مقدمة
مرّت رحلة صعود الصين لتصبح قوّة عالمية بمراحل بارزة منذ انتهاء الحرب الأهلية في عام 1949. تميّزت المرحلة الأولى من هذه الرحلة بجهود التّحديث الداخلي تحت قيادة الرئيس ماو تسي تونغ والتي كانت تهدف إلى إرساء دعائم الحكم وبلورة أيديولوجيا تحصّن البلاد وترسّخ حكم الحزب الشّيوعي الصّيني. في الحقبة التّالية أي بدءًا من أواخر سبعينيات القرن الماضي، شهدت الصين تحت قيادة الرئيس دنغ شياو بينغ تحوّلًا عميقًا في السّياسة نحو الإصلاح الاقتصادي وبداية مرحلة الانفتاح الحذر على العالم. تمّ في هذه الحقبة إدخال إصلاحات أبرزها اعتماد اقتصاد السّوق وإنشاء مناطق اقتصادية خاصّة مما أسّس لتحوّل نوعيٍّ في المشهد الاقتصادي في الصّين. في المرحلة الثّالثة، تمّ التخلّي عن استراتيجية التحوّط التي كانت تستند إلى مقولة "أخفِ قدراتك إلى أن يأتي وقتك" حيث نجحت الصين في عهد الرئيسين جيانغ زيمين وهو جين تاو في تحقيق النّمو الاقتصادي المستدام ووضع البلاد على سكّة التقدّم التّكنولوجي. تطوّر البلاد وازدهار قطاعها الصناعي تحديدًا بما يفوق بأضعاف احتياجات السّوق المحلّي، دفع نحو البحث عن الأسواق الخارجية فكان إطلاق الرئيس شي جين بينغ عام 2013 مشروع الحزام والطريق كأكبر مشروع بنية تحتيّة في التّاريخ مهمّته تحقيق المنفعة المتبادلة بحيث تستفيد الدّول الواقعة على امتداده من البنية التّحتية والمشاريع والاستثمارات الصّينية فيما تضمن بكين الوصول إلى الأسواق العالميّة ويحفظ لمنتجاتها قدراتها التّنافسية ويعزّز العولمة الاقتصادية وانفتاحها وصعودها العالمي.
على المقلب الأميركي، تشكّلت قناعة بأن الصين تمثّل تهديدًا متعاظمًا للولايات المتحدة عبّر عنها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما باعتباره أن "مستقبل السّياسة سيتقرّر في آسيا وأنّ الولايات المتحدة ستكون في قلب الحدث". بناء على ذلك، شهدت السّياسة الخارجية الأميركية تغيّرًا مهمًّا حيث أطلق أوباما عام 2009 استراتيجية التحوّل نحو آسيا (Pivot Strategy) فانتقل تركيز السّياسة الخارجيّة الأميركيّة تدريجيًّا من غرب آسيا وأوروبا نحو شرق آسيا بهدف "احتواء الصين". منذ ذلك الحين، بدأت ترجمة هذا التوجّه بتعزيز العلاقات مع دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ على المستويات العسكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة (مناورات عسكريّة مشتركة، نشر قوات وبناء قواعد عسكريّة، زيارات رسميّة، شراكات اقتصاديّة، استثمارات...). مع انتقال السلطة من الدّيمقراطيين إلى الجمهوريين ووصول الرّئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017، لم يتبدّل التّشخيص الاستراتيجيّ لـ "الخطر الصّيني" لكنّ المنافسة مع بكين أصبحت أكثر تركيزًا على البعد التّجاري من خلال اعتماد إدارة ترامب سياسات حمائيّة كان روّج لها الأخير إبان حملته الانتخابية تحت عنوان استعادة الوظائف وحماية المنتجات الأميركية وتُرجمت بفرض رسوم جمركيّة على البضائع الصّينية.
حرص الجانبان الصيني والأميركي في أكثر من محطّة على إبقاء المنافسة بينهما منضبطة وبذلا جهودًا في أكثر من مرحلة للحؤول دون انزلاقها نحو المواجهة المباشرة . تحوّلت المنافسة مع عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض إثر انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 إلى حرب محورها التكنولوجيا لا توفّر فيها واشنطن أيّ أداة لكبح التقدّم التّكنولوجي للصّين وتقييد قدراتها على المنافسة وإعاقة صعودها العالميّ وقد تجلّى ذلك على وجه الخصوص في مجال صناعة الرّقاقات المتطوّرة في ما يعرف بأشباه الموصلات والتي تدخل في الاستخدامات الأكثر تقدّمًا على الصّعيدين المدنيّ والعسكريّ.
مراجعة الأدبيات
شغلت قضية صعود الصين حيّزًا مهمًا من اهتمامات الباحثين في العلاقات الدولية حيث يرى بعضهم أن الصين تركّز على التّنمية الاقتصاديّة كوسيلة لتحقيق السّلام وتقليل فرص الصراع ، ويؤيد آخرون أن للصين كأي دولة كبرى نزعة توسّعية ستظهر كلما زادت أصول القوة الوطنية الصينية.
يؤكد الصينيون على المقاربة الأولى المرتبطة بالتنمية ونبذ سياسات القوة. يدعم هذه الرؤية باحثون من بينهم المفكّر الصيني زهانغ بيجيان الذي ينسب إليه مصطلع "الصعود السلمي" حيث يعتبر أنّ الصّين تلتزم ببيئة سلميّة وتعاونيّة تقوم على الانفتاح والعلاقات المتبادلة المنفعة والتّعايش السّلمي مع الحفاظ على النّظام الدولي القائم . يفسّر باحثون سبب اعتماد الصين هذه المقاربة بالفجوة الكبيرة في موازين القوى مع القوّة المهيمنة أيّ الولايات المتحدة من حيث القوّة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية بهدف تقليل المخاطر وخلق بيئة غير تصادميّة لمواصلة الصّعود . وتصف بعض الأدبيّات الصينية العلاقة بين الصّين والولايات المتّحدة بالمعقّدة وتدعو إلى إدارة حكيمة لها للحفاظ على سلميّة صعود الصّين وعدم وقوع الصّدام بين القوّتين العالميّتين.
لكن خلال السّنوات الماضية، برزت وجهات نظر تشير إلى أنّ الصّين مع اقترابها من تحقيق توازن قوى مع الولايات المتّحدة وحتى التفوّق عليها في العديد من المجالات، بدأت تتبنّى استراتيجيات تطغى عليها النّزعة القوميّة الهجوميّة للدّفاع عن مصالحها بطريقة تصادميّة ما يمكن أن يشكّل تحدّيًا لما يسمّيه الغرب "النّظام الدّولي القائم على القواعد" . رغم ذلك، ظلّت الصين ترفض وضعها في سياق منافسة لإزاحة الولايات المتحدة عن زعامة العالم والتحوّل إلى قوّة مهيمنة. هذا ما أكّده المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نين حيث أشار إلى أنّ "الصين لا تسعى إلى الهيمنة على العالم، ناهيك عن أنّها لا تعتقد أنّ العالم ينبغي أن يهيمن عليه أيّ شخص وهي لا تنوي التفوّق على الولايات المتحدة، ولكنّها بدلًا من ذلك تسعى جاهدة لتصبح نسخة أفضل من نفسها" . في السياق نفسه، يرى فيرون أنّ "الصين لا تطمح اليوم إلى السيطرة على الكرة الأرضية وإنما تسعى لخلق ظروف على المستوى الكلي تسمح لها بأن تكون محترمة في محيطها المباشر ولدى محادثيها وبأن تقود سكّانها من الآن حتى نهاية القرن إلى مستوى من التّنمية يضعها في مصاف الدول المتقدّمة".
بدورها تنظر الولايات المتّحدة إلى المنافسة مع الصّين على أنّها أولوية قصوى ذلك أنّ الأخيرة تمثّل التّهديد الأكبر على المدى الطويل. هذا ما خلص إليه مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليام برنز في مقال نشره في مجلّة فورين أفيرز آخر كانون الثاني/يناير 2024 رأى فيه أنّ الصّين "تظلّ المنافس الوحيد للولايات المتحدة الذي لديه النيّة في إعادة تشكيل النّظام الدولي والقوّة الاقتصادية والدّبلوماسية والعسكريّة والتكنولوجيّة اللّازمة للقيام بذلك". انطلاقًا من هذا التوجّه كشف برنز في مقاله أن الوكالة التي يديرها أعادت خلال العامين الماضيين تنظيم نفسها لتعكس أولويّة المنافسة مع الصّين حيث "خصّصت المزيد من الموارد لجمع المعلومات الاستخباراتية والعمليات والتّحليلات المتعلّقة بالصين في جميع أنحاء العالم وقامت عام 2021 بإنشاء مركز جديد للبعثات يركّز حصريًا على الصين وهو مركز المهام الوحيد المختصّ بدولة واحدة ويوفّر آلية مركزيّة لتنسيق العمل بشأن الصّين هذا فضلًا عن تعزيز القنوات الاستخباراتية بهدوء مع بكين وهي وسيلة مهمّة لمساعدة صنّاع السّياسات على تجنّب سوء الفهم غير الضّروري والاصطدامات غير المقصودة بين البلدين" . وتشوب الاستراتيجية الأميركية المعلنة لاحتواء الصين جملة عيوب ونواقص منها "كثافة التّشابك الاقتصادي الأميركي الصيني؛ الاستقطاب الحاد في الداخل الأميركي حول السياسة الخارجية؛ تباين المصالح الاقتصادية في الداخل الأميركي في العلاقة مع الصين؛ التّعقيدات الداخلية الأميركية لتقديم حوافز اقتصادية للدول الآسيوية والإفريقية كافية لمزاحمة الصين؛ مقدار التشبيك الصيني مع بعض حلفاء أميركا التقليديين؛ الانخراط في مواجهة مفتوحة مع روسيا والعجز عن جذب إيران ما يدفعهما للتكتل أكثر مع الصين".