مقالات: نحو نقاش مبكر لدور صندوق النقد الدولي

مقالات: نحو نقاش مبكر لدور صندوق النقد الدولي

تتبنى الحكومة اللبنانية مدخلاً تقنياً مبسطاً في بحثها عن مخرج لأزمة مركبة، مفترضة أن الحلول الناجعة في النماذج القياسيّة صالحة أيضاً في العالم الواقعي الحي، ولعل لبنان لهذا السبب من أكثر الدول استعدادا لتدويل المعالجات والتخلي عن الحقوق السيادية بسهولة مقابل أثمان منخفضة نسبياً. وبما أننا خطونا مع مؤتمر باريس (3) خطوات أخرى باتجاه الانغماس في لعبة البيروقراطية الدولية، فمن الضروري معرفة قوانين هذه اللعبة والاحتراس في التعامل معها، إذ أن صندوق النقد الدولي الذي يقف وراء نشر مناهج التحليل الرياضي في تفسير الأزمات، ويعتبر أن رسالته هي الحفاظ على الاستقرار العالمي (مع أن أكثر من 100 دولة تعرضت للأزمات منذ إنشائه).

 مقالات: المقاومة في لبنان الرؤية الوطنية والمنطق الاجتماعي

مقالات: المقاومة في لبنان الرؤية الوطنية والمنطق الاجتماعي

أعادت حرب تموز 2006، التأكيد على أن الصراع العربي - الإسرائيلي هو قوة جذب مركزية لنزاعات المنطقة وتحولاتها، مع أنه جاء في سياق مختلف بعض الشيء. فقد حصلت محاولة غير مألوفة لتوظيف الترسانة العسكرية الإسرائيلية الهائلة في الحملة الأميركية المتعثرة في العراق. بمعنى آخر جرى ولوقت محدّد "أمركة" السياسات الإسرائيلية، في خروج مؤقت عن الالتزام الأميركي التام بوضع المصالح الإسرائيلية في المنطقة فوق كل اعتبار، فبات "أمن إسرائيل" وقدرتها على الردع مرهوناً بوضع الأميركيين في العراق، الذين يسجلون التراجع تلو الآخر. 

 

 مقالات: الحرية والمقاومة قراءة في مدخلين

مقالات: الحرية والمقاومة قراءة في مدخلين

العلاقة بين الحرية والالتزام الاجتماعي أو السياسي علاقة إشكالية بحد ذاتها، ففي داخل كل التزام غير تعاقدي تلوح سلطات قاهرة، من النوع الذي يسلب الإرادة أو يستتبعها، أو يجعل الالتزام بالتحرر الجماعي متعارضاً مع الحرية الفردية والتنوع. في معالجة الإشكالية أعلاه، يستوقفنا سؤال مركزي: هل أن المقاومة مبادرة إجتماعية شاملة تتأسس على إرادة الجماعة، وتتخذ من المجتمع قاعدة لانتخاب خياراتها، وهي من ثم طريقة من الطرق التي يعبر من خلالها عن آماله ومطامحه؟ ... أم أنّها فعل تاريخي، راديكالي بمعنى ما، مهمتها التأثير على حركة التاريخ وإعادة إنتاج قوانينه ومساراته لتتناسب مع الغايات العليا والمثل الثابتة المستقاة من خارج المسرح الاجتماعي؟ 


 

 مقالات: حزب الله والدولة: المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الإقليمي - 2/ د. علي فياض

مقالات: حزب الله والدولة: المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الإقليمي - 2/ د. علي فياض

إصدار 2006-09-19

إن الإلحاح والتكرار اللذين وسما خطاب حزب الله في التأكيد على كون النظام السياسي اللبناني هو نظام ديموقراطي توافقي بالاستناد إلى قاعدة العيش المشترك التي نصَّت عليها مقدمة الدستور اللبناني، لا يمكن فهمه فقط على ضوء ضرورات السجال السياسي الداخلي في لحظة انقسام سياسي عاصف، كما لايصح إدراج هذا الخطاب في سياق لحظوي قابل للتجاوز بسهولة في مرحلة لاحقة. لقد كان ذلك التأكيد على التوافقية تعبيراً عن تحول عميق، أخذ في التراكم منذ زمن ليس قريباً، في إدراك حزب الله لمقتضيات الاجتماع السياسي الوطني ولكيفية التعاطي معه، وفهمه للأهمية القصوى التي يمثلها الاستقرار الداخلي كقاعدة لكل مشروع وطني بأبعاده الإسلامية والقومية.

في مقاربة حزب الله للتوافقية في النظام السياسي، ما يتجاوز المنطق الثوري التقليدي في العمل السياسي الذي يرى في الصراع طريقاً إلى التقدم، لصالح فكرة التكامل طريقاً للتطور، علماً أن الواقعية تقتضي النظر إلى السياسة بوصفها عملية صراع وتكامل في آن. إلا أن الفارق هنا يكمن في أن الغلبة في موازين قوى غير مستقرة، ستكون عاجزة على المدى البعيد عن حماية المصالح. من هنا يميل حزب الله إلى توظيف قوته وقدراته بوصفه عنصر توازن في التركيبة اللبنانية وليس عنصر غلبة.

إن ما سبق يظهر إلى مدى بعيد، تلك الأهمية المنجية الخاصة الكامنة وراء تحليل سلوك حزب الله السياسي ومواقفه وأطروحاته في التعاطي مع أزمة الانقسام اللبناني الراهنة. وكذلك تحليل علاقاته ونظرته إلى السلطة ودوره فيها، لما يمثّل من تجربة لحركة إسلامية تمارس في الآن نفسه العمل السياسي في بيئة تعددية من جهة، والنضال المسلّح ضد الاحتلال من جهة أخرى، وتؤدي كلا الدورين من موقع محوري وفاعل في الواقعين المحلي والإقليمي.

ما وراء المواقف: الرؤى والأفكار
في الواقع، يستند تعاطي حزب الله مع الأزمة السياسية التي تعصب بلبنان، وإقدامه على الاشتراك بالحكومة، لأول مرة في تاريخه السياسي، إلى بنية فكرية سياسية، أخذت في التشكّل منذ أمد بعيد، وتطورت على صورة نسق متراكم ولّد تباعاً ووفقاً لتفاعلية معقدة بين البنية الفكرية الأصلية وتحولات الواقع بتعقيداته وتحدياته المتتالية.

إن حزب الله يواجه راهناً مجموعة من الإشكاليات أو التحديات وكذلك الاختلافات العميقة التي راحت في اتجاه المزيد من التمظهر مع تنامي الانقسام اللبناني. وبرغم أن حزب الله يرى إلى تجربته بأنها تتجاوز تلك الإشكاليات وتقدم حلولاً لها، فإن المبالغة في الطابع الإشكالي للتحديات المطروحة إنما تغذيه الحساسيات السياسية والخلفيات التحالفية القائمة، وإن الاحتدام اللبناني يقدّم تلك الإشكاليات بوصفها إشكاليات جوهرية بعضها حاضر في صميم السجال السياسي، وبعضها الآخر كامن في المشهد الخلفي الذي يتصل بالقضايا النظرية والفكرية والسياسية، مثل إشكالية الدولة – المقاومة لناحية العلاقة بينهما والمواءمة بين وجوديهما، ومعالجة ما تواجه به المقاومة من تناقض مفترض مع طبيعة الدولة ووظائفها ومنطقها.

والإشكالية الأخرى تختص على نحو أساس بالأحزاب الدينية لناحية التوفيق بين الهوي الموضعية (الوطنية) وهي هنا تتمثل بالهوية اللبنانية من ناحية، والانتماء الكلي المتمثل بالانتماء الإسلامي – القومي، وما يفرضه من التزامات تجاه الأمة والقضايا ذات الفضاء الأوسع والتي تأتي في طليعتها القضية الفلسطينية وكل القضايا الأخرى التي تتصل بالصراع مع إسرائيل ومواجهة التحديات الأميركية في العالم العربي والإسلامي.
ولا يخفى أن ثمة سيولة في ترابط العديد من الإشكاليات ببعضها البعض، بحيث لا تنحصر فقط بالإشكاليتين السالفتين، بل تتعداهما إلى إشكاليات أخرى، من قبيل الحاجة إلى إجابات نظرية وافية تفسر العلاقة القائمة بين حزب ذي أيديولوجية دينية، وبيئة سياسية واجتماعية ذات طابع تعددي. وإذا كان حزب الله قد تجاوز هذه الإشكالية عملياً من خلال إدراجها في سياق إيجابي، فإن ذلك لا يلغي الحاجة إلى تفسيرها نظرياً في المستوى الذي يتصل بالفكر السياسي.

أية عقلانية سياسية جديدة؟
يقوم ذلك على ركيزتين أساسيتين، وهما العمل على توفير الاستقرار الداخلي وتأمين الفاعلية المجتمعية.

الاستقرار هو شرط أساسي لمجتمع سليم وقادر. فالصراعات الداخلية غالباً ما تعيق إمكانات النمو والتطور، عندما تتجاوز فضاء السلم الأهلي والضوابط والقيود التي تعبر عن نفسها بمؤسسات وقوانين. الاستقرار، أيضاً، شرط ضروري في قدرة المجتمع على مواجهة تحدياته الخارجية. ولهذا فالاستقرار ضروري في التطور الداخلي وضروري في مجابهة التحديات الخارجية.

إن النضال السلمي الديموقراطي هو الإطار الطبيعي لتنظيم الخلافات والانقسامات بين السلطة والمعارضة وبين المجموعات السياسية أو الطائفية المختلفة.

أما الفعالية المجتمعية فتقوم على ضرورة توفير الشروط التي تجعل من المجتمع فاعلاً في البناءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويستلزم ذلك من جملة ما يستلزم توافقاً بين السلطة والمجتمع، لأن المجتمع في الأحوال كافة، يجب أن لا يكون مقهوراً، بل قادراً على ممارسة فاعليته. فالمجتمع المقهور إما أن ينسحب من الشأن العام ليخلي الأمر للسلطة في حالة عدم اكتراث، وإما أن يندفع باتجاه الانفجار..
تطرح هذه المسالة ضرورة التمييز بين الإشكاليات التي يثيرها تطبيق الفاعلية الاجتماعية في لبنان، وهو يتمتع بديموقراطيته الخاصة، وبين الإشكاليات التي تطرح في الساحات العربية الأخرى وهي بصورة عامة ساحات غير ديموقراطية.

في الساحة اللبنانية تذوي إشكالية الديموقراطية إلى حدودها الدنيا، على نحو مغاير لما يطرح في الساحات العربية الأخرى. ففي لبنان تلتهم الطائفية فوائد الديموقراطية. هذه إشكالية شديدة الأهمية، لكنها تخرج بدورها عن سياق معالجتنا. فالبحث في الفاعلية المجتمعية في لبنان راهناً يثير إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها كذلك قاعدة البحث في إشكالية العلاقة بين الدولة والمقاومة.

ولا شك أن دخول حزب الله في السلطة واشتراكه في إدارة الدولة ينطوي على إعادة اعتبار لموقع الدولة في فكره السياسي، إذ لم يعد ممكناً في تصوره توفير الاستقرار وحماية المجتمع في ظل دولة رخوة ومؤسسات منهكة وخيارات سياسية مضطربة.

إن دخول حزب الله إلى السلطة هو في جوهره تكريس للتصالح مع الدولة، لكنه لا يستلزم بالضرورة تصالحاً مع السلطة. الخطوة تنطوي على دلالات تتصل بصون الدولة وإعادة بنائها بوصفها دولة جميع اللبنانيين، وبهذا المعنى فهي يجب أن تكون انعكاساً مطابقاً لقناعات اللبنانيين ومجالاً مفتوحاً على التطور تبعاً لقناعاتهم ومطامحهم.

إن حزب الله في مقاربته لفكرة الدولة يبدو أكثر ميلاً إلى تعريفها بوصفها تجسيداً لإرادة عامة، وهذا التعريف يتجاوز المظاهر الهيكلية للدولة، على أهميتها الطبيعية، لناحية الالتفات إلى أهمية المجتمع نفسه في بناء الدولة. فالدولة أكثر من جهاز بيروقراطي، إنها وظائف. وعلى المجتمع مساعدة الدولة في القيام بوظائفها... والدولة في الآن نفسه هي أرض وشعب ومؤسسات. فالمجتمع جزء من الدولة وعليه مؤازرتها إلى حين قدرتها على الاستقلال بوظائفها. ليس خافياً أن هذه المقاربة اجتماعية الطابع، وهي تختلف عن نزعة التعالي بالدولة وتجريدها وعزلها. فهي في صورتها الصحيحة ليست إلا تتويجاً لتطور المجتمع نفسه، لذا لا يصح التركيز على حماية الدولة في مقابل انكشاف المجتمع، بل ينبغي إدراجهما في معادلة واحدة ومتصلة.

من شأن هذه المعالجة أن تساعد على نقل السجال العائد إلى الانقسام اللبناني حول إشكالية الدولة – المقاومة، إلى حيث يجب أن يكون أصلاً، وهو المكان الذي يتصل فيه النقاش النظري بالنقاش السياسي.

لقد فعل حسناً اللبنانيون عندما تنادوا للحوار إطاراً لمعالجة انقساماتهم. هذا ما تمليه الوافقية بوصفها جوهر النظام السياسي اللبناني. وهذا ما ينبغي أن يدفع وهم إمكانية بناء استقرار أو فاعلية مجتمعية على قاعدة التغالب. فإذا كان بعض اللبنانيين يتمسّك بسلاح المقاومة وبعضهم الآخر يتحفظ على هذا السلاح وفق دوافع وصيغ وأطر زمنية متفاوتة، فإن المراوحة هنا تماثل رفع مستوى مخاطر الانقسام، بينما التوافقية تعين البحث عن تسويات تنقل النقاش من البحث في مصير السلاح إلى البحث في الهواجس والضمانات المتبادلة: أي كيف يصوغ اللبنانيون ضماناتهم المشتركة كي لا تكون استراتيجية المقاومة نقيضاً لاستراتيجية الدولة؟ وكيف يعالجون هواجسهم لكي تبقى وظائف هذا السلاح لبنانية ودفاعية، بحيث لا تهدد التوازنات الداخلية، ولا ترتهن لأية أولويات على حساب الأولويات اللبنانية؟ وكيف يصان فعلياً الأمن القومي اللبناني فلا يعود اللبنانيون للانكشاف الذي ساد لعقود أمام الاستباحة الإسرائيلية؟ ويكف نتوسع في معنى السيادة، بحيث يشمل في الآن نفسه التحرير من الاحتلال وعدم الارتهان لمعادلات خارجية أو هيمنة دولية؟
في الواقع، وعلى الرغم من أن الحوار الوطني أو الحوارات الثنائية لم تتطور بعد غلى التركيز على هذه الأسئلة حصراً، إلا أن تداولها قائم بصورة أو أخرى.

لقد أشار الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في أكثر من مناسبة، ومنها جلسات الحوار الوطني، إلى أنه لن تكون لسلاح المقاومة وظائف خارج تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة والدفاع عن لبنان في وجه التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية.
إن حزب الله لا يخفي هواه تجاه القضايا الإسلامية والعربية، كما لايخفي تحالفاته الإقليمية، وتتضمن أدبياته موقعاً ومركزياً للصراع مع إسرائيل التي تشكّل القضية الفلسطينية محوره الأساس، ولهذا فإن خطابه السياسي على مدى يزيد عن قرنين من الزمن لم يخل من المواقف التي تتصل بالقضية الفلسطينية. لكن ثمة ما تجدر ملاحظته في خطاب حزب الله ومواقفه وسلوكه، في مقاربته للتوفيق بين أيديولوجيته السياسية التي تقوم أساساً على مفهوم الأمة الواحدة الذي يفرض فضاءً مشتركاً من القضايا والمصالح والمصير من ناحية، وبين أجندته اللبنانية بوصفه حركة تحرير وطني لبناني ومكوناً أساسياً من مكونات السلطة السياسية في لبنان من ناحية ثانية، آخذاً في الاعتبار كل ما يحيط بهذا الدور من تعقيدات وخصوصيات لبنانية.

وهنا، يمكننا بناء نظريتين في تفسير العلاقة العملية بين الدورين المحلي والإقليمي، أو بالأحرى وعلى نحو أكثر تحديداً، بين الوظيفة اللبنانية للمقاومة، ووظائفها الإقليمية.

1- نظرية الأدوار المتصلة، وهي التي تنادي بوظيفة إقليمية للمقاومة تستند إلى دور مباشر مؤازر، في أي تطور دراماتيكي يتسبب به عدوان ما تجاه أحد أطراف معادلة الممانعة والمقاومة (حماس مثلاً...).
2- نظرية الوازنات المتصلة وهي الي تفترض بأن مجرد نجاح المقاومة في دورها المحلي، (والمبدأ ينطبق على أي قوة إقليمية أخرى في حال نجاحها في إطارها الوطني)، فإن ذلك يشكل بحد ذاته، ودون الحاجة إلى أدوار مباشرة تتجاوز ما يفترض أنه الدائرة الوطنية، مؤازرة لمعادلة الممانعة والمقاومة برمتها ولأطرافها كافة، نظراً لاتصال التوازنات الإقليمية ببعضها البعض.

وبهذا المعنى يزول التضارب المفترض، الذي تحيط به الكثير من الحساسيات والتعقيدات، بين الدورين المحلي والإقليمي للمقاومة. فالإسهام في تعزيز المعادلة الإقليمية من هذه الزاوية ليس إلا نتيجة مترتبة تلقائياً على نجاح المقاومة في دورها الوطني المحلي. أي أن المصالح الوطنية اللبنانية هي المعيار الجوهري لسلوك المقاومة، والإسهام الإقليمي يندرج في إطار النتائج التلقائية وليس الدوافع المسبقة أو المبيّتة.

إن موقف الأمين العام لحزب الله الذي أشرنا إليه يتضمن بوضوح كامل التزاماً بالنظرية الثانية لا الأولى، أي أن السلوك العملي للمقاومة يندرج في إطار نظرية التوازنات المتصلة وليس في إطار نظرية الأدوار المتصلة.

أما وقد وقعت الحرب الإسرائيلية
أما وقد وقعت الحرب الإسرائيلية على لبنان في 12 تموز 2006، فمن السذاجة الافتراض أن الدافع الإسرائيلي للقيام بهذا العدوان هو أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين. ولنقل باختصار: إن الهدف الاستراتيجي الذي حدده الأميركيون هو العمل على إقامة شرط أوسط جديد، ويعني ذلك الشروع في تغيير المعادلة السياسية اللبنانية جذرياً، ولعله تمهيد لسلسلة خطوات تنتهي باستهداف إيران عسكرياً فيما مسعى تفكيك حزب الله وضربه يتم وفق منهجية الهدم والترويع الأميركية التي اعتمدت في العراق، التي تشبه لعبة الدومينو وتفترض تدحرجاً في التداعيات والنتائج. ومن المعروف أن تلك المنهجية فشلت في العراق فشلاً ذريعاً، ثم أعيد تكرار ذلك الفشل في لبنان.

أما من ناحية حزب الله، فقط كانت المسألة على درجة أعلى من البساطة، إذ أن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، هدفت على نحو محدد إلى العمل على مبادلة هذين الجنديين بالأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، دون أي ميل إلى التصعيد أو التوسع في دائرة الاشتباك.

في نتائج هذه الجولة من مجابهة تبدو تماماً أوسع من اللحظة الراهنة، فإن حزب الله أزداد قوة مع تحوله إلى رمز للنهضة والمقاومة والصمود في العالمين العربي والإسلامي. وفي حين ازداد الموقف العربي الرسمي انكشافاً وتعمّقت بيئة الانقسام بينه وبين الشاعر العربي، أخذ مجدداً خيار المقاومة، كبديل عن خيار التسوية أو خيار المراوحة، في امتلاك مصداقية أكبر مستنداً إلى تجربة جلية.
يبدو صحيحاً أن ما بعد 12 تموز يختلف جذرياً عما قبله، ويبدو صحيحاً أيضاً أن حزب الله على عتبة تحديات جديدة يفرضها انتصاره على إسرائيل، وهي تبدأ من تعقيدات الساحة اللبنانية التي باتت محكومة بقرار دولي هو القرار 1701 وصولاً إلى الساحة العربية، حيث وجد الحزب نفسه في موقع القيادة للشارع العربي على مختلف تنويعاته الفكرية والسياسية. ويحدث ذلك في الوقت الذي لا يزال حزب الله يحرص على أن تبقى حدود دوره هي الساحة اللبنانية في مستوييها التحريري والإصلاحي.
 

 مقالات: حزب الله والدولة: المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الإقليمي -  1/ د. علي فياض

مقالات: حزب الله والدولة: المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الإقليمي - 1/ د. علي فياض

إصدار 2006-09-18

بعد انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان/ أبريل 2006، شعر حزب الله بأنه مضطر إلى المشاركة في الحكومة لتأمين توازن بين القوى اللبنانية المختلفة وحماية موقع لبنان الدقيق في المعادلة الإقليمية. تؤكد هذه الورقة، التي كتبها رئيس مركز البحث والتفكير الرئيسي لدى حزب الله، أن الحزب مصر على التمسك بالنظام السياسي اللبناني الذي تستند ديموقراطيته إلى قاعدة التوافق، وأنه يؤيد دولة قوية ومركزية. ويشكّل هذا الموقف تطوراً في إدراك هذه الحركة لمتطلبات التوازن المحلي اللبناني، كما لتقديراتها حول أهمية الاستقرار الداخلي في خدمة مشروعها الوطني ومن أجل نجاحها في مهمتها العربية والإسلامية.
وبينما كان الحوار الوطني بين مختلف الفصائل اللبنانية، الذي انطلق في ربيع 2006، يحرز تقدماً في مسائل تقاسم السلطة، برزت خلافات في وجهات النظر تتعلق بالسياسة الخارجية، وفي المقدّمة منها ما يخص الاستراتيجيا حيال إسرائيل والتحالفات الإقليمية التي شكّلت خطوط انقسام. وعشية الحرب الإسرائيلية على لبنان، كان حزب الله يحاجج بأن نقاش مسألة سلاحه يجب أن يكون جزءاً من نقاش أوسع حول الاستراتيجيا الوطنية الدفاعية، التي توفر ضمانات متبادلة بين مختلف المجموعات اللبنانية وتصالح الوظيفة الدفاعية للمقاومة مع خطة الدولة لاستعادة السيادة بعيداً عن التأثيرات الخارجية. ووفق نظرية "التوازنات المتصلة" التي يلتزم بها السيد حسن نصر الله، فإن مساهمة حزب الله في المعادلة الإقليمية هي محصّلة آلية لإنجازاته في المجال الوطني المحلي. وهكذا تصبح المصالح الوطنية المعيار الرئيس الذي يحكم سلوك الحركة، ويصبح التناقض بين دوريها الوطني والإقليمي نافلاً. بعد الحرب مع إسرائيل، اتسعت شعبية حزب الله الإقليمية كثيراً وبما يفوق كل التوقعات، ولكن الحزب يشدد مجدداً على تمسكه ببرنامجه الوطني اللبناني.
شكَّل دخول حزب الله إلى الحكومة اللبنانية بعيد الانسحاب العسكري السوري من لبنان، تطوراً نوعياً في مساره السياسي. فالحزب كان قد استنكف مراراً عن المشاركة في التشكيل الوزاري، رغم توافر الفرصة له، إذ كانت نظرته إلى الحكومة مشوبة بشيء من التحفظ رغم تأثيره الواضح بالسلطة وبالتوازنات السياسية اللبنانية.
فمنذ أيار/ مايو في العام 2000، تاريخ الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني تحت ضغط أعمال المقاومة، ما كان ممكناً تشكيل أية حكومة لبنانية لا تأخذ في الاعتبار تأثير الحزب على تشكيلتها وتوجهاتها السياسية، لا سيما ما يتعلق بالسياسة الخارجية اللبنانية والخيارات الاستراتيجية التي تتصل بالصراع مع إسرائيل. ذلك أن المقاومة امتلكت ثقلاً معنوياً راح يعبّر عن حضوره على صورة سلطة رديفة تؤدي وظيفة معيارية. على هذا الأساس، لا يمكن أن نعتبر مشاركة حزب الله في الحكومة تحولاً أو تغيراً، بقدر ما يمكن اعتبارها تطوراً، فالتأثير في تركيبة وتوجهات السلطة في لبنان لم يكن متلازماً في حالة حزب الله مع الدخول إلى الحكومة. وهذه حالة مفارقة، قد يجدر البحث عن خصائصها وعوامل تفسيرها.
على أي حال، تطرح علاقة حزب الله بالسلطة رغم خصوصيتها، إشكالية العلاقة بين الحركات الإسلامية والسلطة غير الدينية، وتظهر إلى مدى بعيد، الشروط الضرورية لتطور الحركة الإسلامية في علاقتها بالبيئتين السياسية والاجتماعية.
إن حالة حزب الله قبل اشتراكه في الحكومة يمكن أن نعبّر عنها بأنها سلطة من غير سلطة، وكانت هذه السلطة قادرة على أن تؤدي دوراً حاسماً في مجالها الذي يتصل بالصراع والخيارات الاستراتيجية. أما في المجالات الأخرى التي تتصل بالإدارة والمؤسسات والوظائف المدنية للسلطة، فقد كان حزب الله خارج أية فاعلية تذكر.
فعلى مدى عقدين من المقاومة، قارب حزب الله السلطة بطهرانية نضالية، لم تكن تحول فقط دون أن تكون السلطة هدفاً له، بل كان ينظر لها على أساس أن الدخول إلى رحابها يتناقض مع منطق المقاومة ومقتضياتها. إن ما فرض على حزب الله الإقدام على خطوة الدخول إلى السلطة، هي التحولات الدراماتيكية التي عصفت بالتوازنات السياسية اللبنانية من جراء الانسحاب العسكري السوري. لقد أدى ذلك إلى فراغ استراتيجي في إدارة الدولة وإلى تبدّل في أحجام القوى وانكشاف في سياسات الدولة وخياراتها الكبرى وتهديد لموقعها في المعادلة الإقليمية.
في مقابل الانحسار الإقليمي داخل التوازنات الداخلية اللبنانية، كان على القوى والاتجاهات المختلفة أن تمتد تلقائياً بناءً على أحجامها الفعلية، وأن تعيد تموضعها في اصطفاف سياسي مستجد.
وفي ضوء ذلك، ومن وجهة نظر حزب الله، لم يعد ممكناً حماية مشروع المقاومة وتصويب بناء الدولة من خارج بنية السلطة. لقد شكّل هذان الهدفان مسوِّغين قاهرين لخطوة الدخول إلى الحكومة. كما لم يعد ممكناً كذلك لحكومة أن تمتلك مصداقية التمثيل الشعبي الواسع، مع بقاء حزب الله خارجها. إن ذلك سيفضي في حال حصوله، إلى توزيع تمثيل الثقل الشعبي خارج السلطة وداخله، مع أرجحية للخارج، مما يعني اضطراباً وعدم استقرار في تركيبة السلطة وأدائها.
في اللحظة الراهنة تقبع البلاد في مأزق حاد، على خلفية انقسام سياسي عميق بين اللبنانيين.
فعلى الرغم من أن الحكومة الراهنة تضم معظم الاتجاهات والقوى الأساسية في البلاد، يستثنى منها التيار الوطني الحر بزعامة الجنرال ميشال عون، وزعامات وأحزاب أخرى موالية أو حليفة لسوريا. إلا أنها خضعت بدورها لعواقب الانقسام المشار إليه، فتعطلت حيناً وقوطعت حيناً آخر، وعصفت بها المشادات الحادة، وجرى تشكيل إطار للحوار الوطني بمحاذاتها لمعالجة الملفات الكبرى التي ينقسم اللبنانيون حولها، على النحو الذي بدا وكأنه فعلياً أعلى سلطة في البلاد.
إن الانقسام السياسي الراهن بين اللبنانيين يتوزع وفق منطقين:
- منطق تكتل 14 آذار/ مارس الذي بات يعرف لاحقاً باسم تكتل 14 شباط/ فبراير بعد خروج ميشال عون منه. ويرفع هذا التكتل شعارات تحميل سوريا مسؤولية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وينادي بالسيادة والحرية والاستقلال، ويستند في مواقفه إلى القرارات الدولية التي صدرت حول لبنان، وعلى رأسها القرار 1559 الذي يدعو إلى نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية.
كما ينادي هذا التكتل بإقالة أو تغيير رئيس الجمهورية اللبنانية العماد إميل لحود وترسيم الحدود مع سوريا، بما فيها مزارع شبعا المحتلة، ويدعو إلى نزع سلاح المقاومة (حزب الله) ونزع سلاح المنظمات الفلسطينية.
- في المقابل، يطرح تكتل 8 آذار/مارس شعارات مختلفة، ويصوغ موقعه السياسي وفقاً لحسابات أكثر انجذاباً للدمج بين البعدين الوطني والقومي. فبالإضافة إلى مطالبته بضرورة بناء دولة مؤسسات تقوم على التوازن والمشاركة، فإنه يعطي أولية للحفاظ على موقع لبنان في معادلة الصراع مع إسرائيل، ويترجم ذلك بالتمسك بسلاح المقاومة في سبيل تحرير ما تبقى من أرض لبنانية محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، ومواجهة الأطماع والتهديدات الإسرائيلية. ويرى أن البت بمصير سلاح المقاومة يتقرر على ضوء اتفاق اللبنانيين على استراتيجية دفاع وطني توفر الحماية للبنان. كما لا يرى ما يستوجب تغيير رئيس الجمهورية ما لم يتم التوافق على المشروع السياسي للبلاد وعلى اسم الرئيس البديل القادر على تنفيذ هذا المشروع.
أما بشأن السلاح الفلسطيني، فيرى ضرورة معالجته في إطار المصالح الوطنية اللبنانية ومقتضيات الصراع مع إسرائيل، مما يستوجب الحوار الهادئ مع الفلسطينيين ومنحهم كامل حقوقهم المدنية التي تسمح لهم بالعيش الكريم.
ويشدد هذا التكتل على العلاقات المميزة مع سوريا، ولا يمانع من ترسيم الحدود معها، باستثناء مزارع شبعا بسبب خضوعها للاحتلال الإسرائيلي، كما لا يمانع  بتبادل السفارات بعد بناء إجراءات الثقة المتبادلة التي تعيد العلاقات بين البلدين إلى مجاريها الطبيعية.
إن الانقسام في الرؤى والمواقف بين التكتلين، يمتد كذلك ليشمل التحالفات الإقليمية والدولية، ففي حين يمتاز تكتل 14 شباط/ فبراير بعلاقات طيبة مع المحور الأميركي – الغربي، يذهب تكتل 8 آذار/ مارس في اتجاه مناقض، إذ يركّز على أولوية العلاقات مع المحور السوري- الإيراني، ويتمسّك بضرورة أن يؤدي العرب دوراً أساسياً في معالجة الأزمة القائمة.
يظهر جلياً، بالنظر إلى طبيعة القضايا المختلف عليها، أن الانقسام الأساسي بين اللبنانيين الذي يشكّل جوهر الأزمة السياسية الراهنة، يتركّز على سياسة لبنان الخارجية وخياراته الكبرى تجاه الصراع مع إسرائيل وموقعه وتحالفاته داخل البيئة الإقليمية. ومن الطبيعي أن يمتد هذا الانقسام باتجاه التوازنات الداخلية وموقف كل طرف فيها، لينتج كذلك تفاوتاً في الخطاب السياسي تجاه القضايا الداخلية، وإن تكن أقل حدة مما هي عليه في ما يتعلق بالقضايا الخارجية.
في صلب تناقضات خريطة المواقف والتحالفات هذه، يشكّل حزب الله محور "تكتل 8 آذار"، ويتم التعاطي معه من قبل القوى المحلية والدولية بوصفه مركز الثقل في إدارة هذا التكتل.
إن تحليل سلوك حزب الله السياسي ومواقفه وأطروحاته في التعاطي مع أزمة الانقسام اللبناني الراهنة، وتحليل علاقاته ونظرته إلى السلطة ودوره فيها تمتلك أهمية منهجية خاصة، نظراً لما يعكسه من تجربة لحركة إسلامية تمارس العمل السياسي في بيئة تعددية والنضال المسلح ضد الاحتلال.
علينا في سبيل هذا التحليل أن نلتقط عدة محطات رئيسية برزت في مواقف وسلوك الحزب إبان الأزمة الراهنة الممتدة منذ أكثر من عام. ولنبدأ من السياسة الانتخابية النيابية التي اعتمدها حزب الله في الانتخابات النيابية التي جرت بعد الانسحاب السوري مباشرة، حينما اخترق بتفاهماته الانتخابية الاصطفاف السياسي الذي كان قائماً "وفقاً" لمجموعة متداخلة ومعقدة من القضايا يأتي في طليعتها الموقف من سوريا واتهامها بمقتل الرئيس الحريري، والمحكمة الدولية والموقف من القرار الدولية 1559.
لقد سمي التفاهم الانتخابي وقتذاك بالتفاهم الرباعي، وقد ضم حزب الله وحركة أمل من ناحية، وتيار المستقبل بزعامة سعد الدين الحريري والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط. لقد كانت تلك الخطوة خارجة عن المألوف، وتبدو محطة مفارقة في سياق الاصطفافات الجديدة التي أنتجها الانسحاب السوري، وقد مهّد هذا التفاهم لتشكيل الحكومة الحالية بتوازناتها الراهنة، إن التسوية التي مثلت أرضية التفاهم الانتخابي وتشكيل الحكومة قامت على صون الوحدة الوطنية وإعادة بناء الدولة وحماية المقاومة واحتواء مفاعيل القرارات الدولية من خلال تحويل موضوعاتها الإشكالية إلى قضايا يختص الحوار الوطني الداخلي بالنظر بشأنها ومعالجتها.
لقد تمكنت هذه التسوية من الصمود وتغطية تعقيدات العلاقات السياسية الداخلية وتناقضاتها العميقة لفترة قاربت الأشهر السبعة قبل أن تتعرض لاهتزازات حادة عبرت عن نفسها على صورة تراشق إعلامي عنيف وتظهير للخلافات في المواقف السياسية تجاه القضايا المطروحة، وعلى رأسها موضوعات سلاح المقاومة والعلاقات اللبنانية – السورية ومصير رئاسة الجمهورية. إن ذلك أدى على اضطراب في أداء الحكومة واستقرارها لكنه لم يفض إلى انهيارها، كما أثمر ولادة إطار الحوار الوطني الذي أشرنا إليه سابقاً.
إن السلوك المتميز لحزب الله تجاه أخصامه السياسيين على خلفية التمسّك بالحوار وبناء التفاهمات السياسية وفق تسويات واقعية تلحظ التوازنات السياسية وحاجة البلاد إلى الاستقرار، تكررت في محطة لاحقة مع خصم سابق، وفي تجربة لا تقل دلالة وأهمية عن تجربة التفاهم الرباعي، بل قد تفوقها أهمية. وهي تجربة إنجاز ورقة التفاهم السياسي بين حزب الله والتيار الوطني الحر الذي يتزعمه الجنرال ميشال عون. لقد شكّلت وثيقة التفاهم تطوراً نوعياً ي طبيعة التحالفات السياسية القائمة، ذلك أن الطرفين ربما يمثلان الاتجاهين الأوسع شعبية، وينتمي أحدهما إلى الطائفة الإسلامية والآخر إلى الطائفة المسيحية، كما أنهما يرتكزان على خلفيات سياسية مختلفة، وتاريخ سياسي أكثر اختلافاً، ومع ذلك تمكنا من صياغة تفاهم سياسي مشترك تـأسس على تنازلات متبادلة، وبناء مقاربات سياسية توفيقية لقضايا سياسية شائكة. وعلى الرغم من تضمن الوثيقة لمواقف شاملة تجاه كل القضايا المطروحة، إلا أن أبرز مرتكزاتها يتصل بتحول في موقف التيار الوطني تجاه المقاومة على قاعدة الموافقة على حفظ سلاحها لاستكمال التحرير وإطلاق الأسرى اللبنانيين والبحث مستقبلاً في استراتيجية دفاعية وطنية. وفي المقابل وافق حزب الله على تبادل السفارات مع سوريا وترسيم الحدود، بعد بناء إجراءات الثقة معها.
لقد أوجدت وثيقة التفاهم مناخاً سياسياً واجتماعياً أعاد خلط الأوراق الداخلية ودفع الانقسام السياسي إلى وجهة أفقية تتجاوز الانقسامات التقليدية اللبنانية. فعلى الرغم من وحدة الموقف السياسي الشيعي، إلا أنه في المقابل جرى تظهير انقسام حاد داخل الطائفة المارونية، كما أظهر تعذراً شديداً في العودة إلى تمفصل الانقسام السياسي اللبناني على قاعدة الانقسام الإسلامي – المسيحي، وهو أخطر الانقسامات وأكثرها تهديداً للاستقرار وللسلم الأهلي.
بالإضافة على ما سبق، فإن وثيقة التفاهم التي قاربناها بوصفها محطة ثانية في فهم سلوك حزب الله السياسي في المرحلة الراهنة، انطوت على ما يمكن أن نعتبره بعداً جوهرياً بدوره، في فهم الفكر السياسي اللبناني لحزب الله، إن صح التعبير، ونقصد بذلك، التأكيد على الطبيعة التوافقية للنظام السياسي اللبناني. وفي واقع الحال، شكَّل هذا الموقف إحدى المقولات الأساسية التي راح حزب الله يكررها دون ملل في مواجهة ما اعتبره استئثاراً من قبل فريق الأكثرية في إبان الأزمة التي عصفت بالحكومة، بعد لجوئها لاتخاذ قرارات أساسية وفقاً لقاعدة الأكثرية والأقلية.
 

 مقالات: لماذا التمسك بالمقاومة كضرورة إستراتيجية؟

مقالات: لماذا التمسك بالمقاومة كضرورة إستراتيجية؟

إصدار 2005-09-27

الانسحاب الإسرائيلي القسري من الجنوب اللبناني في أيار 2000، لئن شكّل تحوّلاً استراتيجياً في مسار التطورات السياسية والأمنية، إلا أنه لم يكن كافياً لإقفال الجنوب كجبهة ذات استقرار نسبي وقابلة في كل آن لاحتمالات التصعيد، ذلك أن الطرف الإسرائيلي قد ترك فعلياً عوامل اشتباك عديدة، بعضها ذو نتائج تصعيدية مباشرة وبعضها الآخر يأخذ صفة العوامل الكامنة القابلة لأن تطفو على سطح التطورات تبعاً لتدهور الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، وهذه العوام هي استمرار احتلاله لمزارع شبعا اللبنانية، واحتفاظه بالأسرى اللبنانيين داخل السجون الإسرائيلية وعدم تسليمه قوات الأمم المتحدة في الجنوب خرائط حقول الألغام التي تركها وراءه في الأراضي اللبنانية وهي تعد بالمئات، وقيامه بخروقات متكررة للسيادة اللبنانية، براً وبحراً وجواً. وكان الإسرائيليون قد أضافوا على هذه العوامل، في أوقات لاحقة ما يزيد الأوضاع تعقيداً، عندما هددوا بقصف مشروع لتغذية قرى لبنانية بالمياه من نهر الوزّاني الذي ينبع من الأراضي اللبنانية ويصب داخل فلسطين المحتلة، علماً أن المشروع لا يستهلك الحصة اللبنانية التي تحددها الاتفاقيات الخاصة فضلاً عن القوانين الدولية. وعندما أقدموا على زرع عبوّات في الجنوب وبيروت استهدفت ناشطين لبنانيين وأودت بحياتهم.  

 مقالات: أي صيغة للدولة اللبنانية في المرحلة الجديدة، من الدولة الرخوة إلى الدولة المستقرة

مقالات: أي صيغة للدولة اللبنانية في المرحلة الجديدة، من الدولة الرخوة إلى الدولة المستقرة

إصدار 2005-07-22

يكاد اللبنانيون لا يصدقون أن ثمة فرصة قد آذنت، وهي تحمل في ثناياها إمكان بناء دولة حقيقية وحكم صالح ومؤسسات رشيدة. فاللبنانيون الذين اعتادوا على دولة منقوصة، ووطن معلّق، من الصعب عليهم أن يتصوروا، رغم آمالهم وتطلعاتهم، خروجاً من تلك الحال البائسة إلى الحال المرتجاة.


 مقالات: الدولة في مواجهة الشرق الأوسط الكبير

مقالات: الدولة في مواجهة الشرق الأوسط الكبير

أشعلت أميركا حروبها الثلاث الراهنة، في العراق وأفغانستان وعلى الإرهاب، وهي تعي فحسب مفاهيم إستراتيجيتها اللاحقة، دون تدقيق كاف بالأدوات والأساليب. عند بناء المفاهيم عمدت إلى المزج بين أولويات مشتقة من أولويات إدارات سابقة، واحتياجات المرحلة الجديدة التي استهلت في 11 أيلول 2001. لكن عند تحديد السياسات والأدوات، جعلت من قضيتي الحرب والإصلاح ممرين إلزاميين، وبما إن الإصلاح  يدار من ضفة الحرب ويبدو في سياقها، فإن قدرة المشروع الأميركي على الاحتفاظ باندفاعته لفترة كافية مرهون بالقدرة على إيجاد مسارح عمليات جديدة، وبإيجاد مزيد من الأنقاض، كي تتولى مهمة إزالتها فيما بعد، مع أن الولايات المتحدة تبدو عاجزة في المدى المنظور عن استئناف عملياتها الكبرى.


 مقالات: عسكرة العولمة والنظام الإقليمي

مقالات: عسكرة العولمة والنظام الإقليمي

إصدار 2003-07-11

لم يوفر سيل التحليلات التي قاربت الحرب الأميركية على العراق، فضلاً عن الحرب على أفغانستان، أو التي حاولت أن تفسر الإستراتيجيات الأميركية بعد 11 أيلول، إستعراض ما لا يكاد يحصر من الأهداف الأميركية والأفكار والمفاهيم والأدوات التي جعلت بفضل وضوحها وتكرار مضامينها، كل مقاربة، بعد ذلك، وبصورة مسبقة أمام تحدي أن تقول جديداً، وأن تخرج بإجهاد من أن توسم بالملل والرتابة...

 مقالات: المقاومة والسلطة والمجتمع: قراءة في إشكالية الوحدة الوطنية دروس مستفادة من تجربة المقاومة الإسلامية

مقالات: المقاومة والسلطة والمجتمع: قراءة في إشكالية الوحدة الوطنية دروس مستفادة من تجربة المقاومة الإسلامية

إصدار 2003-05-22

تفترض هذه المحاولة أن قراءة تجربة المقاومة الإسلامية، في حال نمذجة التجربة من خلال انتزاع المفاهيم من سياقها العملي والسعي إلى تقعيدها في إطار بنية نظرية مقننة، سيكون ذا فائدة جوهرية، ليس فقط في إطار توثيق وإدراج التجربة في علم اجتماع السياسة، بل أيضاً، بغية الإسهام في تطوير التفكير الاستراتيجي العربي، وبناء صدقية الفكر الثوري في زمن يخيّل أنه غير مؤاتٍ لهذه الأشكال من الأفكار. فالمراكمة في التجربة لا تغني عن المراكمة في الفكر، وكلاهما يُعدَّان شرطاً لا بدّ منه للتطور.
وإذا كانت ولادة المقاومة بدت في لحظاتها الأولى وكأنها ظاهرة مفارقة وخارج هيمنة المنحى السياسي والاجتماعي السائد، فإن ذلك يجعل من الشرط السياسي – الاجتماعي عامل تفسير لولادة الظاهرة لكنه بالتأكيد ليس عامل إنتاج لها إلا أن استمرار المقاومة وتصاعدها وانتصارها لاحقاً، يبدو على نقيض الولادة، وثيق الصلة بتطور الشروط السياسية والاجتماعية، ويشكِّل هذا مصدر غنى للتحليل السياسي التاريخي بمعناه الأكثر عمقاً. وفي هذا الاتجاه يمكن القول: إن البحث في تطور مسار المقاومة، سيكون ملازماً بالقدر نفسه، مع تطور مسار الوحدة الوطنية، بعداً تفسيرياً ثرياً لمسار تنامي المقاومة نفسها.
والعلاقة بين المقاومة والوحدة الوطنية، لا  يجد معناه خارج البحث في العلاقة بين المقاومة والسلطة من ناحية، والمقاومة والمجتمع من ناحية ثانية.
أما الوحدة الوطنية فلا تعني بالضرورة إجماعاً مقفلاً على قضية من القضايا، حيث يندر في زمننا هذا أن نقع على إجماع بهذا المعنى. بل أن تعبير بعض المواقع والاتجاهات عن وجهة نظر مغايرة، لا يمس بوجود الوحدة الوطنية، خاصة في حال اجتماع الاتجاهات الأساسية على القضية الوطنية.
بيد أن ما يبدو شرطاً لهذه الوحدة هو اندراج السلطة في إطارها، فالموقف المغاير للسلطة، في حال حصوله، سيكون مولّداً لانقسامات حادة نظراً لفاعلية السلطة (أي سلطة) في منح المشروعية أو إضعافها، وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً في المجتمعات العربية، نظراً لغياب مجتمع مدني فاعل، ولقدرة السلطة على بناء فاعليتها بمعزل عن الدور الشعبي.
في الواقع مرت علاقة السلطة بالمقاومة في ثلاث مراحل:
-    المرحلة الأولى (الثمانينات)، حيث كان موقف السلطة موقفاً رافضاً للمقاومة في مناخ الانقسام الداخلي والحرب الأهلية واختلاف التحالفات، إذ أن خيار السلطة فعلياً كان خارج ما ترمي إليه المقاومة، وإذا أردنا أن نحدد هذا الموقف بدقة، فقد كان يتراوح ما بين رفض لها كخيار استراتيجي من ناحية، واستخفاف بها وعدم إيمان بجدواها من ناحية ثانية.
-    المرحلة الثانية: وهي مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، حيث جرى تحول استراتيجي في الخيارات السياسية للسلطة، وقد انعكس ذلك على الموقف من المقاومة، إذ جرى الاعتراف بها سياسياً من قبل السلطة، إلا أن السلطة حاولت أن تترجم موقفها هذا من خلال السعي إلى المس باستقلالية المقاومة ومحاولة إدراجها تحت وصايتها تحت شعار ضرورة أن تنسجم حركة المقاومة الميدانية مع حسابات السلطة وتقديراتها، خاصة وإن السلطة كانت قد اندرجت في عملية التسوية وفق مبادئ مؤتمر مدريد.
ويشكّل تفاهم تموز التعبير السياسي عن تطور هذه العلاقة بين المقاومة والسلطة. إذ أن سياق المفاوضات التي جرت كشف عن تطور معادلة سياسية تقوم على موقع مشترك للسلطة والمقاومة مدعوماً من سوريا وإيران في مواجهة إسرائيل وأميركا.
-    المرحلة الثالثة: ويشكّل تفاهم نيسان تعبيرها الأبرز، حيث دخلت علاقة السلطة بالمقاومة مرحلة من الاستقرار والتفاهم.
إذ أن السلطة غدت تتعاطى مع المقاومة كخيار استراتيجي ليس فقط في مواجهة التهديدات الإسرائيلية إنما أيضاً في بناء موقعها السياسي في التوازنات الإقليمية وتدعيم علاقاتها الاستراتيجية مع سوريا.
وقد تطورت هذه العلاقة تطوراً مثيراً بلغ حداً من التماهي والانسجام مع تسلّم الرئيس لحود سدة الرئاسة.
في موازاة ذلك ثمة مستوى آخر من العلاقة، كان يأخذ مساراً تطورياً بدوره، هو مستوى العلاقة بين المقاومة والمجتمع اللبناني... الذي يحوي تنويعاً سياسياً معقداً ومتنافراً. بيد أن الملاحظة الأساسية، التي تزخر بدلالات كاشفة لآليات تشكل الوحدة الوطنية، هي أن ثمة تساوقاً أو تواؤماً بين المسارين: مسار العلاقة مع السلطة ومسار العلاقة مع المجتمع، إذ أن اضطراد العلاقة بينهما كان واضحاً وجلياً. وبالتالي فإن المحطتين الأساسيتين اللتين يحسن على أساسهما تحقيب التحولات في العلاقة مع الاتجاهات السياسية والاجتماعية الأبعد، هما بالضبط تفاهم تموز الذي ظهر حالة الإجماع الوطني رغم احتوائها على بعض الشوائب، إلا أن تفاهم نيسان كرّس وأزال نواحي الاضطراب فيها، لتستقر قضية مقاومة الاحتلال كقضية وطنية إجماعية تلتقي حولها مختلف اتجاهات الواقع السياسي والطائفي اللبناني رغم انقساماتها وتصارعها.
لقد كشف ذلك عما هو معروف في بنية الواقع السياسي العربي، حيث أن السلطة قادرة على تعميق التصدعات السياسية والاجتماعية، أو رأبها والتخفيف منها، بالاستناد إلى قدرتها الفائقة في إعاقة النهوض المجتمعي – السياسي أو إطلاقه وتحفيزه. وسيكون ذلك مبرراً ومفهوماً في ظل عدم فاعلية المجتمع المدني العربي.
بيد أن الكشف عن ديناميات تشكّل الوحدة الوطنية من حيث صلتها بالمقاومة يستدعي أيضاً استحضار محطات أخرى، من شأنها أن تلقي الضوء على سياقات ذات دلالة في بناء العلاقة بين المجتمع والمقاومة. ففي هذا الاتجاه، شكّل استشهاد الأمين العام السابق لحزب الله السيد عباس الموسوي، محطة فاصلة، في استقطاب مناخ سياسي وإجتماعي عارم مع المقاومة، طاول الشرائح والفئات السياسية والطائفية التي كانت لا تزال تقيم قطيعة مع المقاومة، أو التي كانت لا تزال تبني مواقفها على قاعدة من الحذر والارتياب منها. لقد دلّ ذلك على القيمة الراسخة لحقيقة تنامي مصداقية المقاومة من حيث صلتها بالقدرة على الاستقطاب السياسي والاجتماعي. وكان ذلك مقروناً على نحو متلازم مع تنامي فاعلية هذه المقاومة في إظهار القدرة على تحقيق إنتصارات ميدانية جوهرية على العدو، وعلى تبيان حجم المردود السياسي لهذه الفاعلية على موقع لبنان في مواجهة الاستحقاقات الإقليمية المختلفة. إذن إن ما يمكن أن نطلق عليه بأنه المصداقية الذاتية للمقاومة، والفاعلية الميدانية والسياسية في خدمة المصالح الوطنية، شكلا عاملين، ما كان ممكناً تجاوزهما، في صياغة الاستقطاب السياسي والاجتماعي المشار إليه، وتوفيرهما لقاعدة معطيات موضوعية دفعت الواقع المجتمعي والسياسي باتجاه التحول الحتمي.
إن استقرار العلاقة السياسية والميدانية بين السلطة والمقاومة يشكّل تطوراً نوعياً في مستوى الصراع ضد العدو، وهو يشكف عن لحظة تكثيف في فاعليات المواجهة ودخولها مرحلة التأثير الحاسم في مسار الصراع، وقد يصح إعتبار ذلك بمثابة تدشين لمرحلة انكفاء العدو، إذ أن ذلك من وجهة أخرى، يعني إنتاجاً للشرط السياسي للانتصار. بعد أن كانت المقاومة قد أنتجت عبر مسارها السابق، الشرط العسكري لهذا الانتصار، ومن خلال إئتلاف الشرطين، تتشكل البنية المزدوجة ذاتياً وموضوعياً للانتصار.
إن ذلك يعني أن المرحلة الإشكالية في العلاقة بين السلطة والمقاومة، لن تكون قادرة على توفير البنية القابلة للانتصار... وفي هذه المرحلة، ثمة تحديات مريعة، تفرض على المقاومة امتحانها الأخطر. إذ أن تضارب الخيارات الاستراتيجية بين السلطة والمقاومة، يشكّل نقطة حاسمة في رسم الخيارات المستقبلية للمقاومة، خاصة وأن السلطة لا تترك للمقاومة حرية الإمعان في استراتيجية المقاومة، مستندة إلى منطق السلطة التلقائي النازع إلى الهيمنة والسعي إلى ضبط الإيقاعات وفقاً لحساباتها والتزاماتها...
ففي الاعتداد السلطوي بالذات الذي يقوم على احتكار المشروعية ونزعها عن أي وجود سياسي مناوئ، تكون المقاومة قد حشرت في زاوية الخيارات الصعبة التي تقتضي أعلى مستويات المسؤولية والدقة والتي تفرض اتخاذ خيارات تاريخية ذات تأثير حاسم في الوجهة المستقبلية للقضية...
وهكذا تتحدد خيارات المقاومة، ما بين التصادم مع السلطة أو الخضوع لسياساتها والانضواء في استراتيجيتها، أو اللجوء إلى إشكال ٍ معقدة وغير مريحة من المهادنة والتعايش والهروب من الصراع... ومن بين هذه الخيارات، سيكون كارثياً بكل المعايير اللجوء إلى الخيارين الأولين: خيار التصادم مع السلطة التي تستحيل أن تكون نتيجته لصالح المقاومة، إذ أن التصادم يقدِّم الفرصة المثلى للسلطة كي تنقض على المقاومة مستفيدة من شرعيتها المفترضة ومن شبكة تحالفاتها التي تساعدها على قلب الحقائق أو تشويهها، لذلك إن التصادم مع السلطة في حالة المقاومة (وليس في حالة التغيير السياسي الداخلي) لن يكون، وعلى الدوام، في صالح المقاومة، وهذه حقيقية سوسيو – سياسية يدب أن لا يتم إغفالها أو الاستخفاف بها.

 

 مقالات: الرأسمالية الإحتكارية ومجتمعات الأطراف في لبنان: إنحلال تسوية ما بعد الحرب

مقالات: الرأسمالية الإحتكارية ومجتمعات الأطراف في لبنان: إنحلال تسوية ما بعد الحرب

تعتمد الرأسمالية الإحتكارية في لبنان، تحالفات غير مستقرة حالياً، بينما تستمد حيوياتها ومشروعياتها من الخزين الإجتماعي، الطائفي والمناطقي والطبقي، لكن ذلك لا يعني أنها لن تنقلب على مصالحه في لحظة ما، أي عندما يصبح التباين مثقلاً بتفاوتات حادة، وتغدو التسويات المؤقتة مستحيلة بين كتل اجتماعية يزداد تباعدها يوماً بعد يوم. على هذا النحو، يكرر النموذج اللبناني المتفرع عنها نجاحاته المفارقة، وينجو معها من محاولات إصلاحية تعكر انسيابه المتواصل، ولا زالت المبادئ نفسها التي مهدت له قبل أكثر من نصف قرن، تطبع بقوة الهندسة الإقتصادية الراهنة، وتعيد إنتاج الوقائع، بما يتيح لها الصدارة في سباقات الإجتماع اللبناني الكثيرة.

 مقالات: الحرية واشكالية المفهوم والتطبيق

مقالات: الحرية واشكالية المفهوم والتطبيق

إصدار 2000-04-24

الحرية مفهوم يجد مصاديقه في عالم الكون والفساد، كما في عالم الثبات والديمومة حيث الحرية تعني الوجود. والحرية هي الفكرة التي تسعى للتجوهر في عالم الأشياء حتى تجد المكان والزمان الملائمين لحركتها، بما ينسجم مع طبيعتها ووجودها. والحرية متحققة بأزهى صورها في عالم الثبات والديمومة، وهي تسعى للتحقق في عالم الكون والفساد، بما تتمثله من "حرية موضوعية" في عالم الثبات والديمومة، إذن، الحرية هي صيرورة الفكرة لتنتظم في عالم الأفكار التي تحوز التجرد والإطلاق والكمال. وبما أن الإنسان هو حامل ومحمول لهذه الفكرة - وهو المنتمي إلى عالم الكون والفساد - فإن فكرة ومفهوم الحرية سيبقى شعارً له صفة الديمومة كفكرة وصفة النقص والنسبية كموضعة .

 

 مقالات: حزب الله ودوره في تجديد مفهوم السياسة

مقالات: حزب الله ودوره في تجديد مفهوم السياسة

إصدار 1999-10-18

تسلك السياسة في المجال العربي الإسلامي مسلكاً متفاوتاً، وهي لا تفتأ تنبني على إشكاليات مستديمة وقضايا متقادمة لم تعصف بها السنون: الصراع/التسوية/التخلف/ التنمية/ المجتمع المدني/ الدولة...
وإذ لا تزال الأنظمة بصورة عامة تقتات على مشروعيات قامت وتأسست عليها من غير قادرة على التجديد تارة وعلى على تقديم حلول لما قامت من أجله تارة أخرى: فالصراع مع إسرائيل تعثر وانقلت سعياً حثيثاً "للسلام" والتنمية الشاملة باتت حلقة مفرغة في ظل ركون أو تراجع معظم مؤشراتها. أما المجتمع المدني وهو المقولة المحببة للقوى الأهلية، فقد بات من غير معنى في ظل انسداد مطبق للأفق أمام أي تحولات ديمقراطية وتحديث فعلي لأليات ممارسة السياسة وتجديد الطبقة السياسية، ما يحول دون خروج المجتمع القاعدي من سكونه القهري إلى حيّز الفاعلية والتأثير، ويبدو هذا المجتمع حائراً في مصيره الذي لا يحسد عليه، فإن هو أذعن للوقائع القائمة وانطوى في آلياتها السلمية، انتهى إلى الإحساس بالعجز والتهميش، وإن انتفض خارجاً عن المألوف ونازعاً إلى آليات التغيير الثوري، اتهم بالعنف والإرهاب، وجرى الانقضاض عليه بحجج لا تحتاج إلى برهان. ثمة مأزق عميق في هذا الواقع العربي البائس، يطبق على أنفاسه، وهو يستولد كآبة سياسية عارمة، ليس صعباً التقاط معالمها ودلالاتها، لا في السياسات وحدها، بل في الأدب والشعر والكتابة الصحفية والمسرح والفن.
إزاء ذلك، يحتشد سيل من الأسئلة يبدأ ولا ينتهي، وغالباًما يبقى بدون أجوبة، أو ينزلق في عملية ممجوجة لتكرار ما درجت عليه الحال: إعادة استحضار الاشكاليات ذاتها والحلول ذاتها وفق سيرة مملة، غاية ما تؤديه هو استفزاز أولئك المكتئبين الذين ينتظرون حلاً لا يجدون إليه سبيلاً.
في هذا العقد الأخير من السنين، نالت الديمقراطية قسطاً كبيراً من الاهتمامات السياسية والأكاديمية، وبدت الديمقراطية وكأنها الوصفة السحرية العتيدة، أو الرحم القادر على إنجاب الخلاص المنتظر، ورغم الأهمية القصوى التي يختزنها هذا الاتجاه، إلا أن الواقع يبدو أعقد من ذلك، ومشاكله أكثر كثافة وامتداداً....
وإذا ما قاربنا واقع القوى العربية الراهنة، من زاوية وظائف هذه القوى وما تقضي إليه إسهاماتها العملية، أي البدء من مقاصدها وانتهاء بالمضمون الفكري والسياسي لمشاريعها، سنقع على تصنيف مختلف، يعيد خلط الفرز التقليدي لهذه القوى، إن ذلك يسمح لنا بالتقاط المنطق الداخلي للفكر والبنية الضمنية للتنظيم وهو ما يؤسس جوهر الدور دون الانخداع بمظاهره أو ادعاءاته.
ويسود الآن في المشهد السياسي الأهلي الراهن اتجاهان عريضان:
اتجاه الأدلجة الذي يقارب التحديات الراهنة ويشيد برامجه ويصيغ شعاراته وفقاً لتعميمات أيديولوجيه وعناوين فضفاضة ومنظومات جاهزة من المفاهيم والمقولات أن الأدلجة هي تكثيف للأيديولودجيه ومبالغة فيها، وهي تختلف عن الالتزام الأيديولوجي، هي أدلجة عمائية تقوم على الغربة والقطيعة، الواقع هنا في الأغلب هو حقيقة مغفلة، ومساحة النظر إليه محكومة بزاويتين اختلاليتين ومتناقضتين في آن، الواقع، مرة هو مكان فقط، أما الزمن فهو زمن الأيديولوجيا، ومرة أخرى وعلى نحو مفارق هو واقع شديد الوطأة، عدائي وتآمري وفاسد برمته، إن ذلك يحول فعلاً دون القدرة على الإحاطة بتعقيدات الواقع وفهمه فهماً علمياً عميقاً وإنتاج الوعي اللازم لتجاوز هاتيك التحديات والتعقيدات، ويندرج في ثنايا هذا الاتجاه إسلاميون وعلمانيون على السواء، الأمر الذي يعطي لمأزق هذا الاتجاه طابعاً بنيوياً. يتشكّل الكثير من عناصره بالاستناد إلى قاع رؤيوي مشترك وبنية منطقية متشابهة، بيد أن التشابه في المحددات ينتج ها هنا افتراقاً في التجليات، أي في البناءات العليا لكنه في حقيقته افتراق شكلي لا يغيّب التشابه الجوهري، وتبدو بعض السلفيات بوجهيها الديني والعلماني أبرز تجليات هذا الاتجاه، حيث الأدوات المفهومية تلعب وظيفة صراعية في كل اتجاه، وحيث توثين الذات نافٍ لكل ما عداها، والخلاص المرجو هنا هنا خلاص ذاتي وليس خلاص الواقع أو الأمة. إن قوام الذات السلفية الدينية كما السلفية العلمانية قوام سلبي غير إيجابي عاجز عن التفاعل والتكامل والتواصل.
الاتجاه الثاني: هو اتجاه اللبرلة النافي للأيديولوجية، اتجاه غلبة التفاصيل على المناحي، وهيمنة المعيوش على الأنسقة، وإقصاء القضية والالتزام لصالح الواقع والذرائع، ويقدِّم هذا الاتجاه نفسه كبديل لفشل الأيديولوجيات العربية في اكتساب معاركها في العقود الماضية، وكامتداد نظري لما يجري تسميته بنجاح النموذج الليبرالي على المستوى العالمي.
هذا الاتجاه ينتظر اختلال موازين القوى القائمة، لما سيترتب عنها من نتائج ستشكّل المنهل العلمي لمنطقه، إن التعثر والفشل والهزائم هي الإطار الواقعي لتسويغ اللبرلة، ويغدو من وجهة نظر هذا الاتجاه كل انتصار هو مؤقت وعابر ومرحلي، وكل مكمن من مكامن القوة ذو قيمة تكتيكية وقليل الفاعلية أمام الثقل الاستراتيجي للآخر وسياساته وإمكاناته، ولا يخفى أن لليبرالية جاذبيتها الطبيعية، حيث تبلغ المسؤولية أدنى درجاتها. والتكيف هو الأداة المفهومية والعملية المثلى في مقاربة الوقائع، وأن منظومات القيم والثوابت تبدو خفيفة وقابلة للتبدل المستمر أما ثقل الواقع ووطأته التي لا ترحم. هكذا ينتج تزاوج الليبرالية مع الراهن العربي بخصوصياته وقضاياه وإشكالياته، دينامياته الخاصة، وهي ديناميات تصب في ناحيتين متناقضتين لكن متكاملتين. ناحية تعبّر عن نفسها "إيجاباً" بنزعة نقدية جارمة، لا هوادة فيها، تقوم على مزيج معقّد من السخط والتشكيك والتبرير في قالب عقلي بارد. وناحية أخرى تعبّر عن نفسها سلباً بنزعة من عدم الاكتراث والتواري والانتظار وربما التعالي الذي يقدّم نفسه على صيغة انسحاب فوقي ونخبوي.
إن هذا الاتجاه الليبرالي العربي أكثر ما يتجلى راهناً في الأوساط الفكرية والأكاديمية والصحافية ولدى النخب التي تحترف الثقافة، ولدى رموز واتجاهات تشغل مواقع سياسية وإدارية داخل الأنظمة ومؤسساتها.
بين هذين الاتجاهين، ثمة ظواهر مشرقة في المجال السياسي العربي الراهن، وهي بمثابة تجارب تشق طريقها الخاص رغم طوق الوعي المأزوم الذي يضغط من كل ناحية والذي تستولده فعاليات اتجاهي الأدلجة السلفية من ناحية واللبرلة من ناحية ثانية.
وبعض هذه التجارب يخترق فعلاً مناخات الكآبة السياسية التي أشرنا إليها سابقاً، ليمارس ترميماً للأحلام المكسورة، وصنع نموذج واعد، دون الذهاب حتماً حد الجزم باكتمال هذه التجارب والقول بعصمتها.
إن هذه القراءة، تزعم أن حزب الله هو ظاهرة بارزة، ونموذج يمتلك الكثير من مميزات الفرادة وعناصر النجاح في المجال السياسي العربي، وبالتحديد كقوة أهلية حية وشديدة الديناميكية، وإذا ما قصرنا السؤال على الإطار الأهلي وحيدنا دور الأنظمة، فقد لا نقع على قوة أو حزب في العالم العربي يمتلك المستوى نفسه من الفاعلية السياسية والامتداد الشعبي والدور الاستراتيجي الذي يتخطى الإطار الوطني لمساحة حركته الجغرافية.
وحيث إن حزب الله أكثر ما اشتهر بدوره العسكري في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فإن ذلك حال بصورة غير مباشرة، دون قراءة كلية لتجربته تسمح برسم إسهام هذا الحزب في إدخال مجموعة من الرؤى والمفاهيم والممارسات في المجال السياسي الأهلي العربي الإسلامي، وهذه القراءة الكلية، لا تستند إلى الحضور النصوصي، ولا إلى تميز الخطاب وحدهما، بقدر ما تستند إلى مصداقية التموضع الحي في بنية الوعي العربي الإسلامي المعاصر في مواجهة التحديات المعاصرة وعلى رأسها تحدي الاحتلال الصهيوني. إن هذه المصداقية هي حصيلة غزيرة الاحتواء على مجموعة من الإنجازات الجهادية الفذة والممارسات السياسية المتكيّفة والمفاهيم والمقولات الصلبة.
لقد بدا هذا الحزب الذي يجري عادة تمييزه أصولياً بامتياز، ممتلكاً لأيديولوجية شمولية واستراتيجيات شديدة الطموح وقابضاً على طرف القضية الأعقد في المنطقة وهي قضية الصراع مع إسرائيل، بيد أن ذلك لم يحل دون انغماسه بكل متطلبات العمل الشعبي ميدانياً ومؤسساتياً، ولم يحل كذلك دون انصرافه إلى السياسة اليومية المعيوشة التي تقوم على رؤى تفصيلية وسياقات إنمائية وخدماتية. إن ذلك أفضى إلى إرساء معادلة خصبة حوّلت التناقض العملي بين ضرورات الأيديولوجية وضرورات الواقع إلى تكامل وظيفي. فغدت الأيديولوجية كنسق تعبوي وتغييري ركيزة الاستقرار الفكري والصلابة البسيكولوجية لمشروع كثير الاستهدافات والتحديات والمخاطر. وغدا الاشتباك بالوقائع المتغيرة والانشغال بمنطقها مدخلاً لواقعية سياسية حية وإنسانية ولّدت نموذجها الخاص من العقلانية التغييرية وليس العقلانية الإذعانية. وبالمحصلة انبنت مرتكزات الفكر والممارسة لدى حزب الله على بعدين متداخلين:
بُعد ديني (ولاية الفقيه، التكليف الشرعي، الأحكام، ... إلخ).
وبُعد عملي (خدمة الأمة ومصالح الناس وصون قضاياها... إلخ).
وقد شكّل البعد الثاني امتداداً للبُعد الأول في عملية مدمجة، لم تقم على الفصل ولا التعارض، إنما على التماهي والتطابق.
وبهذا أفلت حزب الله خارج المأزق التاريخي لكثير من الأصوليات الإسلامية (مع تحفظنا على تسمية أصوليات). التي غالباً ما تفضي مشروعاتها في لحظة من لحظات تطورها التاريخي إلى التصادم بين مصالح الأيديولوجية (أو مصالح الحزب والجماعة) من ناحية، ومصالح الأمة أو المجتمع من ناحية ثانية. وبهذا يتولد، لا محالة، الانكسار أو التعثّر أو الفتن المفتوحة على تغريم مستمر للمجتمع بكل فئاته. وفي مراحل متقدمة يستولد جحورية سياسية (من جحر) قائمة على التواري والعدائية وتهميش الذات وبناء عالم منعزل.
تطبيقياً، ورغم الخصوصية الشيعية الأيديولوجية لحزب الله، وهي ما لا يخفيه الحزب، إلا أن مشروعاته الجهادية والسياسية، اتصلت اتصالاً وثيقاً بما يتجاوز هذه الخصوصية في اتجاهات وطنية وعربية وإسلامية، بل هي للدفة والأمانة أقرب إلى هذه منها إلى ضرورات الخصوصية الشيعية، فالمقاومة وطنياً هي مشروع تحريري بامتياز، وعربياً وإسلامياً هي مشروع استنهاض، وفي هذا الاتجاه تندرج شعاراتها ومقولاتها المركزية التي تتعلق بالقدس وفلسطين والوحدة الإسلامية.
إن النجاح الفائق لحزب الله لا يكمن فقط في الإنجازات العسكرية الباهرة للمقاومة، وإنما أيضاً في تقديمه للمقاومة كمشروع توحيدي شامل، لقد نجحت المقاومة الإسلامية في إدراج عميق وإيجابي للكتلة الشيعية في التكوين الثقافي النفسي للأمة كأسرة الاستغناء الأكثري السني والانقباض الأقلوي الشيعي، وهي حققت في ذلك ما لم تتمكن من تحقيقه جهود جبّارة ومتراكمة فقهية وعلمية وسياسية قامت بها مرجعيات وشخصيات دينية وجمعيات تقريب بين المذاهب والأفكار على مدى عقود بعيدة من السنين.
أما لبنانياً، فقد تمكّن الحزب بعد مكابدة لسنين، أن يُخرج المقاومة من الإطار الإشكالي للانقسام الطوائفي والسياسي اللبناني، وبدل أن يخضع الانقسام اللبناني المقاومة لمنطقه ويدرجها في حساباته، اخترقته هي بمنطقها التوحيدي لتسهم بفاعلية في إضافة ركيزة من ركائز التوافق اللبناني اللبناني التي تكاد تكون معدومة، بيد أن الأهم في هذا السياق هو نأي الحزب بالمقاومة أن تكون أداة للاستثمار السياسي، أو وسيلة صراع على السلطة والحضور في مؤسساتها، فالمقاومة وسيلة تحرير كما هي أداة للتكليف الشرعي، بعيداً عن نقاط الاشتباك الحادة، حيث مسرح الصراع على السلطة، بؤرة الانقسام السياسي ومصهر توالد الاضطراب المجتمعي، وبهذا اتسم مشروع المقاومة بنقاء سياسي وطهرانية اجتماعية لا مثيل لهما في واقعنا العربي. إننا هنا أمام قيم تأسيسية مرجعية تعيد تشكيل مفهوم السياسة، السياسة هنا تتحرر من لعبة الاستهداف المباشر للسلطة. أو للتنافس الحزبي المحموم، لتتشكّل على أرضية مصلحية واجتماعية عامة، ولا يعني هذا بطبيعة الحال، شرعنة للتزهيد بالسلطة، إنما إنزالاً لقوام السياسة في غير منزلها التقليدي. إنها السياسة التي تقيم وجهتها على أساس ديني مجتمعي والتي قد تصيب نتائج في غير اتجاه، إلا أن ذلك لا يغير من جوهر هذا القوام الذي يشاد على الدوافع أكثر مما يعني بالنتائج، بتعبير إضافي إن مفهوم السياسة هذا ينشد مراميه في الأمة أكثر مما ينشدها في المكتسبات السياسية المباشرة.
لقد جعل حزب الله الصراع مع إسرائيل بمثابة أيديولوجية سياسية بنى على أساسها تحالفاته وافتراقاته. وتجاوز بذلك كونها بنداً في البرنامج السياسي العربي العام. إنها تحدٍ تاريخي يجب أن يواجه بأدوات تاريخية، وكتلة تاريخية تهضم في إطارها تنويعاً وسيعاً من الاتجاهات الفكرية والسياسية، وبهذا إن الصراع مع إسرائيل سيمتص التناقضات العربية العربية ويوظفها في اتجاه توافقي وخارجي.
إن حزب الله لم يقتصر في مواجهته للتحديات على تجديد المفاهيم وتحولات الأفكار التي تؤسس معنى مختلفاً للسياسة، وإنما استكمل ذلك بفكر تنظيمي بدا كترجمة مباشرة لتلك التحولات وتعبيراً أميناً عنها. ولا يخفى مدى أهمية الاتساق الضروري بين رؤية الواقع والمفاهيم التغييرية والأدوات التنفيذية، وأهمية اندراجها مجتمعة في بنية منسجمة ومتوافقة منهجياً.
من هنا تشكّلت البنية التنظيمية لحزب الله عبر مسار تطوري، استقر على نحو مازج وتكاملي بين قيادة الفرد وقيادة المؤسسة، فقياد الفرد تؤدي دوراً تعبوياً وثورياً واستنهاضياً، تستجيب لطبيعة التحديات الخطيرة والدقيقة التي تتعلق بالسيادة والتحرير والاستهدافات الخارجية، وهذا ما لا تستطيعه قيادة المؤسسة لأنها تظل عاجزة عن التحول إلى رمز، علماً أن القائد الرمز هو من الضرورات الماسة لمجتمعاتنا بتركيبتها الاجتماعية الخاصة، وهو أكثر انسجاماً مع بنية الوعي السائدة في هذه المجتمعات خاصة وأنها لا تزال ذات طبيعة غير مستقرة وتعيش مخاضات المواجهة مع تحديات خارجية.
أما قيادة المؤسسة، فضرورتها تكمن أساساً في القيام أعباء الجوانب البنائية والتنموية الشاملة التي يحتاجها الإطار التنظيمي في مواجهة التحديات المجتمعية والإشكاليات المدنية والحضارية، إلى ذلك يمسي التآلف والتوازن بين قيادة الفرد وقيادة المؤسسة مرتكزاً ضرورياً وحيوياً لشمولية المشروع السياسي وضخ البناء التنظيمي بمقوّمات الاستقرار والفاعلية واستيفاء الأبعاد الثورية والبنائية على حد سواء.

 مقالات: ولاية الفقيه: محورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي .. السياق التاريخي والتحديات الراهنة

مقالات: ولاية الفقيه: محورية الاستقرار والتوازن في الاجتماع السياسي .. السياق التاريخي والتحديات الراهنة

إصدار 1999-10-18

أية أهمية تفرضها أطروحة ولاية الفقيه التي عالجها الإمام الخميني المقدس بإحكام، وشكلت ركيزة فكره السياسي والفقهي، والإطار الشرعي لبناء الدولة الإسلامية المعاصرة؟ وبمزيد من الدقة ما هو دور هذه الأطروحة في الاجتماع السياسي الشيعي التاريخي والمعاصر، وأين يتعيّن موقعها بالضبط؟ 
ربما تكمن مشروعية السؤال في الإحساس أولاً وقبل أي شيء آخر بالواجب تجاه فكر الأمام الخميني في ضوء التحديات المعاصرة، ما يدفعنا إلى القول أن "ولاية الفقيه" كرؤية ودور تستوجب منا أكثر من مشاعر الولاء فقط، إلى التنظير لكل أبعاد الأطروحة سياسياً واجتماعياً، وعدم الاقتصار على المعالجات الفقهية التي وسمت بطبيعتها كل النقاشات على مدى السنوات الماضية. إلى ذلك أرى ثمة خللاً عميقاً تقع فيه تلك الإسهامات التي تقيم مقارنات بين أطروحة ولاية الفقيه وأطروحات ونظريات أو تجارب دستورية أخرى تنتسب إلى أنسقة حضارية وفكرية مغايرة. فهذه المحاولات غالباً ما تقع في إشكالات منهجية تفضي إلى تشويه المضمون الفكري والسياق التاريخي الفقهي لرؤية ولاية الفقيه، ذلك أن الإحاطة العميقة بالاجتماع السياسي الشيعي تاريخياً، وتتبع التطور الفقهي الشيعي، يبيّنان بوضوح شديد أن الجذر العقائدي والفقهي لولاية الفقيه هو الإمامة نفسها. وإن الإشكاليات التي استهدفت أطروحة الولاية معالجتها قد نشأت بفعل تشوهات لحقت بالفقه الشيعي في نظرته للسلطة في مرحلة الغيبة الكبرى للإمام الحجة (عج).
فمنذ العام 329 هـ . تاريخ بداية الغيبة الكبرى للإمام الحجة محمد بن الحسن المهدي (عج). واجه الفقهاء الشيعة سؤال السلطة في ظل تجربة جديدة وتحديات بالغة الخطورة، وقد جاءت الإجابات الاجتهادية رغم تفاوتها لتندرج في إطار نزع الشرعية عن أية سلطة في غيبة الإمام، لقد كان هذا بديهياً وطبيعياً في مواجهة "سلطة الوقت" أو السلطة الظالمة، لكنه لم يكن مفهوماً عندما أخذ منحى إطلاقياً، قاطعاً الطريق على أي سعي لإقامة سلطة شرعية بديلة، ورغم قيام بعض الدول الشيعية كالدولة البويهية (الزيدية) في القرن الرابع الهجري أو الدولة الفاطمية (الإسماعيلية) في مصر والتي استمرت لأكثر من قرنين (296هـ – 527 هـ )، أو قيام الدولة التي أسسها ناصر الاطروش في شمالي إيران لناحية طبرستان، أو دولة السادة المرعشيين في مازندران، وظهور ممالك شيعية كما حصل مع الملك المغولي "خدا بنده"، وسلاطين اقاقوينلو، إلا أن كل ذلك لم يكن مقترناً مع تغير جوهري بالموقف الفقهي الشيعي، حيث ظل يقوم على نفي تأصيل شرعية أي نظام سياسي في ظل غيبة الإمام، لقد تطور الفقه السياسي، الذي يعالج إشكاليات العلاقة مع السلطان الجائر، حيث تراكم إرث فقهي بات أكثر إدراكاً للضرورات السياسية التي يفرضها ضغط المصالح الشيعية وحماية الكتلة الشيعية المضطهدة، وظل هذا التطور محكوماً بتفاوتات حادة في صياغة القواعد الشرعية، ويكفي أن نجري مقارنة بين تجربة الشيخ المفيد ( 338-413هـ، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، والمقنعة). وتجربة الشريف المرتضى(355-435هـ، رسالته في العمل مع السلطان)، وتجربة محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة(385هـ – 460هـ، الغيبة، الشافي، والمبسوط)، من ناحية وتجربة السيد ابن طاووس (644هـ ) الذي كان يعتبر أن السلطة هي السم النقاع والذي أقام قطيعة حادة مع السلطة رغم قبوله نقابة الطالبين في عهد هولاكو من ناحية ثانية، كي يتبين لنا، مدى اتساع زاوية الافتراق في الاجتهادات الفقهية الشيعية تجاه السلطة، إلا أن ذلك لم يحل دون ارتكازها كلها إلى حصر شرعية السلطة بالإمام الغائب (عج) ونزعها عن أي سلطة أخرى. لقد كانت الاختلافات الفقهية تقوم على حصر صلاحيات الفقيه في نيابته عن الأمام المعصوم (ع)، في القضاء تارة أو في القضاء والإفتاء تارة أخرى، ومنهم من توسع في الصلاحيات باتجاه جواز إقامة الجمعة وإجراء الحدود.
إلا أنه وعلى مدى تلك القرون لم يبرز من ذهب بصلاحيات الفقيه إلى الدائرة الثالثة الأكثر دقة وخطورة وهي ولاية الأمر أو الحكم أي السلطة بما تفرضه من ولاية شاملة على الأموال والأنفس. 
لقد تشكلت النقلة النوعية الأولى، مع عالم كبير هو نور الدين علي بن عبد العالي الكركي(870هـ – 940 هـ ) ومع معاصره زين الدين ابن علي العاملي الجبعي (911هـ – 965هـ ) المعروف بالشهيد الأول، وقد قال كلاهما بالولاية العامة للفقيه في نيابته عن الإمام المعصوم (ع) . حيث حدد الكركي "أن الفقيه العدل الأمامي الجامع لشرائط الفتوى، والمعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه من مدخل" (جامع المقاصد في شرح القواعد، كتاب الصلاة) ، ولم يكتفي المحقق الكركي بذلك بل باشر فعلياً ولاية إشرافية على السلطة الصفوية أيام الشاه طهماسب الذي تسلم الحكم في العام 930هـ خلفاً لوالده الشاه إسماعيل الصفوي.
وعلى رغم تعرض المحقق الكركي لنقد فقهي حاد من قبل علماء معاصرين ولاحقين في محاولة لاستكمال نهج اعتزال السلطة. كما حصل من قبل "القطيفي" إلا أن الكركي نال تأييد عالم كبير آخر هو صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن النجفي، الذي قال بدوره بالنيابة العامة للفقيه.
وفي الواقع إن هذا الاتجاه، أعاد تقويم المسار الفقهي الشيعي، وسمح للمجال السياسي الشيعي في زمن الغيبة أن يتأسس مجدداً بما يعيد أحياء الفاعلية الشيعية على يد الولي- الفقيه.
ويأتي لاحقاً، أحد تلامذة صاحب الجواهر، وهو المولى المحقق الشيخ أحمد بن المولى محمد مهدي النراقي (صاحب كتاب جامع السعادات)، الذي ولد (أي الابن) في العام 1185 هـ وقيل 1186هـ ، ليبلور على صيغة رؤية فقهية متكاملة القول بولاية الفقيه العامة في كتابه : " عوائد الأيام"، حيث استدل على الولاية العامة بطرق عدة:
الأخبار الواردة في حق العلماء ومعالجتها سنداً ودلالة واعتباره أن العرف العام والخاص يدلان صراحة على ولاية الفقيه واعتباره أن المقارنة بين هذه النصوص والنصوص الدالة عادة على ولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام تشير إلى أن منطوق اغلبها واحد، كما استند إلى دليلي الإجماع، والحسبة (مقدمة كتاب عوائد الأيام، للمولى الزاقي، دار التعارف 1990 م. ط، ا).
ونلاحظ أن الإمام الخميني (قده) يشير في كتابه الحكومة الإسلامية إلى المرحوم النراقي ومن المتأخرين المرحوم النائيني (اللذين يقولان) أن جميع المناصب "والشؤون الاعتبارية التي للإمام ثابتة للفقيه"، وعند المقارنة بين معالجة الأمام الخميني(قده) لأطروحة ولاية الفقيه، التي وردت بصورة رئيسية في كتب ثلاث : كشف الأسرار، الذي كتب في وقت مبكر وتضمن مقاربات مقتضبة لولاية الفقيه، وكتاب البيع الذي احتوى معالجة فقهية معمقة وشاملة للولاية العامة، وكتاب الحكومة الإسلامية ، الذي شكل مقاربة فقهية وسياسية شاملة لمفهوم الولاية العامة للفقيه، عند المقارنة بين معالجات الإمام هذه ومعالجة المولى النراقي لمقولة ولاية الفقيه العامة، سنجد تشابهاً كبيراً بين الرؤيتين من حيث المنطلقات والمصطلحات وطرق الاستدلال، إلا أن ميزة الإمام الخميني (قده) أنه توسع بالدليل الفقهي من حيث الدلالة وعمق المعالجة، وأضاف عليه ما يمكن أن نسميه بالدليل الواقعي بأبعاده العقلية والسياسية.
إن هذه المقاربة لا تسعى إلى إعادة استحضار أدلة الولاية العامة للفقيه، وهي قد باتت معروفة ومتداولة، إلا أنها تطمح إلى تسويغ هذه المقولة من حيث إسهامها في تشكيل الاجتماع السياسي الشيعي.
فالإمام الخميني عندما قال: أن كل ما كان للرسول والإمام فهو للفقيه إلا ما خرج بدليل، قدّم حلاً لإشكالية السلطة في غيبة الأمام (عج). ورغم بداهة هذا الحل، أي اعتبار الولي الفقيه نائباً للإمام، إلا أنه شكل ثورة حقيقية في الفقه السياسي الشيعي، أفضت إلى تقويم خلل تاريخي بالغ الخطورة.
وفي الواقع إن خصوصية الحكومة في المفهوم الإسلامي تنبع من تلك العلاقة الدقيقة والحساسة بين التشريعات والقوانين والأحكام الثابتة وبين الظروف والأحداث والوقائع المتغيرة، إن هذه العلاقة بين الدين والتاريخ وبين الشريعة من ناحية والزمان والمكان من ناحية ثانية، توجب دينية الحكم وفقهنة السلطة. وتنفي بالتالي أية إمكانية عقلية أو شرعية لسلطة مدنية لا دينية، إلا إذا غادرنا منظومة المفاهيم الإسلامية إلى منظومات أخرى، وكل محاولة للنأي بالدين عن السلطة لن تفضي فقط إلى علمنة السلطة، بل ستولد بالضرورة ديناميات متتالية في إطار تداعي منطقي يفضي إلى محاولات علمنة المجتمع .
من هنا يمكن الإحاطة بأبعاد تلك المكانة التي أعطاها الأمام الخميني (قده) للحكومة الإلهية وللولاية المطلقة – على حد تعبيره – عندما أكد "أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الإحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام النوعية حتى الصلاة والصوم والحج". ( رسالة الإمام لرئيس الجمهورية الإسلامية. كيهان عدد 13223، 6 يناير 1989 م).
لذا إن التماس الدور المجتمعي للإسلام منوط بالسلطة الدينية، والمسألة تتجاوز الدور السياسي الذي تقيم كلاسيكيات الفكر الغربي ملازمة بينه وبين السلطة.
وبالعودة إلى علاقة الثابت بالمتغير أو الشريعة بالواقع، وهي التي تستهدفها التحديات المعاصرة من منطلقات شتى: تبعاً لهيمنة النموذج الغربي تارة أو ارتباطاً بمحاولات التجديد والتحديث التي ينشغل بها مثقفو العالم الإسلامي تارة أخرى، يمسي دور الولي الفقيه جوهرياً ومركزياً. في ضبط التجاذبات الحادة التي تولدها نزعات الجمود أو التجديد، التأصيل والتحديث، ذلك أن هذه العمليات الاجتماعية – المعرفية، التي تعيشها الأمة على صورة حراك حيوي ومتوتر، ليس من الصحيح اختزالها إلى مغامرة فكرية خالصة، أو صراع سياسي مباشر. إنها حالة تاريخية متعددة الأبعاد، تغدو مصلحة الأمة إحدى أهم أبعادها وأكثرها حضوراً. من هنا ضرورة الانشداد والركون إلى موقع الولاية بوصفه الوازن لتقاطب المفاهيم والمصالح .
ويبدو هذا طبيعياً ويندرج في صميم دور الولي الفقيه، سيما إذا استحضرنا رؤية الإمام الخميني في تحديد شروط الحاكم ووظائف الحكومة الإسلامية. إن شرطي العلم والعدالة اللذين يجب أن يتوفرا في الولي الفقيه. يحيلا كفاية الولي إلى كفاية ذاتية والضوابط إلى ضوابط داخلية، على عكس اتجاهات السلطة المعاصرة التي ترتكز إلى كفايات وضوابط خارجية، وعندما يحدد الأمام الخميني (قده): "أن الأئمة والفقهاء العدول مكلفون بالاستفادة من النظام والتشكيلات الحكومية من أجل تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل. والقيام بخدمة الناس". (الحكومة الإسلامية، ص 90-91)، وحيث أن تنفيذ الأحكام الإلهية والعدل يتماثلان ويندرجان في دائرة واحدة، فإن ذلك يعني أن تنفيذ الأحكام الإلهية وخدمة الناس يشكلان قاعدة ممارسة السلطة في فكر الأمام الخميني (قده)، وهذا هو احد المرتكزات التي يتأسس عليها تجديد الأمام الخميني(قده) في الفكر السياسي الإسلامي، حيث إن إعلاء قيمة خدمة الناس ووضعها إلى جانب تنفيذ الأحكام يشكل الإجابة الخمينية على إحدى الإشكاليات المطروحة على الدوام في علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي. والتي عاشتها المجتمعات البشرية باستمرار، وهي إشكالية موقع الناس أو الشعب من العلاقة مع السلطة . إن الإجابة الخمينية المشار إليها تجعل من الشعب جزءاً جوهرياً من معادلة الدين – السلطة وموضوعاً رئيسياً لممارسة السلطة إلى جانب تنفيذ الأحكام.
إن هذا العرض الموجز لموقع ولاية الفقيه في ضوء الاجتماع السياسي الشيعي تاريخياً، ودور هذه الولاية في ضوء التحديات المعاصرة، يجعل من المتعذر تخيل تشكل اجتماع سياسي شيعي دون دور الولي الفقيه، إنه شرط لإستقرار البناء السياسي الشيعي، كما هو شرط لتوازن الدور المجتمعي للإسلام.
إن غياب أو تغييب الولي الفقيه تاريخياً عن المجال السياسي أدى إلى انقفاله وإحالة السلطة إلى سلطان . أما راهناً فكل التماس لبناء مجال سياسي خارج الدور المركزي للولي الفقيه هو اندراج متتالي في علمنة مجتمعية تجد مدخلياتها في الحيّز السياسي، لكنها لا تقف عند حدوده بالتأكيد.
وما تجربة الأمام الخميني (قده) والإمام الخامنئي (دام ظله) من الناحية التطبيقية، إلا دليل على نجاح دور الفقيه في توازن واستقرار مسيرة الأمة، في توحدها وتنوعها، وفي أصالتها وتطورها، وفي تأديتها لرسالتها في مواجهة الحاضر والمستقبل.