مقالات: التحديات أمام العالم العربي

الموضوع الذي سأتحدث عنه له علاقة بإستراتيجية المواجهة، مواجهة الهجمة الأمريكية على المنطقة، وتحديداً له علاقة باهتماماتنا بحزب الله على النحو الأساسي؛ أي ما يتعلق بلبنان، وبدور المقاومة فيها، والتحديات التي تتصل بهذا الموضوع. لذلك، وقبل أن أستعرض هذا الأمر، أريد أن أسترشد بتقريرين أمريكيين يتناولان الوضع اللبناني خلال الأشهر القادمة على نحو مفصل، صدرا، مؤخراً، عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. وعندما نقوم بالمقارنة بين الأحداث التي تتالت على الساحة اللبنانية وبين هذين التقريرين، نجد أن ثمة تشابهاً كبيراً، وثمة ما يمكن أن أقول إنه يشكل ترجمة من ناحية الأحداث لمضمون هذين التقريرين الأمريكيين. 
التقرير الأول صادر عن المجموعة الرئاسية، وهي مجموعة الدراسة الرئيسية التابعة لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وكما تعرفون، فهذا المركز شديد التأثير على قرارات السياسة الأمريكية، وسبق له أن أصدر لغاية الآن خمسة تقارير من بداية التسعينيات، وقد شكلت هذه التقارير على الدوام عنوان السياسة الأمريكية في المنطقة، ونحن نذكر تماماً كيف أنه في العام 92، اشترط التقرير الثاني تطوير العلاقات الأمريكية مع الدول العربية، بما فيها مصر، والأردن، كما اشترط أن تقوم هذه الأنظمة بالتضييق على الحركات الإسلامية، ثم جاء التقرير الآخر الذي أطلق مصطلح الاحتواء المزدوج لإيران والعراق، وشكل عنواناً للسياسة الأمريكية في تلك المرحلة، ومن ثم صدر في العام 2000 تقرير تحدث عن السياسة الأمريكية وشبهها بأنها إبحار في وسط هائج، أو بحر مضطرب في الشرق الأوسط، ومن ثم التقرير الأخير الذي هو موضوع حديثي، والذي صدر قبل أشهر قليلة في ربيع العام 2005، تحت عنوان "ركائز السياسة أو الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط"، وهو تحدث عن ثلاث ركائز: الأمن، والإصلاح، والسلام. 
فيما يتعلق بموضوع الأمن، ركز التقرير على سوريا وإيران، واعتبرهما الخطر الأول على السياسة الأمريكية في المنطقة، الخطر الأول على السياسة الأمريكية في العراق، وفلسطين، ولبنان، ودعا إلى العمل دون أن تتمكن هاتان الدولتان (سوريا وإيران) من تطوير أسلحتهما وقدراتهما العسكرية. وفيما يتعلق بالإصلاح، فقد قدم التقرير عنواناً آخر للإصلاح هو معركة كسب العقول لربح معركة السلام، وركز على ما هو معروف، تغيير المناهج التربوية والمعرفية، وبخاصة المناهج الدينية، ودعا للانفتاح على إسرائيل، وحرية التجارة، والخصخصة، وحدد لكل دولة عربية في المنطقة دوراً. فعلى سبيل المثال، اعتبر أن دور مصر هو تقييد الحركة الإسلامية والتضييق عليها، وكذلك حدد دوراً للسعودية يتعلق بتحديث مناهج التعليم، ودور اليمن الإمساك بحركة القبائل. أما فيما يتعلق بالسلام، فقد قصد التقرير بالسلام أنه تحديد حرية حركة الكيان الإسرائيلي في الانسحاب من غزة، ودعم القيادة الفلسطينية في القضاء على ما سماه بالإرهاب، وتجريد سوريا مما سماه قوتها الإقليمية، وضغط باتجاه إجراء تحويل جذري في النظام السياسي السوري. 
إن الملفت في هذا التقرير فيما يتعلق بحزب الله أن الدراسات التي صدرت عن مجموعة الدراسة الرئاسية تضمنت مجموعة توصيات تتعلق بحزب الله، واعتبرته أنه يقف في المرحلة الأولى في لوحة أهداف الإدارة الأمريكية للسنوات الأربع القادمة، كما تضمن التقرير فقرات عدة توصي الرئيس الأمريكي بضرورة الاستيلاء على لبنان، عبر تركيز عملية الاستيلاء على الدولة، وكسبها كعنصر حاسم في تجريد المقاومة من سلاحها، ونقل لبنان من ضفة إلى ضفة سياسية أخرى. 
الدراسة الأخرى التي أصدرها الأمريكيون أيضاً عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى هي دراسة روبرت الشهيرة التي صدرت في 15 آذار الماضي تحت عنوان "تقييم سياسة عدم الاستقرار البناءة التابعة لإدارة بوش"، وصدرت على قسمين، يتعلق الأول بلبنان وسوريا وتحدث بدرجة عالية من الوضوح والشفافية اتجاه ماذا ينبغي على الأمريكيين أن يفعلوا في إزاء لبنان وسوريا، وما هم بصدد فعله حقيقةً. وقد دعا التقرير إلى إخراج السوريين من لبنان وهذا تم، كما دعا إلى إجراء انتخابات لبنانية بإشراف دولة على أن تصب نتائج هذه الانتخابات في اتجاه خسارة حلفاء سوريا. ودعا أيضاً إلى تطبيق مبدأ انسحاب القوات الأجنبية من لبنان وفق القرار 1559، وتطبيق هذا المبدأ أيضاً على ما اعتبره التقرير وجود إيراني مسلح في لبنان، كما دعا التقرير إلى (وهذا الهدف الأساسي لكل المعالجة) إلى نزع سلاح حزب الله، وقال إن المقصود بذلك بشكل أساسي هو سلاح أو صواريخ الكاتيوشا، مشدداً على أن تجمع هذه الصواريخ ويتم إخراجها كلياً من لبنان، ومن ثم العمل على وضع حد لحرية حزب الله في العمل كقوة مستقلة، ودعا كذلك إلى أن تكون مراكز الحزب ومواقعه في الجنوب اللبناني خارج نطاق مرمى صواريخ الكاتيوشا، أي بعيداً عن الحدود اللبنانية عشرات الكيلومترات، ودعا أيضاً إلى انتشار الجيش اللبناني. ومن اللافت أيضاً أن التقرير ألمح إلى إمكانية أن يكون هناك حسم دامٍ بالنسبة لمسألة سلاح حزب الله؛ إي اعتماد القوة في حال تم رفض ما يتم تقديمه من عروض سلمية في هذه المرحلة، وألمح إلى ذلك بإمكانية دخول قوات أمريكية وفرنسية إلى لبنان، ونص على ضرورة إحضار مراقبين دوليين لمراقبة مطار بيروت والحدود الأخرى منعاً لإمكانية إدخال سلاح لحزب الله، تماماً على غرار الدور الذي لعبته شركة لويد الخاصة البريطانية في خليج العقبة، عندما قامت بمراقبة منع أي شحن غير قانوني إلى العراق خلال التسعينيات، وأصر على أن يبقى تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية. 
ومن ثم انتقل التقرير إلى الحديث عن وضع النظام السوري، حيث اعتبر أنه الأكثر هشاشة في المنطقة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية غير مهتمة بتاتاً باستمرار النظام السوري، واعتبر أن البحث عن أي شق في هذا النظام من شأنه أن يتحول سريعاً إلى صدع كبير، يؤدي إلى هزات متتالية، ومن ثم حاول أن يلفت نظر الاستراتيجيين الأمريكيين إلى ضرورة التفتيش عن مصادر لزعزعة الاستقرار السوري، وضرورة اعتماد خطاب نقدي يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان اتجاه النظام السوري. وخلص التقرير إلى اعتبار الأراضي اللبنانية والسورية مواقع اختبار مبكر لسياسة عدم الاستقرار البناء التابعة للإدارة الأمريكية. 
لا أريد أن أستطيل في عرض القسم الثاني من التقرير، لكنه يحدد أربع وسائل في التعاطي الأمريكي مع قضايا المنطقة، ويعتبر أن هناك وسيلة وقوع على غرار ما جرى في العراق ووسيلة العزل على غرار ما جرى مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، ووسيلة الوعظ المتنمر - وهذا مصطلح ملفت، الوعظ المتنمر- على غرار ما يجري الحال مع السعودية ومصر، ومن ثم وسيلة الفوضى البناءة أو عدم الاستقرار البناء على غرار ما يجري في لبنان وسوريا. وينتهي التقرير بدعم أو يؤدي بالإدارة الأمريكية إلى دعم الأمريكيين وليس دعم الديمقراطية. 
وكما ذكرت، فإن مضمون هذين التقريرين اللذين يغطيان من الناحية النظرية والسياسية التطورات التي حصلت في لبنان منذ أشهر عديدة، ولا تزال تحصل لغاية الآن منذ صدور القرار 1559 حتى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ووصولاً إلى اغتيال سمير قصير الصحافي في جريدة النهار، لا يخفي أن الوضع شديد الدقة، وشديد الخطورة، وحساس، أن هناك حركة اصطفاف قوية بين مختلف الأنظمة السياسية، ولبنان الآن يعيش في قلب عملية الاغتيالات الجارية، وكل القوى السياسية والتيارات السياسية والطوائف فيه تدرك جيداً أن هذه الانتخابات سوف تفضي إلي سيطرة قوى المعارضة، وأن قوى أساسية سابقة كانت محسوبة على سوريا لم تجد لها مكاناً داخل المجلس النيابي المقبل، طبعاً ما عدا قوى لا يمكن تجاوزها كحزب الله وحركة أمل على محور أساسي، وبالتالي، فإن الانتخابات التي تجري الآن ستشكل ركيزة تحول في الوضع السياسي اللبناني، إذ بعد هذه الانتخابات ستتشكل حكومة جديدة، وهذه الحكومة ستفتح ملفات أساسية كبرى تنفيذاً لما تضمنه التقريران اللذان ذكرتهما، سيناريو مقدم اتجاه المستقبل اللبناني. 
وهنا أشير عندما نتحدث عن الموقف الأوروبي والموقف الأمريكي، ففي حقيقة الأمر، ثمة نوع من التقارب الأوروبي الأمريكي فيما يتعلق بتلك الساحتين اللبنانية والسورية، ولا يمكن إخفاء أن هناك تحولاً ما في الموقف الأوروبي، وتحديداً الفرنسي، حيث كان الموقف الفرنسي قبل سنوات موقفاً مختلفاً تماماً بشأن الوضع اللبناني وبشأن العلاقة مع سوريا، لكن هذا التحول هو الذي أنتج القرار 1559، وهو الذي يغطي التطورات السياسية الراهنة، لكن في الوقت الذي يوافق الأوروبيون على نزع سلاح حزب الله، فإنهم يختلفون مع الأمريكيين من ناحية إبداء حرص أكبر على الاستقرار اللبناني، ويعتبرون أن نزع سلاح حزب الله هو مطلب، لكن يجب أن ينفذ بكثير من التحفظ والروية، وبالطريقة التي لا تمس بالاستقرار اللبناني، حيث لا تُحمَّل الخصوصية اللبنانية أكثر مما تحتمل، لأن لبنان بلد ذو تشكيلة طائفية، وتكوينه السياسي والاجتماعي معقد، وبالتالي يجب إجراء هذه الانتخابات بطريقة لا تفضي إلى كسر هذا الاستقرار، أو الإخلال بالتوازنات على نحو يدفع هذا البلد باتجاه فوضى مفتوحة، بينما الأمريكيون غير مكترثين بتاتاً بعامل الاستقرار اللبناني. 
إذاً، ما هي الإستراتيجية لمواجهة هذه التحديات أو هذه السيناريوهات الخطيرة التي تريد إحداث تغييرات جذرية في توازنات الواقع السياسي اللبناني، وربما أيضاً وصولاً إلى إحداث تغييرات في النظام السوري، وهو ما يظهره كثير من الأمريكيين. الأمريكيون أرادوا أيضاً للمقاومة أن تنكشف إقليمياً من خلال الانسحاب السوري، وهذا حصل، وأرادوا للمقاومة أن تنكشف داخلياً من خلال إيجاد موقف لبناني كبير يطرح موضوع سلاح المقاومة للنقاش، والأمريكيون أيضاً سيشتغلون خلال الفترة المقبلة على إحداث انكشاف شيعي أيضاً إذا صح التعبير لهذه المقاومة، المشكلة داخل الساحة الشيعية نفسها، وهي البيئة الديموغرافية الاجتماعية التي تحضن المقاومة في الجنوب، لذلك افترض الأمريكيون أنهم يدفعون المعطيات السياسية والاجتماعية في لبنان نحو عزل المقاومة، وهم يدركون جيداً بأن العلاج العسكري لسلاح المقاومة ليس ممكناً، ولا يفضي إلى نتيجة؛ لأن الحلول العسكرية جربت مع المقاومة مراراً، وجربت من خلال في حرب تموز الكبيرة في العام 93، ولم تفضي إلى نتيجة، وجربت في حرب كبيرة جداً مرة أخرى العام 96، ولم تفضي إلى نتيجة أيضاً، بل على العكس، كانت المواجهة العسكرية للمقاومة تؤدي إلى ازدياد قوة المقاومة، وفي حرب نيسان نتج تفاهم نيسان الذي شكل أحد المرتكزات الأساسية السياسية لانتصار المقاومة في أيار من العام 2000. 
إذاً، ما يجري الآن هو ما تحاول الأدبيات الأمريكية أن تسميه نوعاً من الثورات البيضاء، أو الثورات العفوية، أو الثورات البرتقالية، التي تريد أن تطوق المقاومة مدنياًَ وتعزلها وتجعلها مكشوفة من الناحية الشعبية، لذلك افترض الأمريكيون بأنه خلال هذه الهجمة ستنشأ المقاومة سريعاً، وستنجر إلى الانقسام الذي أحدثه التدخل الأمريكي في الوضع اللبناني، وبالتالي ستفتعل مشكلة مع الأطراف الذين يعتبرهم الأمريكيون ركيزة هذا التدخل الغربي، ومرتبي هذا المشروع الذي يقوم بإحداث التحولات التي أشرت إليها، لكن موقف المقاومة كان مختلفاً تماماً، حيث رفعت المقاومة شعار الحوار بين اللبنانيين، واعتبرت أن السلم الأهلي اللبناني خط أحمر ممنوع المس به، ودعت إلى التوافق اللبناني على مشروع إصلاحي لبناء الدولة وتحديثها وإعادة تصويب أداء الدستورية في لبنان، كما دعت اللبنانيين بأطرافهم المختلفة إلى الحوار والتفاهم حول سلاح المقاومة، وضرورة حماية هذا السلاح. 
لذلك، قالت المقاومة فيما يتعلق بموضوع السلاح إنها تتمسك بسلاحها، ودعت من ناحية أخرى اللبنانيين إلى الحوار حول هذا السلاح، وأن الموضوع ليس مقفلاً ومغلقاً، وإذا كان لدى البعض بدائل فليطرحها، لكن من زاويتنا (المقاومة) لا نرى أن هناك ثمة بدائل يمكن أن تحل محل سلاح المقاومة، وفي أداء الوظائف الإستراتيجية والوطنية التي يؤديها هذا السلاح. وقد انعكست هذه الرؤيا على المستوى الانتخابي في الأمن، فالمقاومة نسجت تحالفاتها الانتخابية مع الطرفين الأساسيين اللذين يعتبرهما الأمريكيون بأنهما ركيزة هذا التحول السياسي الذي نتحدث عنه، لذلك كانت التحالفات الانتخابية للمقاومة مع تيار المستقبل، وهي تيار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومع تيار الأستاذ وليد جنبلاط، والحزب التقدمي الاشتراكي، ومن المعروف أن هذين التيارين هما اللذان يقودان عملية التغيير التي تجري الآن. هذا التحالف الانتخابي لم يكن تحالفاً انتخابياً محضاً معلقاً في الهواء بلا معنى، إنما استند إلى حوار سياسي داخلي شديد الأهمية، وهذا الحوار قام على البحث في مستقبل لبنان، وهذا المستقبل مرهون بملفين كبيرين، ملف الإصلاح من ناحية وتطبيق اتفاقية الطائف، وملف المقاومة من ناحية أخرى، فإذا كنا نريد أن نبني وطناً ونريد أن نفصل بين الأجندة الداخلية اللبنانية الإصلاحية والأجندة الأمريكية والغربية المفروضة على لبنان التي تتصل بأهداف تحدثنا عنها، يجب أن يتفاهم اللبنانيون فيما بينهم. 
وبالفعل، دفع هذا الحوار إلى أن يكون الشعار لبنانياً الآن، وأن سلاح المقاومة هو شأن داخلي، ولا شأن للأمريكيين ولا لغيرهم في هذا الأمر، وأن اللبنانيين يدركون جيداً أن الضغوطات الأمريكية والأمنية ستكون ضغوطات كبيرة وقاسية، لكن ومهما يكن حجم الضغط الأمريكي والغربي، ما لم يستند هذا الضغط إلى ركائز وأدوات داخل الساحة اللبنانية، فإنه سيبقى دون أن يشكل خطراً فعلياً في إحداث التحولات التي يتطلع إليها، نحن ندرك جيداً مدى الخصوصية الاجتماعية والسياسية التي يقوم عليها هذا البلد، نحن بلد متعدد الطوائف، وبالتالي الواقع التعددي هذا إما أن ينحكم إلى حالة توافقية من اللبنانيين بهدف تعريف التحديات التي ستواجهنا خلال الفترة المقبلة، وإما أن نختلف فيما بيننا، الاختلاف مشكلة في لبنان، لأنه سريعاً يتحول إلى اضطراب سياسي وأمني، وهذا ما لا يريده اللبنانيون، بل يريدون أن ينقذوا بلدهم، وأن يدفعوا به إلى اتجاه التماسك لمواجهة هذه التحديات. 
توافق اللبنانيين فيما بينهم وتماسكهم فيما بينهم لا بد أن يستند إلى توافق على هذين الملفين اللذين تحدثت عنهما، وهما الملف الإصلاحي وملف حماية المقاومة، لذلك أريد أن أقول إن المقاومة من خلال هذه المنطلقات أرادت أن تقدم تجربة يفترض الأمريكيون دائماً بأنها أمر متناقض لا يمكن أن يكون، وهذه التجربة تقول إن هناك إمكانية في أن نجمع الديمقراطية من ناحية والمشروع الإصلاحي الوطني النضالي من ناحية أخرى. ليس صحيحاً أن هناك تناقضاً بين أن تكون الاتجاهات العربية اتجاهات تتطلع إلى مواجهة الاحتلال ورفض التدخل الأجنبي من ناحية، ومن ناحية أخرى أن تكون ضد الديمقراطية، يمكن لتجربة المقاومة الإسلامية في لبنان أن نكون ديمقراطيين تعدديين، نسعى فعلاً إلى بناء تجربة إصلاحية تنموية تبني دولة حديثة، وأن نتمسك في الوقت ذاته بحقنا في العمل على تحرير أرضنا، وعلى رفض التدخل الأجنبي في قضايانا الداخلية، لذلك أقول إن ركيزة مواجهة المشروع الأمريكي من زاوية التحديات التي تواجهها في الساحة اللبنانية، هي: 
أولاً- نحن نراهن على الاحتضان الشعبي للمقاومة، المقاومة ليست فريقاً أقلوياً في لبنان، ليست تنظيماً مسلحاً فقط، ليست تنظيماً أمنياً معزولاً، المقاومة هي قبل أي شيء آخر هي أكبر التيارات الشعبية والسياسية اللبنانية، وهي تتوفر على حاضنة اجتماعية راسخة وعميقة في داخل المجتمع اللبناني، هذا أولاً.
  ثانياً- حصد الوحدة الداخلية الأمنية مهماً كما قلت سابقاً، لا يقلقنا الضغط الغربي والتدخلات الأمريكية في الشؤون اللبنانية، لكن يقلقنا أن يتمكن الأمريكيون من إحداث انقسام داخل وحدة الصف الوطني اللبناني، لأنه يمكن أن يشكل الانقسام خطراً على المقاومة وعلى مشروع المقاومة. 
ثالثاً: نحن متمسكون على أن نحل مشاكلنا فيما بيننا عن طريق الحوار، والفصل -كما ذكرت- بين الأجندة الإصلاحية الداخلية والأجندة الأمريكية.
رابعاً:  نحن أيضاً متمسكون في استمرار الحوار مع الأوروبيين والاتحاد الأوروبي. 
خامساً: الركيزة السادسة هي قوة المقاومة، المقاومة هي فريق قوي لديه إمكانياته، ليس السياسية والاجتماعية فحسب، بل أيضاً إمكانياته اللوجستية والبشرية والعسكرية. 
أقول بالإضافة إلى ذلك إن المقاومة في لبنان لديها ثلاثة أبعاد: بعد وطني، وبعد عربي، وبعد إسلامي.
تعميق البعد الوطني للمقاومة مسألة شديدة الأهمية، ودون أن نهمل أهمية البعدين الآخرين، لكن البعد الوطني يشكل حصانة فعلية لاستمرار المقاومة ولقوة المقاومة، ونحن في هذا الإطار نميز بين الأساس الموضوعي للمقاومة والوظائف الإستراتيجية لهذه المقاومة، ويرتبط الأساس الموضوعي بالقضايا الوطنية اللبنانية، والوظائف الإستراتيجية تتعلق بالتحديات التي تواجه المنطقة بصورة عامة. 
نحن نفترض بأن نجاح مقاومتنا في أداء مهماتها الوطنية يشكل بحد ذاته منصة إطلاق لإمكانية نجاح الوظائف الإستراتيجية على المدى الأبعد، وأنه فيما لو تمكنا من مواجهة المشروع الأمريكي على الساحة الآن بحد ذاته، سيشكل دعماً تلقائياً لمختلف الساحات العربية الأخرى، بما فيها الساحة الفلسطينية التي تتعرض بدورها أيضاً إلى ضغوطات أمريكية. 
ها هي المقاومة في هذه اللحظة من تاريخها وبدءاً من الانسحاب الإسرائيلي في أيار من العام 2000، تقوم بدورين في الساحة اللبنانية: دور تحرير الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلة، والمقصود بها مزارع شبعا، والدور هنا تحريري بحت، ودور آخر هو دور دفاعي ردعي، فيما يتعلق بالمناطق اللبنانية الأخرى بمواجهة الخط الأزرق في فلسطين المحتلة، الدور الدفاعي هو أيضاً دور دفاعي محض، أي بمعنى أن المقاومة خارج الأراضي اللبنانية المحتلة لا تباشر بأي عملية عسكرية، ولا بأي فعل عسكري ما لم يقم الإسرائيليون ابتداءً بالاعتداء على الأراضي اللبنانية، أو زرع عبوات، أو استهداف القرى والمدنيين اللبنانيين، ذلك الدور الدفاعي هو دور كامن، دور فقط يراد منه حماية الأمن الوطني اللبناني، الأمن القومي اللبناني والمنشآت اللبنانية، أي بمعنى إذا عزف الإسرائيليون عن الاعتداء على الأراضي اللبنانية والقرى المدنية اللبنانية، هذا يعني أن الدور الفاعل للمقاومة سيبقى كامناً، ولن تكون هناك أية فرصة موضوعية لأن يتحول إلى دور ناشط وفاعل، بهذا المعنى نحن نتمسك بالمقاومة لعشرة أسباب أريد أن أذكرها سريعاً: 
1- تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة في ظل عدم وجود مؤسسات دولية ومجتمع دولي قادر على أن يحرر لنا أرضنا.
2- مواجهة التهديد الإسرائيلي، ونقصد بالتهديد الإسرائيلي، هو وجود مجتمع حرب عدواني إلى جانب لبنان: 
•     بحسب التاريخ والتجربة. 
•    كان هذا الوجود يستخدم دائماً وسائل إجرامية عدوانية بحق الأراضي اللبنانية والشعب اللبناني، وعلى هذا الأساس نحن بحاجة إلى سياسة ردع تحول دون أن يطبق العدو الإسرائيلي سياساته العدوانية اتجاه لبنان.
3- تحرير الأسرى اللبنانيين الذين لا يزالون في السجون الإسرائيلية حتى الآن، على الرغم من أنه أدعى أنه انسحب كلياً من أراضينا، وأنه نفذ القرار425.
4- نريد أن نواجه سياسات الاستفراد التي تقوم بها أمريكا وإسرائيل لإرغام الدول العربية على: إما الدخول في اتفاقيات سلام منفردة، أو تبادل علاقات تجارية، أو فتح مكاتب تطبيع مع إسرائيل قبل الوصول إلى سلام شامل أو عادل.
5- استمرار الصراع العربي الإسرائيلي الذي يجعل من المنطقة منطقة مفتوحة في كل لحظة على إمكانيات تداعي الأوضاع الأمنية والعسكرية، وبالتالي لبنان بلد ضعيف، نحن لسنا محصنين لا باتفاقية سلام كما هو الحال مع مصر مثلاً، أو الأردن، ولسنا محصنين بإمكانيات عسكرية كلاسيكية كبيرة كما هو الحال مع سوريا، فنحن لا خيار أمامنا في هذه الحال في ظل كون لبنان بلداً قليل الإمكانات وقليل الحماية، لا خيار لنا إلا أن نتمسك بالمقاومة.
6- نحن لدينا مشكلة في المياه مع إسرائيل حصلت هذه المشكلة قبل 3 سنوات، عندما أردنا أن ننفذ مشروع الوزَّاني لإرواء القرى الموجودة في المنطقة الحدودية، وهدد الإسرائيليون بطرب المنشآت، وكانوا فعلاً بصدد طرب المنشآت إن لم تقم المقاومة بتهديدها المقابل أنه فيما لو استهدفت منشآتنا المدنية لمحطات الضخ فإننا سنضرب محطات إسرائيلية بالمقابل، لو لم يكن هناك سياسة الردع لما كان بالإمكان أن نستفيد بمصادر المياه لدينا، نحن نريد أن نستكمل سياسة الاستفادة من مصادر المياه لدينا، ماذا سيكون عليه الحال، لو لم يكن هناك مقاومة.
7- نريد أن نحمي السيادة اللبنانية، لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي تخترق سيادته كل يوم في الجو، والبحر، والبر، ومع ذلك لا يملك من ذلك لا حول ولا قوة إلا هذه المقاومة التي تهدد بالرد في حال استمرار هذه الاستباحة الفاضحة للسيادة اللبنانية والقانون الدولي.
8- نريد أن نواجه التوطين، أحد التحديات التي تواجه لبنان، الذي ينص عليه القرار 1559 هو نزع سلاح المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، المقصود بغير اللبنانية هم الفلسطينيون، نزع سلاح المخيمات الفلسطينية علماً أن المخيمات الفلسطينية ليس فيها أسلحة ثقيلة، هناك أسلحة فردية، هذه تندرج في إطار رؤيا أمريكية تعمل على توطين الفلسطينيين، حيث هم -أي في لبنان في المخيمات اللبنانية- سيجري توطينهم في لبنان، ونحن نقول إن مشكلة عودة اللاجئين إلى أرضهم، لسنا نحن من سيحلها، على الأمريكيين والإسرائيليين هم أن يتحملوا مسؤولية هذه المشكلة طالما هي من نتاج السياسات الأمريكية والإسرائيلية.
9- إسرائيل تعتمد مقابل الأراضي اللبنانية في الجنوب اللبناني سياسات دفاعية تقوم على عناصر دفاعية متعددة، بما فيها المستوطنات المسلحة، يعني يجري توظيف العامل المدني في إطار سياسة دفاعية عن هذه المستوطنات، لماذا لا يحق لنا في المقابل أن نعتمد سياسة دفاعية لبنانية أيضاً تستند إلى ما يشبه منطق المستوطنات والقرى المدنية المسلحة التي تدافع عن نفسها في حال تعرضت إلى اعتداء إسرائيلي.
10- أخيراً، حماية الاستقرار اللبناني، دائماً كان لدى الإسرائيليين هدف التدخل في الشؤون اللبنانية واللعب على تناقضات الطوائف داخل لبنان بهدف شرذمته ضمن رؤيا تعرفونها جميعاً، هي دفع المنطقة باتجاه إعادة التشكل جغرافياً وفقاً لاعتبارات طائفية، المقاومة هي عامل الحماية في وجه التدخلات الإسرائيلية مجدداً، والدخول إلى هذه التعقيدات الاجتماعية اللبنانية.
... وشكراً  

 

تحميل الملف
المقال السابق
اوراق بحثية: ما هي طبيعة النظام الدستوري في لبنان؟
المقال التالي
مقالات: عسكرة العولمة والنظام الإقليمي

مواضيع ذات صلة: