الاقتصاد العالمي أمام تحديات الصراع الروسي-الغربي

رقم الإصدار: 31

مقدّمة:

مضت بضعة أشهر على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كانت كافية لكي تتحوّل هذه العملية إلى كباش عسكري واقتصادي وسياسي روسي – غربي غير مباشر على الأرض الأوكرانية. ومع إطالة أمد هذا الصراع تتعاظم المخاوف وتشتدّ التساؤلات حول تداعياته على الاقتصاد العالمي، وبالتالي يتسع القلق على مصير رفاهية الشعوب ومستقبلها الاقتصادي، خصوصًا مع تضاؤل الأمل باستعادة الاستقرار في ظل احتمالات توسّع جغرافية الصراع وتنوّع أدواته، بعد أن كانت تباشير التعافي الاقتصادي تلوح مطلع العام 2021 حين كان الاقتصاد العالمي يوشك أن ينفض عنه غبار وباء كورونا. 

ومما لا شكّ فيه أن هذه المخاوف والتساؤلات تبدو مشروعة إلى كبير للأسباب الآتية:

أولًا، اندلاع الصراع في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد العالمي ينشد التعافي على مشارف نهاية عام كامل ونيّف من الإغلاق التامّ بسبب وباء كورونا، مع ما استلزمه ذلك من استنزاف لموارد مالية عالمية وإرهاق لموازنات دول كبرى، وبالتالي ما أدّى إليه من عجوزات كبيرة ومعدّلات بطالة غير مسبوقة. وبينما كان واضحًا أن معالجة هذه التداعيات وتجاوز الصعوبات كانت تفوق قدرات الدول منفردة، وتتطلب تنسيقًا وتعاونًا دوليين لاستعادة العافية وإرساء سياسات مستدامة لمساعدة الدول المتضرّرة، فقد حلّ الصراع الروسي – الغربي ليزيد الشرخ والاستقطاب العالمي ويضع الكثير من دول العالم النامي على شفير العوز والجوع، لا بل ويهدد بإدخال الاقتصاد العالمي في طور جديد من ركود لم يكد يخرج منه أصلًا. 

ثانيًا- إن هذا الصراع يبدو قابلًا للتوسّع والتمدّد في كل الاتجاهات. وهو يوشك أن يؤدّي إلى تشكيل خارطة علاقات اقتصادية وتجارية ومالية جديدة على المستوى العالمي. وهي خارطة لن تكون على حساب الدول النامية والاقتصاديات الناشئة فقط، بل من غير المستبعد أيضًا أن تطيح بنظم وسياسات طالما شكّلت أساسًا لانتظام العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. 

ثالثًا- ما يزيد القلق أن التدهور وعدم الاستقرار الاقتصادي العالمي يحدث وسط بيئة سياسية قابلة للاشتعال، خصوصًا في ظل تفشّي السياسات الحمائية التي باتت تجتاح التوجّهات الاقتصادية العالمية في ردّة واضحة عن العولمة التجارية من جهة، وسيطرة متزايدة للتعصّب والنزعات الانفصالية والشوفينية في الميول السياسية من جهة أخرى. 

وهذا التقرير، وإن كان لا يزعم تقديم إجابات حاسمة وشافية حول التداعيات المتوقّعة للصراع الروسي-الغربي في الساحة الأوكرانية على مستقبل الاقتصاد العالمي، لاستحالة الأمر طالما أن الصراع مفتوح على احتمالات ومآلات شتّى في الزمان والمكان، إلا أنه يسعى لتسليط الضوء على تطوّرات الوضع الراهن للاقتصاد العالمي تحت وطأة هذا الصراع، بمعنى الانطلاق من المؤشّرات المالية والاقتصادية لهذا الوضع في محاولة للاستدلال على ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المدى المنظور.  

ولكن ما هو مؤكّد أن الحرب الأوكرانية قد سدّدت ضربة قاسية للاقتصاد العالمي المترنّح، والذي لم يكد يتعافى بعد من تداعيات الإغلاق التامّ بسبب فيروس كورونا (Covid19) سنة 2020. وذلك من خلال الارتفاع المضطرد لأسعار النفط والغذاء وتقطيع خطوط التجارة من جرّاء العقوبات والعقوبات المضادّة. مما أثرّ سلبًا على النشاط الاقتصادي في جانبي العرض والطلب، منذرًا بحدوث ركود اقتصادي قد لا يكون بعيدًا عن الركود الكبير لعام 1929. والذي بدأت معالمه تطفو على السطح عبر التراجع الكبير في حجم الاستثمارات والتضخّم وارتفاع معدّلات البطالة وضمور التجارة وسلاسل التوريد لمختلف البضائع والمنتجات والموادّ الأولية الضرورية لدورة الإنتاج. وهي أمور تؤشّر بالتأكيد إلى تراجع النموّ الاقتصادي على مستوى العالم.
وفي السياق، يستند التقرير في مسعاه إلى مستويات متعدّدة من التحليل، منها الدور والثقل الاقتصادي لأطراف الصراع في الأسواق العالمية المختلفة، بما فيها روسيا والمعسكر الغربي، مضمون العقوبات والإجراءات العقابية المتبادلة، وتأثير هذه العقوبات على النموّ الاقتصادي العالمي ودورة النشاط الاقتصادي لمجمل دول العالم، وصولًا للإجابة على جملة من التساؤلات التي باتت مطروحة بشدة، ومنها على سبيل المثال: ما هو حجم وتكلفة الفاتورة المادية وغير المادية التي بات مفروضًا على العالم دفعها من جراء هذا الصراع؟ وهل أن العالم على وشك دخول مرحلة ركود اقتصادي جديد ربما يكون هذه المرّة أطول مدّة من جهة، ونقطة تحوّل مفصلية في إعادة خلط أوراق الجغرافيا الاقتصادية على مستوى العالم كلّه من جهة أخرى؟ 


1-    موقع أطراف الصراع وحجمهم في الاقتصاد العالمي

 1.1مكونات الناتج المحلّي الإجمالي والفردي

 غالبًا ما يستخدم الناتج المحلّي الإجمالي وحِصّة الفرد من هذا الناتج كمؤشّرين لمستوى رفاهية الدولة وحجم اقتصادها. مع ذلك ينبغي التعامل مع هذه المؤشّرات بحذر لأنها لا تعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي الحقيقي تمامًا. فالناتج المحلّي الإجمالي يُحتسب على أساس اسمي لا فعلي، بمعنى أنه لا يأخذ بعين الاعتبار مستويات التضخّم وغلاء الأسعار، وبالتالي القدرة الشرائية للمداخيل. ولذلك نجد أن الدراسات التفصيلية لهذه المداخيل تلحظ ما يسمّى معامل تكافؤ القدرة الشرائية (Purchasing Power Parity)، للحصول على نتائج أكثر دقّة في هذا المجال.
 

فعلى سبيل المثال نجد أن الناتج الإجمالي الأميركي سنة 2022 (20,89 ألف مليار دولار) أي ما يساوي 1,42 الناتج الصيني (14,7 ألف مليار دولار) بالقيم الإسمية. في حين تصبح هذه المعادلة 1,2 مع قياس الناتجين بقيمتهما الفعلية (الناتج الصيني الفعلي يساوي 17,2 ألف مليار دولار والناتج الأميركي يبقى ثابتًا).

أما حِصّة الفرد من الناتج فهي غير واقعية تمامًا كونها لا تأخذ بعين الاعتبار التوزيع الفعلي للمداخيل والثروة بين مختلف فئات السكان.
وفيما يلي يبين الجدول رقم (1) أدناه تطوّر مؤشّرات النموّ الاقتصادي الإسمي والمتوقّع لعيّنة من الدول خلال الفترة 2019-2023، مع الاقتصار على إدراج حِصّة الفرد من الناتج لسنة 2020 والحجم الذي يفترض أن يبلغه الناتج سنة 2022 فقط. وذلك تجنّبًا لأيّ تعقيدات مع توخّي التوضيح قدر الإمكان. 

 

تحميل الملف
المقال السابق
سلسة محاور وحوار | دور الادارة المحليّة في تسهيل حلّ مشكلة الكهرباء في لبنان / العدد 25 - آب 2022
المقال التالي
قانون تحفيز صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة الأميركية - إعداد مديرية الدراسات الاقتصادية - العدد الثامن - آب 2022

مواضيع ذات صلة: