مقالات: ما يقوله مشروع الموازنة

مقالات: ما يقوله مشروع الموازنة

لا تخلو موازنة 2010 من دلالات، مع أنها فوتت مهلها الدستورية وتخطت مبدأ السنوية الذي يكسب الأرقام والنسب أهميتها. هي لم تحدث تغييراً ملموسا، لكنها منعت حصول الأسوأ، أي زيادة العبء الضريبي على فئات ترزح أصلاً تحت أعباء ثقيلة. إنها بوصف أدق، موازنة الأسئلة المعلقة، والأجوبة المرتجلة، كما أنها تعبر مرة أخرى عن تردد مجتمع السياسة أمام المنعطفات الصعبة، وهو الآن يواجه خيارين لا ثالث لهما، القيام بإصلاح ثلاثي الأبعاد؛ ضريبي وإداري ونقدي، أو التوغل من جديد في طريق سياسات تمنع الانهيار وتكبت مفاعيل الأزمة، لكنها تترك حبل الخراب والترهل على غاربه.

تقول الموازنة في فذلكتها التمهيدية، وهي أكثر ما يستحق النقاش، أن الهدف المركزي للحكومة خفض نسبة الدين العام إلى الناتج. وبحسب الجداول المرفقة يواصل الدين العام هذه السنة خطة البياني المتصاعد دون تغيير، قافزاً دفعة واحدة من 51.3 مليار دولار أميركي إلى حوالي 55.5 مليار $، وبمعدل زيادة مقداره 8.2% (بينما لم يتجاوز معدل السنوات الأربع الماضية 6% فقط)، هذا في مقابل تحسن حسابي سيلاقي ثناء دولياً، يتمثل في خفض نسبة الدين العام إلى الناتج. مع العلم أنّ نمو الناتج بمعدلات تفوق نمو الدين (وهو ما يعول عليه كثيراً صندوق النقد الدولي) لا يرفع بالضرورة الخطر عن كاهل المالية العامة، فمع زيادة حجم الدين يزيد انكشاف الدول لأزمات الأسواق المالية العالمية، التي قد تبتلع في طرفة عين كل مكاسب النمو السابقة.

صحيح أن تقديرات موازنة 2010 تشير إلى أن نسبة الدين العام/الناتج ستصل إلى 147.47% في نهاية العام، بينما توقعت ورقة باريس 3 خفض النسبة إلى 151% بشرط تطبيق سلسلة طويلة من التدابير، لكن الصحيح أيضا أن هذا التراجع يتصل بعوامل عابرة ومؤقتة وقد لا تدوم طويلاً، أبرزها الارتفاع المزدوج لمعدلات التضخم والنمو، اللذين أدّيا-على ذمة الإحصاءات- إلى نمو اسمي ضخم في الناتج بلغ حوالي 49.5% في السنوات 2007-2010، وهذا يزيد عن ضعفي متوسط نمو الدين في الفترة نفسها. ويعزى تراجع نسبة الدين/الناتج من ناحية أخرى إلى التقديرات المبالغ بها للأرقام. فبينما أشارت أعلى التقديرات إلى أنّ الناتج سجل 32.7 مليار دولار للعام الماضي ويتوقع أن يسجل حوالي 35 مليارا هذا العام، اعتمدت الموازنة تقديرات مثيرة للدهشة هي  35.5 مليار$ و37.6 ملياراً على التوالي للعامين المذكورين.

تقول الموازنة ثانياً أنّ هناك ثمناً باهظاً للتوسع في الإنفاق الاستثماري، سيظهر هذا العام على شاكلة تراجع حاد في الفائض الأولي، من 1314 مليار ليرة لبنانية إلى 27 ملياراً فقط، أي ما يساوي ،للمفارقة، الزيادة المقدرة في الإنفاق الاستثماري. بالتالي فإنّ استكمال تنفيذ قوانين البرامج للسنوات الآتية سيؤدي حكما- وفق منطق الموازنة- إلى التخلي عن المكاسب التي تم تحقيقها حتى الآن على مستوى استيعاب الدين. الأمر الذي يضع الحكومة أمام أحد احتمالين: زيادة الضرائب أو استعمال جزء من فائض السيولة المصرفية لتأمين تمويل إضافي.

هنا يستحق خيار الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص PPP حواراً وطنياً مسهباً وموسعاً، وما دام أنّ الموازنة الحالية رصدت الاعتمادات اللازمة لتلبية الاحتياجات الاستثمارية العاجلة، فلدينا متسع من الوقت لإدارة نقاش تقني وسياسي حذر، من شأنه أن يسمح بالتحقق من الجدوى المالية، والجدوى الاجتماعية/الاقتصادية للشراكة، في كل مشروع على حدة، و يتيح أيضاً التأكد من مدى تناسب آلية عملها مع احتياجات الإصلاح القطاعي، وتوافقها مع التوقعات الاقتصادية في الأمدين المتوسط والبعيد. فإذا كان المتوقع مثلاً استقرار أسعار الصرف وارتفاع الدخول الفردية مع تدن في نسب التضخم، فهذا يزيد من حظوظ نجاح الشراكة، أمّا إذا كان الاقتصاد يعمل في ظروف الريبة (uncertain)، فسيرتفع احتمال أن تضطر الحكومة إلى زيادة  إنفاقها على الدعم، لتمكين الأسر عند حصول تدهور ما، من الوصول إلى الخدمات العامة المعروضة بأسعار السوق.

على أنّ خفض الفائض الأولي ليس قدراً، فيما لو تبنت الموازنة بضعة تدابير، من شأنها إمرار النفقات الاستثمارية دون التفريط بالفائض. مثل: فرض ضريبة على الشركات العقارية أسوة بالشركات المالية الأخرى، والكف عن إعفاء المصارف ضمناً من ضريبة فوائد السندات، (التي يسمح لها باستردادها من ضرائب الدخل المتوجبة عليها، بينما لا يتمتع المودعون أو الأفراد المكتتبون بالحق نفسه)، وإذا أضفنا إلى ذلك التخلص من ودائع القطاع العام الزائدة لدى مصرف لبنان، فإن الفائض الأولي سيرتفع إلى ما بين 800 و1000 مليار ل.ل.

تقول الموازنة أيضاً، أنّ هناك سقوفاً واطئة للإصلاح. ففي إحدى الفقرات تبدي وزارة المالية عزمها على " التحضير لعدة إجراءات" في الفترة المقبلة، لكن إذا استثنينا "تطوير النظام الضريبي عبر اعتماد النظام الضريبي المجمع لمصادر الدخل"، و"العمل مع المجلس النيابي على إقرار رسوم تسوية المخالفات البحرية والنهرية"، فإن الإجراءات الأخرى لا تعدو  كونها تصحيحات إدارية وتقنية لا تحدث فارقا جوهرياً. بينما أغفلت الوزارة قضايا ومسائل باتت تحظى بشبه إجماع، ولم تلق ممانعة علنية حتى من الفريق الأكثري، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: فرض ضريبة على أرباح التحسين العقاري، ووضع إطار عام للإصلاح الضريبي يحد من عشوائية واضطراب السياسات الضريبية، إضافة إلى تطوير الضريبة على القيمة المضافة لتصبح ضريبة تصاعدية مرنة ومتعددة الشطور.

 مقالات: عن التنمية السياسية التي لا تنبت في تربة الاقتصاد الريعي

مقالات: عن التنمية السياسية التي لا تنبت في تربة الاقتصاد الريعي

للتنمية السياسية في بلداننا سحرها الخاص ووقعها المؤثر، بعد أن تخلفت دولة الاستقلال عن اللحاق بركب التقدم، وأخفقت في تحقيق طموحات شعوبها، في المجالات الأربعة الرئيسية: الوحدة، الوفرة، الديمقراطية والتحرير. والنتيجة المعروفة هي العودة إلى الوراء، من مربع الدولة إلى مربع السلطة، ومن القيادة إلى الزعامة، ومن الرعاية إلى الزبائنية، ومن المؤسسات السياسية والاقتصادية، إلى شبكات الانتفاع والمصالح التي تحقق انتشاراً فعالاً ودائماً في كل مستويات صناعة القرار، وتشكل بالتالي حجر الزاوية في منع  قيام دولة ناضجة ومستقرة.

 مقالات: دور السياسات في التوفيق بين النمو والمساواة

مقالات: دور السياسات في التوفيق بين النمو والمساواة

النمو جيد لمكافحة الفقر، ولديه مساهمة رئيسية في تعزيز مستوى العدالة. هذا الرأي المنسوب إلى أبحاث ووقائع وأعمال نظرية، يتردد صداه منذ زمن في أروقة المؤسسات الدولية. لكنه يواجه معارضة تستند إلى تجارب حديثة وموثقة، خلصت إلى أنّ النمو ليس شرطاً ضرورياً ولا كافياً لتقليص رقعة الفقر على المدى القصير. وحتى في البلدان التي تزامن فيها النمو مع زيادة مداخيل الفقراء، لم تكن العلاقة سببية، بل تأثر كلا الأمرين بعامل ثالث هو طريقة إدارة الاقتصاد. وحتى في الآجال الطويلة، حيث تمكنت البلدان التي عرفت نمواً متواصلاً، في النصف الثاني من القرن العشرين، من إحداث خفض دائم وملحوظ في أعداد المهمشين. فإنّ ذلك لم يكن تلقائياً، بل استفاد من التدخلات الحكومية الهادفة إلى التوفيق بين مساري الازدهار والعدالة.

 مقالات: ما هو هدف السياسات المالية المرحلي: زيادة الفائض الأولي أم تثبيت عبء الدين

مقالات: ما هو هدف السياسات المالية المرحلي: زيادة الفائض الأولي أم تثبيت عبء الدين

تتقاسم ساحة النقاش بشأن الموازنة العامة، ثلاثة آراء مختلفة لكنها ليست متضاربة بالضرورة. يعتمد أولها دون تحفظ المقاربة التي تنظر إلى الموازنة من زاوية الإيرادات، فأي توسع في الإنفاق يستدعي زيادة موازية في الضرائب، دون تمييز بين إنفاق جار وآخر استثماري. فيما يضع الرأي الثاني في صدارة أولوياته تحسين حصة الاستثمارات العامة من الإنفاق ومن الناتج المحلي، ولا يعير اهتماما كبيراً للكلفة، على اعتبار أن أزمة الخدمات العامة لا تقل خطورة عن أزمة العجز والمديونية بل ربما تفوقها خطراً على المدى البعيد. ويتقاطع مع هذا الرأي اتجاه ثالث يشكل استمراراً للنهج الاجتماعي المعارض، الذي يرى أن العدالة وليس التوازن المالي / النقدي هي شرط الاستقرار الأول.

 مقالات: شيء ما يجب أن يتغير

مقالات: شيء ما يجب أن يتغير

ريثما تقر الموازنة العامة في لبنان، يكون الحوار الداخلي بشأن السياسات الاقتصادية والمالية قد حقق انطلاقة مقبولة بعد زهاء عقدين من الجمود. قد لا يكون الإيقاع سريعاً وفق طالبي الإصلاحات الكبرى والنوعية، وسيتضمن الأمر ربما خلاصات لا تبعث على الرضى، إلا إن اتساع دائرة صنع القرار لتضم طيفاً متنوعاً من الأطراف، كفيل بإحداث تطور في السياسات التي توقفت عن النمو منذ زمن، واقتصرت أمرها على الاستجابة لمحفزات الأزمة وانعكاساتها.

 مقالات: في ذكرى الثورة الإسلامية في إيران نموذج تعايش الدولة والثورة

مقالات: في ذكرى الثورة الإسلامية في إيران نموذج تعايش الدولة والثورة

إصدار 2010-02-13

يعتقد فلاسفة التاريخ والاجتماع أن الحضارات تسقط وتنهار عندما تفقد روحية القيم التي شكلت كنه عصبيتها في قيامها. ويعتقدون أيضاً أن الحضارات يقتلها عاملان الحروب والاحتلالات الواسعة الأرجاء والديون. هذا هو مصير الحضارات السابقة الولايات المتحدة الأمريكية التي تصيبها الآن نفس العدوى. لهذا فإن المتعجلين بالحكم على الجمهورية الإسلامية في عيد انتصارها الحادي والثلاثون يخطئون خطأً جسيماً عندما يراهنون على انقسامات داخلية أو على عقوبات دولية ويظنون أنها تؤدي إلى إضعاف هذه الدولة الشابة والطموحة.
لم يكن وضع الثورة عندما أعلنها مؤسسها الإمام الخميني الراحل بأحسن مما هي عليه اليوم من حيث الظروف الإقليمية والدولية. يومها، لم يكن الإتحاد السوفياتي، ند الولايات المتحدة الأوحد، متشوقاً لرؤية دولة إسلامية على حدوده، ولم تكن الولايات المتحدة أقل غضباّ على هذه الدولة مما هي اليوم، ولم يكن الوضع العربي أقل سوءاَ من حيث الانحياز لأميركا مما هو اليوم. والثورة لم تكن متأكدة من نفسها كما هي اليوم، سوى ما كان يعتمر نفوس قيادتها وخاصة الإمام الخميني، من ثقة بالله عارمة وبالنفس الإنسانية العازمة المريدة. اليوم أصبحت الثورة والدولة متجذرة في عقل وإرادة الجماعة وسلوكها، وفي حركة المجتمع نحو أهدافه في الحرية والاستقلال والتقدم؛ والثورة تعمقت بأقوال وأفعال ودماء قادتها وشعبها، وخاصة مؤسسها الإمام (قده) والمؤسسات الناشئة.
ثلاثة عقود كأنها ثلاثة قرون، لما احتملته هذه الثورة من إفكٍ وتشهير ودعاية مضادة وحروب عسكرية وتفجيرات داخلية وخطف ومقاطعة وتدبير مؤامرات. لم ترضخ الثورة ولا فت في عضدها ولا فترت عزيمتها، قيادة وشعباً. من صحراء طبس كارتر إلى حرب "قادسية صدام" التي لم يبق دولة لا في الشرق ولا في الغرب، ما ندر، إلا وشاركت إما بالتمويل أو بالدعاية أو بالأسلحة أو بالمعلومات والتجسس لتدمير الثورة اليانعة. واستمرت العقوبات والهجومات المتنوعة ومحاولات إيجاد الفتن الداخلية بين القوميات والمذاهب والمعتقدات. فمع كل إدارة أميركية، التي ناداها الإمام الخميني الشيطان الأكبر، كان يوجد شيطان جديد وشكل مبتكر من الهجوم على الثورة وقياداتها وجيشها وكفاءاتها وعقولها. إلا أن الثورة كبرت وتعمقت أهدافها، والزرع أينع وبدأت ثماره تقض مضاجع الذين يكيدون للثورة وشعاراتها، التي أبقت ثقافة الثورة متأججة، وأوجدت الدولة التي تظلل وتحمي قيم وأهداف وشعارات الثورة. يقال أن الدولة تقبر الثورة، أو أن الثورة تأكل أبناءها. في جمهورية إيران الإسلامية كان رجال الدولة يأتون تواقين ليحموا ويعمقوا طموحات الثورة، وكان رجال الثورة يأتون ليقيموا مؤسسات الدولة ويعمقوا تجربتها لتكتسب معان جديدة مبدعة في ظل جو خلاق ما بين الشعب والثورة والقيادة. هكذا كان الأمر مع الرئيس هاشمي رفسنجاني ورئاسة القائد علي خامنئي ومع السيد خاتمي ومع الرئيس الحالي أحمدي نجاد. ذلك على الرغم مما يحكى ويشاع عن انقسامات هذه الأيام في القيادة والقاعدة. ربما يحتاج البعض إلى دروس في التاريخ وعن العقل السياسي والحضارة الإيرانية ليعلم أنه لا خطر إطلاقا على الثورة ولا على الدولة. فالخلاف ليس حول الدولة وطموحاتها المشروعة - خذ مثلا عن الموقف ألإجماعي من الملف النووي – وإنما حول المدى في علاقة الدولة بشعارات الثورة. ربما انساق البعض وراء ما يسعى الأميركي لإشاعته واشتهائه، لأن معظم هؤلاء ينطلقون من نظرة ورغبة سياسية أميركية-إسرائيلية وهمية مشتركة . ومن يراجع الصحف الأميركية منذ قيام الثورة سيتأكد أن الأميركي كان دائماً يريد أن يشيع هذه الأجواء وذلك كي ينفضَ عن هذه الثورة من يشعر بجدواها.
الهدف المعلن والمضمر للولايات المتحدة والكيان الصهيوني –والغرب عامة هو إرضاخ الجمهورية وجعلها تتخلى عن قيم الثورة، مع الوعد بمساعدتها لتبقى دولة تهتم بنفسها بعيداً عن الوضع الإقليمي(!) من وجهة نظر أميركا، على إيران أن تنأى بنفسها عن القضية الفلسطينية وهموم وشؤون المسلمين والمستضعفين، وأن تكون قوية لذاتها وليس للتأثير على السياسات الإقليمية والدولية. كيف لا يجن جنون الصهاينة والمحافظون الجدد في الولايات المحتدة عندما يصرح الرئيس نجاد بأن الجمهورية الإسلامية يجب أن تكون شريكا في القرارات الدولية وبخاصة تلك التي تتعلق بمصائر الشعوب الإسلامية والمستضعفة، أو أن فلسطين يجب أن تعود إلى أصحابها الشرعيين.  يدركون تماما أن الجمهورية الإسلامية الصادقة في طروحاتها وشعاراتها وملتزمة بمضامين ثقافتها وثورتها، والتي لم تكن يوماً معزولة عن معتقداتها الأساسية ونظرتها إلى وظيفة الإنسان في الحياة وما بعدها، هي من يمنعهم من الإطباق النهائي على أمم المنطقة. الإشكالية الحقيقية في العلاقة بين الجمهورية الإسلامية وغيرها من دول الغرب وخاصة أميركا، أن عنصر الثقافة الذي تنبع منه حركة المجتمع الإيراني سيؤدي إلى إيجاد البديل المقنع والحضاري لشعوب فقدت النموذج الفكري والسياسي. هذا العنصر القائم على مبدأ الحق والقوة  ليس هو ما يحرك العقل السياسي الأميركي. ما يحرك العقل السياسي الأميركي هو القوة التي تريد أن تصنع من الباطل حقا. وعندما طرح  صامويل هنتنغتون مقولته الشهيرة في صراع الحضارات (إقرأ ثقافات)، كان يعني هذا الموضوع تحديدا. المشكلة الأخرى أن العقل العقائدي والسياسي العربي قد تم "تجريفه" (بحسب محمد حسنين هيكل)، ووضع في بعض خلاياه التكنولوجيا الغربية وبقايا ستاتيك ضبابي غائم عن الذات غير واضحة المعالم ولا الوجهة. من هنا تأتي مشكلة معظم هؤلاء-الأقربين والأبعدين - في عدم إدراك أهمية الحوار النديَ مع حضارة ناشئة لا يجذبها إطلاقا الخوف من العدو أو الخصم، بل ربما يحفزها على المواجهة بشتى الصور غير المتوقعة من العقل التقليدي.
إن الجمهورية الإسلامية كحضارة صاعدة، وكوريثة لحضارات حفرت في التاريخ صفحات عميقة ومؤثرة جداً، لا زالت في طور الشباب والفعل، بينما من يواجهها هي إما "حضارات" في طور الضعف والأفول، أو شعوب لم تشعر ولم تشارك في صناعة حضارات أو كانت سبباً في خراب أخرى، أو لم يخطر لها التحضر على بال.
إن من يحلمون بشق الدولة أو الانقلاب عليها أو تراجع قياداتها عن شعاراتها الثورية هو واهم لأن عناصر التاريخ الأولية تحققت في جزء من الثورة وهي في طور الاكتمال في دورة الدولة. إن ثورة كالثورة الإسلامية في إيران هي بداية لاكتمال صورة التشكل التاريخي لحضارة تأسست لتكون ثورة للعامة ودولة لعامة الخاصة. فشعارات الثورة هي ملك للشعوب، وخاصة المستضعفة، والدولة لا تستطيع إلا أن ترعى هذه الشعارات التغييرية بكثير من الصلابة وقليل من المساومة خاصة وأن الإمام الخميني عندما سُئل عن الفرق بين إنقلاب "مصدق" والثورة التي دعا إليها قال أن تلك كانت ثورة سياسية تساوم وتفاوض على حقوق، فتمكن الأمريكيون من الإنقلاب عليها بينما هذه ثورة حق ضد الباطل ولا يمكن الإنقلاب عليها. هذه الروح الثورية التي تجد تمثلاتها في السلوك السياسي والتحدي الثوري لقيادة الثورة في الزمن الراهن لا يمكن لعقل ساذج يتمتع بقوة عسكرية طاغية فقط أن تضعف –ناهيك عن أن تزيل- هذه الثورة والدولة. ومهما حاول الأمريكيون وحلفاءهم أن يشددوا العقوبات على بعض مؤسسات الثورة وخاصة الحرس الثوري والقوى الفاعلة، فإن هذا يقوي الحرس ويقوي شعارات الثورة في نفوس أفراده.
إن الأرضية الإقتصادية والثقافية المساعدة لقوى التغيير في الجمهورية الإسلامية يقابلها قوى ضعف وفراغ في منطقة شهدت شعوبها على مدى قرنين من الزمن موجات استعمارية متتالية حتى ظن البعض أن الاستعمار قدر حتمي و"قابلية نفسية" لا فكاك عنها. أتت الثورة الإسلامية لتوقظ العقل التحرري والسلوك التغيري المستند إلى الاعتماد على الذات في طرد المستعمر ومجابهة المستكبر، في معركة لا زالت رحاها دائرة بين شرق أوسط أمريكي صهيوني وشرق أوسط لشعوبه بمختلف انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والفكرية. من هنا كانت دعوة الإمام الخميني إلى الثورة لمواجهة الاستكبار من خلال الارتباط بإيمان الشعوب بذاتها ورفض التبعية والتسلط أكانوا سنة أو شيعة عرباً أو إيرانيين أو أتراك، مستندين إلى إيمانٍ واحد وثقافة واحدة لأن القوى المستكبرة هي في نهاية المطاف ملة واحدة.
لقد عبر الإمام الخميني عن طموحات الشعوب المستضعفة كافة، كما تعبر اليوم قيادة الثورة، خاصة في دفاعها عن حقها في امتلاك عناصر القوة والتدخل في شؤون تعنيها وعلى حدودها وفي صلب ثقافتها. هل تستطيع إيران أن ترضى باتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب؟ هل تستطيع أن ترضى بتشويه المقدسات الإسلامية المشتركة؟ وإن رضي بعض الحكام المرتهنين. فكيف يحق لأمريكا التي تبعد عشرات آلاف الأميال التدخل في منطقتنا وترسم حدودها وسياساتها؟ ولا يحق لدولة وشعب من نسيج المنطقة تاريخاً وثقافة أن يتحدث عن حق وباطل في اغتصاب فلسطين مثلا، ويأتي المحتل ويطوقه ويقيم إلى جواره في العراق ويستهدف وجوده ويبقى مكتوف الأيدي(؟!). نعم ، إن الذي يبيح لأمريكا التدخل هو القوة التي تمتلكها، فيسوغ بعض القادة العرب وغير العرب لها هذا التدخل بالقول أنها تمتلك كل أوراق اللعبة. ولا أحد يسوغ لإيران "التدخل" حفاظاً على الاستقلال والسيادة. ولكن أين الاستقلال وأين السيادة؟ فإن قامت إيران بمساعدة الشعب الفلسطيني يصبح الحديث عن تدخل "فارسي" و "شيعي"! هل ساعدت الأموال العربية أو الإعلام العربي أو السياسات العربية قضية الحق الفلسطيني "العربية"؟ أم أن الأخوة أضحت بلا مضمون؟ إن الجينات الثورية الإيرانية ومضامينها الثقافية، والتي بدأت تتسرب إلى عالم شعب عانى من سبل طاعة الظالم على مدى قرون، يجب أن تكون نقطة التحول اللانهائي لشعب مأزوم ومهزوم نتيجة لتقاليد أتت عليه بشكل نهائي. فلا العروبة الحاكمة ولا الأمركة المتسلطة والمحتلة ولا الأوربة الاستعمارية استعادت حقا سليبا أو أطلقت حرية عانقتها سجون الأوطان المرتهنة، لا بل غرست قيم القمع والهيمنة والتسلط والتفرقة وطبائع الاستبداد والاستعباد.  

 مقالات: عدم جواز سحب مشروع القانون الدستوري المتعلق بتخفيض سن الاقتراع إلى 18 سنة

مقالات: عدم جواز سحب مشروع القانون الدستوري المتعلق بتخفيض سن الاقتراع إلى 18 سنة

إصدار 2010-02-06

لقد ورد في بعض وسائل الإعلام، أن الحكومة، قد تبادر إلى سحب مشروع القانون المتعلق بتخفيض سن الاقتراع، كما أعلن أحد الوزراء، في 3/2/2010، أنه وجه كتاباً "إلى الأمانة العامة" لمجلس الوزراء، يطلب فيه سحب مشروع القانون المتقدم ذكره.
تملك الحكومة بموجب المادة 18 من الدستور (تعديل 1990) صلاحية تقديم مشاريع قوانين، ومشاريع قوانين معجلة، إلى مجلس النواب استناداً إلى المادة 58 من الدستور.
وبشأن هذه المشاريع، فان الحكومة، تتمتع، وفقاً لما هو متفق عليه، علماً واجتهاداً، بسلطة استنسابية وتقديرية، فهي غير ملزمة بتقديم أي مشروع قانون إلى مجلس النواب، كما أنه يعود لها سحب أي مشروع أن رأت ذلك مناسباً.
ويتم إحالة مشاريع القوانين على مجلس النواب أو سحبها، بموجب مرسوم يوقعه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير المختص ويعتبر هذا المرسوم عملاً حكومياً غير خاضع لرقابة القضاء الإداري.
C΄est ainsi que la jurisprudence refuse de reconnaître les reeours contre un décret portaut projet de loi: (C.E.g mai, 1q51, Mutuelle nationale des Etudiants de France. P. 253), de retrait d΄un projet de loi (C.E.19 janvier 1934, compagnie Marseillaise de Navigation à vapeur, p. 985. 1937, 111, 41, note Alibert (traité de contentieux Administratif par Auby et Drago. 3éme Edition. Tome premier, 1984. no 105, p. 174).
وعلى غرار الاجتهاد الفرنسي، فإن مجلس الشورى في لبنان، يعتبر أن علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية، تدخل في نطاق الأعمال الحكومية، غير الخاضعة لرقابة القضاء الإداري  (م.ش.ل. قرار رقم 4 تاريخ 19-1-977 مجلس القضايا، غير منشور. اجتهاد القضاء الإداري في لبنان- الجزء الأول، 1981، القسم المتعلق بالأعمال الإدارية ص 30).
ويدخل حكماً ضمن هذا النطاق، إحالة مشروع قانون إلى مجلس النواب، أو سحبه.
وعلى الحكومة، بالإضافة إلى مشاريع القوانين العادية، أن تقدم مشروع قانون يتعلق بتعديل الدستور بناء على اقتراح رئيس الجمهورية استناداً إلى المادة 76 أو أن تضعه بناء على اقتراح نيابي وفقاً للمادة 77 من الدستور.
إلا أنه، وبخلاف مشاريع القوانين العادية التي تملك بشأن تقديمها إلى مجلس النواب أو سحبها، سلطة استنسابية، فإن الحكومة، لا تملك مثل هذه الصلاحية، بشأن تقديم مشاريع قوانين دستورية لا سيما الموضوعة بناء على اقتراح نيابي وذلك سنداً للمادة 77 التي جاء فيها ما يأتي:
"يمكن أيضاً إعادة النظر في الدستور بناء على طلب مجلس النواب فيجري الأمر حينئذ على الوجه الآتي:
يحق لمجلس النواب في خلال عقد عادي وبناء على اقتراح عشرة من أعضائه على الأقل أن يبدي اقتراحه بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً بإعادة النظر في الدستور.
على أن المواد والمسائل التي يتناولها الاقتراح يجب تحديدها وذكرها بصورة واضحة، فيبلغ رئيس المجلس ذلك الاقتراح إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون بشأنه، فإذا وافقت الحكومة المجلس على اقتراحه بأكثرية الثلثين وجب عليها أن تضع مشروع القانون وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر وإذا لم توافق فعليها أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية الخ..."
يتبين بوضوح، أن المادة 77 تشكل تقييداً لصلاحية مجلس النواب التشريعية، وإخلالاً بالمبدأ البرلماني القائم على التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، المنصوص عنه، في الفقرة هـ، من مقدمة الدستور، باعتبار أن المشرع، اعتمد، من اجل إقرار أي تعديل دستوري مقترح من قبل مجلس النواب، آلية معينة، تتضمن القيود والمراحل التالية:
-   أن يكون مجلس النواب في عقد عادي
-    أن يقترح عشرة من أعضاء المجلس على الأقل التعديل الدستوري.
-    أن يوافق مجلس النواب بأكثرية الثلثين على اقتراح التعديل.
-    يبلغ رئيس المجلس اقتراح التعديل إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون بشأنه.
-    إذا وافقت الحكومة، يترتب عليها أن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر.
-   إذا لم توافق، فيتوجب على الحكومة أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية الخ...
إن الحكومة، بالاستناد إلى ما تقدم لا تملك حرية التقدير بشأن اقتراح التعديل، فهي ملزمة دستورياً، أن تضع مشروع قانون التعديل خلال مهلة معينة، أو أن تعيد القرار إلى المجلس.
إن وضع مشروع القانون من قبل الحكومة، بعد الموافقة عليه، يشكل مرحلة من مراحل التشريع الدستوري. وبعد إحالته على المجلس، تفقد الحكومة أية صلاحية بسحبه، لأن القول خلال ذلك، يؤدي إلى تعطيل المادة 77، وهذا الأمر غير جائز دستورياً.
وبالعودة إلى مشروع القانون المتعلق بتعديل سن الاقتراع إلى 18 سنة، يتبين، أنه مشروع قانون دستوري يتعلق بتعديل المادة 21 من الدستور، وان الحكومة وضعته تطبيقاً للأحكام الواردة في المادة 77، ومن ثم إحالته على مجلس النواب بغية إقراره. ولا يجوز لها بالتالي، بعد الإحالة، أن تسترده، لأن سحبه من شانه أن يؤدي إلى تعطيل التشريع الدستوري المبني على اقتراح نيابي.
وفي مطلق الأحوال، يبقى مجلس النواب، ملزماً بمتابعة درس مشروع القانون، سواء تم سحبه أم لا من قبل الحكومة.
ويمكننا، أن نستخلص، من كل ما تقدم، أن الحكومة لا تستطيع دستورياً أن تسترد مشروع القانون الدستوري المتعلق بتعديل سن الاقتراع إلى 18 سنة، ويتوجب على مجلس النواب البت به، في جميع الحالات.

 مقالات: السياسة النقدية : من توطيد الثقة إلى دعم النمو

مقالات: السياسة النقدية : من توطيد الثقة إلى دعم النمو

لدى لبنان حالياً احتياطي وفير من العملات الأجنبية، ورصيد من الودائع هو الأضخم في تاريخه. فالموجودات المصرفية التي لم تتجاوز كثيراً حجم الناتج المحلي في أفضل سنوات الازدهار قبل الحرب الأهلية، تلامس اليوم سقف 350% منه، محققة في عام واحد زيادة توازي ثلثي ذلك الناتج. ولا أهمية لهذه النتائج بحد ذاتها، فالدول تجمع الأرصدة لتحقيق أهداف أبعد مدى مثل مواجهة مخاطر الصرف، وتغذية النمو أو تأمين ما يكفي من العملات الأجنبية لتوفير السلع الأساسية.


 عن التجربة اللبنانية التي لا تتخطى عتبة التنمية

عن التجربة اللبنانية التي لا تتخطى عتبة التنمية

لطالما دار الحديث عن فرادة "النموذج اللبناني".. عن تألقه ومرونته وقدرته على صنع المفاجآت، فهل لدى لبنان بالأصل نموذج خاص يختلف عن تجارب الدول النامية الواقفة عند خط البداية؟ وأليست تمثل المبالغات المحيطة بهذا الاقتصاد الصغير اعتراضاً مبطناً على مساعي التغيير،  وتكريساً للمكاسب التي تحصل عليها فئات دون أخرى. مع ذلك فان للبنان ميزة هي أقرب للمفارقة. لقد كتبت له النجاة أكثر من مرة. مشى على حافة الهاوية دون الوقوع فيها، وأظهر صمودا مفاجئاً في منعطفات خطرة. لكن في أوقات الوفرة والرواج حصل العكس، حيث عجز عن إحداث خرق يتيح له الانتقال إلى مصاف الدول السائرة في طريق التصنيع، كان بوسعه فعل ذلك لولا ذلك التزاوج بين المصلحة الخاصة والروح التقليدية المهيمنة على مالكي أمر السلطة والقرار.

 مقالات: السنة الثانية للأزمة المالية: تفسيرات متباينة ومصالح متضاربة

مقالات: السنة الثانية للأزمة المالية: تفسيرات متباينة ومصالح متضاربة

مخطئ من يظن أن العالم طوى تماماً صفحات أزمته، فهو يقف متريثاً ومتردداً إزاء مفاجأتها واحتمالاتها وتبعاتها، بينما لم تتوحد الآراء بعد بشأن أسباب ذلك الانهيار فضلاً عن سبل الخروج منه. يميل الأميركيون إلى حصر المشكلة في جانب الطلب على المساكن الذي قوض بضربة واحدة مكاسب عقد من الزمن. تبسيط يعفي من المراجعة. بينما يفضل الأوروبيون وكثيرون غيرهم، ربط الأزمة بسلوك السلطات النقدية التي تخلت عن دورها الرقابي بعد أن تنازلت عن وظيفة إدارة النمو، جاعلة من المنتجات المالية الجديدة جزءاً لا يتجزأ من قنوات التمويل العادية.

 مقالات: عن سياسة الفوائد المرتفعة: نقاش في المبررات

مقالات: عن سياسة الفوائد المرتفعة: نقاش في المبررات

هل نرتكب الآن الخطيئة نفسها التي ارتكبت في التسعينات، وقت حُمّلت الخزينة العامة عبء فوائد مرتفعة وأكثر مما ينبغي؟ أم أن الأمر ضروري للحفاظ على تألق القطاع المالي اللبناني في سماء عالمية ملبدة؟ في العقد الماضي استحوذت على عقول صانعي القرار في لبنان فكرة يتيمة، هي أن الأمان الاقتصادي يحققه الاستقرار النقدي، والحفاظ على معدل فوائد مرتفع، والهدف هو رفع قدرة البلد على جذب الأموال الكافية، لتغطية إفراط القطاعين العام والخاص وقطاع الأسر في الإنفاق والاستهلاك، وتزيين المؤشرات الاقتصادية برصيد محاسبي موجب لميزان المدفوعات. 

 مقالات: المنافسة الدولية وسياسة الانفتاح التجاري: ألم يحن أوان المراجعة بعد؟

مقالات: المنافسة الدولية وسياسة الانفتاح التجاري: ألم يحن أوان المراجعة بعد؟

يشغل لبنان موقعاً متأخراً في لائحة المنافسة الدولية مقارنة بمعظم الدول العربية غير النفطية. فنصيب هذا البلد من الصادرات العالمية يقل عن نصف حصته من الناتج العالمي، بينما تتجاوز وارداته ضعف هذه الحصة، وهو يتمتع بحجم من الودائع والتحويلات النقدية تفوق كثيراً مساهمته في الاقتصاد العالمي. والأرقام في هذا المجال تنم عن مفارقات كثيرة، فلبنان من البلدان القليلة التي لا تصدّر أكثر من 10% من ناتجها (المعدل العالمي هو 20% تقريباً للصادرات والواردات) ويراكم سنوياً ما لا يقل عن 40% من العجز التجاري، كما يعتمد على الخارج في تأمين ثلاثة أرباع حاجته من السلع الزراعية والمصنعة.

هذه المفارقات هي جزء من الدوائر المغلقة التي تحكم قبضتها على الاقتصاد اللبناني، وتجعله مفعماً بالظواهر النقدية التي تمنعه من استخدام موارده بكفاءة. لنتتبع مثلاً مسار التدفقات الآتية من الخارج والمتمثلة على نحو خاص في تحويلات المغتربين، وإصدارات الدين العام، وصافي حركة الودائع والاستثمارات المباشرة. هذه التدفقات التي تغذي الطلب الداخلي على السلع والخدمات المحلية والأجنبية، تتسبب في رفع الأسعار في القطاعات التي لا تتمتع بمرونة عرض كافية، أو التي تستغرق وقتاً قبل التكيف مع تقلبات السوق (قطاع البناء مثلاً)، وتؤدي كذلك إلى زيادة حجم الواردات من السلع المصنعة. ويمكن لهذه العملية أن تستمر إلى ما لا نهاية، فمع أنّ تعاظم العجز التجاري من شأنه خفض النمو ومن ثم لجم الاستيراد، إلا أنّ التدفق المستمر للأموال من الخارج يعوض نقص النمو ويجعل استمرار هذه العملية أمراً ممكناً.

هناك تشوه مماثل لا يتم التركيز عليه عادة ويطال طريقة تحقيق معدلات النمو الايجابية. في السنوات الأخيرة نشأ النمو عن توسع القطاعات التي تشكل مخزنا للثروة أو ميداناً للمضاربة، بينما بقيت على حالها تقريباً القطاعات الأخرى المعول عليها في زيادة الصادرات. والنتيجة هي ارتفاع التكاليف بمعدلات تتخطى معدلات النمو نفسها، وتكريس التعارض بين سياسة الانفتاح المالي والتجاري المتبعة وبين مقتضيات تعزيز قدرة لبنان على المنافسة الإقليمية والدولية. هذا يفسر أيضاً كيف أنّ الاستثمارات المباشرة تؤدي دوراً مماثلاً للدور التي تؤديه التوظيفات المالية الباحثة عن مكاسب سريعة وفوائد مرتفعة.

لم يكن الوضع في لبنان على هذه الحال طوال تاريخه. فقوته التنافسية تأرجحت بين حقبة وأخرى متأثرة على نحو خاص بالسياسات الحكومية وبمدى اعتماده على الضخ المالي القادم من الخارج. في الربع الثالث من القرن العشرين اتسم الوضع الاقتصادي في لبنان بأمرين: الأول هو تدفق التحويلات والودائع من الخارج بقيم معتدلة، و الثاني: التوسع النسبي للقطاع الصناعي الذي ناهزت نسبتة إلى الناتج في بعض السنوات 23% تقريباً.

ساعد هذان الأمران على تحقيق توازن مقبول بين الاقتصادين المالي والسلعي. فطوال الفترة التي أعقبت الاستقلال وحتى عشية الحرب الأهلية، ارتفعت نسبة الودائع إلى الناتج من حوالي 22% إلى أكثر من 100% بقليل، وفي الوقت نفسه كانت نسبة الصادرات الى الناتج ترتفع باطراد، متخطية المعدلات التي سجلتها دول عربية عدة. لكن مع نهاية الحقبة الشهابية بدأ الاقتصاد اللبناني بالاعتماد أكثر فأكثر على الأموال الوافدة من الخارج. وبحسب تقديرات إدارة الإحصاء المركزي وغرفة التجارة والصناعة، لم تتعد التحويلات من الخارج في الفترة 1951-1969  نسبة 3.8% من الناتج بينما ارتفعت في النصف الأول من السبعينات إلى أكثر من 20%ً. كما ارتفع العجز في الميزان التجاري من 37.5% من الناتج في الخمسينات الى 50% تقريباُ في الفترة 1960-1975، لكن ذلك لم يشكل بحد ذاته دليلاً على تراجع القوة التنافسية للبلد، بقدر ما دل على زيادة معدلات الاستهلاك المدعوم بنمو قوي وتراكم الثروات المكونة في بلاد الاغتراب.   

الأزمة هي إذاً في نمط النمو وليس في معدلاته، فمهما كانت هذه المعدلات مرتفعة، لن يتمكن لبنان من تخطي عتبة التنمية والالتحاق بدول الأسواق الناشئة الا إذا تعامل بحزم مع مشكلتي ضعف التنوع الإنتاجي وقلة الصادرات، وما لم يعمد إلى تصحيح ميزان التبادل الخارجي لاقتصاد تنخفض إنتاجيته يوماً بعد يوم، وينتقل من ورطة إلى أخرى.

الخطوة الرئيسية في هذا الاتجاه هي القيام بمراجعة جريئة لسياسات لبنان التجارية القائمة على الانفتاح المفرط، والتي منعته من أخذ موقعه المناسب في قائمة الدول المصدرة للسلع. قد يتطلب الأمر إعادة النظر في الاتجاه العام للاتفاقيات التجارية، وزيادة الرسوم الجمركية التي جرى تخفيضها دفعة واحدة قبل بضعة أعوام، لكن ذلك لن يجدي نفعاً ما لم ترتفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج تدريجياً لتسجل النسب التي تحققها دول صغيرة الحجم وتعتمد على السياحة والخدمات(سنغافورة مثلاً). الجدير ذكره هنا، هو أنّ تخفيض الرسوم الجمركية دفعة واحدة من 22% كمعدل وسطي إلى اقل من 9%، وذلك بدءاً من عام 2002، أدى إلى تدهور كبير في أوضاع الصناعة اللبنانية التي تشهد تضاؤلاً غير مسبوق في تركيبة الاقتصاد الوطني.

على أنّ تحسين موقع لبنان على خريطة المبادلات الدولية يتطلب حضوراً قوياً للدولة، التي يقع على عاتقها تقويم سياسة الانفتاح العشوائي، والقيام بجهد كبير لتطبيق سياسة مدروسة للحماية والتحفيز، ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي أثمر تدخل الدولة تحسناً في الموقع التنافسي للاقتصاد الوطني وتوازناً نسبياً في الميزان الخارجي، وربما ينبغي تكرار ذلك الآن حتى لو تعارض مع بعض الأفكار التقليدية الموروثة، التي لم تكتشف بعد أن تصحيح الميزان التجاري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود صناعة قوية... ومدعومة.
 

 مقالات: أزمة أسواق أم فشل رأسمالية الحرب؟

مقالات: أزمة أسواق أم فشل رأسمالية الحرب؟

تظهر الأسواق المالية العالمية مرة أخرى، عجزها عن القيام بتصحيحات تلقائية قليلة الكلفة، بل تبدو غير قادرة أصلاً على أن تسيّر نفسها بنفسها. الفقاعة العقارية التي تنفجر تباعاً منذ صيف 2007، دليل قوي على صحة هذا الرأي، شأنها في ذلك شأن أزمات سابقة، مثل الهبوط الحاد في مؤشر نازداك عام 2000، وانهيار مؤشر داو جونز عام 1987 الذي خسر دفعة واحدة حوالي 23% من قيمته بسبب نزوح مفاجئ لحوالي 200 مليار دولار من وول ستريت. الخطير في الأزمة الراهنة هو بعض أوجه الشبه بينها وبين الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، فمن ناحية هناك إفلاسات متسلسلة شملت حتى الآن مؤسسات مالية ومصرفية كبرى، ومن ناحية أخرى هناك تداعيات بالغة السوء على النمو العالمي يتوقع أن تدوم لفترة طويلة (سنتين أو أكثر).

 مقالات: في مسألة المساواة أمام المراكز السياسية في لبنان؟

مقالات: في مسألة المساواة أمام المراكز السياسية في لبنان؟

إصدار 2009-09-12

لقد أكدت الدول التي تعتمد النظام الديمقراطي، سواء أكان برلمانياً أو رئاسياً أو غيره، في دساتيرها، على مبدأ المساواة، بين المواطنين، كما أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، على المساواة بين الأفراد.
وبحسب العلم والاجتهاد، فان المساواة بين المواطنين، تعتبر من المبادئ العامة القانونية ذات قيمة دستورية.
والمساواة تعني، أن الأفراد متساوين في الكرامة والحقوق، وان لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، ودون أية تفرقة بين الرجال والنساء.
كما أن الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة، دون أي تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز (المادتان الثانية والسابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
وفي لبنان، فلقد ورد في مقدمة الدستور، أن لبنان ملتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الفقرة ب)، وانه جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين بدون تمايز أو تفضيل (الفقرة ج).
كما أن المادة 7 من الدستور نصت على ما يأتي:
"كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم"
وإذا كان لمبدأ المساواة بين المواطنين، كما هو متعارف عليه، اوجه وحالات عديدة، إلا أن ما يهمنا، هي الحالة المتعلقة بالمساواة أمام المراكز السياسية فقط. وتشمل هذه المراكز حصراً رئاسة الجمهورية رئاسة مجلس النواب، رئاسة مجلس الوزراء، نائبي رئيسي مجلس النواب والوزراء، الوزراء، وأخيراً النواب. أما المراكز السياسية المتعلقة برؤساء وأعضاء المجالس البلدية، فإنها تبقى خارج نطاق هذه الدراسة.
وفي ما يتعلق بمساواة اللبنانيين أمام المراكز السياسية، فانه يتبين من خلال الممارسة، ما يأتي:
1-    بمقتضى الميثاق الوطني الذي جرى عام 1943، فان مركز رئاسة الجمهورية محصور فعلياً بفئة محددة من اللبنانيين، ينتمون إلى الطائفة المارونية، في حين أن مركز رئاسة مجلس الوزراء محصور فعلياً بفئة أخرى، تنتمي إلى الطائفة السنية.
أما مركز رئاسة مجلس النواب، فانه، محصور بدوره، بفئة محددة من النواب اللبنانيين، ينتسبون إلى الطائفة الشيعية.
وكما يتبين، فإن الوصول إلى كل من رئاسة الجمهورية ورئاستي مجلس النواب والوزراء ليس متاحاً أمام كل اللبنانيين، بل أنه محصور بفئات محددة منهم.
والأخطر من ذلك، فان هذه المراكز، تحولّت، لا سيما عام 1990، إلى ما يشبه "المراكز المقدسة" بحيث أصبح، مجرد الحديث عن أي عمل أو إجراء، يصدر عن القائمين بها، كأنه تعرض ومساس بالمركز وبالتالي بالطائفة التي ينتمون إليها. وهذا الواقع، من شانه أن يخلق عقبات طائفية، تحول دون محاسبة أو مساءلة رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس الوزراء.
وعلى سبيل الاستطراد، وإذا ما أجرينا مقارنة بين الصلاحيات الدستورية العائدة لكل منهم، لتبين بوضوح، أن الدستور، افرد لرئيس الجمهورية موقعاً متميزاً وأولاه صلاحيات دستورية مهمة، كما أن رئيس مجلس الوزراء يشغل موقعاً دستورياً متقدماً ويتمتع بصلاحيات أساسية، بحيث لا يمكن اتخاذ أي قرار على مستوى مجلس الوزراء، الذي أصبح بعد عام 1990، يتولى السلطة الإجرائية، دون موافقته، في حين أن رئيس مجلس النواب لا يملك سوى دعوة مجلس النواب للانعقاد بغية انتخاب رئيس الجمهورية بالإضافة إلى مراجعة المجلس الدستوري.
وفي مطلق الأحوال، فنه ينتج عما تقدم، أن اللبنانيين غير متساوين أمام رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، كما أن النواب اللبنانيين غير متساوين اتجاه مركز رئاسة مجلس النواب. وهذا الوضع القائم على التفاوت والتمايز وحتى "التمييز" بين اللبنانيين، يشكل انتهاكاً خطيراً لمبدأ المساواة المكرس في الدستور ولحقوق الإنسان الطبيعية.
وأخيراً، فان مركز نائب رئيس مجلس النواب هو محصور بالنواب الذين ينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية، وهذا الأمر يشكل أيضاً مخالفة لمبدأ المساواة بين النواب.

2-    وبشأن الوزراء، فان المادة 95 (تعديل 1990) نصت على أنه، وفي المرحلة الانتقالية "تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة".
وجرت العادة، على أن توزع المقاعد الوزارية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين، واعتماد قاعدة المثالثة ضمن المناصفة في تشكيل الوزارة، وإسناد "مركز" نائب رئيس الحكومة إلى الذين ينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية.
وبعد عام 1990، أصبح تولي الوزارات التي يطلق على تسميتها "سيادية"، حكراً على بعض الفئات اللبنانية التي تنتمي إلى الطوائف المارونية والأرثوذكسية والسنية والشيعية، في حين أن الفئات الأخرى المنتمية إلى بقية الطوائف، أصبحت محرومة من تسلم مهام أي وزارة سيادية، بالإضافة إلى حرمانها من الوصول إلى المراكز المتعلقة برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب.
وهذا الوضع، يشكل بحد ذاته، ليس فقط تفاوتاً بين اللبنانيين، إنما أيضاً تمييزاً ضد فئة لا يستهان بها من اللبنانيين.
وعلى صعيد المراكز النيابية، فإن المادة 24 (تعديل 1990) نصت، "والى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد التالية:
أ‌-    بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
ب‌-    نسبياً بين طوائف كل من الفئتين.
ج‌-    نسبياً بين المناطق".
وفي مجال انتخاب النواب، وبمعزل عما ورد في المادة 24، يطرح السؤال التالي: هل أن الناخبين اللبنانيين متساوين في ما بينهم؟
بداية، نوضح، أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أكد في المادة 21، على المساواة بين الناخبين، بحيث يكون لكل مواطن صوت، وان تكون جميع الأصوات متساوية.
بالعودة إلى الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في حزيران 2009، وبعد الاطلاع على أرقام الناخبين المسجلين في كل دائرة انتخابية، وعدد النواب المخصص لها، الواردة في الجداول الملحقة بقانون الانتخاب رقم 250/ 2008، المنشورة في جريدة السفير بتاريخ 9 حزيران 2009، وإذا ما أخذنا كمعيار صوت الناخب في كل من دوائر صور والنبطية وبنت جبيل، باعتبار أن القانون خصص أعلى نسبة من الناخبين لكل نائب، في هذه الدوائر، حيث لكل 40 ألف ناخب نائب واحد، وأجرينا مقارنة بينه، وبين صوت الناخبين في مختلف الدوائر الانتخابية 26، لتبين لنا أن صوت الناخب في كل من دوائر كسروان- جزين والدائرة الأولى في بيروت، يعادل أكثر من صوت ناخبين في دائرة النبطية، أما صوت الناخب في كل من الدوائر طرابلس- زغرتا- زحلة- الشوف- بعلبك الهرمل وجبيل، فانه يعادل أكثر من صوت ناخب ونصف في دائرة بنت جبيل.
وأخيراً، أن صوت الناخب في دائرة البترون يعادل صوت نائب وثلث في دائرة النبطية، أما صوت الناخب في كل من دوائر صيدا- المنية- الضنية- وعكار، يعادل صوت ناخب وخمس في دائرة بنت جبيل.
وأكثر من ذلك، فانه يوجد تفاوت داخل كل محافظة، بين ناخبي دائرة انتخابية معينة، وناخبي دائرة أخرى.
والمثال على ذلك، هو أن في محافظة الجنوب، يتميز الناخب في دائرة جزين وصيدا، عن الناخب في دوائر صور والنبطية وبنت جبيل. وفي الشمال، يتميز صوت الناخب في دائرة طرابلس، عن صوت الناخب في دائرة عكار أو دائرة المنية- الضنية.
وفي البقاع، يتميز صوت الناخب في دائرتي زحلة والبقاع الغربي، عن صوت الناخب في دائرة بعلبك الهرمل الخ...
إن هذا الوضع الشاذ، بالإضافة إلى كونه مخالفاً لمبدأ المساواة بين الناخبين، من شانه أن يؤدي إلى إلحاق الضرر والغبن بفئة لا يستهان بها من الناخبين اللبنانيين، بدون أي سبب مشروع أو عادل.
وبعد أن خلقت الممارسة المتعلقة برئاسة الجمهورية ورئاستي مجلس النواب والحكومة، تفاوتاً وتمايزاً بين اللبنانيين، أتى الدستور في المادتين 24 و 95 ليكرس هذا التمايز بالنسبة للمراكز المتعلقة بالنيابة والوزارة مناقضاً بذلك ما جاء في المقدمة والمادة 7 منه.
وأخيراً، كرس قانون الانتخاب الأخير رقم 250/2008، بدوره، في الدوائر الانتخابية التي اعتمدها، التفاوت بين الناخبين اللبنانيين.
وفضلاً عما تقدم، أن التفاوت أو عدم المساواة بين اللبنانيين لا يقتصر فقط على المراكز السياسية المتقدم ذكرها، إنما يشمل أيضاً الوظائف الهامة القيادية في الإدارة العامة والقضاء والأسلاك العسكرية والأمنية، وبعض المؤسسات العامة الكبرى.
وبالرغم من أن الفقرة 2 من المادة 95، أشارت إلى عدم جواز تخصيص أية وظيفة، من وظائف الفئة الأولى، لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة، إلا أنه يتبين، من خلال الممارسة، ولا سيما بعد عام 1990، أن هذه الوظائف أصبحت حكراً على بعض اللبنانيين فقط، الأمر الذي يشكل إخلالاً خطيراً بمبدأ المساواة بين اللبنانيين أمام الوظائف العامة. وأكثر من ذلك فلقد تحولت هذه الوظائف القيادية، إلى ما يشبه الوظائف "المقدسة"، بحيث أصبح من الصعب محاسبة أو مساءلة القائمين بها، عن أي تقصير أو إهمال أو أي عمل غير قانوني، وذلك بسبب الحماية الطائفية والمذهبية.
وأخيراً، نؤكد، أن أساس أي نظام ديمقراطي سواء أكان برلمانياً أو رئاسياً أو غيره، هو مبدأ المساواة بين المواطنين، وبغيابه، لا يمكن الحديث عن أي نظام ديمقراطي. إن جوهر النظام الديمقراطي، هو تداول السلطة بين المواطنين بصورة سلمية عبر صناديق الاقتراع. وهذا التداول لا يمكن أن يتحقق إلا في حال وجود مساواة بين المواطنين.
وفي لبنان، وبالرغم من أن الدستور، أشار في المقدمة إلى أن لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، وفي بعض أحكامه إلى الخصائص المميزة للنظام البرلماني، إلا أن النظام في لبنان، لا يمكن اعتباره فعلياً برلمانياً بصورة صحيحة وكاملة لافتقاره إلى المساواة بين اللبنانيين أمام المراكز السياسية المتقدم ذكرها.
وإذا كان مبدأ المساواة، يعتبر أساس النظام الديمقراطي، فانه يعتبر أيضاً أساس الحرية والعدل والسلم في أي دولة من دول العالم.
وإزاء هذا الواقع، هل يصح، التذرع أو الاعتداد بالمبدأ البرلماني القائل، "بان من حق الأكثرية النيابية أن تحكم، ومن واجب الأقلية أن تعارض"؟
وباختصار نقول، إن النظام المعتمد في لبنان يتميز، على صعيد المراكز السياسية، بالطابع الطائفي- التوافقي "الشامل"، أما على صعيد القرارات المتخذة في مجلس النواب ومجلس الوزراء، فإنها تبقى خاضعة لمنطق الأكثرية العادية أو أكثرية الثلثين. وتحمل هذه الأكثرية، في طياتها، طابع طائفي- توافقي معين. وقد يكون هذا الطابع "شاملاً" في بعض الأوقات، وقد لا يكون في الأوقات الأخرى، وذلك حسب طبيعة القرار المتخذ والظروف المحيطة به.
وفي النهاية، نأمل من المجلس الدستوري، وفي معرض النظر في الطعون الانتخابية، أن يثي..........ر عفواً، مسألة دستورية ما جاء في قانون الانتخاب رقم 250/2008، لجهة المساواة بين الناخبين اللبنانيين في ما بينهم، وان يتخذ بالتالي القرار المناسب.

 مقالات: عبء الأصول غير العاملة

مقالات: عبء الأصول غير العاملة

تسجل المصارف في لبنان معدلات مرتفعة جداً للسيولة قياساً إلى حجم موجوداتها، هذه النسبة التي تتجاوز مثيلاتها في المنطقة بحوالي عشرين نقطة تضفي طابعاً خاصاً على الاقتصاد الوطني، وتمنحه حماية مقبولة تجاه المخاطر الداخلية والخارجية. ومع ذلك فهي ترتب علية التزامات لا يمكن تلبيتها بسهولة. وفائض السيولة هذا الذي يستقبل بحفاوة كبير، يقع في سياق التحوط المبالغ به، في بلد يعاني من إحساس داهم بالخطر، وينتاب مؤسساته الحكومية الشعور بأنها دائماً عند حافة الهاوية.

يتطلب هذا الفائض نقاشاً حذراً يتعدى الترحيب، فالسيولة الجاهزة تجاوزت 170% من الناتج المحلي و وصل حجم احتياطي مصرف لبنان من العملات إلى 83 % من الناتج. وإذا استبعدنا الموجودات الخارجية للمصارف من معادلة السيولة، باعتبار أنها أرصدة موظفة فعلاً، وأضفنا إليها اكتتابات المصارف بسندات الخزينة بالليرة وبالعملات، فسنحصل على ما يمكن تسميته بـ"الأرصدة المالية غير العاملة" الواقعة عملياً خارج الدورة الاقتصادية، ويوازي حجمها 275% من الناتج تقريباً. إنّ كلفة تمويل هذا النوع من الأرصدة (المكون أساساً من ودائع القطاع المصرفي لدى المصرف المركزي وديون المصارف على القطاع العام) تستهلك جزءاً كبيراً من الناتج يقدر بحوالي 15% منه. وسترتفع هذه الكلفة إذا احتسبنا أيضاً الأصول الحقيقية غير العاملة، مثل الاستثمار المفرط في قطاعي الصحة والتعليم، والتوزيع غير المتوازن للمشاريع العامة، .. ينطبق الأمر نفسه على القطاع العقاري، حيث من المحتمل أن نواجه خلال بضعة أشهر فائض عرض على صعيد الأبنية الممولة بالطلب الخارجي، فيما يبقى فائض الطلب في سوق العقارات ككل على حاله.

نحن إذاً في مواجهة معضلة شائكة تتمثل في وجود كم كبير من الأرصدة والأصول المالية والمادية غير المستخدمة والتي ترتب أعباء متزايدة مع مرور الوقت، و مع ذلك لا يتم توظيفها في المجالات التي تعاني من قصور في الاستثمار. وهذه المشكلة لا تخلو من  مفارقة كونها تفرض على اقتصاد يعمل بأقل من طاقته ويعاني من انخفاض مزمن في الإنتاجية، تمويل أصول مالية وحقيقية يتم وضعها خارج دورة الإنتاج عمداً وذلك تحسباً لهجمات مضاربة محتملة في أسواق الصرف.
النقطة الأخيرة تقدم توضيحاً مناسباً لمن يعتقد أن السيولة الضخمة تكفي وحدها بمثابة للوقاية من المخاطر. فصحيح أن السيولة الجاهزة باتت تفوق حجم سندات الخزينة، وصحيح أيضاً أن الموجودات الخارجية لمصرف لبنان توازي كلفة الاستيراد لسنتين تقريباً، إلا أن غالبية السيولة المتحولة إلى احتياطيات تتكون من موارد مقترضة، فهي  إذاً خاضعة للشروط والعوامل المسببة للازمات. بعبارة أخرى..إن استمرار تدفق الأموال من الخارج يرتبط أساسا بوجود تقويم ايجابي للمخاطر قياساً إلى العوائد. لكن أي تغيير في تقدير المخاطر ناجم مثلاً عن تدهور إضافي في أوضاع المالية العامة سيؤدي إلى تدهور مالي مقابل، وسيبدد الجزء الأكبر من الاحتياطيات المالية المفترض استخدامها في تهدئة الأزمات.
لنعترف أننا في مواجهة وضع غير مسبوق، وان الأصول المالية المقترضة "غير العاملة" تؤثر على سلامة الأداء الاقتصادي واستقراره. وحتى الآن يعالج هذا الوضع الناتج عن الاستدانة بفتح حلقات أخرى للاستدانة. لكن المشكلة ليست في ضخامة حجم السيولة بل في كون غالبيتها عبارة عن قروض زائدة وهي غير ناتجة عن فوائض الإنتاج كما هو حال بعض الدول الناشئة. ناهيك بأن عبء السيولة الإضافية سيتم ترحيله تدريجياً من المصارف التجارية إلى المصرف المركزي الحريص على امتصاص السيولة بأي ثمن بهدف كبح التضخم، ليقع العبء في نهاية المطاف على عاتق الخزينة العامة.
وهذه فجوة نظرية تستحق شيئاً من الاستطراد. إذ أنّ التشغيل المبالغ فيه للكوابح النقدية في مواجهة احتمالات التضخم هو احد الأسباب التي تقف بحسب بعض الاقتصاديين وراء اندلاع الأزمات المالية. وعلى هذا الأساس تُكال لـ آلان غرينسبان التهم في التمهيد للازمة الراهنة، لافتراضه أن دور الاحتياطي الفدرالي يقتصر على تحريك منصة أسعار الفائدة هبوطاً أو صعوداً للحصول على تشغيل كامل لا يترافق مع التضخم. تهتم السياسة النقدية في لبنان بالجزء الثاني من المعادلة المتمثل في لجم الأسعار، دون اهتمام يذكر بالأهداف الاقتصادية المطلوب من السياسة النقدية رعايتها.
ما نواجهه إذا هو زيادة غير مسبوقة وغير مألوفة في حجم "الأرصدة غير العاملة" المطلوب من المنتجين المحليين تسديد تكلفتها، فحتى عام 2004 لم تتجاوز السيولة المصرفية الجاهزة بالمتوسط 15 % من مجموع الموجودات المصرفية وحوالي 20 % من الودائع بينما وصلت اليوم إلى 50.5 % و63 % على التوالي. هذا يطرح سؤالاً أوسع مدى.. إلى أي حد يمكن للاقتصاد تحمل ثلاثة أنواع من الأعباء الجانبية الثقيلة: كلفة الأرصدة والأصول غير العاملة، وعلاوة الاحتكار، وخدمة الدينين العام والخاص. و بطبيعة الحال لا يمكن الاستمرار بذلك إلى ما لا نهاية. فهناك نقاط انكسار كثيرة محتملة في وضع اقتصادي يتسم عموماً بالهشاشة. المعالجة تبدأ من إدخال تعديلات ملموسة على طريقة توظيف الفائض المالي، فيستخدم في توسيع حجم الاقتصاد بنسب تزيد عن كلفة القروض (والودائع) المستعملة في بناء الاحتياطيات، وبخلاف ذلك، البديل هو التحكم بتدفق الأموال على نحو يتناسب مع طاقة الاقتصاد الراهنة على الاستيعاب و من ثم تدوير ما يفيض عن ذلك إلى الخارج.

 مقالات: دور الدولة في التعليم العالي وخاصة الجامعة اللبنانية / د. محسن صالح

مقالات: دور الدولة في التعليم العالي وخاصة الجامعة اللبنانية / د. محسن صالح

إصدار 2009-08-19

الدولة هي شخصية معنوية مجردة تتمظهر أو تتجسد من خلال مجموعة من المؤسسات التي تشرع سلطة هذه الدولة (مهما كان شكلها) على المجتمع بكافة شرائحه وطبقاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتعليمية.
والدولة التي تحتفظ بقدر عال من التنظيم والتفعيل لهذه المؤسسات الراعية لجميع مواطنيها، هي الدولة القادرة على بسط نفوذها وسيطرتها على الكافة.
والدولة بمؤسساتها (التشريعية والقضائية والتنفيذية) ومناطق نفوذها تكون عادلة عندما يشعر جميع الأفراد (المواطنين) المنضوين تحت رعايتها بالقدر الكافي من الاهتمام والتقدير والعناية.
والدولة - تاريخياً - لا تضعف أو تتفسخ أو تنهار، إلا عندما يشعر مواطنوها بأنها أصبحت مجرد سلطة فئة أو ناحية أو حاشية - طبقة أو فرد - تمارس الحكم وتجبي الضرائب من دون أن تتكفل الجميع وتحميهم.
لذلك، فإن انجح الدول هي التي تستخدم السلطات ومقومات الدولة لرعاية الجميع لتضمن ولاء الجميع لها، مهما كان المجتمع متنوعاً جغرافياً - دينياً - ثقافياً أو طبقياً.


مؤسسات الدولة

مؤسسات الدولة عادة ما تكون منقسمة إلى قسمين أساسيين:
الأول: ما تمارس به الدولة فعل السلطة لحفظ الحدود والسيادة من أي اعتداء خارجي وامن داخلي لتطبيق القانون الذي إرتضاه المواطنون ليكون حكماً بينهم.
هذه المؤسسة اصطلح على تسميتها الجيش والأمن الداخلي وغيرهما من المؤسسات المدافعة عن الوطن- الذي عنوانه الدولة- فهي يد الدولة في الدفاع والحماية. الدفاع ضد الخارج والحماية في الداخل.

الثاني: وهي المؤسسات الرديفة الأبعاد - والتي لا تقل أهمية عن الأولى - والتي تحفظ الوطن ووحدته ونموه وازدهاره وبالتالي سعادته - وهي تلك المشكلة لعقل الوطن ورافد من وروافد الدولة الأساسية لشغل المواقع التي تتألف منها الدولة والسلطة.
من هذه المؤسسات مؤسسات التعليم العامة والخاصة.
الخصوصية اللبنانية في الدولة والمؤسسات، تتمثل في أن لبنان بلد ووطن متنوع الرؤى والطوائف، لهذا فقد تأسست دولته على توازن طوعي بين هذه الطوائف والرؤى. إلا أن هذه الأخيرة - الطوائف والرؤى غلبت عليه في فترات تاريخية متعاقبة، حيث قويت الطوائف والرؤى على حساب الوطن، مما أعطى قوة وسلطة لهذه المجموعات على حساب الدولة. لذات وجدنا أن المؤسسات التعليمية الخاصة بدأت نشاطها في لبنان البلد من قبل أن يتشكل لبنان كوطن ودولة. وكان السعي التاريخي الدائم - من خلال هذه المؤسسات التعليمية الخاصة- هو تشكيل عقل وثقافة فئوية تستطيع حكم البلد من خارج قانون وثقافة ودولة تحمي وتستقطب الجميع.

أما وان لبنان حاول أن يصبح دولة ووطن لجميع أبنائه، فقد أسس جامعة وطنية للبنانيين كافة في أواسط القرن الماضي. وقد تدرجت أهمية الجامعة اللبنانية لدى الدولة، إلى أن أضحت العمود الفقري للمؤسسات العلمية والتعليمية داخل الوطن. وامتلكت هذه الجامعة المهارات والعقول القادرة على النهوض بالوطن والدولة والمؤسسات الأخرى - وان تمدها بأرقى الكفاءات والمهارات والخبرات.
وإن كانت بعض الكفاءات، وفي لحظات سياسية خطرة، هاجرت إلى بلاد أخرى كي تحظى بالاحترام والتقدير والعيش بكرامة.

والآن، ومع بداية استقرار الدولة ووحدة مؤسساتها- حيث ينتظر اللبنانيون كافة من هذه الدولة أن تدعم جامعة الوطن وتعطي الانتباه الفائق للتعليم العالي حيث تتيح لهذه الجامعة الفرصة كي تشكل منارة عقلية وثقافية ومعملاً لصناعة الأفكار الوطنية الجامعة، بالإضافة إلى الخطط العلمية القادرة على النهوض بالوطن اقتصادياً وتنموياً وتقنياً... هذا إذا أرادت الدولة اللبنانية بسلطاتها كافة أن تصهر في بوتقتها الفئات اللبنانية، لأنه لا يمكن استبدال العقل الوطني بعقل أجنبي، ولا المهارات الذاتية بيد خارجية، ولا الجامعة اللبنانية بجامعات "خاصة".

إن حاجة الدولة الراعية للجميع - بسلطاتها كافة - إلى الجامعة اللبنانية تنبع من أساس بديهي وهو أن وظائف الدولة تحتاج إلى عقول تتخرج من جامعة كل الوطن لتحافظ عليه لأنه هي. لهذا فان على الدولة أن تقوم بتشجيع التعليم العالي في الجامعة الوطنية انطلاقاً من الأسس التالية:

الدعم المالي:
1- رفع موازنة الجامعة اللبنانية
2- تشجيع ودعم مجانية التعليم بمراحله كافة
3- إيجاد الاختصاصات الجامعية التي تستوعب كافة الطلاب المتخرجين من الثانويات الرسمية.
4- القيام بإحصائيات ودراسات حول التناسب والتوازن بين سوق العمل والمتخرجين من الجامعة اللبنانية وتقديم خطة لاستيعاب الاختصاصات العلمية والعلوم الإنسانية في مؤسسات الدولة.
5- الاعتماد على خبرات ومهارات واختصاصات الجامعة اللبنانية في الدراسات والخطط التي تقوم بها المؤسسات الوطنية بدل استئجار الشركات الأجنبية والتعاقد معها.
6- إن استقلالية الجامعة عن التدخلات الفئوية والسياسية يعطيها بعداً وطنياً شاملاً ويمتن قوتها العلمية ورقيها في مقابل الجامعات العالمية منها، والخاصة المحلية. وهذا يتطلب تفعيل دور مجلس التعليم العالي ومجلس الجامعة من خلال:
أ‌- إصدار المراسيم التطبيقية في إنشاء المجمعات الجامعية للجامعة اللبنانية في المناطق والمحافظات ورصد الموازنات التي تقدر إدارة الجامعة من استيعاب الطلاب الذين يتزايد أعدادهم بشكل مضطرد حيث يضطرهم ذلك إلى الذهاب إلى الجامعات الخاصة التي تتمتع بحرية مطلقة ومستوى علمي غير ملائم...
ب‌ - تقوم الدولة ممثلة بوزارة الوصاية ومجلس التعليم العالي بدور المراقب والممول للجامعة مع إعطاء مجلس الجامعة دوره الحقيقي المنصوص عليه في قانون المجالس التمثيلية- والذي يحتاج إلى تعديلات تتناسب مع حجم الجامعة مستقبلياً.
ج - اعتماد اللامركزية بتوزيع الفروع والمجمعات الجامعية بحيث تناسب مع إعداد طلاب المناطق وتخصص بموازنات ومبانٍ بحسب أعداد الطلاب...
د - إن تحديث الجامعة من حيث الشكل والمضمون من اختصاص الهيئات المشرفة على الجامعة وبتوجيه من مجلس التعليم العالي... لذلك فإن إعداد وتأهيل الطاقات الموجودة في الجامعة وبشكل دوري يجب أن يشكل المضمار الأساسي لخطط وتوصيات هذه الهيئات وبرصد موازنات تدريبية وتأهيلية سنوية وبحسب الكليات والفروع في كافة الاختصاصات والمناطق.
هـ - التأهيل المستمر للأساتذة بكافة رتبهم.
و - التطوير المستمر للمناهج من خلال مجالس الكليات والفروع والاختصاصات.
وبما أن وظيفة الجامعة تتجاوز إطارها التعليمي وهي المنتج الأول للنخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذا فإن إيلاء الاهتمام للجامعة هو بلا شك رافعة الوطن والدولة والسلطة ومؤسساتها.
فلا يمكن لوطن أن ينجح مواطنوه ودولته دون أن يكون يتغذى بنور العقل المفكر والسالك لرفعة الإنسان المواطن المدرك لمسؤولياته تجاه المجتمع بكافة فئاته...

----------------------------------------------

*مدير معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول - الجامعة اللبنانية منذ سنة 2007....
 أستاذ الفلسفة والانتروبولوجيا في معهد العلوم الاجتماعية - الفرع الخامس  وكلية الآداب، في الجامعة اللبنانية منذ سنة 1994- 1995

 مقالات: لبنان .. هل هو مشروع ثقافي ؟ الثقافة الجديدة وأقنعة الحداثة

مقالات: لبنان .. هل هو مشروع ثقافي ؟ الثقافة الجديدة وأقنعة الحداثة

في خاتمة النص الثقافي لتقرير "نحو دولة المواطن"، دعوة لحداثة سهلة تعول على زخم الحياة اليومية وخصوصياتها وليس على فعالية المجتمع وتطور العلاقات في داخله. هذا مرتبط إلى حد ما بحنين إلى الماضي الذي احتضن خرافة الفرادة، وأوحى لقسم من اللبنانيين أن التمايز يبنى على مظاهر العيش لا على الوعي الجماعي، وعلى الخيارات العرضية لا على التجارب التاريخية المتراكمة والدؤوبة. على أن الخصوصية اللبنانية التي شدّت من أزرها الحروب والنزاعات، لم تكن سوى حصيلة تمازج قسري وانفتاح إلزامي أملته مقتضيات الوفرة والرفاه والاستقرار، فهي بالتالي منتج اقتصادي وسياسي وليس سلعة ثقافية البتة.


 مقالات: مسألة انتهاء مدة انتداب المستشار سهيل بوجي للقيام بمهام وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء

مقالات: مسألة انتهاء مدة انتداب المستشار سهيل بوجي للقيام بمهام وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء

إصدار 2009-07-09

بالرغم من انقضاء ست سنوات على انتدابه لوظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء، لا يزال القاضي سهيل بوجي (المستشار في مجلس الشورى) مستمراً في مهامه.
والسؤال القانوني المشروع الذي يطرح في هذا المجال هو الآتي:
هل أن استمرار القاضي بوجي في وظيفته، كمدير عام لرئاسة مجلس الوزراء، هو قانوني أم لا؟
إن الإجابة القانونية الصحيحة عن هذا السؤال تفترض التمييز بين حالتين: حالة انتداب الموظف، والثانية تتعلق بانتداب القاضي الإداري.
أولاً: انتداب الموظف
لقد استقر العلم والاجتهاد في فرنسا على القول، أن الانتداب هو الوضع الذي يكون فيه الموظف، موضوعاً خارج إدارته الأصلية، إلا انه يستمر بالاحتفاظ بحقوقه في الترقية والتقاعد في إدارته الأصلية.

إن الانتداب هو بطبيعته مؤقت وقابل للرجوع عنه، وقد يكون لمدة قصيرة أو طويلة. أن الانتداب لمدة قصيرة لا يمكن أن يتجاوز ستة أشهر، أما الانتداب لمدة طويلة، فانه لا يتجاوز مدة خمس سنوات، إلا انه يمكن تجديدها لخمس سنوات أخرى.
يخضع الموظف المنتدب لمجموعة الأحكام القانونية التي ترعى الوظيفة المنتدب إليها، إلا انه يستمر بتقاضي راتبه الأصلي إذا كان أعلى من راتب الوظيفة المنتدب إليها.
وفي لبنان، يتبين بصورة واضحة، من نظام الموظفين الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 112/59 مع تعديلاته، وفي ما خص الانتداب، الأمور التالية:
1-    الموظف المنتدب هو من اعفي مؤقتاً من مهام وظيفته الأصلية وأسندت إليه مهمة أخرى مع احتفاظه بحق تقاضي راتبه، وبحقه في التدرج والترقية والترفيع والتقاعد في إدارته الأصلية (المادة 46).
2-    يمكن انتداب الموظف للتخصص في فرع من الفروع التي تحتاج الإدارة فيها إلى اختصاصيين جدد، كما يمكن أيضاً انتداب موظف فني من وزارة إلى وزارة بعد موافقة الوزارتين المختصتين (المادة 47).
3-    إن وظيفة الموظف المنتدب تبقى شاغرة في ملاك إدارته الأصلية ويعود إليها فور انتهاء مدة الانتداب (المادة 48).
ثانياً: انتداب القاضي الإداري
في ما يتعلق بانتداب القاضي الإداري أي قضاة مجلس الشورى، فانه يمكن انتداب المستشارين والمستشارين المعاونين لمختلف الوظائف لدى الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والبلديات (المادة 16 من نظام مجلس شورى الدولة المعدلة بالقانون رقم 227 تاريخ 31-5- 2000). ويجري الانتداب بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة رئيس مجلس شورى الدولة، ولا يمكن أن تتجاوز مدة الانتداب أكثر من ست سنوات، طوال فترة ممارسته القضاء (الفقرة الثانية من المادة 16 المذكورة أعلاه).
ويحتفظ القاضي المنتدب بصفته ومركزه في القضاء الإداري ولا يعين سواه في مكانه ويشترك في الهيئة العامة ويتابع تقاضي رواتبه المستحقة بالنسبة لفئته ودرجته من موازنة وزارة العدل، كما انه يتقاضى التعويضات العائدة للوظيفة التي انتدب إليها وسائر التعويضات التي تعطى له بسبب انتدابه من الإدارة المنتدب إليها (الفقرتان الأولى والثانية من المادة 17 من نظام مجلس شورى الدولة المعدلة).
ويستفاد مما تقدم، أن الأحكام القانونية التي ترعى انتداب الموظف هي مماثلة لتلك التي ترعى انتداب القاضي الإداري، باستثناء تحديد مدة الانتداب.
فانتداب الموظف غير محدد بفترة زمنية معينة، في حين أن مدة انتداب القاضي الإداري (المستشار أو المستشار المعاون) لا يجوز أن تتجاوز ست سنوات طوال عمله في القضاء.
وفي ما يتعلق بانتداب القاضي سهيل بوجي الذي هو محور وجوهر هذه الدراسة، فانه يتبين انه انتدب للقيام بمهام وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء، وذلك بموجب المرسوم رقم 4340 تاريخ 11 تشرين الثاني 2000 (انتداب مستشار في مجلس شورى الدولة للقيام بمهام وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء (ربطاً صورة عن المرسوم).
ويتبين أيضاً من الإطلاع على بناءات هذا المرسوم، انه بني بصورة خاصة على نظام مجلس شورى الدولة ولا سيما المادة 16 منه المعدلة بموجب القانون رقم 227 تاريخ 31/5/2000، التي جاء فيها انه لا يمكن أن تتجاوز مدة انتداب المستشار أو المستشار المعاون أكثر من ست سنوات طوال فترة ممارسته للقضاء.
وطالما أن المستشار في مجلس شورى الدولة السيد سهيل بوجي قد انتدب لوظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 11 تشرين الثاني 2000، فإن فترة انتدابه، ينبغي أن تنتهي حكماً بتاريخ 11 تشرين الثاني 2006 تطبيقاً للمادة 16 المعدلة والمتقدم ذكرها.
إلا أنه، وبالرغم من أن مدة انتدابه قد انتهت قانوناً، إلا أن المستشار بوجي ما زال مستمراً في مهامه في المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء كالمعتاد، متذرعاً، بالبيان الصادر عن المكتب الإعلامي لرئاسة الحكومة عام 2007، والذي جاء فيه ما خلاصته:
"إن انتداب المستشار بوجي، يخضع لأحكام مشروع القانون المعجل الموضوع موضع التنفيذ بموجب المرسوم رقم 10618 تاريخ 11/8/1975 (تعديل ملاك المديرية العامة لرئاسة الجمهورية وملاك المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء) ولا سيما المادة 8 منه، التي تمثل نصاً خاصاً، في حين أن المادة 6 المعدلة تعتبر نصاً عاماً، وإنه في حالة التعارض بين نص خاص ونص عام، يطبق النص الخاص".
إن اللجوء إلى مثل هذا "التبرير" لاستمرار انتداب القاضي بوجي في وظيفته، لا يستقيم قانوناً، ولا يمكن الأخذ به على الإطلاق وذلك للأسباب التالية:
1-    إن عبارة "بناء على مشروع القانون المعجل الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم 10618/ 75" الواردة في المرسوم المتعلق بانتداب المستشار في مجلس الشورى، القاضي سهيل بوجي، لا تعني أن انتدابه أصبح خاضعاً للأحكام الواردة في المرسوم رقم 10618/75 على الإطلاق، بل أنها تعني، وتعني فقط، أن الوظيفة المنتدب إليها هي ملحوظة في ملاك المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء وأنها شاغرة. باعتبار أن الانتداب كالتعيين، لا يمكن أن يتم قانوناً، إلا في وظيفة ملحوظة في الملاك وشاغرة.
فالإشارة الواردة في مرسوم انتداب المستشار بوجي، إلى المرسوم رقم 10618/75 هي إذن للدلالة فقط على أن وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء هي ملحوظة في الملاك وشاغرة.
2-    تنص المادة 8 من القانون المتعلق بتعديل ملاك المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء على ما يأتي:
أ‌-    "تحدد سلسلة فئات ورتب ورواتب وظائف المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء وفقاً للجدول رقم (3) الملحق بهذا القانون.
ب‌-    تطبق على وظائف المهندسين والرسام سلسلة الفئات والرتب والرواتب وشروط التعيين المحددة لمثل هذه الوظائف في وزارة الأشغال العامة والنقل ويتقاضى المهندسون تعويض الاختصاص المحدد في الفقرة الأولى من المادة 22 من المرسوم الاشتراعي رقم 112/59 (نظام الموظفين).
يمكن ملء هذه الوظائف عن طريق الانتداب من الإدارات العامة والمؤسسات العامة.
يجري الانتداب بمرسوم بناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء المختص، تحدد فيه مدة الانتداب ويمكن أن يكون الانتداب لمدة غير محدودة" (انتهى نص المادة 8).
ويتبين بصورة واضحة، أن عبارة "يمكن ملء هذه الوظائف عن طريق الانتداب من الإدارات والمؤسسات العامة" تعني حكماً وظائف المهندسين والرسام، الواردة في مستهل الفقرة ب من المادة 8، ولا يمكن أن تشمل وظيفة المدير العام لرئاسة مجلس الوزراء على الإطلاق.
فالانتداب محصور فقط بوظائف المهندسين والرسام، وهذا الأمر ينسجم تماماً مع المادة 47 من نظام الموظفين التي حصرت الانتداب بالموظف الفني بعد موافقة الوزارتين المختصتين.
إن الانتداب الوارد في نهاية المادة 8، لا يطبق، بالنظر لما تقدم، على وظيفة المدير العام لرئاسة مجلس الوزراء، ولا يطبق بالتالي على القاضي بوجي الذي يشغل وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء عن طريق الانتداب.
وإذا افترضنا جدلاً، أن الانتداب الوارد في المادة 8 يشمل وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء، إلا أن هذا الانتداب لا يطبق، حسب المادة 8، إلا على الموظفين المنتدبين من الإدارات العامة والمؤسسات العامة حصراً. ولا يطبق بالتالي على القاضي بوجي، الذي لا يعتبر قانوناً من موظفي الإدارات العامة والمؤسسات العامة، بل انه يدخل قانوناً في عداد العاملين في السلك القضائي- القضاء الإداري- مجلس شورى الدولة المتميزين والمختلفين عن العاملين في الإدارات العامة والمؤسسات العامة.
وإذا افترضنا أيضاً، أن الانتداب الوارد في المادة 8 يطبق على القاضي بوجي، لجهة كونه لمدة غير محدودة، إلا انه يبقى مؤقتاً ولا يمكن أن يشكل وضعاً دائماً.
فمن المتفق عليه علماً واجتهاداً، أن الانتداب هو مؤقت وله مدة معينة، ولقد اعتبر نظام الموظفين في لبنان، أن وظيفة المنتدب تبقى شاغرة ويترتب عليه أن يعود إلى إدارته الأصلية فور انتهاء مدة الانتداب (المادة 48). وإذا كان الانتداب لمدة، لا نهاية لها، فلماذا نص المشترع على بقاء وظيفته شاغرة، وألزم المنتدب بالعودة إلى إدارته الأصلية فور انتهاء الانتداب؟.
وإذا كانت مدة انتداب الموظف القصوى، لا يمكن أن تتجاوز، حسب العلم والاجتهاد، خمس سنوات قابلة للتجديد، فإن انتداب السيد بوجي، يكون قد انتهى والحالة هذه، في 11 تشرين الثاني 2005.
3- لم يعد هناك من حاجة قانونية لبحث المبدأ القائل "أنه في حال وجود تعارض بين نص خاص ونص عام، يطبق النص الخاص"، طالما أن المادة التي اعتبرت نصاً خاصاً لا تطبق أصلاً على انتداب المستشار بوجي.
وينتج عما تقدم، أن انتداب المستشار سهيل بوجي إلى وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء، يخضع من الناحية القانونية، بصورة حصرية لا تقبل الجدل أو النقاش القانوني إلى أحكام نظام مجلس الشورى ولا سيما المادة 16 منه التي حددت مدة انتداب المستشار أو المستشار المعاون بست سنوات كحد أقصى طيلة عمله في القضاء.
وإذا كان نواب حاكم مصرف لبنان لا يمكنهم الاستمرار في عملهم يوماً واحداً بعد انقضاء مدة خمس سنوات على تعيينهم ما لم يجدد لهم (كما حصل مع نواب الحاكم مؤخراً الذين انتهت مدتهم)، وإذا كان رئيس الجامعة اللبنانية لا يمكنه الاستمرار في عمله يوماً واحداً بعد انتهاء مدة خمس سنوات على تعيينه، فلماذا يسمح للقاضي بوجي أن يستمر في عمله، بعد انتهاء مدة انتدابه، لفترة شارفت على الثلاث سنوات تقريباً؟ لماذا هذا التمييز والتفاوت؟ وأين نحن من دولة المؤسسات والقانون؟.
والأخطر من كل ذلك، أن المستشار بوجي يقوم بحكم وظيفته كمدير عام لرئاسة مجلس الوزراء، بصفة أمين عام مجلس الوزراء.
الخلاصة
1-    إن انتداب المستشار في مجلس الشورى سهيل بوجي إلى وظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء، يخضع للمادة 16 المعدلة من نظام مجلس الشورى وليس إلى المادة 8 من مشروع القانون المعجل الصادر بالمرسوم رقم 10618/75 المتعلق بتعديل ملاك المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء.
2-    إن مدة الانتداب القصوى للمستشار في مجلس الشورى هي ست سنوات طوال عمله في القضاء.
3-    انتهت مدة انتداب المستشار بوجي لوظيفة مدير عام رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 11 تشرين الثاني 2006. وبعد هذا التاريخ، يعتبر استمراره بعمله، وبصفته كأمين عام لمجلس الوزراء، مخالفاً للقانون بصورة فاضحة.
4-    إن استمرار المستشار سهيل بوجي في وظيفته كمدير عام لرئاسة مجلس الوزراء، وبالتالي بصفته أميناً عاماً لجلس الوزراء، يشكل وضعاً شاذاً وخطيراً، لا بل فضيحة. وان استمرار التغاضي والسكوت عنه، يشكل فضيحة أكبر بحق كل المسؤولين بدون استثناء.

 مقالات: المعايير المؤسساتية للتعامل مع الحريات الثقافية والإعلامية.. أسئلة ونماذج

مقالات: المعايير المؤسساتية للتعامل مع الحريات الثقافية والإعلامية.. أسئلة ونماذج

تستحق مسألة الحريات في العالم العربي مراجعة متأنية، وعناية بالتفاصيل تتلمس الفروقات بين تجربة بلد وآخر، ومرحلة وأخرى. ومع أن السلطات العربية تتوكأ عادة على عصا القمع، وتشهر بسهولة غير مألوفة في عالم اليوم سيف الرقابة والمنع، فان عصر العولمة، وانفلات الفضاء الإعلامي من قبضة الحكومات المنفردة، يفتح للحريات العامة الإعلامية والثقافية أبواباً، و يعرضها في الوقت نفسه لألوان جديدة من التحديات. والسؤال الراهن يتعدى الاستفهام الموروث عن حدود الحرية ومعاييرها، إلى أسئلة أخرى: هل الضبط هو أمر واقعي وممكن في عالم متداخل ومتعدد الأبعاد والسلطات؟ وإذا كان ممكناً وواقعياً فمن القادر على ممارسته.. الداخل أم الخارج؟ ومن المخول وضع قواعده.. الدولة أم المجتمع.. المؤسسات المنظمة والمعلنة والمعترف بها أم تلك الغائرة تحت السطح والتي  تحظى بفائض قوة ووفرة تأثير من مكانها الخفي وموقعها المحتجب؟

 مقالات: أربع سنوات طويلة

مقالات: أربع سنوات طويلة

ها قد تجاوزنا المنعطف الانتخابي، لكن الأمور ليست على ما يرام، على الأقل بالنسبة لأولئك الطامحين إلى تجربة جديدة. قيل أن المعارضة لا تملك برنامج إصلاح ناجز ولا حزمة حلول جاهزة، وهذا إلى حد ما صحيح، إلا أنها تملك ما ليس لدى الطرف الآخر، وهو أن مصلحتها المباشرة تقتضي عدم استمرار الوضع القائم. وعوضاً عن الراديكالية الاقتصادية المسماة خطأ ليبرالية، والتي تتمسك بتقاليد بالية ليس لها مثيل في العالم، كان هناك فرصة لولادة مقاربات جديدة، قد تكون ليبرالية بمعنى ما، لكنها أكثر انفتاحاً وتقبلاً لآراء جديدة، كالرؤى الاجتماعية التي تزداد أهمية ووزناً في أوساط الدول الصناعية المأزومة.