لم ينجل الحدث التونسي تماماً ولا تكشفت احتمالاته بعد، لكنه من دون شك ينتمي إلى زمن عربي آخر، زمن يمكننا فيه أن نفاجئ العالم ونخطف أنفاسه. وإذا كنا نملك حتى الآن قصة نجاح واحدة أكيدة هي تعطيل الذراع العسكرية للهيمنة، فإن القوى المستفيدة من الوضع الراهن، تقف موحدة لمنع ذلك النجاح من التأثير على انفرادها في فرض رؤاها الاقتصادية ومنطقها الاقتصادي على الأنظمة والدول. أما حكاياتنا الأخرى فهي إخفاقات متتالية وتفويت متواصل للفرص، في التنمية والاستقلال والوحدة، كما على صعيد تضييق فجوة التقدم مع بقية العالم، بما في ذلك البلدان الناشئة التي خطونا قبلها ببضعة عقود الخطوة الأولى على طريق التصنيع، ونستورد منها الآن معظم سلعنا..
كنا نظن ان الإطباق السلطوي الناجز على المجتمعات العربية أفقدها تماما القدرة على المبادرة، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت العكس. قد لا يمكن تكرار ما حصل في أماكن أخرى، أو انه أتى في لحظة ارتخاء قبضة النظام الدولي الغارق بأزماته والمنهمك بسلم أولويات مختلف، إلا ان ذلك يغذي الآمال بأن الاستثناء العربي لن يقوى على تحاشي سحب التغيير المحمولة على رياح الفوضى الدولية.
من السابق لأوانه ربما الخروج باستنتاجات قابلة للتعميم، لكن انتفاضة تونس هي مناسبة لتمحيص العوامل الكامنة في قاع السياسة العربية، وكشف بعض ما هو محتجب داخلها.
فما حصل ليس فحسب ثورة اجتماعية ذات مفاعيل سياسية، إنها قبل ذلك موجة سياسية بامتياز تسربت من المنافذ المتاحة، في ظل تصاعد الممارسات السلطوية وغلق أبواب السياسة. ويختلف الحال بين المجتمعات الموحدة والمتعددة. في المجتمعات المنقسمة على نفسها تنمو العصبيات على أنقاض الدولة، اما المجتمعات الموحدة أو التي لا تتطابق انقساماتها السياسية مع انقسامات الهوية فيها، فإن انسداد آفاق السلطة يزيد تفاعلها مع القضايا الاقتصادية الاجتماعية فتحتل حينها صدارة المشهد. فالتصدي لمشاكل الفقر والبطالة وتدني المداخيل وغيرها من مظاهر الإقصاء والاستبعاد لم تصبح بعد على أهميتها محرك التغيير ووقوده في العالم العربي، بل إنها تعويض لا بد منه عن نقص السياسة، والمدخل البديل لبناء التضامن المضاد للسلطة.
بعبارة أخرى المواجهة الآن، كما في المثال التونسي، هي مع عناصر ما يمكن تسميته بالنموذج الاستبدادي الجديد، الذي نما باطراد خلال العقدين المنصرمين في البلدان العربية، وجمع بين: الاستبداد العبثي والتبعية غير المشروطة والليبرالية الزائفة.
فالاستبداد في هذا النموذج غير هادف ولا مؤدلج وخال من المقايضات الضرورية. هذا بعكس ما يحصل في أنحاء عدة في العالم، حيث تحافظ الأنظمة السلطوية على استمرارها بالاعتماد على قليل من العنف والقبضة الحديدية، وكثير من المساومات الداخلية التي ترمي إلى تحقيق غايات قومية متفق عليها، مثل بناء الأمة وتعزيز قوتها ووحدتها، أو تعجيل مسيرة التنمية، أو تجسيد عقيدة سياسية صاعدة. وبغض النظر عن النوايا الحقيقية للحكومات، فإن المقايضة بين الحرية من جهة وتحقيق بعض أو جميع تلك الأهداف من جهة ثانية، منح تلك الأنظمة شرعية ما، وأمن لها سلاح إقناع يكفيها مشقة اللجوء المتكرر إلى القمع.
اما التبعية فهي في النموذج السلطوي المذكور تبعية غير جدلية ولا تطمح بتوسيع هوامشها. بعبارة أخرى هي تبعية ثقيلة الوطأة تختلف عن النمط المخفف الذي تعتمده دول أخرى كثيرة تدور في فلك الغرب. بعض هذه الدول "يستضيف" على أراضيه قواعد عسكرية أميركية، وبعضها الآخر يكتسب من تحالفه مع واشنطن مزايا إستراتيجية مؤثرة، لكن هذه وتلك توازن بين مصالحها الخاصة والمصالح الأخرى، وبعضها يطمح إلى تحويل الاستتباع إلى تحالف، والتحالف إلى شراكة. أما الأنظمة العربية المرتبطة بواشنطن ففضلت الاستتباع التام في مقابل الحصول على شرعية خارجية بديلة لشرعيتها الداخلية المفقودة، أي اختارت الانصياع للخارج بدلاً من مساومة الداخل.
العنصر الثالث في نموذج الاستبداد الجديد هو زيف دعوى الليبرالية. فبالرغم من النقد الموجه للسياسات النيوليبرالية التي تسببت أينما حلت بزيادة التمييز والتفاوت حدة، وترجيح كفة الاقتصاد الوهمي على الاقتصاد الحقيقي، فإنها سجلت بالمقابل نجاحات لا يمكن إغفالها، مثل زيادة معدلات النمو وتطوير البنى التحتية الحديثة، وسرّعت نقل التكنولوجيا، وهي مكنت بعض الدول النامية المحظوظة من الحصول على موقع مناسب في التقسيم الدولي الجديد للعمل. اما الليبرالية في بلداننا فهي وهمية تماما، حيث جرى بيع القطاع العام أو تفكيكه حصرا لمصلحة نخبة فاسدة وضيقة، ولم ينل منه القطاع الخاص كما يزعم نصيب يذكر، كما لم يترتب على ما قيل انه تحرير للاقتصاد زيادة في الإنتاجية أو تحسين للكفاءة، وعوضاً عن إطلاق آليات السوق، أطلقت دورة تحويلات مالية مشبعة بالزبائنية والفساد، و لم تراع السلطات في الحد الأدنى من متطلبات الأمن الاجتماعي حتى بالحدود الضيقة التي تشجع عليها المؤسسات الدولية، بل أدارت عملية إعادة توزيع معاكسة ضخمة لصالح غير المنتجين ولحساب من هم في أعلى هرم السلطة.
لا يزال التغيير السياسي هو بوابة الإصلاح في العالم العربي، فمن دون تفكيك نموذج التسلط الجديد لا يمكن تحسين أوضاعنا الداخلية، ومن دون بناء مكانتنا الخارجية ستظل الفرص التي تحفل بها المنطقة والعالم تمر تحت أنوفنا دون ان نحرك ساكنا أو نقوى على التقاط أي منها.