مقدّمة:
النزاع المسلّح نوعٌ من أنواع الصراع من أجل البقاء، مهما تَلَوَّنت مظاهره بين عدوان ومدافعة وانتقام، وأينما حَلّ حَلَّت معه المجازر والأعمال الوحشيّة والخَراب؛ فلا يُراعي، في أغلب الأحيان، حُرمة، ولا يُمَيِّز بين جندي يُقاتِل ومدني مُسالِم، ولا يخضع لِعُرف سائد أو قانون، وما زال ينمو، وتنمو معه أساليبه ووسائله، فلا تكاد تَسْلَم منه أمَّة أو يَنْجُو من شرِّه بَشَر.
ومع تَقَدُّم حياة الإنسان، عَبْر الزمن، وتَعَقُّد أحوالها، وتزايُد النزاعات بين الدول، وتَطَوُّر أسلحتها، وتفاقُم تأثيرها على المدنيين وممتلكاتهم، تَعاظَمَت الحاجة إلى ضرورة التمييز بين الناس المسالمين في مناطق الحرب وأولئك الذين يُحارِبون. وتَمَّ في ما مضى الاعتراف بقاعدة لهذا التمييز ضمَّتها اتفاقياتٌ وَضَعَتها دول على أثر نزاعات مسلّحة وَقَعَت بينها، كما نادى بوجوب وجودها والتِزامها قادة ومصلحون وفلاسفة. ثمَّ توالى الأخذ بها مع تطوّر القوانين الدولية حتى صارت، في العصر الحديث، مبدًا نصَّت عليه المادة 48 من البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الصادر في العام 1977. إنّه مبدأ التمييز، وهو المبدأ الأساسي بين مبادئ القانون الدولي الإنساني، والعقيدة الأسمى بين عقائده الإنسانية. إنّه المبدأ الذي يَفْرِضُ على المتنازعين في ساحات نزاعهم وجوبَ التمييز بين المدنيين والمقاتِلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، وقَصْرَ الهجمات القتالية على هذه الأهداف لا غير، وحمايةَ المدنيين والأعيان المدنية من تلك الهجمات، لا بَلْ وحمايةَ مَنْ يَكُفّ من المقاتِلين عن القتال أيضًا، مهما تَكُن الأسباب التي تدفعه إلى ذلك.
وفي إطار ما يَشْهَده العالم اليوم من نزاعات تَسْتَعْمِلُ فيها الدولُ أساليبَ حربيّةً حديثة، ووسائل قتالية هائلة التَّعقيد، باتَ المدنيون عُرْضَةً للقَتل، أو الجَرح، أو التَشريد، وباتت الأعيان المدنية لا تُمَيِّزها الهجمات القتالية عن الأهداف العسكرية، وأصبح مبدأ التمييز وأحكامه، بِسَببها، وَجْهًا لِوَجْهٍ مع تحدّيات جِسامٍ، وعلى مِحَكّ الصلاح لهذه المُواجهة، وفي نَظَر مُعظم أطرافها قيدًا يُرجى التخلّص منه ومن أعبائه.
ولفهم بعض التحدّيات التي تواجه تطبيق مبدأ التمييز لا بدّ من دراسة ثلاثة نماذج من الأساليب والوسائل الحربية هي: الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، والحرب السيبرانية، وأنظمة الأسلحة المستقلة، وذلك على ضوء مبادئ القانون الدولي الإنساني، تلك المبادئ التي تهدف إلى ضبط سير العمليات العسكرية أثناء النزاعات المسلّحة، لئّلا تُخاض هذه النزاعات دون قيود يعترف بها أطراف النزاعات ويلتزمونها. ومبدأ التمييز هو أحد هذه المبادئ التي لا بدّ أن تُلْتَزَم أثناء النزاعات المسلّحة، كي يكون المدنيون محميين من مخاطر الهجمات القتالية.
وفي ما يأتي دراسةٌ لأبرز وسائل الحرب الحديثة وهي:
- الأساليب والوسائل الحربية الحديثة في النزاعات المسلّحة.
- الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، وتأثير عملها على تطبيق مبدأ التمييز.
- الحرب السيبرانية، وتأثيرها على مبدأ التمييز.
- أنظمة الأسلحة المستقلّة، وقضية انطباق القانون الدولي الإنساني على هذه الأنظمة.
- المسؤولية عن انتهاك القانون الدولي الإنساني بسبب استخدام أساليب ووسائل حربية حديثة في النزاعات المسلّحة.
على أن نؤكّد مسبقًا على مبدأ التمييز
- مبدأ التمييز أحد أهمّ مبادئ القانون الدولي الإنساني
مبدأ التمييز (Principle of Distinction) أَقرَّه البروتوكول الإضافي الأول الخاص باتفاقيات جنيف المتعلّق بحماية ضحايا النزاعات المسلّحة الدولية، في مادته 48 التي جاء فيها: «تَعْمَل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثَمّ تُوَجِّه عملياتها ضدّ الأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية» ( ).
وبالنظر إلى نصّ هذه المادة يظهر أنّ مبدأ التمييز يتناول فِئَتَين من الأفراد متمايزتين هما: فئة المدنيين، وفئة المقاتلين؛ و يطال عنصرين مادّيين متمايزين هما: عنصر الأعيان المدنية، وعنصر الأهداف العسكرية. وهو لا يقف عند هذا الحدّ، بَلْ يُحَدّد للأفراد أثناء النزاع المسلّح وَضْعهم القانوني، أي ما إذا كانوا مدنيين، أو مقاتلين، وما إذا كان لهم حقّ القتال أم لا، أيْ أنه يُحدّد ما إذا كان لِفرد ما الحقّ القانوني في المشاركة في النزاع المسلّح أم لا. ويُحدد، كذلك، الحماية الممنوحة للفرد بموجب القانون الدولي الإنساني، أيْ ما إذا كان الفرد هدفًا مشروعًا يمكن مهاجمته أم لا. ويُحدد، فوق ذلك، ما الذي يحدث عندما يقع الفرد أثناء النزاع المسلّح في يَد العدوّ، والعواقب التي تنشأ عن سلوك الفرد أثناء النزاع المسلّح ولا سيّما ما يتعلّق بانتهاك القانون الإنساني.
ومبدأ التمييز ينطبق على جميع النزاعات المسلّحة، الدولية منها، وغير الدولية، على حدٍّ سواء، فهو ينطبق على النزاعات المسلّحة الدولية بناءً على البروتوكول الإضافي الأول وقواعد القانون الدولي الإنساني العُرفي، وينطبق على النزاعات المسلّحة غير الدولية بناءً على الفقرة 2 من المادة 13 من البروتوكول الإضافي الثاني الخاص باتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلّحة غير الدولية، التي جاء فيها "لا يجوز أن يكون السكان المدنيون... ولا الأشخاص المدنيون محلًّا للهجوم، وتُحَظَّر أعمال العنف، أو التهديد به، الرامية أساسًا إلى بث الذعر بين السكان المدنيين".
ويُعدّ مبدأ التمييز جزءا من قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي، كما يُعدّ، أوّل القواعد الأساسية بين قواعد هذا القانون، وهذا المبدأ قاعدة متطورة مُلْزِمَة للكافة (erga omnes)، أي أنه قاعدة مُلزمة للدول، ولكل طرف يخوض نزاعًا مسلّحًا سواء أكان نزاعًا دوليًا، أم غير دولي، لأن القانون الدولي الإنساني العُرفي قانون مُلْزِم للدول كافة. وقد جاء في القاعدة الأولى من القانون الدولي الإنساني العُرفي ما يلي: "يميّز أطراف النزاع في جميع الأوقات بين المدنيين والمقاتلين، وتُوَجَّه الهجمات إلى المقاتلين فحسب، ولا يجوز أن تُوَجَّه إلى المدنيين" . وجاء في القاعدة السادسة من القانون نفسه ما يلي: "يتمتّع المدنيون بالحماية من الهجوم ما لم يقوموا بدور مباشر في الأعمال العدائية وطوال الوقت الذي يقومون فيه بهذا الدور" . و "تُكَرِّس ممارسة الدول هذه القاعدة كإحدى قواعد القانون الدولي العُرفي المطبّقة في النزاعات المسلّحة الدولية وغير الدولية" .
أمّا القضاء الدولي فقد أكّد على أهمّية مبدأ التمييز في عدد من قراراته، ومنها قرار محكمة العدل الدولية الصادر بشأن الأسلحة النووية، والذي ورد فيه: أنّ هذا المبدأ يُعَدُّ أحد أهمّ مبادئ القانون الدولي الإنساني، وأحد مبادئ القانون الدولي العُرفي التي لا يجوز للدول انتهاكها، ويجب على جميع الدول مُراعاة تطبيق هذا المبدأ سواء أَصَدَّقَت على الاتفاقيات التي تتضمّنه، أم لم تُصَدِّق عليها.
وقد تَمَّ الاعتراف بمبدأ التمييز في صكوك قانونية دولية مِثل اتفاقية "أوتاوا" ذات العنوان "اتفاقية حَظْر استعمال، وتخزين، وإنتاج، ونقل الألغام المضادّة للأفراد، وتدمير تلك الألغام" التي أُقِرَّت في 18 أيلول عام 1997.
ويَرى نظام المحكمة الجنائية الدولية الأساسي أنّ «تَعَمُّد توجيه هجمات ضدّ السكّان المدنيين بصفتهم هذه، أو ضدّ أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية» انتهاكٌ للقوانين والأعراف السارية في القانون الدولي، وجريمة حرب .
وأخيرًا يُمكن القول: إنّ حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلّحة تعتمد كلِّيًّا على التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية.
- الأساليب والوسائل الحربية الحديثة في النزاعات المسلّحة
شَهِدَ العقدان الأول والثاني من هذا القرن نزاعات مسلّحة كان حوالي 60 دولة مسرحًا لها. وقد استُعملت في هذه النزاعات أساليب ووسائل حربية حديثة ساهمت مع المتنازعِينَ مساهمةً فاعلة في انتهاك القانون الدولي الإنساني، وفي عدم التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين، وفي عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنيب المدنيين أذى الحروب وأساليبها القديمة والحديثة مما أدّى إلى دمار كبير في منشآت مدنية كثيرة، وإلى سقوط مئات الآلاف من الضحايا، وتعرّض ملايين للتهجير والنزوح.
ومما يُثير الانتباه والاهتمام في هذه النزاعات تلك الأساليب والوسائل الحربية التي انتشر استخدامها انتشارًا واسعًا بات المدنيون معه في خطر داهم أكبر من ذي قبل، والتي تنوّعت إلى مدى يجعل حصرها، بالنظر إلى ديمومة تطويرها، صعبًا، إنْ لم يكن مستحيلًا، نذكر منها على سبيل المثال:
_ الشركات العسكرية والأمنية الخاصة (Private Military and Security Companies).
_ الحرب السيبرانية (Cyber War).
_ أنظمة الأسلحة المستقلة (Autonomous Weapons Systems).
هذه الأساليب والوسائل الحربية الحديثة يُثير استعمالها عددًا من القضايا القانونية لا يُستهان به، وخصوصًا تلك القضايا المتعلقة بمبدأ التمييز، ويفرض تحدّيات جسامًا تقف حائلًا دون تطبيق هذا المبدأ في النزاعات المسلّحة، ودون تطبيق الحماية الخاصة بالمدنيين والأعيان المدنية. كيف لا وقد أدّت التطوّرات في طبيعة هذه النزاعات إلى أن يشارك فيها دول، وجماعات، وأفراد مُشاركةً يُنتهك فيها القانون الدولي دون الالتفات إلى أدنى مسؤولية تجاه هذا الانتهاك.