنطقة المتاخمة:zone contigue ، وهي الشريط البحري الملاصق للبحر الإقليمي حتى مسافة حددتها بعض الدول بـ 12 ميلًا أيضًا، ولدولة الشاطئ في هذه المنطقة بعض الصلاحيات على السفن الأجنبية.
والجرف القاري plateau continental: continental shelf، وهو من الناحية الجغرافية المنطقة ذات الانحدار الخفيف الممتدة من الشاطئ باتجاه أعالي البحار وصولًا إلى الانحدار القوي حيث تبدأ الأعماق،
(Charles Rousseau, droit international public Sirey 1980 p 427. t.4)
ومن الناحية القانونية حددتها المادة الأولى من اتفاقية جنيف (29 نيسان/إبريل 1958) بـ "أنها أرض البحر وما تحتها من مناطق تحت البحر ملاصقة للشواطئ دون أعالي البحار حتى عمق 200 متر أو بما يتجاوزها حتى حدود النقطة التي يسمح فيها العمق باستخراج الموارد الطبيعية لهذه المناطق".

المنطقة الاقتصادية الخالصة La zone économique exclusive
وهي منطقة بحرية ملاصقة للبحر الإقليمي تمارس فيها دولة الساحل صلاحيّات محصورة بها دون غيرها من الدول فيما يخصّ الموارد الطبيعيّة، وكان يأتي الصيد في مقدّمها. إلاّ أنّه بموجب اتّفاق مونتيجو باي (اتّفاقيّة قانون البحار لسنة 1982) أصبحت الحقوق تطال أيضًا الموارد الطبيعيّة الأخرى. وليس لدولة الشاطئ أن تمنع الدول الأخرى أو تقيّد نشاطها إلا في هذه المجالات ولأغراض الاستكشاف أو الاستغلال أو لأغراض بيئية. راجع
(P. Daillier et A. Pellet, Droit international Public, L.G.D. J, 2002, P 1180(.
أما فيما يخصّ عرض هذه المنطقة، فللدولة أن تحدّده بإرادتها المنفردة، وحدّها الأقصى 200 ميل بحري، كما ذكرنا، إلاّ إذا اصطدمت بتحديد دولة مواجهة لمنطقتها، دون أن تتسع المسافة بينهما للتحديدين، كأن تنقص المسافة مثلًا عن 400 ميل (200 ميل لكل منهما).


تعيين الحدود البحرية بين دولتين متجاورتين
إلا أن هذه المناطق لا تكون الدولة دائمًا طليقة اليد في تحديدها، لا سيما إذا ووجهت بدول مقابلة أو ملاصقة، حيث تصبح الأمور بين هذه الدول خاضعة للقانون الدولي وليس الداخلي (راجع القرار المتعلق بالجرف القارّي بين ليبيا وتونس، 24 كانون الثاني/يناير 1982).
فإذا كانت الدولتان متجاورتين، فالحل يأتي نتيجة التفاوض فيما بينهما (راجع Rousseau op.cit.3 p 265 et 266)) وإن لم تصل المفاوضات إلى نتيجة أو إذا تعذّرت، فيمكن اللجوء إلى التحكيم الدوليّ أو إلى القضاء الدوليّ. وقد تبنّت محكمة العدل الدولية طرقًا لتعيين الحدود وكان أبسطها اعتماد الخط الوسط، إلى جانب حلول أخرى.
أ-الخط الوسط (Médiane)
وهو الخط الذي يبدأ من نقطة تلاقي الحدود البرّيّة مع البحر ويسير باتّجاه أعالي البحار بحيث تكون كافّة نقاطه على مسافة متساوية من نقطتي تعليم (repères) متناظرتين على كل من ساحلي الدولتين: راجع
(Jean Combacau et Serge Sur, droit international public montchrestien, 2009. P. 424).

إلا أن اعتماد هذا الخط قد يصطدم بثلاثة استثناءات:
1.    أن تكون هناك اتّفاقات خاصّة ببعض مناطق البحر.
2.    أن تكون هناك حقوق تاريخيّة لأيّ من الدولتين على مناطق معيّنة (مصائد أو غيرها)
3.    أن يكون الواقع الجغرافيّ للشواطئ ممّا يصعب معه تصوّر هذا الخط.
ب- المعايير المتعددة
عندما يكون شكل الشواطئ معقدًا، تؤخذ بعين الاعتبار معطيات عديدة، بهدف أن تؤدّي إلى حلّ عادل (المرجع نفسه) وهذا ما كرّسته محكمة العدل الدوليّة في عدد من قراراتها لا سيّما الأخيرة، كما في قرارها بشأن تعيين الحدود البحريّة في خليج مين (Maine) بين الولايات المتّحدة وكندا بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 1982، والحدود البحريّة بين الكاميرون ونيجيريا بتاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر 2002، والحدود البحريّة بين الهندوراس ونيكاراغوا بتاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2007، والحدود في البحر الأسود بين رومانيا وأكرانيا بتاريخ 3 شباط/فبراير 2009.

الجُزُر
تعرّف المادة 121 من قانون البحار الجزيرة بأنّها "رقعة من الأرض متكوّنة طبيعيًّا ومحاطة بالماء وتعلو عليه في حالة المدّ".
وهكذا فهي تختلف عن تكوينين طبيعيين، وهما:
- النتوءات التي تغمرها المياه في حالة المدّ وتنحسر عنها في حالة الجزر (م13).
des hauts-fonds))
- الصخور الصغيرة التي لا حياة فيها.
فالجزيرة تمتلك بحرًا إقليميًّا ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة وجرفًا قارّيًّا تحدّد كما مثيلاتها الخاصة بالبرّ.
أمّا النتوءات المذكورة فيعتدّ بها لتحديد خطّ الأساس لقياس البحر الإقليميّ لبرّ أو لجزيرة في حال كانت كلّيًا أو جزئيّا ضمنه، أما إذا كانت خارجه فلا بحر إقليميًّا لها. وبالطبع لا منطقة متاخمة ولا جرف قارّيّ.
وأما الصخور فإنّ الشروط القانونيّة التي تسمح بوصفها كذلك بالمعنى المقصود في القانون الدوليّ، فيجب إن تقوّم بشكل موضوعيّ، فإذا كان عنصر بحريّ ما لا يتمتّع بإمكانيّة موضوعيّة لاستقبال نشاط اقتصاديّ أو سكن بشريّ، لا يمكن أن يكون له منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ (م121/3).
لكن ما المقصود بالسكن البشريّ والحياة الاقتصاديّة؟ هاتان المسألتان يجب أن تدرسا بالمعنى الكيفيّ والزمنيّ. ف"السكن البشريّ، كما يرى روبرت كولب: "يجب أن يسمح بنفسه بالإقامة الدائمة لمجموعات اجتماعية منظمة، وبالتالي تكون ذات أهمية ما" . وترى محكمة التحكيم الدولي أنه" يجب أن يناسب (السكن) مجموعة من الأشخاص ويلبي حاجاتها الخاصّة لمدّة غير محدّدة . أمّا "النشاط الاقتصاديّ الخاصّ" فيعني القدرة بالنسبة لسكّان العنصر البحريّ أن يقوموا بنشاط اقتصاديّ مستقلّ، بمعنى ألاّ يكونوا معتمدين كليًّا على الخارج". كما أنّ النشاط يجب ألاّ يقوم فقط على نشاطات استخراجيّة . ولا يعتد بمشاريع تقام عن سوء نية ... بهدف وحيد يتمثل بتحويلها أو اتخاذ أي تدبير مصطنع بمناسبة وجودهم بنيّة حرف نتائج الفقرة الثالثة من المادة 121 . فلا تغيّر في الأمر شيئًا أن يحاول العدوّ أن يظهرها على غير حقيقتها بإقامة منشأة ما عليها.
هذا، وكما استنتج المحكّمون فيما خصّ النزاع بين الصين والفيليبين حول جزر سبراتلي، فإنّ الجزر التي لا تقوم فيها حياة بشريّة أو نشاط اقتصاديّ لا تتمتّع بمنطقة اقتصادية خالصة ولا بجرف قاري.
أمّا بخصوص رسم خطّ الحدود البحرية حال وجود الجزر أو النتوءات التي تظهر في البحر إبان الجزر وتختفي عند المد، فهي تمتلك بحرًا إقليميًا. فقد قضت محكمة العدل الدولية في عدد من القضايا أن يرسم خط الوسط أو منصف الزاوية bissectrice انطلاقًا من نقطة الحدود على الشاطئ وصولًا إلى نهاية المنطقة الاقتصادية الخالصة، ثم يصحح عند وجود جزيرة فيلتف حول بحرها الإقليمي ليعاود مسيره حسب رسمته الأساسية . كما في الرسم رقم 1 الذي يبيّن الحدود البحريّة بين هندوراس ونيكاراغوا.

الرسم رقم 1


في الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة
فإذا حاولنا تعيين الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، فما هو الحل؟
لا بدّ أوّلًا من الرجوع إلى قانون البحار (اتّفاقيّة جنيف 1958، واتّفاقيّة 1982)، وقد صادق لبنان في الخامس من كانون الثاني سنة 1995، على اتّفاقيّة 1982، ووضعت موضع التنفيذ في 29 تموز سنة 1994، ولكنّ العدوّ لم يصادق عليها، ولكنّها تلزمه في بعض أحكامها التي أصبحت عرفيّة خاصّة في مسألة تعيين الحدود. لكن لا بد من العودة إلى مصادر حقوقيّة أخرى تفصيليّة وعمليّة.
وهكذا فإن الحلول، كما رأينا، ليست دائمًا جاهزة أو موحّدة، بل تخضع إلى عدد من الاعتبارات. فقد ورد في قرار تعيين حدود الجرف القارّي بين ليبيا وتونس، أنّه تبقى الأولويّة للاعتبار الجغرافيّ: "في كلّ تقويم للمنهجيات واجبة الإتباع، كتقويم القواعد والمبادئ الصالحة للتطبيق، من المهمّ أن ننطلق من الوضع الجغرافيّ كما يظهر، وخاصّة من امتداد المنطقة المعنيّة وخصائصها".
وفي قضيّة تعيين الحدود بين الهندوراس ونيكاراغوا (8 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2007)، ينصّ القرار على أنّ المعايير، التي يجب أن تؤخذ بالحسبان أثناء المفاوضات، يمكن أن تشمل الصورة العامّة لشواطئ الأطراف ووجود أيّ ميزة خاصّة أو غير عاديّة، وبقدر ما يكون الأمر معروفًا وسهل التحديد، تؤخذ البنية الفيزيائيّة والجيولوجيّة والموارد الطبيعيّة... كما يؤخذ التناسب المعقول الذي يمكن أن يظهر ما بين امتداد مناطق الجرف القارّيّ العائدة لكلّ دولة وطول ساحلها المقيس حسب الاتّجاه العام لهذا الساحل، وما يمكن أن ينتج عن تحديد قائم طبقًا لمبادئ عادلة، على أن تؤخذ أيضًا بالحسبان النتائج الآنيّة والمحتملة لأيّ تحديد أخر للجرف القارّيّ في المنطقة نفسها.
أمّا إذا خلا الواقع من الاعتبارات التي يراعيها القرار، فيمكن الاعتماد على الجغرافيا مع بعض التصحيح حين لا تكون نتائج التعيين في بعض الحالات غير معقولة.
ففي قضيّة تعيين الحدود بين الولايات المتّحدة وكندا على خليج مين Maine اعتمدت المحكمة على معايير متعدّدة وركزت على الجغرافيا مع بعض التصحيح، لمّا رأت أن بعض النتائج غير معقولة، فقد جاء في القرار: "إنّ الأفضليّة التي لا بدّ منها هي للمعايير التي تستجيب بشكل أفضل، بطبيعتها المحايدة، لتحديد متعدّد الأغراض (Polyvalent)، فعلى المحكمة أن تتّجه في الدعوى الحاضرة إلى معايير ترتبط بالجغرافيا.. غير أنّه من الواجب إجراء تصحيحات لبعض النتائج التي يمكن أن يكون تطبيقها غير معقول" (راجع الفقرتين 195 و196 من القرار).
وإذا كانت الجغرافيا هي الأساس في عمليّة التحديد، فهذا يفرض علينا أن نتفحّص ذلك في مسألتنا الحاضرة،  
وفي الجغرافيا يبقى ممّا يمكن اعتماده في موضوع الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة إمكانيّتان: خط الوسط (Médiane) وحل المعايير المتعددة.
لاحظنا أنّ الحل المؤدّي إلى نتيجة عادلة حسب اتّفاقيّة قانون البحار لسنة 1982، والذي طبّقه اجتهاد محكمة العدل الدوليّة، كان يأخذ بعين الاعتبار معطيات جغرافيّة تتعلق بشكل السواحل في كلّ بلد، هل هي شبه مستقيمة أم هي مكوّنة من مقاطع (Segments) متمايزة؟ (راجع قرار تعيين حدود الجرف القاري بين ليبيا وتونس الفقرة 75)، وهل هناك من مناطق نتوءات صخريّة des hauts-fonds)) في البحر؟ وهل هناك انعطافات حادة في شاطئ أيّ دولة باتّجاه شاطئ الدولة الأخرى؟ وهل من حقوق تاريخيّة؟ وهل من اتّفاقيّات؟ ...
إنّ كلّ هذا غير وارد في المسألة التي نحن بصددها (مع التحفّظ لجهة صخرة تخليت، (كما سنرى)، يبقى اعتماد خطّ الوسط.
إنّ خط الوسط (Médiane) بين لبنان وفلسطين يبدأ من نقطة الحدود عند الناقورة ويتّجه غربًا وتكون كلّ نقاطه متساوية المسافة (équidistants) عن نقطتي علام (Repères) تعيّنان على ساحل كلّ من الدولتين.
إلاّ أنّ العدوّ يطرح ثلاثة أمور: الاتّفاقيّة مع قبرص، تعيين نقطة بداية الخطّ الوسط، "جزيرة" تخليت.
أ‌-    بالنسبة إلى الاتّفاقيّة مع قبرص، والتي لم يبرمها لبنان، كما سنرى، لا يمكن العدوّ التذرع بها لأسباب منها:
1-هي اتّفاقيّة بين دولتين ولا شأن لطرف ثالث بها.
2- اعتبرت الاتّفاقيّة أن النقطة 1 غير نهائيّة، ويمكن مراجعتها بناءً على معطيات خريطيّة أكثر دقّة.
3- أن الخط الرابط بين رأس الناقورة والنقطة 1 ليس الخط الوسط المتعارف عليه.
لذلك طالب لبنان باعتماد الخطّ رأس الناقورة-النقطة 23، ما يعيد إلى لبنان مساحة 836 500 كلم2 للبنان و360 كلم2 للعدوّ، لكن رفض الاقتراح.
ب- بالنسبة لنقطة بداية الخطّ الوسط، كان العدوّ قد أزاح هذه النقطة عشرين مترًا إلى الشمال داخل لبنان وأقام منشأة أسماها Rock Hanicra، ليمنع الجانب اللبنانيّ من الوصول إلى الموقع الأصليّ لنقطة الحدود B1 التي يصبح الشاطئ الفلسطينيّ، انطلاقًا منها مكشوفًا حتّى حيفا.
وبمناسبة طرح العودة إلى المفاوضات بخصوص الترسيم طرح لبنان قصّة إزاحة النقطة B1، وراح يطالب الرجوع إلى الموقع الأصليّ للنقطة المذكورة B1، ما يعيد إليه مساحة حولي 2000 كلم2 بدلًا من 836 كلم2.
ج- وأما ما يسمّيه "جزيرة" تخليت، فلا بدّ من تفنيد ادعاءاته بشأنه، فهذه "الجزيرة هي صخرة صغيرة وليست جزيرة.

صخرة تخليت
تخليت هي عنصر بحريّ يبعد 800 متر عن الشاطئ الفلسطينيّ (رأس الناقورة).
يدّعي الصهاينة أنّ  تخليت جزيرة ولها مركز الجزيرة القانونيّ، بمعنى أنّ لها مياهًا إقليميّة ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة...إلاّ أنّنا في ضوء القانون الدوليّ نرى أنّها صخرة، مهما كان حجمها، فقد رأت محكمة التحكيم الدوليّ  "أنّ "الصخرة" يجب أن تؤخذ بالمعنى الواسع وليس بالمعنى الضيّق الجيولوجيّ أو التعدينيّ. وبالتالي تذكّر المحكمة بأنّ "الصخرة" لا تتكوّن فقط من الحجارة، بل يمكن أن تتشكّل من موادّ أخرى".
ومن جهة ثانية فإنّ هذه الصخرة ليست مأهولة ولا حياة اقتصاديّة حقيقيّة فيها، وفي هذه الحالة لا يمنحها قانون البحار مركز جزيرة بمعنى الكلمة، فقد رأينا أنّ المادّة 121/3 من القانون تنصّ على أنّه "ليس للصخور التي لا تؤمّن استمرار السكنى البشريّة أو استمرار حياة اقتصاديّة خاصّة بها، منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ".
من هنا فإنّها لا تؤخذ بالحسبان في رسم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة الخاصّة بلبنان. ولو كانت ممّا يعتدّ به بخصوص البحر الإقليميّ، لكان يجب أن ترسم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة بلبنان دون أخذها بالحسبان. ومن ثمّ ينظر في مسألة البحر الإقليميّ. فإذا كان بحرها الإقليميّ يتراكب مع البحر الإقليميّ اللبنانيّ، فيحدّد بحرها لجهة بحرنا بما يتناسب مع أهميّتها، ويرسم على شكل نصف دائرة متّجهة نحوها، كما في الحدود البحريّة بين هندوراس ونيكاراغوا.
لكنّ ما نذهب إليه، لا تنطبق عليه الخريطة الواردة في الملحق رقم 11 للدولة اللبنانيّة (أنظر الرسم رقم 2)، حيث يبدأ خطّ الحدود بين نقطة الناقورة والنقطة (29) بطريقة غير مفهومة مراعيًا على ما يبدو صخرة تخليت، في البحر الإقليميّ، ثمّ يعود ليوازي الخطّ الواصل بين نقطة الحدود عند الناقورة والنقطة 23.

الرسم رقم 2
 

لكن يبقى السؤال: هل إن صخرة بطول بضعة عشر مترًا وعرض بضعة أمتار تتمتع ببحر إقليمي؟

تعيين الحدود البحرية بين لبنان وقبرص
لبنان وقبرص دولتان متواجهتان فكيف يتمّ تحديد الخط الفاصل بين المنطقتين الاقتصاديّتين الخالصتين التابعتين لكلّ منهما؟
لا بدّ أوّلًا من الرجوع، مرّة ثانية، إلى قانون البحار (اتّفاقيّة جنيف 1958، واتّفاقيّة 1982)، وقد صادق لبنان، كما رأينا، وكانت قبرص صادقت عليها في 12 كانون الثاني سنة 1988، وهكذا أصبحت الدولتان ملزمتين بهذا القانون. لكن يتبيّن من الخريطة أن المنطقة الاقتصاديّة، التي ترجّح الاحتمالات احتواءها على الهيدروكاربون (الغاز)، والتابعة للبنان، وتلك التابعة لقبرص متطابقتان، على الأقل، في القسم الأكبر منهما:
فكيف يتم التحديد ؟
تنصّ القوانين المتعلقة بالموضوع، (اتفاقية جنيف 1958، واتفاقية مونتيغو باي اتفاقيّة 1982)، على أن يتمّ الأمر بالتوافق بين الدولتين. فإذا فشلتا، فعليهما العودة إلى الحلول القضائيّة (محكمة العدل الدوليّة، أو التحكيم الدوليّ).
أمّا الأسس التي يمكن أن يبنى عليها الحلّ، إذا لم يكن هناك معطيات تاريخية أو خاصة، في المنطقة لأحدى الدولتين( حقوق صيد قديمة، اتفاقات...)، فيمكن أن تكون:
*خطّ الوسط ( Médiane)، وهو الخطّ الذي يبعد بمسافة متساوية في كل نقطة منه عن الشاطئين (équidistance).

إلا أن هذا الحلّ قد يكون استخدامه البسيط متعارضًا مع معطيات تعاهديّة، أو على درجة من الصعوبة ناتجة عن حقائق جغرافيّة أو جيولوجيّة. وهكذا يؤخذ بالحسبان ما يأتي:
1. طول الواجهات البحرية   
2.التشكّل العام لكل من الشاطئين، هل هناك تعرّجات كبيرة، أو هناك جزر...؟
3. البنية الفيزيائية والجيولوجية للجرف القاري، انكسارات في قاع البحر، أودية سحيقة...
 (راجع: P.Daillier A.Peller op.cit. PP  1189 et  1190 )
لم تطرح أي من تلك المعطيات بين لبنان وقبرص فيما يخصّ المنطقتين الاقتصاديّتين، وجرى الاتفاق بينهما على الترسيم على أساس الخط الوسط بتاريخ 17/1/2007. واستفادت الجهة اللبنانيّة من الاتّفاقيّة المصرية القبرصيّة في 17 شباط 2003.
في الاتّفاقيّة وضعت النقاط بين المنطقة اللبنانيّة والمنطقة القبرصيّة من الجنوب إلى الشمال من 1 إلى 6، على أن تكونا قابلتين للتعديل على ضوء ترسيم الحدود بين لبنان وفاسطين المحتلّة من جهة وبين لبنان وسوريا من جهة أخرى. ونصّت الاتّفاقيّة، بناءً على ذلك، في مادّتها الثالثة على أنه" إذا دخل أيّ من الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعيّن على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوصّل إلى اتّفاق نهائيّ مع الدولة الأخرى، إذا ما تعلّق التحديد بإحداثيّات النقطتين 1 و6".


لكنّ الحكومة التركيّة، المطالبة بحصّة لـ "دولة" قبرص التركيّة، ضغطت على الحكومة اللبنانيّة، فلم تعرض الاتّفاقيّة على مجلس النوّاب للمصادقة، كما تقضي المادة 52من الدستور. غير أنّ لبنان، عاد ورسّم حدود منطقته الاقتصاديّة الخالصة من جانب واحد، على أساس النقطة 23 بدلًا من النقطة 1، والنقطة 7 بدلًا من النقطة 6، وأودع الإحداثيات الأمم المتّحدة بتاريخ 14/7/ 2010.
في 17/12/2010، اتّفقت قبرص مع "إسرائيل" على تعيين الحدود البحريّة بينهما، متجاهلة المادّة الثالثة من الاتّفاقيّة المعقودة مع لبنان والتي تلزمها بالتشاور معه. وفي 12/7/2011 أودعت "إسرائيل" إحداثيّات منطقتها الاقتصاديّ الخالصة الأمم المتّحدة. ورسمت الحدود البحريّ مع لبنان على أساس خطّ من الناقورة إلى النقطة رقم 1. لكنّ لبنان رفض هذا التحديد واحتجّ لدى الأمم المتّحدة.
هذا وتبلغ المسافات المتساوية بين لبنان وقبرص ما يأتي:
في أقصى الشمال: 95،001 كلم.
من بيروت: 66،91 كلم.
في أقصى الجنوب: 133،33 كلم.

تعيين الحدود البحريّة بين لبنان وسوريا
تبدأ نقطة التحديد بين المياه اللبنانيّة والمياه السوريّة عند مصبّ النهر الكبير الجنوبيّ ويمتدّ الخطّ الوسط ليلتقي مع الـ الخطّ الفاصل بين المياه القبرصيّة ومياه كلّ من لبنان وسوريا.
لكن في أيّ نقطة من مصبّ النهر يبدأ الخطّ؟
في الأنهار الحدوديّة الصالحة للملاحة تتكوّن الحدود من تاولوك النهر، أي تيّاره الأقوى اندفاعًا وهو الذي يعلو الخطّ الأسفل في أرض النهر. أمّا في الأنهار غير الصالحة للملاحة، فيؤخذ منتصف مجرى النهر، وهكذا فبين لبنان وسوريا يجب أن تؤخذ نقطة انطلاق خطّ الحدود البحريّة من منتصف النهر الكبير الجنوبيّ.
أمّا بشأن سير الخطّ، فهناك مجموعتا جزر على الجانبين يجب النظر في تأثيرهما:
- في الجانب اللبنانيّ، مجموعة الجزر مقابل طرابلس كبراها جزيرة الأرانب ومساحتها حوالي 0،188 كلم2، وتبعد عن طرابلس حوالي 5و5 كلم. وهي غير مأهولة، وليس لها إمكانات اقتصاديّة خاصّة، وبالتالي لا تتمتّع بمنطقة اقتصاديّة خالصة.
- في الجانب السوريّ، مجموعة جزر كبراها جزيرة أرواد، وتبلغ مساحتها حوالي 0،20 كلم2 وتبعد حوالي 3 كلم عن شاطئ طرطوس، هي جزيرة مأهولة. لكنّ صغر حجمها يمكن، في نظرنا، ألاّ يسمح بأن تتمتّع بمنطقة اقتصاديّة خالصة.
وهكذا، فمن نقطة الانطلاق على الساحل، يسير الخطّ مشكلًا الخطّ الوسط Médiane، أو منصّف الزاويّة bissectrice المتكوّنة من التقاء خطّ الاتّجاه العامّ للشاطئ السوريّ مع خطّ الاتّجاه العامّ للشاطئ اللبنانيّ. وصولًا إلى حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة التابعة لقبرص، وبذلك ترسم الحدود بين المنطقة الاقتصاديّة الخالصة اللبنانية والمنطقة الاقتصاديّة الخالصة السوريّة.
أمّا البحران الإقليميّان لكلّ من البلدين، فيجب أن يتأثّرا بالجزر الموجودة على الجانبين. ولا بدّ هنا من إجراء القياسات الصحيحة والمقارنة للخلوص إلى التحديد الصحيح.
هذا من الناحية النظريّة، أمّا عمليًّا، فقد عيّنت سوريا حدود مياهها بالقانون رقم 28 لسنة 2003، الذي عدّلته صنة 2018، ويبدو من الخريطة أنه أُخِذَ بالحسبان وجود جزيرة أرواد بدليل الخطّ المائل نحو الجنوب المنطلق من نقطة الحدود الأساسيّة، ثمّ انعطافه غربًا (لم نحصل على تفصيل حدود مياهها مع مياه لبنان بعد)،




يظهر الخطّ اللبناني بدءًا من مصبّ النهر الكبير مائلًا إلى الجنوب الغربي ثم ينعطف باتجاه الغرب ليصل إلى النقطة 7. وتظهر النقطة 6 جنوب النقطة 7.
وعندما عيّنت السلطة اللبنانيّة حدود منطق لبنان البحريّة، تجاهلت ما يوصي به قانون البحار من التفاهم بين الدولتين المعنيّتين، وحدّدت الخطّ الفاصل بين لبنان وسوريّا من جانب واحد بخطّ يبدأ من مصبّ النهر الكبير وينتهي عند النقطة 7 بدلًا من النقطة 6.
هذا ويقدّر بعضهم المساحة المحصورة بين النقطتين ونقطة الانطلاق على الشاطئ بحوالي 580 كلم2.
أما المساحة الكلية للمنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان فتكون حوالي 22 ألف كلم2.

 

 

الخلاصة:
يمتلك لبنان منطقة اقتصادية خالصة يقصر مداها من الشاطئ حتى أعالي البحار عن المسافة المقررة في قانون البحار بـ 200 ميل بحري، لأن قبرص، الدولة المواجهة، تقع على مسافة أقصر من ذلك بحيث يبلغ متوسط بعدها البحري عن لبنان حوالي 210 كلم.
إلا أن المشاكل ليست قائمة بين لبنان وقبرص فقط، بل بين لبنان وسوريا وخاصة بين لبنان وفلسطين المحتلة.
أما بخصوص قبرص فالمشكلة ليس في أساس ترسيم الحدود بل في النقطتين الطرفيتين شمالًا وجنوبًا، وهما لا تؤثران على الحدود مع المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين العائدتين للبنان وقبرص، بل على حدود المناطق الخاصة بلبنان وسوريا وفلسطين المحتلة.
فمع فلسطين المحتلة، هناك مفاوضات غير مباشرة، وعلى لبنان أن يتمسك خلالها بحدوده القانونية ولا يرضخ للضغوط من أي جهة أتت.
أما مع سوريا فالمطلوب إجراء مفاوضات مباشرة تؤخذ بها المعطيات العلمية بعين الاعتبار.
وبهذا نحفظ منطقتنا الاقتصادية الخالصة التي تزيد مساحتها عن ضعفي مساحة لبنان.


* نائب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

 مقالات | تعديل مجرى التأثير: سياسة خارجية للداخل الأميركي / الدكتور حسام مطر - مجلة الآداب - 28 شباط 2021

مقالات | تعديل مجرى التأثير: سياسة خارجية للداخل الأميركي / الدكتور حسام مطر - مجلة الآداب - 28 شباط 2021

إصدار 2021-02-28

من اللحظات الأكثر حراجةً في تاريخ الإمبراطوريّات هي حين يصبح النظامُ العالميّ، الذي أقامته هذه الإمبراطوريّاتُ بهدف الهيمنة، متاحًا لقوًى أخرى تستغلّه للصعود وتغييرِ الوضع القائم. في تلك اللحظة تبدأ قطاعاتٌ داخل الإمبراطوريّة بخسارة أسواقٍ خارجيّةٍ لصالح منافسين جددٍ سيصِلون - هم أيضًا - إلى الأسواق الداخليّة للإمبراطوريّة نفسها. لا ينال سكّانُ الدولة المهيمِنة حصّةً متساويةً من عوائد التدخّل حول العالم؛ ولكنْ ما دام التفاوتُ ضمن حدودٍ "مقبولةٍ" لهم، فإنّهم يتساكنون مع المشروع الخارجيّ لدولتهم ونخبتِها.

 مقالات | قراءة في اقتراحات البنك الدوليّ لـ إصلاح نظام التقاعد، إجراءات لقضم حقوق العمال/ الدكتور الشيخ حسن المحمود - جريدة الأخبار -1 شباط 2021

مقالات | قراءة في اقتراحات البنك الدوليّ لـ إصلاح نظام التقاعد، إجراءات لقضم حقوق العمال/ الدكتور الشيخ حسن المحمود - جريدة الأخبار -1 شباط 2021

في عام 2019 قدّم البنك الدولي دراسة لوزارة المال عن "إصلاح" نظام التقاعد، هي بمثابة تحدّ لدراسة سابقة أُعدّت في عام 2016 وخلصت إلى أن "نظام التقاعد" في القطاع العام اللبناني غير مستدام. النسخة الأخيرة من الدراسة خلصت إلى ضرورة إعادة هيكلة النظام وفق قواعد الاستدامة المالية، أي خفض التقديمات ورفع نسب المشاركة. دراسة من هذا النوع، لا تأخذ في الحسبان الأهداف الاجتماعية والاقتصادية التي يجب البناء عليها لدراسة نظام للتقاعد يكون مفيدًا لسوق العمل بكلفة أقلّ من دون المسّ بمكاسب العمال. وقد أجرى الباحث في المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، الدكتور حسن المحمود، قراءة نقدية لإصلاحات البنك الدولي التي تبنّتها وزارة المال في ذلك الوقت، ثم زايدت عليها في مشروع موازنة 2021.

 مقالات | نحن بين استدارتَين / د. حسام مطر - جريدة الأخبار - 23 كانون الأول 2020

مقالات | نحن بين استدارتَين / د. حسام مطر - جريدة الأخبار - 23 كانون الأول 2020

إصدار 2020-12-25

يصادف العام المقبل الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، قرنٌ كامل وصلت الصين في نهايته إلى المزاحمة على قيادة العالم منجزة أكبر تجربة بشرية في النهوض الاقتصادي والسياسي. أصبح هذا الصعود الصيني المتواصل الكابوس الأكبر المهيمن على عقل النخبة الأميركية وتصوّراتها، ولم تكن سياسات إدارة دونالد ترامب "العارية" تجاه الصين إلّا التعبير الأكثر وضوحًا عن ذلك. تحت عنوان "عناصر التحدّي الصيني"، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرًا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 بلهجة شديدة العدائية ضدّ الحزب الشيوعي الصيني الذي "أطلق حقبة جديدة من منافسات القوى العظمى" بهدف قلب النظام العالمي ووضع الصين في مركزه وخدمة "الأهداف التسلّطية وطموحات الهيمنة لبكين". يُفتتح التقرير باقتباس، يُراد منه تأكيد النوايا "الخبيثة" للصين، للرئيس الصيني شي جينبينغ، مفاده: «يجب علينا أن نركّز جهودنا على تحسين أحوالنا وتوسعة مستمرة لقوتنا الوطنية الشاملة وتحسين حياة شعبنا وبناء اشتراكية متفوّقة على الرأسمالية ووضع الأسس لمستقبل نفوز فيه بالمبادرة ونكون في موقع مسيطر» (خطاب أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، كانون الثاني/ يناير 2013).

أولًا: مخاوف متسارعة
بلغت المخاوف الأميركية من صعود الصين، ذروتها بعد جائحة «كورونا» حيث برزت الأخيرة أكثر كفاءة بأشواط في الاستجابة للوباء محليًا وخارجيًا بالمقارنة مع أميركا. تحاول واشنطن استعياب ذلك بشنّ حرب معلومات ضدّ الصين لتحميلها مسؤولية تفشّي الوباء عالميًا. لم تكن مسألة الوباء إلّا «حبّة الكرز على قالب حلوى» الصعود الصيني والهلع الأميركي بشأنه. تدور المخاوف الأميركية حول التطوّر التكنولوجي الصيني، والاختلال في الميزان التجاري، وزيادة الاستثمار في الأنشطة العسكرية. تركّز كلّ من واشنطن والصين على المجال الإقليمي في جنوب شرق آسيا، فالأولى ترى أنّ منع ظهور منافسيين إقليميين ودوليين لها، يكون من خلال تقييدهم بتوازنات إقليمية منهِكة ومستدامة، فيما تسعى الثانية، أي الصين، إلى تحقيق هيمنة مستقرّة في محيطها القريب بدايةً، قبل أن تتوثّب بقوة أكبر نحو الخارج.
أجرى باحثون من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» CSIS، متخصّصون في المسألة الصينية (مايك غرين، بوني غلاسر، سكوت كينيدي، جود بلانشيت) مسحًا شارك فيه 400 من قادة الفكر من 12 مؤسّسة وطنية في أميركا (قطاعات الزراعة والصناعة والأمن القومي وحقوق الإنسان)، إضافة إلى مفكّرين عالميين من 16 دولة في آسيا وأوروبا، وعيّنة من ألف مواطن أميركي (أعلن عنه ضمن بودكاست «رقعة شطرنج آسيا» في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020). أظهر المسح أنّ 54% من الرأي العام الأميركي يرى في الصين التحدّي الأكبر بوجه أميركا مع أغلبية وازنة لديها تصورٌ سلبيٌ تجاهها. وعن كيفية الاستجابة لذلك، رأى 45% من الرأي العام و81% من قادة الفكر الأميركيين، أنّه يجب ملاقاة الصين من خلال الحلفاء والشركاء، وليس بمواجهة مباشرة. ويعتقد بلانشيت أنّ الصينيين يراقبون ميزان القوى وتعامل أميركا مع الجائحة، فيتأكّد لديهم أنّ أميركا قوة آفلة مع مؤسّسات ديموقراطية متدهورة في مقابل صعود الصين، ولذا يعتقد الرئيس الصيني بأنّ الوقت يسير إلى جانب بلاده.


ثانيًا: الأسطول الأعظم

لدى الأميركيين قلق رئيسي من نمو الإنفاق العسكري الصيني، الذي بات فارقًا بشكل هائل مع دول الجوار المفترض أن تنخرط في الجهود الأميركية لتطويق الصين. فقد وصل الإنفاق العسكري الصيني، عام 2019، إلى 260.1 مليار دولار، وهو مبلغ يوازي ضعف الإنفاق العسكري لكلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا وسنغافورة. وحتى لو أضفنا إنفاق دول الهند وأندونيسيا وماليزيا والفيليبين وتايوان وتايلاند، فتبقى الصين متقدّمة عليها جميعًا. لكنّ واشنطن قلقة من تطوّر البحرية الصينية على وجه التحديد، كونها القادرة على «إسقاط» القوة الصينية نحو العالم ((projection of power وهذا هو مسار حتميّ لانتقال أيّ دولة من قوة إقليمية إلى قوة دولية. بالمناسبة، أطلق الجيش الأميركي حديثًا مشروعًا مع شركة «سبايس إكس» لتطوير استخدام مركبات فضائية لنقل مواد لوجيستية توازي حمولة طائرة النقل الضخمة «سي 17» (قادرة على نقل دبابة بوزن 70 طن)، إلى أيّ مكان في الكرة الأرضية عند حالة الضرورة في وقت قياسي لا يتجاوز الساعة الواحدة.
لذلك، تتراكم الهواجس الأميركية من تطوّر سلاح البحرية الصيني نوعًا وكمًّا. فبحسب تقرير سنوي للبنتاغون (2020)، أصبحت البحرية الصينية هي الأكبر في العالم بامتلاكها 350 سفينة حربية صينية مقابل 293 أميركية. وتجاوزت الحمولة الكلّية للسفن الحربية التي أطلقتها بحرية الجيش الصيني، بين عامي 2015 - 2019، ضعف تلك الأميركية عن الفترة نفسها. ولمواجهة هذه الفجوة، كان وزير الدفاع الأميركي السابق مارك إسبر تعهّد بزيادة حجم الأسطول الأميركي، عبر سفن تكون أصغر وأكثر رشاقة، وجزء منها غير مأهول، بما يمنح الأسطول الأميركي قدرة على انتشار أوسع، وهذه الميزة تتيح له النجاة من الصواريخ الصينية واستيعاب الهجمات من نقاط متنوّعة بشكل أكبر. لكنّ هذه الزيادة تواجه مشكلة مالية، حيث يجب أن ترتفع ميزانية بناء السفن من 11 % إلى 13% من ميزانية البحرية وهي النسبة التي كانت في حقبة رونالد ريغان (إيكونوميست- أيلول/ سبتمبر 2020).
ثالثًا: الانفكاك المستحيل
إضافة إلى صعود الصين بما يحمله ذلك من فرص ومخاطر للآخرين، شجّعت سياسات إدارة ترامب الأحادية الدول الأخرى على أخذ موقف أكثر حذرًا تجاه المواجهة مع الصين. وهذا ما يعمّق مأزق واشنطن التي في أشدّ ما تكون بحاجة لمساهمة الحلفاء والشركاء في احتواء الصين. يشير أنتوني كوردسمان (9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020) إلى أنّ وقائع الصعود الصيني إضافة إلى جائحة «كورونا» وما سيليها، سيجعل العيش في العالم الواقعي الجديد يفرض على أميركا علاقات مستدامة مع شركاء وحلفاء استراتيجيين حقيقيين. فأميركا التي تواجه تنافسًا بل وصراعًا مدنيًا وعسكريًا مع الصين وروسيا، أقلّ قدرة من أن تكون منقذ العالم عدا عن أن تكون شرطيه، بحسب كوردسمان.
المفارقة أنّ مسح «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» كشف عن وجود تفضيل قويّ في دول جنوب شرق آسيا لأن تتولّى أميركا العمل على «المشكلة الصينية» بشكل متعدّد الأطراف، ولكنّ الاتجاه الغالب بين نخب السياسة الخارجية في تلك المنطقة رفض الانحياز لطرف بين أميركا والصين، أي فضّل الحياد ورفض الوقوف بين «القطارين» الأميركي والصيني. لقد بلغ تقدّم الصين مرحلة لم يعُد الانفكاك عنها خيارًا في الاقتصاد والتكنولوجيا، حتّى من المتوجّسين منها. فقد أظهر المسح أعلاه رفضَ 80% من قادة الفكر (وحتى الرأي العام)، وفي أميركا وأوروبا وآسيا، «الانفكاك» الاقتصادي الكامل (decouple) عن الصين، ولكن أيّدوا ممارسة ضغوط عالية في مجالات محدّدة، لا سيّما تلك التكنولوجية (مثل «هواوي») بذرائع حقوق الإنسان والأمن القومي وحقوق الملكية والخصوصية. هذه الذرائع تكشف عمق «الهيستيريا» الغربية من القفزة الصينية في تطبيقات الذكاء الصناعي، بفعل الداتا الهائلة المتاحة للسلطات الصينية مثل السجلّات الصحّية (يقال في القرن الواحد والعشرين، إنّ الداتا هي النفط الجديد والصين هي السعودية الجديدة). كما رفض المستطلعون من رؤساء الجامعات فكرة الانفكاك في مجال الأبحاث الجامعية عن الصين، وممّا قالوه: «لو كنّا انفكينا سابقًا عن الصين، لكنّا الآن متخلّفين مدّة شهرين بخصوص لقاح فيروس كورونا».

إنّ صعود الصين دوليًا وإقليميًا يُعيد التوازن تدريجيًا ونسبيًا إلى العالم والمنطقة وهذا في صالحنا على المدى البعيد

رابعًا: الاستدارة نحو آسيا مجددًا؟

طرحت إدارة باراك أوباما مقاربة في السياسة الخارجية تقوم على مفهوم «الاستدارة نحو آسيا» لملاقاة الصعود الصيني باعتباره التهديد الأكبر لزعامة الولايات المتحدة ونظامها الدولي، وهو ما يوجب التخفّف من التورّط المفتوح في أزمات الشرق الأوسط وحروبه. يشير أوباما، في كتابه الصادر حديثًا، إلى أنّ غرق جورج بوش الابن في الشرق الأوسط دفع حلفاء واشنطن الآسيويين للتساؤل عن أهمية منطقتهم لدى أميركا، ما دفعهم إلى زيادة الاندماج في الأسواق الصينية. لذلك، يرفض أوباما مقولة إنّ الاستدارة نحو آسيا هدفت لاحتواء الصين، بل لتأكيد روابط أميركا مع تلك المنطقة. لم يتجاوز أوباما أزمات الشرق الأوسط، وإن أوقف التورّط المباشر في حروبه وأنجز الاتفاق النووي مع إيران، فحِدّة التنافسات في المنطقة وجدّية المخاطر الناتجة عنها وضغط اللوبي الإسرائيلي وأشباه اللوبيات السعودية - الإماراتية، والاقتطاعات من ميزانية الدفاع والقوات البحرية أعاقت الاستدارة الأميركية نحو آسيا. وهذه الضغوط ستصطدم بها إدارة جو بايدن أيضًا، وإن كانت الحوافز لإنجاز هذه الاستدارة أصبحت أقوى بكثير الآن.
انتقد بول وولفويتز، أخيرًا، أطروحة «الاستدارة نحو آسيا» لأنّها ارتكزت إلى استقلال أميركا طاقويًا عن المنطقة، في حين أنّها تجاهلت الاعتماد الكامل لشرق آسيا على هذه الإمدادات. ويرى أنّ هذه المقاربة كانت من حسن حظ الصين التي تقلقها الهيمنة الأميركية في منطقة الخليج الحيوية، وليس في بعض الجزر الصغيرة في بحار الصين الجنوبية والشرقية. ويجادل وولفوويتز أنّ النتائج المتواضعة لفكرة «الاستدارة نحو آسيا» لها عدّة أسباب، أبرزها أنّ «الانسحاب من الشرق الأوسط ليس منطقيًا كجزء من استراتيجية حماية المصالح الأميركية في آسيا الباسيفيك». فحتّى مهندس فكرة «الاستدارة» كارت كامبل، أكّد أنّ فكرته لا «تدعو إلى الانسحاب من أيّ جزء آخر من العالم». فالشرق الأوسط لا يمكن أن يُعامل كأنّه ذا صلة ضعيفة بتنافس أو تصارع القوى الكبرى.
كانت مقاربة أوباما تجاه الصين مزيج من المشاركة والتسييج بجهد متعدّد الأطراف، في المقابل ذهب ترامب نحو معركة أيديولوجية ضدّ الحزب الشيوعي الصيني. كثّفت إدارة ترامب تدخّلاتها في المنطقة وأعادت توسيع تعريف منطقة المصالح الاستراتيجية من «شرق آسيا» إلى «منطقة الهندي - الباسيفيك»، بما يكشف الصلة المتينة مع الشرق الأوسط. يرى سكوت كينيدي (مستشار كبير في الاقتصاد والتكنولوجيا الصينية) أنّ السياسة الأميركية تجاه الصين بدأت من «التكامل الصبور»، ثمّ «الضغط الصبور» الذي يشمل مزيجًا من الإجراءات الأحادية والجماعية، وصولًا إلى مرحلة ترامب التي توصف بأنها «المعارضة غير الصبورة» (عارض 71% من قادة الفكر الأميركيين سياسات ترامب تجاه الصين، كونها أضرّت بأميركا ولم تغيّر السلوك الاقتصادي الصيني، بحسب مسح CSIS).
أما مع بايدن، فيمكن الافتراض أنّ مقاربته الصينية ستكون أكثر حدّة من مقاربة أوباما، وأقلّ عدائية من مقاربة ترامب. فالتحوّلات توجب على إدارة بايدن مزيدًا من التركيز على الصين وإكمال «استدارة» أوباما. في مقالته في مجلة «فورين أفيرز» (آذار/ مارس 2020)، طرح بايدن فكرة «سياسة خارجية للطبقة الوسطى» حيث تمثّل الصين «تحدّيًا خاصًّا» يجب مواجهته «من خلال بناء جبهة موحّدة من حلفاء أميركا وشركائها. وفي هذه الحالة لا تستطيع الصين تجاهل أكثر من نصف الاقتصاد العالمي». ويؤيّد أنتوني بلينكن، مرشّح بايدن لوزارة الخارجية، مقاربة تخفيف حضور أميركا في الشرق الأوسط والتوجّه نحو آسيا لإعادة التوازن لمواردها هناك، حيث التوسّع الصيني على مختلف الأصعدة (مؤسّسة هدسون، تموز/ يوليو 2020). ستسعى إدارة بايدن إلى تعزيز الطرق الأنسب للمنافسة مع الصين، بما يحول دون الوصول إلى مواجهة مباشرة معها ثمّ ترك ممرّات للتعاون في قضايا ثنائية ودولية مشتركة بمقدار ما تثمر الضغوط في تغيير سلوك الصين «التوسّعي».


خامسًا: الصين تتّجه غربًا
يتطوّر دور الصين في منطقتنا بشكل معتدل ولكن ثابت، مترافقًا مع تصوّرات إيجابية بالعموم من شعوب المنطقة (بحسب استطلاع «الباروميتر العربي» (2019) فضّل الجمهور العربي في 11 من أصل 12 دولة عربية التقارب الاقتصادي مع الصين أكثر من أميركا). ورغم أنّه ليس للصين استراتيجية معلنة تجاه الشرق الأوسط، وذلك للإبقاء على مواقف ملتبسة ومعتدلة ومرنة، لكن يمكن التعرّف إلى أهدافها: النفاذ المتواصل إلى مصادر الطاقة، وتعزيز نفوذها الجيو استراتيجي في الشرق الأوسط، وهو «المنطقة الأهم لها في القرن الحادي والعشرين خارج الباسيفيك» لأسباب مرتبطة بالطاقة ولمواجهة محاولة التطويق الأميركية، وهنا تأتي مبادرة «الحزام والطريق»، وحفظ الاستقرار الداخلي وفي محيطها ولا سيما في ما يخصّ التهديد الناشئ من أقلية الإيغور، وأخيرًا تعزيز مكانتها كقوة كبرى بما يمتّن المشروعية الداخلية للحزب الشيوعي عبر حماية مصالح الصين ومواطنيها حول العالم (مجموعة كتاب، الصين في الشرق الأوسط، مؤسّسة راند، 2016).
لكن ثمة عنصر إضافي لفهم الاستراتيجية الصينية تجاه منطقتنا هو «الوقت»: تأجيل المواجهات إلى أبعد مدى ما دام الصعود الصيني متواصلًا بالسرعة المطلوبة بمعايير لها علاقة بالداخل والخارج. يرى الصينيون أنهم يبحرون مع تيار التاريخ الذي يفهمونه جيدًا وتعلّموا منه الكثير والآن يصنعونه. التفسير الأولي يفترض أنّ التحشيد الأميركي في محيط الصين سيدفع الأخيرة بالضرورة إلى مقاربة صراعية مع واشنطن من خلال الشرق الأوسط. لكن يبدو أنّ الصينيين يفكّرون بشكل مختلف.
يرى وولفويتز أنّ الصينيين يحاولون تجاوز «التجربة اليابانية الانتحارية» في الحرب مع الولايات المتحدة (الهجوم على بيرل هاربر) ملتزمين مقولة صان تزو بأنّ «ذروة المهارة هي أن تكسب بدون قتال». إضافة إلى أنه، بحسب دراسة «راند»، بالرغم من المنافسة القوية الجارية على مستوى القوى الكبرى، الصين حريصة على حفظ علاقات تعاونية مع أميركا لا سيما في الشرق الأوسط. تدرك الصين أن واشنطن هي مزوّد رئيسي للأمن في الإقليم، حيث لا قوة أخرى بما فيها الصين، قادرة على أداء هذا الدور. إذًا، تسعى الصين لتجنّب الصراع مع أميركا قدر المستطاع وتكسب الوقت بالصعود السلمي، ولهذا فإن استجابتها للاستدارة الأميركية نحوها يجب أن تخدم ذلك المسعى.
بعد عام من قرار أوباما بالاستدارة الآسيوية، كتب وانغ جيسي (عميد معهد الدراسات الدولية في جامعة بكين) مقترحًا لانعطافة صينية في الاتجاه المعاكس أسماها «السير غربًا: إعادة التوازن للجيو استراتيجية الصينية» (2013). تجدر الإشارة هنا إلى وجود انقسام تاريخي في الصين بين مؤيّدي أن تكون الصين قوة بحرية تركّز على الشرق لتتحول إلى قوى عالمية عظمى أو أن تكون قوة برّية تركّز على الغرب والجنوب أي آسيا الوسطى وصولًا إلى الشرق الأوسط. لخّص يون صان (مؤسسة بروكينغز، 2013) مقاربة جيسي بأنّها تهدف إلى أن تتفادى الصين منافسة صفرية محتملة في شرق آسيا في ظلّ سعي واشنطن لاستعادة التوازن هناك. ففي آسيا الوسطى والشرق الأوسط مخاطر أقل لمنافسة صفرية بين القوّتين كونهما محكومتين بمصالح مشتركة (الطاقة ومكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي وعدم انتشار الأسلحة النووية) في أفغانستان وباكستان والعراق، وحيث لدى واشنطن نزعة تراجعية. هذا التوجّه غربًا إلى المناطق «التي كان الأباطرة الأوائل يحلمون بالوصول إليها» (وولفويتز)، تجسّد من خلال «مبادرة الطريق والحزام» حيث تُحوِّل الصين قوتها الاقتصادية إلى قوة سياسية وقوة ناعمة، ثم تأثيرات أمنية مستقبلية. وهذا التوجه يعني استعادة الصين للتوازن بين المجالين الشرقي (مثل تايوان وكوريا الشمالية) والغربي، وبين القوة البرية والبحرية.
هذا التركيز الصيني نحو غربها، بما فيه الشرق الأوسط، يحقّق للصين هدفين أساسيين: يعيد الصين إلى جذورها كقوة قارية بما يُضعف من فرص وقوع مواجهة في شرق آسيا، ويمنحها تأثيرًا استراتيجيًا إضافيًا ضدّ واشنطن، عند الضرورة، بما يسمح بعلاقة أكثر توازنًا بين الدولتين. أي أنّ التوجّه الصيني نحو منطقتنا هدفه تجنّب وقوع صدام مع الولايات المتحدة، إما بزيادة المصالح المشتركة وإما بتحسين لعبة التوازنات، ويستدل محلّلو «راند» على ذلك بالحذر الصيني في تطوير التقارب مع إيران. وداخليًا، يعزّز الاتجاه غربًا استراتيجية «التنمية الغربية الكبرى» (انطلقت عام 2000) الموجّهة للمناطق الصينية في غرب البلاد لردم الهوة التنموية والاقتصادية مع المناطق الساحلية، وكذلك تعزيز الأمن في المناطق الحدودية الغربية.
يشبّه وولفويتز الأطروحة الصينية بالتوجّه غربًا بلعبة صينية مشهورة اسمها «وي كي» أو «إذهب»، ومفتاح الربح فيها يكون بخداع العدو حول اتجاهك الحقيقي ونواياك، فتدفعه ليفتح لك مواقع جديدة تسمح لك بتطويقه على أمل أن لا يلاحظ الخصم استراتيجيتك الحقيقية. وهنا الصين، بحسب وولفويتز، تستدرج الولايات المتحدة نحو بحر الصين الجنوبي، بينما تقوم ببناء «عقد من اللؤلؤ» على مدى المحيط الهندي في باكستان وجيبوتي وسيرلانكا ميانمار. تمثّل مقاربة وولفويتز اتجاهًا قويًا في الحزب الجمهوري و«المحافظين الجدد»، وهي تتمسّك بدور تدخّلي في الشرق الأوسط لأسباب أيديولوجية مرتبطة بالإسلام و "إسرائيل"، والآن الصين.

سادسًا: التداعيات الإقليمية
1 - الضغوط الأميركية المرشّحة للتصاعد على الصين ستزيح بمرور الوقت محور التنافس العالمي نحو الشرق الآسيوي، وهذا ما سيزيد من اهتمام الصين بمنطقتنا وتاليًا الاهتمام الأميركي، وهكذا بدل أن تتحرّر المنطقة من وطأة الحضور الأميركي يجري ابتلاعها من «الثقب الأسود» الناشئ في جوارنا الآسيوي. هذا التشابك الأميركي - الصيني في الشرق الأوسط، دعا المجلس الأطلنطي لأن يوصي في دراسة حول «الدور المتغيّر للصين في الشرق الأوسط» (حزيران/ يونيو 2019) بأن يصبح الخبراء الأميركيون بشؤون الشرق الأوسط ملمّين بالصين والخبراء بالشأن الصيني أن يصبحوا محيطين بأحوال الشرق الأوسط.

2 - تصبح العلاقات الأميركية - الصينية أكثر تأثيرًا في تشكيل مستقبل منطقتنا، ومع الفرص والعوائد الناتجة عن حضور الصين المتزايد على حساب أميركا، فإنّ الأمر لا يخلو من مخاطر وتحدّيات. تواجه أميركا معضلة موازنة حذرها من قضايا الشرق الأوسط مع الرغبة في احتواء نفوذ الصين هناك. هذا الأمر قد يدفع البلدين إلى مشاركة أكثر في شؤون الشرق الأوسط. وهكذا تكون المنافسة الدولية بينهما انعكست منافسة إقليمية أكبر، وهذا يعني ضغوطًا أكبر على دول المنطقة، بما في ذلك حلفاء واشنطن.

3 - سيبقى التوجّه الصيني المتزايد نحو بلادنا في المدى المنظور، ساعيًا لعدم التصادم مع أميركا مفضِّلًا التغلغل التدريجي في المناطق الرخوة والنفاذ إلى الشبكات الإقليمية الواعدة والتعاون مع أميركا في مناطق أخرى والبقاء بعيدًا عن مناطق مشتعلة أو ذات نفوذ أميركي صلب. زخم الاندفاعة الصينية وطبيعتها تجاه منطقتنا مرهون بالدور الأميركي في شرق آسيا مع تفضيل بكين أن يكون الشرق الأوسط «عامل تبريد» للعلاقة مع واشنطن، إلّا إن لم تترك الأخيرة خيارًا لبكين إلّا المواجهة.

4 - إنّ دورًا صينيًا أكبر في منطقتنا يمنحنا فرصة لتنويع الخيارات وتقييد المبادرة الأميركية. لكن علينا أن نعي أنّ الصين ستبني خياراتها بما يتناسب نسبيًا مع ميزان القوى الإقليمي، ومع الدول والقوى القادرة على تأمين منافع أكبر وبكلفة أقل من منظار التفضيلات الصينية. والقيادة الصينية لن تنسى الدرس الأميركي من الشرق الأوسط، ولذا ستتجنّب التورّط في صراعات المنطقة المفتوحة وسياسة المحاور. وهنا قد يبرز تحدٍّ مستقبلي أن تصل واشنطن وبكين لتوافقات لضمان حدٍّ من استقرار الإقليم وتقاسم مصالحه بشكل يقيّد خيارات قوى المنطقة وعلى حساب مصالحها.

خاتمة
إنّ صعود الصين دوليًا وإقليميًا، يُعيد التوازن تدريجيًا ونسبيًا إلى العالم والمنطقة، وهذا في صالحنا على المدى البعيد، ففي ذلك إضعاف لهيمنة أميركا وغطرستها. كلّ تقويض للنظام الدولي بصيغته الحالية هو فرصة لبناء نظام أكثر عدالة وتنوّعًا. مشروعنا الاستقلالي ينبغي أن يبني جزءًا من استراتيجياته على الاستفادة من التنافس الأميركي - الصيني الذي قد يصل، كما نأمل، إلى أن يصبح صراعًا. لكن علينا أن نحذر جدًا من عنصر «الوقت». إنّ مساري التراجع الأميركي والتنافس الصيني - الأميركي على الأرجح أن يمتدّا لعقود في منطقتنا، وأثناء ذلك قد تصبح واشنطن أكثر شراسة في لحظات ما أو أكثر أذية، فضلًا عن الجهود التكيّفية الهائلة لحلفاء واشنطن ومن ضمنها مسار التطبيع.

ما تقدّم يعني أنّ مشروع المقاومة والاستقلال في بلادنا، واستكمالًا لنجاحاته في تقويض الهيمنة الأميركية وملحقاتها، يحتاج إلى سياسات مستدامة تضمن القدرة الفائقة على التكيّف مع تحوّلات هذا الصراع وتبعاته الدراماتيكية لعقود مقبلة ربما. فعلى دول وقوى المقاومة والاستقلال تجديد ذاتها من الداخل وتوسعة مشروعيّتها في الخارج. وهذا يستوجب بناء شبكات متعدّدة في الاقتصاد والتكنولوجيا والتنمية والثقافة والمعرفة بين تلك الدول والقوى، وكذلك مع الشركاء المحتملين داخل وخارج المنطقة. ينبغي لمشروع المقاومة في المنطقة أن يتّصف بسمات القوة الماراثونية: معرفة تفصيلية بمسار السباق ونَفَس طويل وبنية مرنة وتوظيف واعٍ للموارد المتاحة وتكيّف مع المنعرجات وضبط للسرعات وتجديد للطاقات وفهم دقيق للمنافسين وأحوالهم وتصميم لا يلين. يستمدّ التنافس الصيني - الأميركي طبيعته من سياقات القرن الحادي والعشرين، ويعيد تشكيلها طوال الوقت. ولذا على من يريد الانتفاع من «رياح» ذلك التنافس أن يمتلك عقلية هذا القرن المعقّد والمثير والمخادع والمتحوّل ليعرف كيف ينصب أشرعته ومتى.