المستخلص التنفيذي
ينطوي هذا العمل على جهد بحثي استمر لفترة غير قصيرة، وتركزّ على رصد ومتابعة تطوّر المواقف والمبادرات، منذ عملية طوفان الأقصى وحتّى الهجمة الأميركية – الغربية والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، في محاولة لمعرفة خلفية هذه الهجمة والعدوان غير المسبوق في همجيته وعنفه اللامحدودين فحسب، وإنما أيضًا لمعرفة ذلك التماهي المستهجن للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والسكوت المريب لغالبية الدول في الإقليم وعلى امتداد العالم، إزاء أعمال القتل الوحشية والتدمير الممنهج الذي ترتكبه آلة الحرب الصهيونية، والذي تجاوز كل الأعراف والمبادئ الإنسانية والقوانين الدولية.
ولعل من الدوافع الرئيسية للقيام بهذا العمل المواقف المعلنة والصريحة للمسؤولين الإسرائيليين والأميركيين وعشية العدوان وإبّانه، وخصوصًا مواقف رئيس وزراء العدو نتنياهو بشأن خارطة المنطقة ومستقبلها، خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالتزامن مع اغتيال أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله. يضاف إلى ذلك سيل الكتابات والمواقف التي اجتاحت ولا تزال مواقع التواصل ومختلف الوسائل الإعلامية العربية والأجنبية، حول قرب "ولادة شرق أوسط جديد يسوده الاستقرار، مستندين في ذلك إلى اعتقادهم بحتمية انتصار الكيان الصهيوني في هذه الحرب.
وقد أظهر لنا هذا البحث وجود قناعة تامة لدى النخب السياسية والاقتصادية والعسكرية في المعسكر المناهض للقوى المقاومة للاحتلال والممانعة للهيمنة الأميركية في المنطقة العربية بأن العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان قد أوجد الفرصة وهيّأ الظروف المؤاتية لإعادة الزخم إلى عملية التطبيع، التي كانت جارية في المنطقة بين الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية. مع الإشارة إلى أن جهود التطبيع كانت قد أطلقتها إدارة الرئيس ترامب، المرشح الحالي في الانتخابات الأميركية، ضمن مبادرات واسعة تحت عنوان "اتفاقيات أبراهام".
لذلك وجدنا من الأهمية بمكان تسليط الضوء على الشق الاقتصادي من "اتفاقيات أبراهام"، بمعزل عن أبعادها الأمنية والسياسية والعسكرية الأخرى. إذ توصّلنا من خلال دراسة الديناميات الاقتصادية والجيوستراتيجية لهذه الاتفاقيات إلى فهم خلفية تقبّل الكيان الصهيوني للخسائر المادية والبشرية بسبب عدوانه المستمر، فضلًا عن فهم دوافع الدعم الغربي الأميركي اللامحدود وتواطؤ الكثير من الدول أيضًا.
فقد تبيّن لنا أن تأثير "اتفاقيات أبراهام" يتجاوز مسائل التجارة الإقليمية والأمن والتعاون اللوجستي والتكنولوجي والبيئي والعلاقات الدبلوماسية بين الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية المطبّعة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، بغرض دمج هذا الكيان في الإطار الاقتصادي الإقليمي، ليضع هذا الاتفاقيات في سياق التحالفات الإقليمية والمصالح الاستراتيجية الأوسع والأبعد مدى للولايات المتحدة، وخاصة دورها في تعزيز النفوذ الأميركي في مواجهة القوى الإقليمية مثل إيران والحد من النفوذ المتزايد للصين وروسيا في الشرق الأوسط، وصولًا إلى إنشاء ممرات تجارية تربط آسيا بأوروبا عبر الشرق الأوسط، وتحديدًا عبر موانئ بومباي والفجيرة ودبي وحيفا. وذلك بما يجعل من الهند ودولة الإمارات والكيان الصهيوني محاور مركزية لهذه العملية برّمتها، والتي يفترض أن تجري عبر الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي الأوروبي (IMEC)، كمشروع يشّترك فيه دول متعددة هي: الهند والكيان الصهيوني ودولة الإمارات والمملكة العربية السعودية والأردن واليونان من أجل تسهيل التجارة من آسيا إلى أوروبا متجاوزًا الطرق التقليدية.
كما توصّلنا من خلال دراسة سردية إقامة "شرق أوسط جديد" مزدهر ومستقر، بما فيها أبعاد "التعاون والسلام الاقتصادي" إلى أن الرابح الوحيد في هذه الصفقة هو الكيان الصهيوني، الذي سيضمن الاعتراف بشرعية اغتصابه للأراضي العربية والاندماج التام في اقتصاديات المنطقة والإقليم كقوة مسيطرة تكنولوجيًا وأمنيًا واقتصاديًا، مقابل تقديمه "السلام" المزعوم للدول العربية المطبّعة.
ومن العناصر الأساسية لعملية التطبيع، والتي يراد بها استكمال الصورة النهائية "للشرق الأوسط الجديد" الموهوم، تأتي كنتيجة طبيعية "لاتفاقيات أبراهام" على مستوى الدول، اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) بين الإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني. فهذه الاتفاقية تنص على إلغاء التعريفات الجمركية على 96٪ من السلع، وتسّهل الاستثمارات عبر الحدود ونقل التكنولوجيا. حيث يفهم من هذه المبادرات الاقتصادية أنها لا تعمل على تعزيز وصول الكيان الصهيوني إلى الاندماج والتطبيع الاقتصادي فحسب، بل تهدف أيضًا إلى تكريس التحاق اقتصادات الدول العربية بالمصالح الأميركية والإسرائيلية.
وقد تعمّدنا التركيز بشكل أكبر على موضوع العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية – الإماراتية، بالنظر إلى الموقع والأهمية الاقتصادية لدولة الإمارات، بوصفها دولة غنية وكبيرة نسبيًا، لها دور استثنائي ومتميّز في خطوط الإمداد والتجارة والخدمات الدولية وأسواق المال الإقليمية والدولية، مما يلبّي طموحات المشروع الأميركي لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة العربية والإقليم عمومًا. وذلك من خلال: أولًا، استخدام دولة الإمارات كحصان طروادة للالتفاف على جهود مقاطعة منتجات الكيان الصهيوني، واختراق أسواق الدول العربية والإسلامية المنخرطة في هذه الجهود في آسيا وإفريقيا، وثانيًا، تحويل دولة الإمارات إلى ما يشبه الباب الدوار لإعادة تصدير البضائع الإسرائيلية إلى طرف ثالث بعد طمس منشأ هذه البضائع أو تحريفه.
وحتى في الجانب السياسي- العسكري، وجدنا أن الاتفاقيات المذكورة قد حوّلت هذا الجانب إلى شراكات اقتصادية-عسكرية قوية وتعاون أمني لا حدود له. فقد شهد الكيان الصهيوني، الذي أصبح الآن موردًا رائدًا للأسلحة لعدة دول خليجية، زيادة في صادراته العسكرية، وخاصة إلى الإمارات العربية المتحدة والبحرين. مما عزز الميزان التجاري لهذا الكيان، ومع أن الهدف المعلن من إضفاء الطابع الرسمي على التحالفات العسكرية بين الجانبين، هو تعزيز شبكة أمنية إقليمية ضد إيران، تبيّن من البيانات أنها لم تؤدّ إلّا إلى سباق تسلح إقليمي يزيد التوتر ويزعزع الاستقرار في المنطقة العربية.
ولعل الخلاصة الأبرز التي قادنا إليها تحليل البيانات هي أن حظوظ نجاح المحور الأميركي- الإسرائيلي في إعادة تزخيم عملية التطبيع، وبالتالي توسيع نطاق "اتفاقيات أبراهام" وملحقاتها، تبدو متواضعة جدًا ولا يعوّل عليها، لأسباب متعددة أبرزها ما يلي:
- أن الرأي العام في الدول العربية المشاركة في اتفاقيات "إبراهام" كان متشككًا بشكل عام، إن لم يكن معارضًا. حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية المواطنين في البحرين والإمارات العربية المتحدة وحتى المملكة العربية السعودية يعارضون التطبيع مع "إسرائيل"، مما يعكس مركزية القضية الفلسطينية المستمرة لدى الجمهور العربي. وحتى في دول مثل الأردن ومصر، حيث استمرت معاهدات السلام مع "إسرائيل" لعقود من الزمن، لا تزال المعارضة العامة للتطبيع قوية، مما يقوّض الأهداف الاقتصادية والأمنية للاتفاقيات.
ويشكّل هذا التباين بين سياسات الحكومة والمشاعر العامة تحديات لاستمرارية هذه الاتفاقيات واستقرارها، خصوصًا أن هذه التحديات عن المتوقع أن تتعاظم في ضوء الفظائع التي ارتكبها ولم يزل العدو الصهيوني في غزة ولبنان، مستخدمًا السلاح الأميركي الفتّاك.
- من غير المستبعد أن تؤدي التطورات الجارية ليس فقط في جنوب شرق آسيا وأوروبا الشرقية، بل داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها أيضًا، إلى تحوّل في الاستراتيجية الأميركية، يضطرها إلى تحويل تركيزها بعيدًا عن المنطقة العربية.
- وجود العديد من الدول المتضررة من المشاريع الملحقة، ومنها الممر الهندي-العربي-الأوروبي، التي من غير المستبعد أن تبذل جهدها للحؤول دون تنفيذه، حفاظًا على مصالحها. ومن هذه الدول: الصين، باكستان، مصر، إيران، العراق، لبنان، السعودية، سوريا.
- عدم وجود مؤشرات واقعية على قدرة الولايات المتحدة والغرب عمومًا على توظيف النجاحات التكتيكية التي حققها العدوان الإسرائيلي في عدوانه على غزة ولبنان، في تغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة العربية، خصوصًا مع استمرار وجود حركات مقاومة فاعلة.
مدخل
تستوقفنا في وسائط الإعلام بما فيها منصّات التواصل الاجتماعي، باختلاف أنواعها وهوياتها الإسرائيلية والغربية والعربية، وفي خضمّ العدوان الهمجي الإسرائيلي المستمر على الشعبين الفلسطيني واللبناني بدعم كامل وتغطية أميركية-غربية وسكوت عربي وآسيوي مريب، محاولات حثيثة لإعادة إحياء مشاريع قديمة يصار إلى طرحها مجددًا بشدة وحماسة لافتة. وهذه الوسائط نراها تبشر بقرب تحقق حلم "شرق أوسط جديد مزدهر ومستقر"، له معالمه وأطره وقواعده القديمة والمستحدثة، التي هي موضوع تقريرنا الحالي، والتي لطالما عملت الإدارة الأميركية ولا تزال تعمل، على نسجها وتطويرها في المنطقة العربية بعناية ودهاء فائقين. وهذا التفاؤل في شقه الجدي غير المصطنع، حول نضوج الظروف المؤاتية لتحقيق الحلم المذكور، يستمد زخمه من التأويل الاستباقي الخاطئ لنتائج الحرب الأميركية-الإسرائيلية الغربية الشعواء لتصفية القوى الممانعة والرافضة لاتفاقيات ومشاريع التطبيع بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية في المنطقة العربية والساحة الإسلامية، بوصفها التحدي الرئيسي والعائق المتبقي (في الحسابات الأميركية) أمام تحقق الحلم المشار إليه.
وهذه المشاريع جرى التعبير عنها بشكل مباشر وصريح في مواقف إسرائيلية وأميركية معلنة حالية وسابقة. فمع اغتيال أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ظن كثير من هؤلاء أن هذه المشاريع باتت قاب قوسين أو أدنى كي تصبح حقيقة واقعة. خصوصًا أن هذا الاغتيال تزامن مع رفع رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أيلول 2024 خريطة سمّاها "الشرق الأوسط الجديد"، لا يظهر فيها أي أثر للأراضي الفلسطينية أو حتى حدود المناطق التي نصت عليها اتفاقية أوسلو، أي الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر وشرقي القدس. وهذه الخريطة كما يلاحظ أدناه (راجع الخريطة رقم 1) تقسم المنطقة العربية إلى قسمَين كبيرَين؛ الأخضر منهما أطلق عليه محور النعمة، ويشمل الكيان الصهيوني ومجموعة من الدول الإقليمية مما تسمى بمحور الاعتدال، والأسود أسماه باللعنة أو النقمة، ويشمل كلًا من إيران، والعراق، وسوريا، ولبنان وهي مجموعة الدول التي يوجد فيها محور المقاومة أو الممانعة. ويخترق الخريطة خط أحمر يبدأ من منطقة خضراء أخرى في الشرق الأقصى، وهي الهند التي ترتبط هي أيضا" بعلاقات جيدة مع الكيان الإسرائيلي، ويمرّ عبر دولة الإمارات والسعودية والأردن ثم الكيان الصهيوني كمنصّة للانطلاق بعدها نحو أوروبا.
وفي ذلك إشارة إلى المشروع الذي يُعمَل عليه من أجل بناء خط تجاري بحري وبري ( سيأتي الحديث عنه)، يبدأ من الهند في الشرق الأقصى وينتهي بأوروبا وتشكّل موانئ الفجيرة ودُبَي وحيفا محطات رئيسية في هذا المشروع، في حين يفتقد إدراج مصر والسودان ضمن محور "النعمة" لأي دور أو تبرير منطقي، سوى كونهما سوقًا استهلاكية ومصدرًا رخيصًا لليد العاملة والموارد الطبيعية توفر للكيان الصهيوني في المركز العمق الاستراتيجي الجغرافي والاقتصادي والسياسي والأمني، الذي هو أحوج ما يكون إليه بالنظر إلى صغر مساحته الجغرافية ضمن شريط ساحلي ضيق:
خريطة رقم 1: المشروع الإسرائيلي لإعادة ترتيب المنطقة العربية

المصدر: إعداد المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق
وكان مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان أكثر وضوحًا عندما أكد أن الشراكات التي عملت وتعمل عليها الولايات المتحدة في المنطقة العربية، وذلك من ضمن استراتيجية أشمل تلحظ ردع خصومها واستخدام الديبلوماسية لخفض التصعيد والتكامل والتطبيع بين الدول العربية والكيان الصهيوني، مثل I2U2 ومبادرة دول G7 للشراكة من أجل البنية الأساسية العالمية والاستثمار ( PGII)، والتي تندرج كلها تحت مظلة اتفاقيات "أبراهام" موضوع هذا التقرير، تصبّ في نهاية الأمر لتعزيز الدور الأميركي والمصالح الأميركية في المنطقة العربية، قائلًا "نحن نعمل على تعزيز وتوسيع اتفاقيات أبراهام، ودعم التكامل النهائي والكامل لـ "إسرائيل" في منطقة الشرق الأوسط والعالم. وسيكون هذا مجالًا للتركيز المستمر بالنسبة لنا خلال الفترة المقبلة بينما نتطلع إلى إضافة المزيد من البلدان وإدخال "إسرائيل" بشكل أعمق في شبكة العلاقات في الشرق الأوسط وخارجه. كل هذا يشكل عنصرًا أساسيًا في نظرية تحقيق منطقة أكثر تكاملًا وازدهارًا واستقرارًا تخدم مصالح شركائنا والولايات المتحدة على المدى الطويل.." .
إن ما يجري حاليًا من عدوان إسرائيلي-أميركي مدمّر يعتبر ترجمة عملية بالقوة الصلبة لكل تلك الأفكار. مما يشير بوضوح إلى تحوّل جوهري في العقيدة الأمنية للكيان الصهيوني بدعم أميركي، بالانتقال من عزل واحتواء وردع قوى الممانعة إلى ضربها وتصفيتها نهائيًا. والهدف يبقى قطع الطريق نهائيًا ولمرة أخيرة على أية مشاريع أو خيارات غير المشروع الأميركي في المنطقة العربية، وعلى رأسه اتفاقيات "أبراهام" وأخواتها، أي بعبارة أخرى محاولة جديدة لإعادة رسم الخارطة الاقتصادية والسياسية والأمنية للمنطقة العربية بالدماء والدموع والبارود. وهذه الخارطة تعني فيما تعنيه تعطيل وضرب أية إمكانية لإقامة ممرات تربط الصين وإيران وروسيا بالحوض الشرقي للمتوسط، عبر العراق وسوريا ولبنان وفلسطين (غزة).
والمعضلة التي يعانيها الكيان في هذه المرحلة أنه بات أمام حسابات اقتصادية جديدة لا تسمح له بالتراجع عن تحقيق أهدافه أعلاه. فالدين الحكومي الإسرائيلي في تعاظم مستمر، وهو بات يتعدّى 70% من الناتج المحلي الإجمالي من جراء الزيادة المضطردة في تكاليف العدوان المشار إليه العسكرية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية. كما أن ارتفاع حصة الدين المحلي إلى 66% من هذا الدين العام يعكس بدوره تحولًا جوهريًا في العقيدة الاقتصادية لدى حكومة العدو. فمنذ تأسيس الكيان على أنقاض الدولة الفلسطينية كانت الحكومات الصهيونية تعتمد على رأس المال الخارجي كمصدر رئيسي لتمويل التسلح وعمليات التوسع الاستيطاني وتسريع عملية التصنيع والبناء الاقتصادي (عقيدة بن غوريون)، وتحديدًا من الشتات اليهودي والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبقية القوى الغربية.
لكن مع تسلّم اليمين الصهيوني بزعامة نتنياهو السلطة اتخذ القرار باعتماد الاستقلال المالي بدلًا من التبعية المالية. وذلك بزيادة لاعتماد على بالاعتماد أكثر على التمويل المحلي مع ما يترتّب على هذه الاستراتيجية من كلفة اقتصادية ومالية باهظة، مع المراهنة أن عملية التطبيع ومشاريع "السلام" الموهوم كفيلة بتمكين الكيان الإسرائيلي من تكريس واقع اقتصادي وسياسي جديد. فالمهم في هذه المرحلة التي تلت عملية طوفان الأقصى، وما أحدثته من تقويض لاستراتيجية الردع الإسرائيلية وإبقاء المعركة في أراضي الخصم، تجنّب الإملاءات والشروط الغربية وإعطاء حكومة العدو قدرًا أكبر من الاستقلالية والمناورة في تكريس واقع جديد، لا يخدم أطماع الكيان الصهيوني وحسب بل يصب في خدمة المصالح الأميركية والغربية أيضًا.
فحكومة العدو رغم واقعها الاقتصادي والعسكري والأمني الصعب والمعقد حاليًا، لا تسقط من اعتبارها الثمار الاقتصادية والاجتماعية التي تأمل أن ينتجها عدوانها غير المسبوق على حركات المقاومة في غزة ولبنان. وأن النمو المرتفع الذي تتوقعه فور انتهاء الحرب قادر على امتصاص تكلفة المديونية العالية والفاتورة البشرية والاجتماعية والاقتصادية الباهظة بوقت قياسي، وأن "بنك إسرائيل المركزي" سيكون قادرًا على لجم ارتفاع الفائدة لتسهيل عملية النمو الاقتصادي، الأمر الذي لن يكون ممكنًا باعتقادنا في ظل هذا الارتفاع في معدلات التضخم. ويبقى للاعتبار الاجتماعي أهمية خاصة في حسابات المسؤولين الصهاينة، الذين يعتقدون أن ارتفاع المستوى المعيشي من جراء زيادة النمو الاقتصادي وانتظام المالية العامة للكيان واتساع مروحة التطبيع والتعاون مع المحيط العربي كله سيؤدي إلى تسهيل مهمتهم في معالجة أخطر مشكلة يواجهها كيان العدو منذ نشأته، وهي تصدّع النسيج الاجتماعي بكل أشكاله المتمثلة في التضاريس الاجتماعية الآخذة بالازدياد عمقًا (بين الأغنياء والفقراء)، وتباينات الهوية (الأشكنازيون مقابل المزراحيون، والعلمانيون مقابل المتدينون)، والخلافات السياسية (اليمين مقابل اليسار)، وما يتصل بكل ذلك من تدهور الالتزام واختلاف الرؤى والقيم لدى جموع المستوطنين.
إلا أن خبراء صهاينة يجدون أن هذه التوقعات الوردية تبقى مرهونة بشروط منها خروج هذا الكيان منتصرًا في حربه على جبهتي غزة ولبنان، ما يفسح المجال لتوسع وترسيخ عملية التطبيع بحيث "يصبح الشرق الأوسط أكثر استقرارًا بما يسمح بتدفق رؤوس الأموال إلى الداخل، وتوسع الصادرات إلى الخارج، وانخفاض تكاليف الدفاع" ، أي بمعنى آخر تصبح حكومة العدو قادرة على سداد ديونها. لا بل يذهب هؤلاء بعيدًا نحو رسم صورة جديدة للمنطقة العربية " إن هذه الرؤية للشرق الأوسط الجديد تعني ضمنًا أن "إسرائيل" لن تظل دولة ديمقراطية ليبرالية معزولة في الشرق الأوسط، بل ستصبح في قلب سوق إقليمية جديدة. وسوف يستفيد الاقتصاد الإسرائيلي من القدرة على الوصول إلى أسواق عالمية جديدة، بما في ذلك الدول العربية".
وهذا ما يقودنا إلى التساؤل الآتي: ماذا لو لم تتحقق فرضية الصهاينة بالخروج منتصرين من الحرب، أو على الأرجح في حال حتى عدم قدرتهم على التحكم بأفق هذه الحرب واتجاهاتها؟ حينها ما هو مصير حلمهم الذي رفعه رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة؟ فمن دون التطبيع الذي يمنح الكيان الصهيوني العمق الاستراتيجي والمجال الاقتصادي الحيوي لنموه وازدهار وتوسّعه سيفقد الاقتصاد الإسرائيلي توازنه حتمًا، بعدما فقد أمنه من جراء طوفان الأقصى وتداعيات الحرب في الشمال، وسيكون هذا الاقتصاد على موعد مع أزمات مالية واقتصادية واجتماعية مستعصية وحالكة، ليس أقلها تراجع الاستثمارات العامة في البنية الأساسية والاستثمارات المباشرة والعجوزات في الموازين العامة والمديونية العالية ونزيف الموارد البشرية خصوصًا في أوساط الميسورين والأكاديميين وأصحاب الشركات وارتفاع معدلات الفقر وعدم المساواة.
ولن يكون تكرار تجربة الانتعاش أواخر ثمانينيات القرن الماضي بعد ركود وتضخّم مزمن أعقب حرب تشرين 1973 أمرًا متاحًا لأسباب مجتمعية واقتصادية، بعضها خارجي ومعظمها داخلي يتصل بسيكولوجيا الحرب غير المسبوقة وإفرازاتها ونتائجها، أي بمعنى آخر من المستبعد أن تعود الاقتصادات وأسواق السلع والرساميل الغربية وحتى العربية لتسخير إمكانياتها في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، رغم اهتمام الغرب والتزامه عمومًا وبعض الدول الآسيوية ( الهند) بتعزيز البيئة الاستراتيجية للكيان الصهيوني وتمكينه من الاندماج كليًا في المنطقة.
وهذه النتيجة تصبح أمرًا واقعًا خصوصًا مع إخفاق الكيان الصهيوني ومَن وراءه أكثر فأكثر في تحقيق أهداف الحرب وكسبها في وقت قياسي كما اعتاد سابقًا. ومن هذه الأهداف ما هو معلن وغير معلن، بدءًا من التخلص من قوى المقاومة في المنطقة واستعادة الردع، بما يكفي ليس فقط لتحصين الاستيطان على حدود الكيان عبر تكريس مناطق عازلة داخل الأراضي اللبنانية وغزة، باعتبار هذا الاستيطان جزءًا من النظام الدفاعي للكيان، وإنما أيضًا إيجاد مناخ من الاستقرار والأمن داخل الكيان وفي محيطه لفترة طويلة، وانتهاءً بتوسيع وتنشيط اتفاقيات التطبيع مع بقية دول "الاعتدال" العربية وفي طليعتها السعودية. وهي أهداف يعتبر إنجازها ليس شرطًا لاستعادة ثقة المستثمرين وروّاد الأعمال، وبالتالي استعادة الاقتصاد عافيته بالسرعة القصوى وحسب، بل الأهم بناء عمق استراتيجي حيوي يضمن أمن الكيان العسكري والأمني والاقتصادي لأربعة عقود قادمة أيضًا.
وليس مستبعدًا، لا بل من المرجّح، أن يكون تسارع عمليات التدمير الشاملة والممنهجة للأبنية السكنية والبنى التحتية ومرافق الحياة العامة الجارية حاليًا على قدم وساق في كل من غزة ولبنان مقصودة بذاتها ليس فقط على سبيل الانتقام من بيئة المقاومة والضغط عليها من أجل تحقيق مكاسب سريعة، بل أيضًا لتحقيق جملة أهداف أخرى أبرزها ما يلي:
- جر هاتين المنطقتين (أي غزة ولبنان) صاغرتين للتطبيع بعد انتهاء الحرب، تحت وطأة التكاليف الباهظة لعمليات إعادة الإعمار، والتي تسارع منذ الآن العديد من البلدان المطبّعة أو قيد التطبيع للتعبير عن استعدادها للمساهمة في هذه العمليات، تمامًا كما أبدت دولة الإمارات استعدادها لإعادة إعمار سوريا خلال زيارة الرئيس بشار الأسد لهذه الدولة في آذار 2023.
- جعل عودة السكان إلى منازلهم في المناطق الحدودية تحديدًا أمرًا مستحيلًا. مما يساهم في تعجيل تحقيق الحلم الصهيوني بإحاطة كيانه بأحزمة جغرافية ضمن أراضي الخصم، تكون خالية من السكان ويستعيض بها عن محدودية عمقه الاستراتيجي كنقطة ضعف مقلقة له.
- القضاء على أي دور تجاري أو اقتصادي أو مالي محتمل يمكن أن تلعبه بيروت تحديدًا، في الترتيب المستقبلي للمنطقة بحسب اتفاقيات "أبراهام"، التي تعطي هذا الدور في المنطقة لميناءي حيفا ودبي.
- استباق نتائج الانتخابات الأميركية بتكريس واقع يكون فيه للكيان الصهيوني اليد الطولى، ويعبّد الطريق للإدارة الأميركية الجديدة (سواء كانت بزعامة دونالد ترامب الأب الروحي وعرّاب اتفاقيات أبراهام، أو كامالا هاريس التي ستكون محرجة في حال التنصل من هذه الاتفاقيات، التي طالما عبّر حزبها عن التزامه بها ومارس ضغوطًا متعددة الأوجه مع الكونغرس للمضي قدمًا في التطبيع أثمرت حينها بسماح السلطات السعودية لطائرات الكيان الصهيوني باستخدام مجالها الجوي) من أجل اغتنام فرصة ضرب أطراف محور الممانعة، ليس للمضيّ بزخم أكبر في تعميم وتوسيع اتفاقيات "أبراهام" وحسب، بل أيضًا لتصحيح وتعطيل ما يعتبره الكيان الصهيوني من انحرافات قادت بعض أطراف اتفاقيات "أبراهام"، مثل دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية (كهدف محتمل)، لانتهاج استراتيجية دبلوماسية بديلة لعملية التطبيع التي ترعاها الولايات المتحدة.
والمقصود بذلك الاتفاق السعودي-الإيراني والتقارب الإماراتي-الإيراني والتطبيع مع سوريا بشار الأسد والترحيب بعودتها إلى جامعة الدول العربية، والتقارب الاستراتيجي مع الصين والتنسيق مع روسيا في أسواق الطاقة على وقع الحرب الأوكرانية، وصولًا إلى الانضمام مع كل من إيران ومصر وأثيوبيا لمجموعة "بريكس- BRICS" في الأول من كانون الثاني 2024، والتي ما وجدت أساسًا سوى لتحدي القوة السياسية والاقتصادية للدول الأكثر ثراءً في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، حلفاء الكيان الصهيوني. وقد باتت هذه المجموعة تضم أهم البلدان النامية في العالم، مع كتلة بشرية يقدّر عدد أفرادها بحوالي 5،3 مليار نسمة، أو 45% من سكان العالم. كما تستحوذ على ما نسبته 28% من الاقتصاد العالمي كحد أدنى. ومع إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة باتت مجموعة "بريكس" تسيطر على حوالي 44% من إنتاج النفط الخام العالمي. وهذه التطورات تشكّل تحديًا كبيرًا لطموحات الولايات المتحدة في المنطقة بحسب أوساط هذا الكيان.
فما يثير مخاوف الكيان الصهيوني من عودة الدفء إلى العلاقات الديبلوماسية السعودية-الإيرانية والإماراتية-الإيرانية، والتقارب مع سوريا والانضمام إلى تجمعات منافسة للغرب، يعني أن هاتين الدولتين بات لديهما خيارات أخرى لمواجهة التهديدات المزعومة من جانب إيران، غير التحالفات التي سعت الولايات المتحدة إلى نسجها تحت مظلة اتفاقيات "أبراهام"، بل هذه المرة من خلال تهدئة التوترات والتفاوض والتنسيق المباشر والتعاون المشترك مع طهران.
وكان مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان قد أشار تلميحًا إلى هذه التوجهات، عندما صرّح بأن "القرارات التي تعمل الولايات المتحدة الأميركية على اتخاذها وتنفيذها في منطقة الشرق الأوسط (أي المنطقة العربية) خلال الأعوام 2023-2025 سيكون لها صدى على مدى العقدين أو الثلاثة أو الأربعة عقود القادمة.." وهو ما يتقاطع مع المبادئ التوجيهية الأساسية في عقيدة الأمن القومي الصهيونية، التي تجد من الضروري توسيع أطر التعاون الإقليمي من أجل الحفاظ على فترات طويلة من الهدوء الأمني والعسكري قدر الإمكان، للسماح بالاستقرار اللازم لتنمية الكيان كدولة معولمة ومزدهرة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، والسماح بإعادة توجيه الموارد نحو الاستيطان والتعليم والصحة والأبحاث والتطوير وغيرها من المجالات الضرورية لضمان استقرار الكيان ورفع مستوى المعيشة فيه.
وبالنظر إلى علامات الضعف والتحلل التي بدأت تصيب مشروع التطبيع الإسرائيلي العربي، من غير المستبعد أن تسعى الولايات المتحدة بوصفها الراعي لاتفاقيات "أبراهام" إلى صياغة مبادرات سواءً عبر الحديد والنار (كما يجري حاليًا في غزة ولبنان) أو بواسطة الديبلوماسية أو الإثنين معًا، من أجل تعبيد الطريق أمام إعادة انطلاق هذا المشروع وتحقيق أهدافه القريبة والبعيدة.
فما هي حقيقة هذه الاتفاقيات التي باتت مصبوغة بالأحمر القاني من جرّاء الأرواح التي تزهق والدم الذي يراق على مذبحها في غزة ولبنان، بمباركة من الغرب الذي يبشرنا دومًا بالازدهار والديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان؟