أزمة القطاع المالي في لبنان الظروف والأسباب ومبادئ المعالجة والخروج من الأزمة

رقم الإصدار: 38

ملخص تنفيذي

يواجه لبنان أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، يشكّل الانهيار المصرفي أحد أعمدتها الرئيسية. تعود جذور هذه الأزمة إلى عقود من السياسات الاقتصادية غير المستدامة، والاعتماد المفرط على التدفقات الرأسمالية، والهندسات المالية التي اتبعها مصرف لبنان المركزي، والتي أدت في النهاية إلى خلق فجوة مالية هائلة في النظام المصرفي تقدّر بما يتراوح بين 70 و80 مليار دولار أميركي كتقديرات أولية. 

ومما لا شك فيه أن جانبًا رئيسيًا من تعقيدات المشكلة الاقتصادية والمالية في لبنان، يعود إلى التلكؤ المتعمد في المبادرة لحل مشكلة القطاع المصرفي، من جرّاء الخلافات وتضارب المصالح ومراكز النفوذ السياسي والاقتصادي حول كيفية مقاربة جوهر المشكلة، المتمثل في كيفية توزيع هذه الخسائر الضخمة بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف التجارية ومودعيها، مما لا يؤدي إلى تعطيل أي محاولة جادة للحل فقط، وإنما إلى تبديد وإضاعة حقوق المودعين وثرواتهم أيضًا. 

وفيما تشترط مؤسسات التمويل الدولية على المؤسسات اللبنانية الرسمية تنفيذ برنامج إصلاحات شامل، من أجل تقديم القروض والتسهيلات المالية، فإن هذه المؤسسات استمرت تكتفي بتقديم خطط ووضع إجراءات وتدابير تشريعية وتنظيمية، لم تلامس جوهر المشكلات في غالب الأحيان، لا بل إن معظمها بقي حبرًا على ورق.

يقدّم هذا التقرير رؤية متكاملة لمعالجة أزمة القطاع المصرفي اللبناني، تستند إلى تحليل معمق لظروف الأزمة وأسبابها، وإلى دروس ومبادئ مستفادة من تجارب مماثلة وتوصيات ومعايير دولية. وتهدف هذه الرؤية إلى استعادة التوازن والاستقرار المالي والاقتصادي، بالإضافة إلى استعادة أقصى نسبة ممكنة من  قيمة الودائع الأصلية، مع مراعاة مبادئ العدالة والشفافية والاستدامة المالية.

وتؤكد الرؤية ضرورة توفر شروط مسبقة حاسمة للتنفيذ وتحقيق الأهداف المنشودة، أبرزها: الإرادة السياسية الصلبة للتوصل إلى توافق وطني حول توزيع الخسائر وتنفيذ الإصلاحات، وإقرار الإطار القانوني اللازم (بما في ذلك قانون الكابيتال كونترول للرقابة على حركة رؤوس الأموال وإعادة هيكلة المصارف)، واستكمال عمليات التدقيق الجنائي الذي كانت قد بدأته شركة ألفاريز ومارسال (Alvarez & Marsal) سنة 2020، وقدمت تقريرها الأول في سنة 2021، والتوسع في هذا التحقيق بصورة مستقلة وشفافة ليشمل كامل عمليات مصرف لبنان والمصارف التجارية، دون ربط هذه العملية بأي برنامج أو شروط دولية، بما فيها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

تقترح الرؤية خمسة محاور رئيسية للحل، على الشكل الآتي: (1) إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ (2) إصلاح المصرف المركزي؛ (3) الأطر اللازمة لإدارة عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي، (4) معالجة أوضاع المالية العامة والدين العام، (5) السياسة النقدية وسعر الصرف. وفي الخلاصة يتضمن التقرير توصيات ملازمة لتنفيذ الرؤية.

 

مقدّمة

قد يحلو للبعض مقاربة أزمة القطاع المصرفي بوصفها مجرد عرض من أعراض الانهيار الأوسع، الذي يشهده لبنان في أزمة مصرفية ومالية ونقدية واقتصادية معقدة  وغير مسبوقة. كما يفوت الكثيرين تداعيات سياسة العقوبات وتشديد الحصار الأميركي – الغربي وبعض الأنظمة السائرة في ركب هذه السياسة، ودورها في تعميق الأزمة وإطالة أمدها.  

فالعجز المتفاقم في ميزان المدفوعات نتيجة تراجع التحويلات الخارجية التي طالما استخدمت لتغطية العجز في الحساب الجاري، خصوصًا في الفترة التي تلت سنة 2011 بعد سنوات طويلة من الفوائض رافقها إنفاق استهلاكي مفرط ، انعكس ضغوطًا متزايدة على الليرة ولاحقًا على القطاع المصرفي برمّته. هذا القطاع الذي عمد إلى فرض قيود غير رسمية وغير معلنة على أموال المودعين، أدت لتحويل الودائع الدولارية إلى "لولارات" ذات قيمة سوقية متدنية. وقد ساهم كل هذا في تدهور الثقة بالنظام المصرفي، وأدى إلى انهيار متسارع في سعر صرف العملة الوطنية، وتفشي التضخم المفرط، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين، وشلل شبه تام في القطاع المصرفي، كان من أسبابه استراتيجيات مصرف لبنان برئاسة رياض سلامة، التي جرى الترويج لها بعنوان "الهندسات المالية" اعتبارًا من سنة 2016، وما هي في الواقع سوى النسخة اللبنانية من  "مخططات بونزي" (Ponzi Scheme).  

وبقدر ما كان أداء القطاع المصرفي سببًا في الانهيار الحاصل ومحركًا أساسيًا لتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كما سنشير لاحقًا، فقد باتت إعادة هيكلة هذا القطاع ومعالجة أوضاعه لاستعادة الثقة المفقودة في النظام المصرفي، بحد ذاتها مدخلًا لا غنى عنه لأي محاولة إنقاذ جدية، تزداد صعوبة بمرور الوقت. 

ويهدف هذا التقرير إلى تقديم رؤية متخصصة وخطة عمل مفصلة لمعالجة الأزمة المصرفية في لبنان. لا تقتصر هذه الخطة على اقتراح حلول تقنية فحسب، بل تسعى إلى بناء مسار إنقاذ يتسم بالمصداقية، ويستند إلى أسس اقتصادية سليمة، ويراعي مبادئ العدالة والإنصاف. يتمثل الهدف المحوري لهذه الخطة في استعادة أقصى ما يمكن من القيمة الأصلية للودائع المحتجزة، وهو هدف طموح ولكنه ضروري لإعادة بناء الثقة وتخفيف العبء الاجتماعي الهائل للأزمة. لتحقيق ذلك، يستند التقرير إلى تحليل معمق لتجارب دولية ناجحة في معالجة أزمات مصرفية مماثلة، وإلى مراجعة دقيقة لتقارير وتوصيات المؤسسات المالية الدولية المرجعية.

ولتحقيق هذه الأهداف يعتمد التقرير على مقاربة تحليلية شاملة ومتعددة الأبعاد. تبدأ بتشخيص دقيق لجذور الأزمة المصرفية وعوامل تفاقمها، مع تحديد كمّي للفجوة المالية وتوزّعها المحتمل. ثم تنتقل إلى مراجعة نقدية للخطط الحكومية المتعاقبة والمقترحات المقدمة من قبل المؤسسات الدولية الرئيسية مثل صندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي (World Bank)، وبنك التسويات الدولية  (BIS)، ومؤسسة التمويل الدولية (IFC)، بالإضافة إلى تحليلات من بنوك استثمارية عالمية (مثل Goldman Sachs, JPMorgan)  وشركات استشارية مثل McKinsey) ). يلي ذلك استعراض للتجارب الدولية في إدارة الأزمات المصرفية لاستخلاص الدروس المستفادة. بناءً على هذا التحليل المقارن، يتم تقييم مدى ملاءمة وفعالية أدوات الحل المختلفة (مثل الإنقاذ الداخلي bail-in، دمج المصارف، تأسيس شركات لإدارة الأصول، إعادة هيكلة الدين السيادي، إصلاح قيود رأس المال) ضمن السياق الخاص بطبيعة أزمة لبنان الاقتصادية والمالية والنقدية،  وصولًا إلى تجميع النتائج في خطة عمل متكاملة ومرحلية، تأخذ بعين الاعتبار استعادة الودائع بالنسب المحددة. 

يتناول التقرير في قسمه الأول تشخيصًا مفصّلًا للأزمة اللبنانية، بكل أبعادها المالية والنقدية والاقتصادية، محللًا أسبابها وجذورها ومظاهرها الحالية ومقدرًا حجم الفجوة المالية. ويستعرض القسم الثاني توصيات المؤسسات الدولية والخطط الحكومية المختلفة، ويقارن بينها مبرزًا نقاط الالتقاء ونقاط الاختلاف. فيما يسلّط القسم الثالث الضوء على تجارب بعض الدول في حل الأزمات المصرفية لاستخلاص العِبر والدروس المفيدة في حالة لبنان. أما القسم الرابع فإنه يقيّم استراتيجيات وأدوات الحل الممكنة في السياق اللبناني، ليخلص منها في الفصل الخامس إلى بلورة  خطة مقترحة للحل بشكل مفصل ومرحلي، مع التركيز على كيفية تحقيق هدف استعادة الحد الأقصى من الودائع. ويختتم التقرير بخلاصة وتوصيات رئيسية، مع جدول ملحق يمثل خارطة طريق موجزة للخطة المقترحة.

 

القسم الأول . تشخيص الأزمة المصرفية في لبنان


1.1 جذور الأزمة والعوامل المساهمة

لم تكن الأزمة المصرفية وليدة الصدفة أو نتاجًا لأحداث خارجية بحتة، بل هي تتويج لعقود من السياسات المالية والمصرفية والاقتصادية الكلية غير المستدامة، بالإضافة  إلى الإخفاقات المتراكمة في الحوكمة والإدارة المالية، إلى جانب العقوبات الأميركية والحصار الخارجي.
فلبنان لم يكن خلال الفترة الممتدة من 1997 وحتى 2019 بلدًا فقيرًا بالموارد المالية، بل كانت لديه فوائض مالية كبيرة تجاوزت حجم دخله السنوي بأشواط كبيرة، حتى فاقت نسبة الـ 400 % من الناتج المحلي الإجمالي. ويبيّن الجدول أدناه حجم هذه الفوائض المالية منذ 1997 حتى 2019 .

 

السنة

حجم الناتج المحلي الإجمالي

(مليار دولار)

حجم موجودات المصارف التجارية

في لبنان(مليار دولار) 

نسبة الموجودات

إلى الناتج المحلي الإجمالي (%)

حجم الفائض المالي

السنوي(مليار دولار) 

1997

$15.75

$30.27

192%

$14.52

1998

$17.25

$36.50

212%

$19.26

1999

$17.39

$40.44

233%

$23.05

2000

$17.26

$45.03

261%

$27.77

2001

$17.65

$47.66

270%

$30.01

2002

$19.15

$52.56

274%

$33.41

2003

$20.08

$60.12

299%

$40.03

2004

$21.16

$67.79

320%

$46.63

2005

$21.50

$68.54

319%

$47.04

2006

$22.02

$74.27

337%

$52.25

2007

$24.83

$82.25

331%

$57.43

2008

$29.12

$94.26

324%

$65.14

2009

$35.40

$115.25

326%

$79.85

2010

$38.44

$128.93

335%

$90.48

2011

$39.93

$140.58

352%

$100.65

2012

$44.04

$151.88

345%

$107.85

2013

$46.91

$164.82

351%

$117.91

2014

$48.13

$175.70

365%

$127.56

2015

$49.94

$185.99

372%

$136.05

2016

$51.21

$204.31

399%

$153.11

2017

$53.14

$219.86

414%

$166.72

2018

$54.96

$249.48

454%

$194.52

2019

$51.99

$216.78

417%

$164.79

 

ويكفي عرض السياسات الاقتصادية والمالية والمصرفية المحليّة حتى نتبين آليات تبديد هذه الثروات وتقويض مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي إدخال البلاد في دوّامة من الاستنزاف والشلل الاقتصادي. 

 

2.1. السياسات الاقتصادية الكلية غير المستدامة: 

شكّل العجز المزدوج (عجز الميزانية وعجز الميزان التجاري) السِمة الغالبة للاقتصاد اللبناني لعقود طويلة. فالحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ التسعينيات استمرت في تغطية عجزها المالي، الناجم عن قصورها في مجال إصلاح المالية العامة، عن طريق الاستدانة الداخلية والخارجية، مما أدى إلى تراكم دين عام ضخم تجاوز 176% من الناتج المحلي الإجمالي عشية الأزمة. ويظهر الرسم البياني رقم 1 أدناه تطور الدين العام إلى الناتج المحلّي خلال الفترة 1992-2020:


رسم بياني رقم 1: الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي 1992-2020

 المصدر: إعداد المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق بالاستناد إلى بيانات وزارة المالية


ومما لا شك فيه أن هذه الحالة المزرية هي نتاج عقود من السياسات القائمة على مبدأ رئيسي، هو جذب الأموال من الخارج وحشد المدّخرات المحلية لتمكين الحكومة أولًا من تمويل نفقاتها غير المجدية والمنفصلة عن كل ما له صلة بالاقتصاد الحقيقي والرفاه الاجتماعي، وثانيًا الحفاظ على سعر صرف اسمي ثابت لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي بشكل مصطنع، مما أدى إلى استنزاف احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، فضلًا عن تضخيم قيمة العملة الحقيقية، وإضعاف القدرة التنافسية للصادرات، وزيادة الاعتماد على الاستيراد. وقد استمر هذا النموذج طوال فترة تدفق رؤوس الأموال الأجنبية (بشكل أساسي ودائع المغتربين وتحويلاتهم والقروض الخارجية) لتمويل العجزين وسد الفجوة الدولارية. وبذلك فإن هذا الاعتماد المفرط على التدفقات الخارجية أسّس لهشاشة بنيوية عميقة في النظام المالي والاقتصادي.


3.1. النموذج المشوّه لعمل القطاع المصرفي:

لقد أدّى هذا النموذج إلى انكشاف القطاع المصرفي بشكل تام أمام المديونية المتزايدة وغير المسبوقة للدولة. وقبل الدخول في عرض هذا النموذج نجد من المفيد إعطاء فكرة أولية حول طريقة عمل المصارف التجارية عمومًا.
من المعروف أن توظيفات (assets) المصارف التجارية، ومنها اللبنانية بطبيعة الحال، تتألف من مصدرين (liabilities) رئيسيين هما: بالدرجة الأولى أموال الجمهور التي تتلقاها في شكل ودائع، وبالدرجة الثانية أموالها الخاصة من رأسمال ومساهمات.  وفي حين يستخدم المصدر الأول لتقديم التسهيلات والخدمات المصرفية، بما فيها القروض والضمانات وخطوط الائتمان للزبائن من أشخاص معنويين وطبيعيين، سواء بشكل مباشر أو رقمي، أو الاحتفاظ بودائع وشهادات إيداع لدى البنك المركزي تكون قابلة للتسييل عند الحاجة، أو شراء سندات خزينة ذات عوائد مرتفعة، إلى جانب الالتزام بمتطلبات الانضباط التي تفرضها السلطات النقدية بما فيها الاحتفاظ بنسبة معيّنة من الوديعة كاحتياطي إلزامي لدى البنك المركزي. فإن المصدر الثاني غالبًا ما يُستخدم كموجودات ثابتة مثل الأبنية والآلات والأثاث والعقارات اللازمة للعمل. 
وفي إدارتها للموجودات والمطلوبات لتحقيق أقصى ربح ممكن، عادة ما تراعي المصارف عاملي المخاطر والسيولة. خصوصًا أن هذين العاملين يسيران في اتجاهين متعاكسين، فكلما ارتفعت الأرباح ازدادت المخاطر على حساب السيولة، في حين أن ارتفاع السيولة يؤدي إلى تراجع الأرباح وقلة المخاطر. إلا أن المصارف غالبًا ما تتجاوز هذه القاعدة عندما يتعلق الأمر بالتوظيف في الأصول السيادية، كالسندات وشهادات الإيداع التي تصدرها المصارف المركزية والحكومة، حيث المخاطر يفترض أن تكون في حدها الأدنى، أولًا لاستقرار العائد على هذه الأوراق وثانيًا لإمكانية حسمها أو بيعها عند الحاجة. وبالتالي يُعتبر التوظيف فيها آمنًا من حيث المبدأ، ما لم يكن الوضع المالي لمصدر هذه الأوراق غير سليم بالأساس.
ومع أن هذه التوظيفات في الأوراق السيادية شكّلت مصدرًا لأرباح غير مسبوقة للمصارف، إلا أنها أثقلت ميزانيات هذه المصارف بمخاطر عالية جدًا، بالنظر إلى المؤشرات السلبية لمالية الدولة والمصرف المركزي على حد سواء.  فضلًا عن أن هذه التوظيفات تعتبر غير إنتاجية، بمعنى أنها لا تفيد القطاعات الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية والتي تخلق فرص العمل وتزيد الإنتاج وتحسّن الميزان التجاري، لا بل تحرم هذه القطاعات من مصادر تمويل هي بأمّس الحاجة إليها. ويبيّن الرسم البياني رقم 2 أدناه كيف أن المصارف التجارية في لبنان قد اتجهت نحو توظيف حوالي 70 % من موجوداتها في فئة الأصول السيادية التي يفترض أنها ذات مخاطر متدنية،  بهدف الحصول على الأرباح دون النظر إلى ملاءة صاحب الأصول، ولو كان ذلك على حساب حرمان القطاع الخاص والاقتصاد من موارد مالية كان يمكن استخدامها في خلق دورة إنتاجية متكاملة.

 

رسم بياني رقم 2: توظيفات المصارف التجارية في لبنان 1997-2018 

المصدر: إعداد المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق بالاستناد إلى التقارير السنوية لجمعية المصارف اللبنانية،  وإلى بيانات مصرف لبنان


 لقد تركّز نموذج الأعمال القائمBusiness Model  للقطاع المصرفي على تحقيق أرباح ريعية سريعة من خلال تمويل الدولة بفوائد مرتفعة على حساب القطاعات الاقتصادية الحقيقية. حيث قام المصرف المركزي بلعب دور الوسيط والمسهّل لاستمرار هذا النموذج من خلال اعتماد هندسات مالية مكلفة وسياسات تمويلية كبّدت الخزينة أعباء كبيرة، فضلًا عن الخسائر التي كانت تتراكم في ميزانية هذا المصرف. فكان أن تضخمت ميزانيات المصارف التجارية بالأصول السيادية للدولة، وباتت بالتالي عُرضة للانهيار المالي في ظل العجز المزمن للخزينة وتوقف الدولة عن تسديد المستحقات. 

ومع تباطؤ التدفقات الرأسمالية التقليدية بعد عام 2011 بالتزامن مع اندلاع الأزمة السورية، أخذت احتياطيات مصرف لبنان (BdL) بالنضوب تدريجيًا لتصل إلى أدنى مستوياتها مطلع سنة 2016. وبدلًا من اتخاذ اجراءات حاسمة وتشغيل الضّوء الأحمر أمام الجميع، جرى الهروب إلى الأمام من خلال ما سُمّي "بالهندسات المالية" دون بذل الجهد المطلوب للضغط على السياسيين لتغيير مقاربتهم للأمور. وهذه "الهندسات" هي عبارة عن عمليات مالية غير تقليدية ومكلفة جدًا، لجأ إليها مصرف لبنان بشكل متزايد، في محاولة لجذب ودائع بالعملات الأجنبية من المصارف التجارية بفوائد مرتفعة جدًا وغير مستدامة، بهدف تعزيز احتياطياته الظاهرية من العملات الأجنبية، والحفاظ على وهم استقرار سعر الصرف، والأهم تمكين الدولة من الاستمرار في تمويل عجز الموازنة المتفاقم، والذي زاد في حدته دعم استيراد المواد الأساسية بكلفة فاقت 18 مليار دولار، رغم أن التجار وحدهم كانوا المستفيدين من هذا الدعم، الذي جرى تحويل معظمه للخارج. 

وبطبيعة الحال، فإن نجاح هذه الاستراتيجية كان يتطلب دفع فوائد مرتفعة جدًا، لم يكن أمام مصرف لبنان مصادر لتغطيتها سوى إيداعات المصارف المستفيدة ذاتها. وذلك دون أدنى تقييم للمخاطر والعواقب المترتبة على هذه العملية، وحتى دون أدنى اعتبار للقانون الذي ينص على أن حسابات المصارف لدى مصرف لبنان لا تنتج فوائد (المادة 98 من قانون النقد والتسليف). وفي الوقت الذي أدت فيه هذه العمليات إلى تضخيم التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف التجارية بشكل هائل، فإنها ساهمت أيضًا في إخفاء حقيقة الإعسار المتزايد للنظام المالي لفترة طويلة، مما زاد من عمق الأزمة وحجم الخسائر المتوقعة في نهاية المطاف، إلى حد أن بعض مؤسسات التمويل الدولية تقدر حجم خسائر القطاع المصرفي بحوالي 200% من الناتج المحلي الإجمالي . وأهمية هذا النسبة أنها تعطي فكرة أولية حول حجم التكلفة المتوقعة لإعادة رسملة القطاع المصرفي، مع الإشارة أن هذه التكلفة تراوحت بين 9,6% إلى 37,1% من الناتج في الدول التي شهدت أزمات مصرفية ومالية مماثلة. 

تحميل الملف
المقال السابق
إعادة إعمار المناطق المهدمة في لبنان 2023- 2024
المقال التالي
المواكبة المستمرة | العلاقات الصينية الأميركية في ظل إدارة ترامب -آذار 2025 / تقرير شهري - نيسان 2025

مواضيع ذات صلة: