مقالات: ما يقوله مشروع الموازنة

مقالات: ما يقوله مشروع الموازنة

لا تخلو موازنة 2010 من دلالات، مع أنها فوتت مهلها الدستورية وتخطت مبدأ السنوية الذي يكسب الأرقام والنسب أهميتها. هي لم تحدث تغييراً ملموسا، لكنها منعت حصول الأسوأ، أي زيادة العبء الضريبي على فئات ترزح أصلاً تحت أعباء ثقيلة. إنها بوصف أدق، موازنة الأسئلة المعلقة، والأجوبة المرتجلة، كما أنها تعبر مرة أخرى عن تردد مجتمع السياسة أمام المنعطفات الصعبة، وهو الآن يواجه خيارين لا ثالث لهما، القيام بإصلاح ثلاثي الأبعاد؛ ضريبي وإداري ونقدي، أو التوغل من جديد في طريق سياسات تمنع الانهيار وتكبت مفاعيل الأزمة، لكنها تترك حبل الخراب والترهل على غاربه.

تقول الموازنة في فذلكتها التمهيدية، وهي أكثر ما يستحق النقاش، أن الهدف المركزي للحكومة خفض نسبة الدين العام إلى الناتج. وبحسب الجداول المرفقة يواصل الدين العام هذه السنة خطة البياني المتصاعد دون تغيير، قافزاً دفعة واحدة من 51.3 مليار دولار أميركي إلى حوالي 55.5 مليار $، وبمعدل زيادة مقداره 8.2% (بينما لم يتجاوز معدل السنوات الأربع الماضية 6% فقط)، هذا في مقابل تحسن حسابي سيلاقي ثناء دولياً، يتمثل في خفض نسبة الدين العام إلى الناتج. مع العلم أنّ نمو الناتج بمعدلات تفوق نمو الدين (وهو ما يعول عليه كثيراً صندوق النقد الدولي) لا يرفع بالضرورة الخطر عن كاهل المالية العامة، فمع زيادة حجم الدين يزيد انكشاف الدول لأزمات الأسواق المالية العالمية، التي قد تبتلع في طرفة عين كل مكاسب النمو السابقة.

صحيح أن تقديرات موازنة 2010 تشير إلى أن نسبة الدين العام/الناتج ستصل إلى 147.47% في نهاية العام، بينما توقعت ورقة باريس 3 خفض النسبة إلى 151% بشرط تطبيق سلسلة طويلة من التدابير، لكن الصحيح أيضا أن هذا التراجع يتصل بعوامل عابرة ومؤقتة وقد لا تدوم طويلاً، أبرزها الارتفاع المزدوج لمعدلات التضخم والنمو، اللذين أدّيا-على ذمة الإحصاءات- إلى نمو اسمي ضخم في الناتج بلغ حوالي 49.5% في السنوات 2007-2010، وهذا يزيد عن ضعفي متوسط نمو الدين في الفترة نفسها. ويعزى تراجع نسبة الدين/الناتج من ناحية أخرى إلى التقديرات المبالغ بها للأرقام. فبينما أشارت أعلى التقديرات إلى أنّ الناتج سجل 32.7 مليار دولار للعام الماضي ويتوقع أن يسجل حوالي 35 مليارا هذا العام، اعتمدت الموازنة تقديرات مثيرة للدهشة هي  35.5 مليار$ و37.6 ملياراً على التوالي للعامين المذكورين.

تقول الموازنة ثانياً أنّ هناك ثمناً باهظاً للتوسع في الإنفاق الاستثماري، سيظهر هذا العام على شاكلة تراجع حاد في الفائض الأولي، من 1314 مليار ليرة لبنانية إلى 27 ملياراً فقط، أي ما يساوي ،للمفارقة، الزيادة المقدرة في الإنفاق الاستثماري. بالتالي فإنّ استكمال تنفيذ قوانين البرامج للسنوات الآتية سيؤدي حكما- وفق منطق الموازنة- إلى التخلي عن المكاسب التي تم تحقيقها حتى الآن على مستوى استيعاب الدين. الأمر الذي يضع الحكومة أمام أحد احتمالين: زيادة الضرائب أو استعمال جزء من فائض السيولة المصرفية لتأمين تمويل إضافي.

هنا يستحق خيار الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص PPP حواراً وطنياً مسهباً وموسعاً، وما دام أنّ الموازنة الحالية رصدت الاعتمادات اللازمة لتلبية الاحتياجات الاستثمارية العاجلة، فلدينا متسع من الوقت لإدارة نقاش تقني وسياسي حذر، من شأنه أن يسمح بالتحقق من الجدوى المالية، والجدوى الاجتماعية/الاقتصادية للشراكة، في كل مشروع على حدة، و يتيح أيضاً التأكد من مدى تناسب آلية عملها مع احتياجات الإصلاح القطاعي، وتوافقها مع التوقعات الاقتصادية في الأمدين المتوسط والبعيد. فإذا كان المتوقع مثلاً استقرار أسعار الصرف وارتفاع الدخول الفردية مع تدن في نسب التضخم، فهذا يزيد من حظوظ نجاح الشراكة، أمّا إذا كان الاقتصاد يعمل في ظروف الريبة (uncertain)، فسيرتفع احتمال أن تضطر الحكومة إلى زيادة  إنفاقها على الدعم، لتمكين الأسر عند حصول تدهور ما، من الوصول إلى الخدمات العامة المعروضة بأسعار السوق.

على أنّ خفض الفائض الأولي ليس قدراً، فيما لو تبنت الموازنة بضعة تدابير، من شأنها إمرار النفقات الاستثمارية دون التفريط بالفائض. مثل: فرض ضريبة على الشركات العقارية أسوة بالشركات المالية الأخرى، والكف عن إعفاء المصارف ضمناً من ضريبة فوائد السندات، (التي يسمح لها باستردادها من ضرائب الدخل المتوجبة عليها، بينما لا يتمتع المودعون أو الأفراد المكتتبون بالحق نفسه)، وإذا أضفنا إلى ذلك التخلص من ودائع القطاع العام الزائدة لدى مصرف لبنان، فإن الفائض الأولي سيرتفع إلى ما بين 800 و1000 مليار ل.ل.

تقول الموازنة أيضاً، أنّ هناك سقوفاً واطئة للإصلاح. ففي إحدى الفقرات تبدي وزارة المالية عزمها على " التحضير لعدة إجراءات" في الفترة المقبلة، لكن إذا استثنينا "تطوير النظام الضريبي عبر اعتماد النظام الضريبي المجمع لمصادر الدخل"، و"العمل مع المجلس النيابي على إقرار رسوم تسوية المخالفات البحرية والنهرية"، فإن الإجراءات الأخرى لا تعدو  كونها تصحيحات إدارية وتقنية لا تحدث فارقا جوهرياً. بينما أغفلت الوزارة قضايا ومسائل باتت تحظى بشبه إجماع، ولم تلق ممانعة علنية حتى من الفريق الأكثري، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: فرض ضريبة على أرباح التحسين العقاري، ووضع إطار عام للإصلاح الضريبي يحد من عشوائية واضطراب السياسات الضريبية، إضافة إلى تطوير الضريبة على القيمة المضافة لتصبح ضريبة تصاعدية مرنة ومتعددة الشطور.

 مقالات: عن التنمية السياسية التي لا تنبت في تربة الاقتصاد الريعي

مقالات: عن التنمية السياسية التي لا تنبت في تربة الاقتصاد الريعي

للتنمية السياسية في بلداننا سحرها الخاص ووقعها المؤثر، بعد أن تخلفت دولة الاستقلال عن اللحاق بركب التقدم، وأخفقت في تحقيق طموحات شعوبها، في المجالات الأربعة الرئيسية: الوحدة، الوفرة، الديمقراطية والتحرير. والنتيجة المعروفة هي العودة إلى الوراء، من مربع الدولة إلى مربع السلطة، ومن القيادة إلى الزعامة، ومن الرعاية إلى الزبائنية، ومن المؤسسات السياسية والاقتصادية، إلى شبكات الانتفاع والمصالح التي تحقق انتشاراً فعالاً ودائماً في كل مستويات صناعة القرار، وتشكل بالتالي حجر الزاوية في منع  قيام دولة ناضجة ومستقرة.

 مقالات: دور السياسات في التوفيق بين النمو والمساواة

مقالات: دور السياسات في التوفيق بين النمو والمساواة

النمو جيد لمكافحة الفقر، ولديه مساهمة رئيسية في تعزيز مستوى العدالة. هذا الرأي المنسوب إلى أبحاث ووقائع وأعمال نظرية، يتردد صداه منذ زمن في أروقة المؤسسات الدولية. لكنه يواجه معارضة تستند إلى تجارب حديثة وموثقة، خلصت إلى أنّ النمو ليس شرطاً ضرورياً ولا كافياً لتقليص رقعة الفقر على المدى القصير. وحتى في البلدان التي تزامن فيها النمو مع زيادة مداخيل الفقراء، لم تكن العلاقة سببية، بل تأثر كلا الأمرين بعامل ثالث هو طريقة إدارة الاقتصاد. وحتى في الآجال الطويلة، حيث تمكنت البلدان التي عرفت نمواً متواصلاً، في النصف الثاني من القرن العشرين، من إحداث خفض دائم وملحوظ في أعداد المهمشين. فإنّ ذلك لم يكن تلقائياً، بل استفاد من التدخلات الحكومية الهادفة إلى التوفيق بين مساري الازدهار والعدالة.

 اوراق بحثية: اتّفاق الدوحة ميثاق أم عرف أم تسوية مؤقتة؟

اوراق بحثية: اتّفاق الدوحة ميثاق أم عرف أم تسوية مؤقتة؟

إصدار 2010-03-29

بعد إقرار اتفاق الدوحة في قطر ثم تنفيذه في بيروت دارت مناقشات حول طبيعته وتباينت الآراء، فمنها ما يعده أعرافاً جديدة، ومنها ما يعده، حالة مؤقتة، ومنا ما يراه مخالفة دستورية، فما هو موقفنا من كل هذا؟. إن بنود اتفاق الدوحة ليست من طبيعة واحدة، ويمكن تصنيفها مبدئياً في فئتين: فئة تتسم بطبيعة سياسيّة بحتة، وفئة تتعلّق بشكل مباشر بالجانب الحقوقيّ.

 مقالات: ما هو هدف السياسات المالية المرحلي: زيادة الفائض الأولي أم تثبيت عبء الدين

مقالات: ما هو هدف السياسات المالية المرحلي: زيادة الفائض الأولي أم تثبيت عبء الدين

تتقاسم ساحة النقاش بشأن الموازنة العامة، ثلاثة آراء مختلفة لكنها ليست متضاربة بالضرورة. يعتمد أولها دون تحفظ المقاربة التي تنظر إلى الموازنة من زاوية الإيرادات، فأي توسع في الإنفاق يستدعي زيادة موازية في الضرائب، دون تمييز بين إنفاق جار وآخر استثماري. فيما يضع الرأي الثاني في صدارة أولوياته تحسين حصة الاستثمارات العامة من الإنفاق ومن الناتج المحلي، ولا يعير اهتماما كبيراً للكلفة، على اعتبار أن أزمة الخدمات العامة لا تقل خطورة عن أزمة العجز والمديونية بل ربما تفوقها خطراً على المدى البعيد. ويتقاطع مع هذا الرأي اتجاه ثالث يشكل استمراراً للنهج الاجتماعي المعارض، الذي يرى أن العدالة وليس التوازن المالي / النقدي هي شرط الاستقرار الأول.

 مقالات: شيء ما يجب أن يتغير

مقالات: شيء ما يجب أن يتغير

ريثما تقر الموازنة العامة في لبنان، يكون الحوار الداخلي بشأن السياسات الاقتصادية والمالية قد حقق انطلاقة مقبولة بعد زهاء عقدين من الجمود. قد لا يكون الإيقاع سريعاً وفق طالبي الإصلاحات الكبرى والنوعية، وسيتضمن الأمر ربما خلاصات لا تبعث على الرضى، إلا إن اتساع دائرة صنع القرار لتضم طيفاً متنوعاً من الأطراف، كفيل بإحداث تطور في السياسات التي توقفت عن النمو منذ زمن، واقتصرت أمرها على الاستجابة لمحفزات الأزمة وانعكاساتها.

 مقالات: في ذكرى الثورة الإسلامية في إيران نموذج تعايش الدولة والثورة

مقالات: في ذكرى الثورة الإسلامية في إيران نموذج تعايش الدولة والثورة

إصدار 2010-02-13

يعتقد فلاسفة التاريخ والاجتماع أن الحضارات تسقط وتنهار عندما تفقد روحية القيم التي شكلت كنه عصبيتها في قيامها. ويعتقدون أيضاً أن الحضارات يقتلها عاملان الحروب والاحتلالات الواسعة الأرجاء والديون. هذا هو مصير الحضارات السابقة الولايات المتحدة الأمريكية التي تصيبها الآن نفس العدوى. لهذا فإن المتعجلين بالحكم على الجمهورية الإسلامية في عيد انتصارها الحادي والثلاثون يخطئون خطأً جسيماً عندما يراهنون على انقسامات داخلية أو على عقوبات دولية ويظنون أنها تؤدي إلى إضعاف هذه الدولة الشابة والطموحة.
لم يكن وضع الثورة عندما أعلنها مؤسسها الإمام الخميني الراحل بأحسن مما هي عليه اليوم من حيث الظروف الإقليمية والدولية. يومها، لم يكن الإتحاد السوفياتي، ند الولايات المتحدة الأوحد، متشوقاً لرؤية دولة إسلامية على حدوده، ولم تكن الولايات المتحدة أقل غضباّ على هذه الدولة مما هي اليوم، ولم يكن الوضع العربي أقل سوءاَ من حيث الانحياز لأميركا مما هو اليوم. والثورة لم تكن متأكدة من نفسها كما هي اليوم، سوى ما كان يعتمر نفوس قيادتها وخاصة الإمام الخميني، من ثقة بالله عارمة وبالنفس الإنسانية العازمة المريدة. اليوم أصبحت الثورة والدولة متجذرة في عقل وإرادة الجماعة وسلوكها، وفي حركة المجتمع نحو أهدافه في الحرية والاستقلال والتقدم؛ والثورة تعمقت بأقوال وأفعال ودماء قادتها وشعبها، وخاصة مؤسسها الإمام (قده) والمؤسسات الناشئة.
ثلاثة عقود كأنها ثلاثة قرون، لما احتملته هذه الثورة من إفكٍ وتشهير ودعاية مضادة وحروب عسكرية وتفجيرات داخلية وخطف ومقاطعة وتدبير مؤامرات. لم ترضخ الثورة ولا فت في عضدها ولا فترت عزيمتها، قيادة وشعباً. من صحراء طبس كارتر إلى حرب "قادسية صدام" التي لم يبق دولة لا في الشرق ولا في الغرب، ما ندر، إلا وشاركت إما بالتمويل أو بالدعاية أو بالأسلحة أو بالمعلومات والتجسس لتدمير الثورة اليانعة. واستمرت العقوبات والهجومات المتنوعة ومحاولات إيجاد الفتن الداخلية بين القوميات والمذاهب والمعتقدات. فمع كل إدارة أميركية، التي ناداها الإمام الخميني الشيطان الأكبر، كان يوجد شيطان جديد وشكل مبتكر من الهجوم على الثورة وقياداتها وجيشها وكفاءاتها وعقولها. إلا أن الثورة كبرت وتعمقت أهدافها، والزرع أينع وبدأت ثماره تقض مضاجع الذين يكيدون للثورة وشعاراتها، التي أبقت ثقافة الثورة متأججة، وأوجدت الدولة التي تظلل وتحمي قيم وأهداف وشعارات الثورة. يقال أن الدولة تقبر الثورة، أو أن الثورة تأكل أبناءها. في جمهورية إيران الإسلامية كان رجال الدولة يأتون تواقين ليحموا ويعمقوا طموحات الثورة، وكان رجال الثورة يأتون ليقيموا مؤسسات الدولة ويعمقوا تجربتها لتكتسب معان جديدة مبدعة في ظل جو خلاق ما بين الشعب والثورة والقيادة. هكذا كان الأمر مع الرئيس هاشمي رفسنجاني ورئاسة القائد علي خامنئي ومع السيد خاتمي ومع الرئيس الحالي أحمدي نجاد. ذلك على الرغم مما يحكى ويشاع عن انقسامات هذه الأيام في القيادة والقاعدة. ربما يحتاج البعض إلى دروس في التاريخ وعن العقل السياسي والحضارة الإيرانية ليعلم أنه لا خطر إطلاقا على الثورة ولا على الدولة. فالخلاف ليس حول الدولة وطموحاتها المشروعة - خذ مثلا عن الموقف ألإجماعي من الملف النووي – وإنما حول المدى في علاقة الدولة بشعارات الثورة. ربما انساق البعض وراء ما يسعى الأميركي لإشاعته واشتهائه، لأن معظم هؤلاء ينطلقون من نظرة ورغبة سياسية أميركية-إسرائيلية وهمية مشتركة . ومن يراجع الصحف الأميركية منذ قيام الثورة سيتأكد أن الأميركي كان دائماً يريد أن يشيع هذه الأجواء وذلك كي ينفضَ عن هذه الثورة من يشعر بجدواها.
الهدف المعلن والمضمر للولايات المتحدة والكيان الصهيوني –والغرب عامة هو إرضاخ الجمهورية وجعلها تتخلى عن قيم الثورة، مع الوعد بمساعدتها لتبقى دولة تهتم بنفسها بعيداً عن الوضع الإقليمي(!) من وجهة نظر أميركا، على إيران أن تنأى بنفسها عن القضية الفلسطينية وهموم وشؤون المسلمين والمستضعفين، وأن تكون قوية لذاتها وليس للتأثير على السياسات الإقليمية والدولية. كيف لا يجن جنون الصهاينة والمحافظون الجدد في الولايات المحتدة عندما يصرح الرئيس نجاد بأن الجمهورية الإسلامية يجب أن تكون شريكا في القرارات الدولية وبخاصة تلك التي تتعلق بمصائر الشعوب الإسلامية والمستضعفة، أو أن فلسطين يجب أن تعود إلى أصحابها الشرعيين.  يدركون تماما أن الجمهورية الإسلامية الصادقة في طروحاتها وشعاراتها وملتزمة بمضامين ثقافتها وثورتها، والتي لم تكن يوماً معزولة عن معتقداتها الأساسية ونظرتها إلى وظيفة الإنسان في الحياة وما بعدها، هي من يمنعهم من الإطباق النهائي على أمم المنطقة. الإشكالية الحقيقية في العلاقة بين الجمهورية الإسلامية وغيرها من دول الغرب وخاصة أميركا، أن عنصر الثقافة الذي تنبع منه حركة المجتمع الإيراني سيؤدي إلى إيجاد البديل المقنع والحضاري لشعوب فقدت النموذج الفكري والسياسي. هذا العنصر القائم على مبدأ الحق والقوة  ليس هو ما يحرك العقل السياسي الأميركي. ما يحرك العقل السياسي الأميركي هو القوة التي تريد أن تصنع من الباطل حقا. وعندما طرح  صامويل هنتنغتون مقولته الشهيرة في صراع الحضارات (إقرأ ثقافات)، كان يعني هذا الموضوع تحديدا. المشكلة الأخرى أن العقل العقائدي والسياسي العربي قد تم "تجريفه" (بحسب محمد حسنين هيكل)، ووضع في بعض خلاياه التكنولوجيا الغربية وبقايا ستاتيك ضبابي غائم عن الذات غير واضحة المعالم ولا الوجهة. من هنا تأتي مشكلة معظم هؤلاء-الأقربين والأبعدين - في عدم إدراك أهمية الحوار النديَ مع حضارة ناشئة لا يجذبها إطلاقا الخوف من العدو أو الخصم، بل ربما يحفزها على المواجهة بشتى الصور غير المتوقعة من العقل التقليدي.
إن الجمهورية الإسلامية كحضارة صاعدة، وكوريثة لحضارات حفرت في التاريخ صفحات عميقة ومؤثرة جداً، لا زالت في طور الشباب والفعل، بينما من يواجهها هي إما "حضارات" في طور الضعف والأفول، أو شعوب لم تشعر ولم تشارك في صناعة حضارات أو كانت سبباً في خراب أخرى، أو لم يخطر لها التحضر على بال.
إن من يحلمون بشق الدولة أو الانقلاب عليها أو تراجع قياداتها عن شعاراتها الثورية هو واهم لأن عناصر التاريخ الأولية تحققت في جزء من الثورة وهي في طور الاكتمال في دورة الدولة. إن ثورة كالثورة الإسلامية في إيران هي بداية لاكتمال صورة التشكل التاريخي لحضارة تأسست لتكون ثورة للعامة ودولة لعامة الخاصة. فشعارات الثورة هي ملك للشعوب، وخاصة المستضعفة، والدولة لا تستطيع إلا أن ترعى هذه الشعارات التغييرية بكثير من الصلابة وقليل من المساومة خاصة وأن الإمام الخميني عندما سُئل عن الفرق بين إنقلاب "مصدق" والثورة التي دعا إليها قال أن تلك كانت ثورة سياسية تساوم وتفاوض على حقوق، فتمكن الأمريكيون من الإنقلاب عليها بينما هذه ثورة حق ضد الباطل ولا يمكن الإنقلاب عليها. هذه الروح الثورية التي تجد تمثلاتها في السلوك السياسي والتحدي الثوري لقيادة الثورة في الزمن الراهن لا يمكن لعقل ساذج يتمتع بقوة عسكرية طاغية فقط أن تضعف –ناهيك عن أن تزيل- هذه الثورة والدولة. ومهما حاول الأمريكيون وحلفاءهم أن يشددوا العقوبات على بعض مؤسسات الثورة وخاصة الحرس الثوري والقوى الفاعلة، فإن هذا يقوي الحرس ويقوي شعارات الثورة في نفوس أفراده.
إن الأرضية الإقتصادية والثقافية المساعدة لقوى التغيير في الجمهورية الإسلامية يقابلها قوى ضعف وفراغ في منطقة شهدت شعوبها على مدى قرنين من الزمن موجات استعمارية متتالية حتى ظن البعض أن الاستعمار قدر حتمي و"قابلية نفسية" لا فكاك عنها. أتت الثورة الإسلامية لتوقظ العقل التحرري والسلوك التغيري المستند إلى الاعتماد على الذات في طرد المستعمر ومجابهة المستكبر، في معركة لا زالت رحاها دائرة بين شرق أوسط أمريكي صهيوني وشرق أوسط لشعوبه بمختلف انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والفكرية. من هنا كانت دعوة الإمام الخميني إلى الثورة لمواجهة الاستكبار من خلال الارتباط بإيمان الشعوب بذاتها ورفض التبعية والتسلط أكانوا سنة أو شيعة عرباً أو إيرانيين أو أتراك، مستندين إلى إيمانٍ واحد وثقافة واحدة لأن القوى المستكبرة هي في نهاية المطاف ملة واحدة.
لقد عبر الإمام الخميني عن طموحات الشعوب المستضعفة كافة، كما تعبر اليوم قيادة الثورة، خاصة في دفاعها عن حقها في امتلاك عناصر القوة والتدخل في شؤون تعنيها وعلى حدودها وفي صلب ثقافتها. هل تستطيع إيران أن ترضى باتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب؟ هل تستطيع أن ترضى بتشويه المقدسات الإسلامية المشتركة؟ وإن رضي بعض الحكام المرتهنين. فكيف يحق لأمريكا التي تبعد عشرات آلاف الأميال التدخل في منطقتنا وترسم حدودها وسياساتها؟ ولا يحق لدولة وشعب من نسيج المنطقة تاريخاً وثقافة أن يتحدث عن حق وباطل في اغتصاب فلسطين مثلا، ويأتي المحتل ويطوقه ويقيم إلى جواره في العراق ويستهدف وجوده ويبقى مكتوف الأيدي(؟!). نعم ، إن الذي يبيح لأمريكا التدخل هو القوة التي تمتلكها، فيسوغ بعض القادة العرب وغير العرب لها هذا التدخل بالقول أنها تمتلك كل أوراق اللعبة. ولا أحد يسوغ لإيران "التدخل" حفاظاً على الاستقلال والسيادة. ولكن أين الاستقلال وأين السيادة؟ فإن قامت إيران بمساعدة الشعب الفلسطيني يصبح الحديث عن تدخل "فارسي" و "شيعي"! هل ساعدت الأموال العربية أو الإعلام العربي أو السياسات العربية قضية الحق الفلسطيني "العربية"؟ أم أن الأخوة أضحت بلا مضمون؟ إن الجينات الثورية الإيرانية ومضامينها الثقافية، والتي بدأت تتسرب إلى عالم شعب عانى من سبل طاعة الظالم على مدى قرون، يجب أن تكون نقطة التحول اللانهائي لشعب مأزوم ومهزوم نتيجة لتقاليد أتت عليه بشكل نهائي. فلا العروبة الحاكمة ولا الأمركة المتسلطة والمحتلة ولا الأوربة الاستعمارية استعادت حقا سليبا أو أطلقت حرية عانقتها سجون الأوطان المرتهنة، لا بل غرست قيم القمع والهيمنة والتسلط والتفرقة وطبائع الاستبداد والاستعباد.  

 مقالات: عدم جواز سحب مشروع القانون الدستوري المتعلق بتخفيض سن الاقتراع إلى 18 سنة

مقالات: عدم جواز سحب مشروع القانون الدستوري المتعلق بتخفيض سن الاقتراع إلى 18 سنة

إصدار 2010-02-06

لقد ورد في بعض وسائل الإعلام، أن الحكومة، قد تبادر إلى سحب مشروع القانون المتعلق بتخفيض سن الاقتراع، كما أعلن أحد الوزراء، في 3/2/2010، أنه وجه كتاباً "إلى الأمانة العامة" لمجلس الوزراء، يطلب فيه سحب مشروع القانون المتقدم ذكره.
تملك الحكومة بموجب المادة 18 من الدستور (تعديل 1990) صلاحية تقديم مشاريع قوانين، ومشاريع قوانين معجلة، إلى مجلس النواب استناداً إلى المادة 58 من الدستور.
وبشأن هذه المشاريع، فان الحكومة، تتمتع، وفقاً لما هو متفق عليه، علماً واجتهاداً، بسلطة استنسابية وتقديرية، فهي غير ملزمة بتقديم أي مشروع قانون إلى مجلس النواب، كما أنه يعود لها سحب أي مشروع أن رأت ذلك مناسباً.
ويتم إحالة مشاريع القوانين على مجلس النواب أو سحبها، بموجب مرسوم يوقعه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير المختص ويعتبر هذا المرسوم عملاً حكومياً غير خاضع لرقابة القضاء الإداري.
C΄est ainsi que la jurisprudence refuse de reconnaître les reeours contre un décret portaut projet de loi: (C.E.g mai, 1q51, Mutuelle nationale des Etudiants de France. P. 253), de retrait d΄un projet de loi (C.E.19 janvier 1934, compagnie Marseillaise de Navigation à vapeur, p. 985. 1937, 111, 41, note Alibert (traité de contentieux Administratif par Auby et Drago. 3éme Edition. Tome premier, 1984. no 105, p. 174).
وعلى غرار الاجتهاد الفرنسي، فإن مجلس الشورى في لبنان، يعتبر أن علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية، تدخل في نطاق الأعمال الحكومية، غير الخاضعة لرقابة القضاء الإداري  (م.ش.ل. قرار رقم 4 تاريخ 19-1-977 مجلس القضايا، غير منشور. اجتهاد القضاء الإداري في لبنان- الجزء الأول، 1981، القسم المتعلق بالأعمال الإدارية ص 30).
ويدخل حكماً ضمن هذا النطاق، إحالة مشروع قانون إلى مجلس النواب، أو سحبه.
وعلى الحكومة، بالإضافة إلى مشاريع القوانين العادية، أن تقدم مشروع قانون يتعلق بتعديل الدستور بناء على اقتراح رئيس الجمهورية استناداً إلى المادة 76 أو أن تضعه بناء على اقتراح نيابي وفقاً للمادة 77 من الدستور.
إلا أنه، وبخلاف مشاريع القوانين العادية التي تملك بشأن تقديمها إلى مجلس النواب أو سحبها، سلطة استنسابية، فإن الحكومة، لا تملك مثل هذه الصلاحية، بشأن تقديم مشاريع قوانين دستورية لا سيما الموضوعة بناء على اقتراح نيابي وذلك سنداً للمادة 77 التي جاء فيها ما يأتي:
"يمكن أيضاً إعادة النظر في الدستور بناء على طلب مجلس النواب فيجري الأمر حينئذ على الوجه الآتي:
يحق لمجلس النواب في خلال عقد عادي وبناء على اقتراح عشرة من أعضائه على الأقل أن يبدي اقتراحه بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً بإعادة النظر في الدستور.
على أن المواد والمسائل التي يتناولها الاقتراح يجب تحديدها وذكرها بصورة واضحة، فيبلغ رئيس المجلس ذلك الاقتراح إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون بشأنه، فإذا وافقت الحكومة المجلس على اقتراحه بأكثرية الثلثين وجب عليها أن تضع مشروع القانون وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر وإذا لم توافق فعليها أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية الخ..."
يتبين بوضوح، أن المادة 77 تشكل تقييداً لصلاحية مجلس النواب التشريعية، وإخلالاً بالمبدأ البرلماني القائم على التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، المنصوص عنه، في الفقرة هـ، من مقدمة الدستور، باعتبار أن المشرع، اعتمد، من اجل إقرار أي تعديل دستوري مقترح من قبل مجلس النواب، آلية معينة، تتضمن القيود والمراحل التالية:
-   أن يكون مجلس النواب في عقد عادي
-    أن يقترح عشرة من أعضاء المجلس على الأقل التعديل الدستوري.
-    أن يوافق مجلس النواب بأكثرية الثلثين على اقتراح التعديل.
-    يبلغ رئيس المجلس اقتراح التعديل إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون بشأنه.
-    إذا وافقت الحكومة، يترتب عليها أن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر.
-   إذا لم توافق، فيتوجب على الحكومة أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية الخ...
إن الحكومة، بالاستناد إلى ما تقدم لا تملك حرية التقدير بشأن اقتراح التعديل، فهي ملزمة دستورياً، أن تضع مشروع قانون التعديل خلال مهلة معينة، أو أن تعيد القرار إلى المجلس.
إن وضع مشروع القانون من قبل الحكومة، بعد الموافقة عليه، يشكل مرحلة من مراحل التشريع الدستوري. وبعد إحالته على المجلس، تفقد الحكومة أية صلاحية بسحبه، لأن القول خلال ذلك، يؤدي إلى تعطيل المادة 77، وهذا الأمر غير جائز دستورياً.
وبالعودة إلى مشروع القانون المتعلق بتعديل سن الاقتراع إلى 18 سنة، يتبين، أنه مشروع قانون دستوري يتعلق بتعديل المادة 21 من الدستور، وان الحكومة وضعته تطبيقاً للأحكام الواردة في المادة 77، ومن ثم إحالته على مجلس النواب بغية إقراره. ولا يجوز لها بالتالي، بعد الإحالة، أن تسترده، لأن سحبه من شانه أن يؤدي إلى تعطيل التشريع الدستوري المبني على اقتراح نيابي.
وفي مطلق الأحوال، يبقى مجلس النواب، ملزماً بمتابعة درس مشروع القانون، سواء تم سحبه أم لا من قبل الحكومة.
ويمكننا، أن نستخلص، من كل ما تقدم، أن الحكومة لا تستطيع دستورياً أن تسترد مشروع القانون الدستوري المتعلق بتعديل سن الاقتراع إلى 18 سنة، ويتوجب على مجلس النواب البت به، في جميع الحالات.

 مقالات: السياسة النقدية : من توطيد الثقة إلى دعم النمو

مقالات: السياسة النقدية : من توطيد الثقة إلى دعم النمو

لدى لبنان حالياً احتياطي وفير من العملات الأجنبية، ورصيد من الودائع هو الأضخم في تاريخه. فالموجودات المصرفية التي لم تتجاوز كثيراً حجم الناتج المحلي في أفضل سنوات الازدهار قبل الحرب الأهلية، تلامس اليوم سقف 350% منه، محققة في عام واحد زيادة توازي ثلثي ذلك الناتج. ولا أهمية لهذه النتائج بحد ذاتها، فالدول تجمع الأرصدة لتحقيق أهداف أبعد مدى مثل مواجهة مخاطر الصرف، وتغذية النمو أو تأمين ما يكفي من العملات الأجنبية لتوفير السلع الأساسية.


 عن التجربة اللبنانية التي لا تتخطى عتبة التنمية

عن التجربة اللبنانية التي لا تتخطى عتبة التنمية

لطالما دار الحديث عن فرادة "النموذج اللبناني".. عن تألقه ومرونته وقدرته على صنع المفاجآت، فهل لدى لبنان بالأصل نموذج خاص يختلف عن تجارب الدول النامية الواقفة عند خط البداية؟ وأليست تمثل المبالغات المحيطة بهذا الاقتصاد الصغير اعتراضاً مبطناً على مساعي التغيير،  وتكريساً للمكاسب التي تحصل عليها فئات دون أخرى. مع ذلك فان للبنان ميزة هي أقرب للمفارقة. لقد كتبت له النجاة أكثر من مرة. مشى على حافة الهاوية دون الوقوع فيها، وأظهر صمودا مفاجئاً في منعطفات خطرة. لكن في أوقات الوفرة والرواج حصل العكس، حيث عجز عن إحداث خرق يتيح له الانتقال إلى مصاف الدول السائرة في طريق التصنيع، كان بوسعه فعل ذلك لولا ذلك التزاوج بين المصلحة الخاصة والروح التقليدية المهيمنة على مالكي أمر السلطة والقرار.

 مقالات: السنة الثانية للأزمة المالية: تفسيرات متباينة ومصالح متضاربة

مقالات: السنة الثانية للأزمة المالية: تفسيرات متباينة ومصالح متضاربة

مخطئ من يظن أن العالم طوى تماماً صفحات أزمته، فهو يقف متريثاً ومتردداً إزاء مفاجأتها واحتمالاتها وتبعاتها، بينما لم تتوحد الآراء بعد بشأن أسباب ذلك الانهيار فضلاً عن سبل الخروج منه. يميل الأميركيون إلى حصر المشكلة في جانب الطلب على المساكن الذي قوض بضربة واحدة مكاسب عقد من الزمن. تبسيط يعفي من المراجعة. بينما يفضل الأوروبيون وكثيرون غيرهم، ربط الأزمة بسلوك السلطات النقدية التي تخلت عن دورها الرقابي بعد أن تنازلت عن وظيفة إدارة النمو، جاعلة من المنتجات المالية الجديدة جزءاً لا يتجزأ من قنوات التمويل العادية.

 اوراق بحثية: هل يجوز دستورياً عدم إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية

اوراق بحثية: هل يجوز دستورياً عدم إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية

إصدار 2009-12-07

قد يكون من الضروري، بعد أن واجه طرح رئيس مجلس النواب الرامي إلى إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، عاصفة من الاعتراضات السياسية والطائفية، أن نسلط الضوء على هذه المسالة من الزاوية الدستورية البحتة، بعيداً عن أي اعتبار أخر. ويقتضي قبل مناقشة مسألة إنشاء الهيئة الوطنية، توضيح ما هو المقصود بـ"الطائفية السياسية". تعني الطائفية السياسية، طائفية المراكز السياسية، وبتعبير أوضح وأدق فإنها تعني توزيع المراكز السياسية في الدولة على الطوائف والمذاهب حسب نسب وقواعد معينة، وذلك بخلاف ما هو معتمد في الدول الديمقراطية حيث الوصول إلى تلك المراكز متاحاً أمام جميع المواطنين على قدم المساواة، ودون تخصيص أي مركز سياسي لأية مجموعة مهما كان لونها أو جنسها أو لغتها، أو انتمائها الديني الخ...

 

 اوراق بحثية: ازمة دبي: لماذا الاختيار دائماً بين اقتصاد الريع واقتصاد المضاربة؟

اوراق بحثية: ازمة دبي: لماذا الاختيار دائماً بين اقتصاد الريع واقتصاد المضاربة؟

إصدار 2009-12-05

 

أزمة الديون في دبي ليست عابرة، فالأموال المهددة بالضياع كبيرة جداً بالنسبة إلى اقتصاد صغير نسبياً، ومتشابك مع المراكز المالية العالمية، ويطالب بجدولة قيم ضخمة تفوقه ناتجه الإجمالي. في السابق، استطاعت تلك الإمارة الصحراوية أن تحقق انجازات هائلة في غضون عقدين، ويحق لها أن تفاخر بنجاحها في تنويع اقتصادها، إذ خفضت حصة النفط والغاز والتعدين إلى اقل من ثلاثة بالمائة من الناتج وزاد اعتمادها على التجارة والنقل والتطوير العقاري الذي حقق في السنوات الأخيرة طفرة هائلة. لكن الخيبة تتكرر هنا، لتؤكد ربما عجز العالم العربي عن تحقيق نجاحات اقتصادية دائمة لا تدور في فلك النفط. لبنان هو واحد من تلك النجاحات المحبَطة، والأزمة التي تضرب دبي تنذر بإطاحة مثال آخر اجتذب أنظار العالم بأسره.

 مقالات: عن سياسة الفوائد المرتفعة: نقاش في المبررات

مقالات: عن سياسة الفوائد المرتفعة: نقاش في المبررات

هل نرتكب الآن الخطيئة نفسها التي ارتكبت في التسعينات، وقت حُمّلت الخزينة العامة عبء فوائد مرتفعة وأكثر مما ينبغي؟ أم أن الأمر ضروري للحفاظ على تألق القطاع المالي اللبناني في سماء عالمية ملبدة؟ في العقد الماضي استحوذت على عقول صانعي القرار في لبنان فكرة يتيمة، هي أن الأمان الاقتصادي يحققه الاستقرار النقدي، والحفاظ على معدل فوائد مرتفع، والهدف هو رفع قدرة البلد على جذب الأموال الكافية، لتغطية إفراط القطاعين العام والخاص وقطاع الأسر في الإنفاق والاستهلاك، وتزيين المؤشرات الاقتصادية برصيد محاسبي موجب لميزان المدفوعات. 

 مناهضة العولمة النيوليبرالية: التيارات الأساسية

مناهضة العولمة النيوليبرالية: التيارات الأساسية

يؤخذ على العولمة أنها ظاهرة غير إنسانية في بعض جوانبها، وبأنّ أداءها يتعارض غالباً مع المصالح الإجمالية للمجتمع البشري. وتساق في هذا المجال شواهد لا تحصى، ... التفاوتات الطبقية والمصاعب الاقتصادية الناشئة عن السياسات التجارية والمالية، والانحياز لفكرة الانفتاح على حساب فكرة التنمية... ، ولا تخلو الأدبيات الناقدة للعولمة من إدانة لتعصبها لقوانين السوق، الذي أدى إلى ركود في مداخيل الغالبية العظمى من السكان، والى نمو متسارع وغير مسبوق في ثروات الخمسة بالمئة الأكثر غنى في البلدان النامية والصناعية على حد سواء، كما ينسب إليها تضخيم نظرة الغرب إلى ذاته، وإطلاق موجة متطرفة فيه من الإحساس بالفرادة والتميّز.

 مقالات: المنافسة الدولية وسياسة الانفتاح التجاري: ألم يحن أوان المراجعة بعد؟

مقالات: المنافسة الدولية وسياسة الانفتاح التجاري: ألم يحن أوان المراجعة بعد؟

يشغل لبنان موقعاً متأخراً في لائحة المنافسة الدولية مقارنة بمعظم الدول العربية غير النفطية. فنصيب هذا البلد من الصادرات العالمية يقل عن نصف حصته من الناتج العالمي، بينما تتجاوز وارداته ضعف هذه الحصة، وهو يتمتع بحجم من الودائع والتحويلات النقدية تفوق كثيراً مساهمته في الاقتصاد العالمي. والأرقام في هذا المجال تنم عن مفارقات كثيرة، فلبنان من البلدان القليلة التي لا تصدّر أكثر من 10% من ناتجها (المعدل العالمي هو 20% تقريباً للصادرات والواردات) ويراكم سنوياً ما لا يقل عن 40% من العجز التجاري، كما يعتمد على الخارج في تأمين ثلاثة أرباع حاجته من السلع الزراعية والمصنعة.

هذه المفارقات هي جزء من الدوائر المغلقة التي تحكم قبضتها على الاقتصاد اللبناني، وتجعله مفعماً بالظواهر النقدية التي تمنعه من استخدام موارده بكفاءة. لنتتبع مثلاً مسار التدفقات الآتية من الخارج والمتمثلة على نحو خاص في تحويلات المغتربين، وإصدارات الدين العام، وصافي حركة الودائع والاستثمارات المباشرة. هذه التدفقات التي تغذي الطلب الداخلي على السلع والخدمات المحلية والأجنبية، تتسبب في رفع الأسعار في القطاعات التي لا تتمتع بمرونة عرض كافية، أو التي تستغرق وقتاً قبل التكيف مع تقلبات السوق (قطاع البناء مثلاً)، وتؤدي كذلك إلى زيادة حجم الواردات من السلع المصنعة. ويمكن لهذه العملية أن تستمر إلى ما لا نهاية، فمع أنّ تعاظم العجز التجاري من شأنه خفض النمو ومن ثم لجم الاستيراد، إلا أنّ التدفق المستمر للأموال من الخارج يعوض نقص النمو ويجعل استمرار هذه العملية أمراً ممكناً.

هناك تشوه مماثل لا يتم التركيز عليه عادة ويطال طريقة تحقيق معدلات النمو الايجابية. في السنوات الأخيرة نشأ النمو عن توسع القطاعات التي تشكل مخزنا للثروة أو ميداناً للمضاربة، بينما بقيت على حالها تقريباً القطاعات الأخرى المعول عليها في زيادة الصادرات. والنتيجة هي ارتفاع التكاليف بمعدلات تتخطى معدلات النمو نفسها، وتكريس التعارض بين سياسة الانفتاح المالي والتجاري المتبعة وبين مقتضيات تعزيز قدرة لبنان على المنافسة الإقليمية والدولية. هذا يفسر أيضاً كيف أنّ الاستثمارات المباشرة تؤدي دوراً مماثلاً للدور التي تؤديه التوظيفات المالية الباحثة عن مكاسب سريعة وفوائد مرتفعة.

لم يكن الوضع في لبنان على هذه الحال طوال تاريخه. فقوته التنافسية تأرجحت بين حقبة وأخرى متأثرة على نحو خاص بالسياسات الحكومية وبمدى اعتماده على الضخ المالي القادم من الخارج. في الربع الثالث من القرن العشرين اتسم الوضع الاقتصادي في لبنان بأمرين: الأول هو تدفق التحويلات والودائع من الخارج بقيم معتدلة، و الثاني: التوسع النسبي للقطاع الصناعي الذي ناهزت نسبتة إلى الناتج في بعض السنوات 23% تقريباً.

ساعد هذان الأمران على تحقيق توازن مقبول بين الاقتصادين المالي والسلعي. فطوال الفترة التي أعقبت الاستقلال وحتى عشية الحرب الأهلية، ارتفعت نسبة الودائع إلى الناتج من حوالي 22% إلى أكثر من 100% بقليل، وفي الوقت نفسه كانت نسبة الصادرات الى الناتج ترتفع باطراد، متخطية المعدلات التي سجلتها دول عربية عدة. لكن مع نهاية الحقبة الشهابية بدأ الاقتصاد اللبناني بالاعتماد أكثر فأكثر على الأموال الوافدة من الخارج. وبحسب تقديرات إدارة الإحصاء المركزي وغرفة التجارة والصناعة، لم تتعد التحويلات من الخارج في الفترة 1951-1969  نسبة 3.8% من الناتج بينما ارتفعت في النصف الأول من السبعينات إلى أكثر من 20%ً. كما ارتفع العجز في الميزان التجاري من 37.5% من الناتج في الخمسينات الى 50% تقريباُ في الفترة 1960-1975، لكن ذلك لم يشكل بحد ذاته دليلاً على تراجع القوة التنافسية للبلد، بقدر ما دل على زيادة معدلات الاستهلاك المدعوم بنمو قوي وتراكم الثروات المكونة في بلاد الاغتراب.   

الأزمة هي إذاً في نمط النمو وليس في معدلاته، فمهما كانت هذه المعدلات مرتفعة، لن يتمكن لبنان من تخطي عتبة التنمية والالتحاق بدول الأسواق الناشئة الا إذا تعامل بحزم مع مشكلتي ضعف التنوع الإنتاجي وقلة الصادرات، وما لم يعمد إلى تصحيح ميزان التبادل الخارجي لاقتصاد تنخفض إنتاجيته يوماً بعد يوم، وينتقل من ورطة إلى أخرى.

الخطوة الرئيسية في هذا الاتجاه هي القيام بمراجعة جريئة لسياسات لبنان التجارية القائمة على الانفتاح المفرط، والتي منعته من أخذ موقعه المناسب في قائمة الدول المصدرة للسلع. قد يتطلب الأمر إعادة النظر في الاتجاه العام للاتفاقيات التجارية، وزيادة الرسوم الجمركية التي جرى تخفيضها دفعة واحدة قبل بضعة أعوام، لكن ذلك لن يجدي نفعاً ما لم ترتفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج تدريجياً لتسجل النسب التي تحققها دول صغيرة الحجم وتعتمد على السياحة والخدمات(سنغافورة مثلاً). الجدير ذكره هنا، هو أنّ تخفيض الرسوم الجمركية دفعة واحدة من 22% كمعدل وسطي إلى اقل من 9%، وذلك بدءاً من عام 2002، أدى إلى تدهور كبير في أوضاع الصناعة اللبنانية التي تشهد تضاؤلاً غير مسبوق في تركيبة الاقتصاد الوطني.

على أنّ تحسين موقع لبنان على خريطة المبادلات الدولية يتطلب حضوراً قوياً للدولة، التي يقع على عاتقها تقويم سياسة الانفتاح العشوائي، والقيام بجهد كبير لتطبيق سياسة مدروسة للحماية والتحفيز، ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي أثمر تدخل الدولة تحسناً في الموقع التنافسي للاقتصاد الوطني وتوازناً نسبياً في الميزان الخارجي، وربما ينبغي تكرار ذلك الآن حتى لو تعارض مع بعض الأفكار التقليدية الموروثة، التي لم تكتشف بعد أن تصحيح الميزان التجاري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود صناعة قوية... ومدعومة.
 

 مقالات: أزمة أسواق أم فشل رأسمالية الحرب؟

مقالات: أزمة أسواق أم فشل رأسمالية الحرب؟

تظهر الأسواق المالية العالمية مرة أخرى، عجزها عن القيام بتصحيحات تلقائية قليلة الكلفة، بل تبدو غير قادرة أصلاً على أن تسيّر نفسها بنفسها. الفقاعة العقارية التي تنفجر تباعاً منذ صيف 2007، دليل قوي على صحة هذا الرأي، شأنها في ذلك شأن أزمات سابقة، مثل الهبوط الحاد في مؤشر نازداك عام 2000، وانهيار مؤشر داو جونز عام 1987 الذي خسر دفعة واحدة حوالي 23% من قيمته بسبب نزوح مفاجئ لحوالي 200 مليار دولار من وول ستريت. الخطير في الأزمة الراهنة هو بعض أوجه الشبه بينها وبين الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، فمن ناحية هناك إفلاسات متسلسلة شملت حتى الآن مؤسسات مالية ومصرفية كبرى، ومن ناحية أخرى هناك تداعيات بالغة السوء على النمو العالمي يتوقع أن تدوم لفترة طويلة (سنتين أو أكثر).

 مقالات: في مسألة المساواة أمام المراكز السياسية في لبنان؟

مقالات: في مسألة المساواة أمام المراكز السياسية في لبنان؟

إصدار 2009-09-12

لقد أكدت الدول التي تعتمد النظام الديمقراطي، سواء أكان برلمانياً أو رئاسياً أو غيره، في دساتيرها، على مبدأ المساواة، بين المواطنين، كما أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، على المساواة بين الأفراد.
وبحسب العلم والاجتهاد، فان المساواة بين المواطنين، تعتبر من المبادئ العامة القانونية ذات قيمة دستورية.
والمساواة تعني، أن الأفراد متساوين في الكرامة والحقوق، وان لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، ودون أية تفرقة بين الرجال والنساء.
كما أن الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة، دون أي تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز (المادتان الثانية والسابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
وفي لبنان، فلقد ورد في مقدمة الدستور، أن لبنان ملتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الفقرة ب)، وانه جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين بدون تمايز أو تفضيل (الفقرة ج).
كما أن المادة 7 من الدستور نصت على ما يأتي:
"كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم"
وإذا كان لمبدأ المساواة بين المواطنين، كما هو متعارف عليه، اوجه وحالات عديدة، إلا أن ما يهمنا، هي الحالة المتعلقة بالمساواة أمام المراكز السياسية فقط. وتشمل هذه المراكز حصراً رئاسة الجمهورية رئاسة مجلس النواب، رئاسة مجلس الوزراء، نائبي رئيسي مجلس النواب والوزراء، الوزراء، وأخيراً النواب. أما المراكز السياسية المتعلقة برؤساء وأعضاء المجالس البلدية، فإنها تبقى خارج نطاق هذه الدراسة.
وفي ما يتعلق بمساواة اللبنانيين أمام المراكز السياسية، فانه يتبين من خلال الممارسة، ما يأتي:
1-    بمقتضى الميثاق الوطني الذي جرى عام 1943، فان مركز رئاسة الجمهورية محصور فعلياً بفئة محددة من اللبنانيين، ينتمون إلى الطائفة المارونية، في حين أن مركز رئاسة مجلس الوزراء محصور فعلياً بفئة أخرى، تنتمي إلى الطائفة السنية.
أما مركز رئاسة مجلس النواب، فانه، محصور بدوره، بفئة محددة من النواب اللبنانيين، ينتسبون إلى الطائفة الشيعية.
وكما يتبين، فإن الوصول إلى كل من رئاسة الجمهورية ورئاستي مجلس النواب والوزراء ليس متاحاً أمام كل اللبنانيين، بل أنه محصور بفئات محددة منهم.
والأخطر من ذلك، فان هذه المراكز، تحولّت، لا سيما عام 1990، إلى ما يشبه "المراكز المقدسة" بحيث أصبح، مجرد الحديث عن أي عمل أو إجراء، يصدر عن القائمين بها، كأنه تعرض ومساس بالمركز وبالتالي بالطائفة التي ينتمون إليها. وهذا الواقع، من شانه أن يخلق عقبات طائفية، تحول دون محاسبة أو مساءلة رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس الوزراء.
وعلى سبيل الاستطراد، وإذا ما أجرينا مقارنة بين الصلاحيات الدستورية العائدة لكل منهم، لتبين بوضوح، أن الدستور، افرد لرئيس الجمهورية موقعاً متميزاً وأولاه صلاحيات دستورية مهمة، كما أن رئيس مجلس الوزراء يشغل موقعاً دستورياً متقدماً ويتمتع بصلاحيات أساسية، بحيث لا يمكن اتخاذ أي قرار على مستوى مجلس الوزراء، الذي أصبح بعد عام 1990، يتولى السلطة الإجرائية، دون موافقته، في حين أن رئيس مجلس النواب لا يملك سوى دعوة مجلس النواب للانعقاد بغية انتخاب رئيس الجمهورية بالإضافة إلى مراجعة المجلس الدستوري.
وفي مطلق الأحوال، فنه ينتج عما تقدم، أن اللبنانيين غير متساوين أمام رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، كما أن النواب اللبنانيين غير متساوين اتجاه مركز رئاسة مجلس النواب. وهذا الوضع القائم على التفاوت والتمايز وحتى "التمييز" بين اللبنانيين، يشكل انتهاكاً خطيراً لمبدأ المساواة المكرس في الدستور ولحقوق الإنسان الطبيعية.
وأخيراً، فان مركز نائب رئيس مجلس النواب هو محصور بالنواب الذين ينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية، وهذا الأمر يشكل أيضاً مخالفة لمبدأ المساواة بين النواب.

2-    وبشأن الوزراء، فان المادة 95 (تعديل 1990) نصت على أنه، وفي المرحلة الانتقالية "تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة".
وجرت العادة، على أن توزع المقاعد الوزارية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين، واعتماد قاعدة المثالثة ضمن المناصفة في تشكيل الوزارة، وإسناد "مركز" نائب رئيس الحكومة إلى الذين ينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية.
وبعد عام 1990، أصبح تولي الوزارات التي يطلق على تسميتها "سيادية"، حكراً على بعض الفئات اللبنانية التي تنتمي إلى الطوائف المارونية والأرثوذكسية والسنية والشيعية، في حين أن الفئات الأخرى المنتمية إلى بقية الطوائف، أصبحت محرومة من تسلم مهام أي وزارة سيادية، بالإضافة إلى حرمانها من الوصول إلى المراكز المتعلقة برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب.
وهذا الوضع، يشكل بحد ذاته، ليس فقط تفاوتاً بين اللبنانيين، إنما أيضاً تمييزاً ضد فئة لا يستهان بها من اللبنانيين.
وعلى صعيد المراكز النيابية، فإن المادة 24 (تعديل 1990) نصت، "والى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد التالية:
أ‌-    بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
ب‌-    نسبياً بين طوائف كل من الفئتين.
ج‌-    نسبياً بين المناطق".
وفي مجال انتخاب النواب، وبمعزل عما ورد في المادة 24، يطرح السؤال التالي: هل أن الناخبين اللبنانيين متساوين في ما بينهم؟
بداية، نوضح، أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أكد في المادة 21، على المساواة بين الناخبين، بحيث يكون لكل مواطن صوت، وان تكون جميع الأصوات متساوية.
بالعودة إلى الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في حزيران 2009، وبعد الاطلاع على أرقام الناخبين المسجلين في كل دائرة انتخابية، وعدد النواب المخصص لها، الواردة في الجداول الملحقة بقانون الانتخاب رقم 250/ 2008، المنشورة في جريدة السفير بتاريخ 9 حزيران 2009، وإذا ما أخذنا كمعيار صوت الناخب في كل من دوائر صور والنبطية وبنت جبيل، باعتبار أن القانون خصص أعلى نسبة من الناخبين لكل نائب، في هذه الدوائر، حيث لكل 40 ألف ناخب نائب واحد، وأجرينا مقارنة بينه، وبين صوت الناخبين في مختلف الدوائر الانتخابية 26، لتبين لنا أن صوت الناخب في كل من دوائر كسروان- جزين والدائرة الأولى في بيروت، يعادل أكثر من صوت ناخبين في دائرة النبطية، أما صوت الناخب في كل من الدوائر طرابلس- زغرتا- زحلة- الشوف- بعلبك الهرمل وجبيل، فانه يعادل أكثر من صوت ناخب ونصف في دائرة بنت جبيل.
وأخيراً، أن صوت الناخب في دائرة البترون يعادل صوت نائب وثلث في دائرة النبطية، أما صوت الناخب في كل من دوائر صيدا- المنية- الضنية- وعكار، يعادل صوت ناخب وخمس في دائرة بنت جبيل.
وأكثر من ذلك، فانه يوجد تفاوت داخل كل محافظة، بين ناخبي دائرة انتخابية معينة، وناخبي دائرة أخرى.
والمثال على ذلك، هو أن في محافظة الجنوب، يتميز الناخب في دائرة جزين وصيدا، عن الناخب في دوائر صور والنبطية وبنت جبيل. وفي الشمال، يتميز صوت الناخب في دائرة طرابلس، عن صوت الناخب في دائرة عكار أو دائرة المنية- الضنية.
وفي البقاع، يتميز صوت الناخب في دائرتي زحلة والبقاع الغربي، عن صوت الناخب في دائرة بعلبك الهرمل الخ...
إن هذا الوضع الشاذ، بالإضافة إلى كونه مخالفاً لمبدأ المساواة بين الناخبين، من شانه أن يؤدي إلى إلحاق الضرر والغبن بفئة لا يستهان بها من الناخبين اللبنانيين، بدون أي سبب مشروع أو عادل.
وبعد أن خلقت الممارسة المتعلقة برئاسة الجمهورية ورئاستي مجلس النواب والحكومة، تفاوتاً وتمايزاً بين اللبنانيين، أتى الدستور في المادتين 24 و 95 ليكرس هذا التمايز بالنسبة للمراكز المتعلقة بالنيابة والوزارة مناقضاً بذلك ما جاء في المقدمة والمادة 7 منه.
وأخيراً، كرس قانون الانتخاب الأخير رقم 250/2008، بدوره، في الدوائر الانتخابية التي اعتمدها، التفاوت بين الناخبين اللبنانيين.
وفضلاً عما تقدم، أن التفاوت أو عدم المساواة بين اللبنانيين لا يقتصر فقط على المراكز السياسية المتقدم ذكرها، إنما يشمل أيضاً الوظائف الهامة القيادية في الإدارة العامة والقضاء والأسلاك العسكرية والأمنية، وبعض المؤسسات العامة الكبرى.
وبالرغم من أن الفقرة 2 من المادة 95، أشارت إلى عدم جواز تخصيص أية وظيفة، من وظائف الفئة الأولى، لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة، إلا أنه يتبين، من خلال الممارسة، ولا سيما بعد عام 1990، أن هذه الوظائف أصبحت حكراً على بعض اللبنانيين فقط، الأمر الذي يشكل إخلالاً خطيراً بمبدأ المساواة بين اللبنانيين أمام الوظائف العامة. وأكثر من ذلك فلقد تحولت هذه الوظائف القيادية، إلى ما يشبه الوظائف "المقدسة"، بحيث أصبح من الصعب محاسبة أو مساءلة القائمين بها، عن أي تقصير أو إهمال أو أي عمل غير قانوني، وذلك بسبب الحماية الطائفية والمذهبية.
وأخيراً، نؤكد، أن أساس أي نظام ديمقراطي سواء أكان برلمانياً أو رئاسياً أو غيره، هو مبدأ المساواة بين المواطنين، وبغيابه، لا يمكن الحديث عن أي نظام ديمقراطي. إن جوهر النظام الديمقراطي، هو تداول السلطة بين المواطنين بصورة سلمية عبر صناديق الاقتراع. وهذا التداول لا يمكن أن يتحقق إلا في حال وجود مساواة بين المواطنين.
وفي لبنان، وبالرغم من أن الدستور، أشار في المقدمة إلى أن لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، وفي بعض أحكامه إلى الخصائص المميزة للنظام البرلماني، إلا أن النظام في لبنان، لا يمكن اعتباره فعلياً برلمانياً بصورة صحيحة وكاملة لافتقاره إلى المساواة بين اللبنانيين أمام المراكز السياسية المتقدم ذكرها.
وإذا كان مبدأ المساواة، يعتبر أساس النظام الديمقراطي، فانه يعتبر أيضاً أساس الحرية والعدل والسلم في أي دولة من دول العالم.
وإزاء هذا الواقع، هل يصح، التذرع أو الاعتداد بالمبدأ البرلماني القائل، "بان من حق الأكثرية النيابية أن تحكم، ومن واجب الأقلية أن تعارض"؟
وباختصار نقول، إن النظام المعتمد في لبنان يتميز، على صعيد المراكز السياسية، بالطابع الطائفي- التوافقي "الشامل"، أما على صعيد القرارات المتخذة في مجلس النواب ومجلس الوزراء، فإنها تبقى خاضعة لمنطق الأكثرية العادية أو أكثرية الثلثين. وتحمل هذه الأكثرية، في طياتها، طابع طائفي- توافقي معين. وقد يكون هذا الطابع "شاملاً" في بعض الأوقات، وقد لا يكون في الأوقات الأخرى، وذلك حسب طبيعة القرار المتخذ والظروف المحيطة به.
وفي النهاية، نأمل من المجلس الدستوري، وفي معرض النظر في الطعون الانتخابية، أن يثي..........ر عفواً، مسألة دستورية ما جاء في قانون الانتخاب رقم 250/2008، لجهة المساواة بين الناخبين اللبنانيين في ما بينهم، وان يتخذ بالتالي القرار المناسب.

 مقالات: عبء الأصول غير العاملة

مقالات: عبء الأصول غير العاملة

تسجل المصارف في لبنان معدلات مرتفعة جداً للسيولة قياساً إلى حجم موجوداتها، هذه النسبة التي تتجاوز مثيلاتها في المنطقة بحوالي عشرين نقطة تضفي طابعاً خاصاً على الاقتصاد الوطني، وتمنحه حماية مقبولة تجاه المخاطر الداخلية والخارجية. ومع ذلك فهي ترتب علية التزامات لا يمكن تلبيتها بسهولة. وفائض السيولة هذا الذي يستقبل بحفاوة كبير، يقع في سياق التحوط المبالغ به، في بلد يعاني من إحساس داهم بالخطر، وينتاب مؤسساته الحكومية الشعور بأنها دائماً عند حافة الهاوية.

يتطلب هذا الفائض نقاشاً حذراً يتعدى الترحيب، فالسيولة الجاهزة تجاوزت 170% من الناتج المحلي و وصل حجم احتياطي مصرف لبنان من العملات إلى 83 % من الناتج. وإذا استبعدنا الموجودات الخارجية للمصارف من معادلة السيولة، باعتبار أنها أرصدة موظفة فعلاً، وأضفنا إليها اكتتابات المصارف بسندات الخزينة بالليرة وبالعملات، فسنحصل على ما يمكن تسميته بـ"الأرصدة المالية غير العاملة" الواقعة عملياً خارج الدورة الاقتصادية، ويوازي حجمها 275% من الناتج تقريباً. إنّ كلفة تمويل هذا النوع من الأرصدة (المكون أساساً من ودائع القطاع المصرفي لدى المصرف المركزي وديون المصارف على القطاع العام) تستهلك جزءاً كبيراً من الناتج يقدر بحوالي 15% منه. وسترتفع هذه الكلفة إذا احتسبنا أيضاً الأصول الحقيقية غير العاملة، مثل الاستثمار المفرط في قطاعي الصحة والتعليم، والتوزيع غير المتوازن للمشاريع العامة، .. ينطبق الأمر نفسه على القطاع العقاري، حيث من المحتمل أن نواجه خلال بضعة أشهر فائض عرض على صعيد الأبنية الممولة بالطلب الخارجي، فيما يبقى فائض الطلب في سوق العقارات ككل على حاله.

نحن إذاً في مواجهة معضلة شائكة تتمثل في وجود كم كبير من الأرصدة والأصول المالية والمادية غير المستخدمة والتي ترتب أعباء متزايدة مع مرور الوقت، و مع ذلك لا يتم توظيفها في المجالات التي تعاني من قصور في الاستثمار. وهذه المشكلة لا تخلو من  مفارقة كونها تفرض على اقتصاد يعمل بأقل من طاقته ويعاني من انخفاض مزمن في الإنتاجية، تمويل أصول مالية وحقيقية يتم وضعها خارج دورة الإنتاج عمداً وذلك تحسباً لهجمات مضاربة محتملة في أسواق الصرف.
النقطة الأخيرة تقدم توضيحاً مناسباً لمن يعتقد أن السيولة الضخمة تكفي وحدها بمثابة للوقاية من المخاطر. فصحيح أن السيولة الجاهزة باتت تفوق حجم سندات الخزينة، وصحيح أيضاً أن الموجودات الخارجية لمصرف لبنان توازي كلفة الاستيراد لسنتين تقريباً، إلا أن غالبية السيولة المتحولة إلى احتياطيات تتكون من موارد مقترضة، فهي  إذاً خاضعة للشروط والعوامل المسببة للازمات. بعبارة أخرى..إن استمرار تدفق الأموال من الخارج يرتبط أساسا بوجود تقويم ايجابي للمخاطر قياساً إلى العوائد. لكن أي تغيير في تقدير المخاطر ناجم مثلاً عن تدهور إضافي في أوضاع المالية العامة سيؤدي إلى تدهور مالي مقابل، وسيبدد الجزء الأكبر من الاحتياطيات المالية المفترض استخدامها في تهدئة الأزمات.
لنعترف أننا في مواجهة وضع غير مسبوق، وان الأصول المالية المقترضة "غير العاملة" تؤثر على سلامة الأداء الاقتصادي واستقراره. وحتى الآن يعالج هذا الوضع الناتج عن الاستدانة بفتح حلقات أخرى للاستدانة. لكن المشكلة ليست في ضخامة حجم السيولة بل في كون غالبيتها عبارة عن قروض زائدة وهي غير ناتجة عن فوائض الإنتاج كما هو حال بعض الدول الناشئة. ناهيك بأن عبء السيولة الإضافية سيتم ترحيله تدريجياً من المصارف التجارية إلى المصرف المركزي الحريص على امتصاص السيولة بأي ثمن بهدف كبح التضخم، ليقع العبء في نهاية المطاف على عاتق الخزينة العامة.
وهذه فجوة نظرية تستحق شيئاً من الاستطراد. إذ أنّ التشغيل المبالغ فيه للكوابح النقدية في مواجهة احتمالات التضخم هو احد الأسباب التي تقف بحسب بعض الاقتصاديين وراء اندلاع الأزمات المالية. وعلى هذا الأساس تُكال لـ آلان غرينسبان التهم في التمهيد للازمة الراهنة، لافتراضه أن دور الاحتياطي الفدرالي يقتصر على تحريك منصة أسعار الفائدة هبوطاً أو صعوداً للحصول على تشغيل كامل لا يترافق مع التضخم. تهتم السياسة النقدية في لبنان بالجزء الثاني من المعادلة المتمثل في لجم الأسعار، دون اهتمام يذكر بالأهداف الاقتصادية المطلوب من السياسة النقدية رعايتها.
ما نواجهه إذا هو زيادة غير مسبوقة وغير مألوفة في حجم "الأرصدة غير العاملة" المطلوب من المنتجين المحليين تسديد تكلفتها، فحتى عام 2004 لم تتجاوز السيولة المصرفية الجاهزة بالمتوسط 15 % من مجموع الموجودات المصرفية وحوالي 20 % من الودائع بينما وصلت اليوم إلى 50.5 % و63 % على التوالي. هذا يطرح سؤالاً أوسع مدى.. إلى أي حد يمكن للاقتصاد تحمل ثلاثة أنواع من الأعباء الجانبية الثقيلة: كلفة الأرصدة والأصول غير العاملة، وعلاوة الاحتكار، وخدمة الدينين العام والخاص. و بطبيعة الحال لا يمكن الاستمرار بذلك إلى ما لا نهاية. فهناك نقاط انكسار كثيرة محتملة في وضع اقتصادي يتسم عموماً بالهشاشة. المعالجة تبدأ من إدخال تعديلات ملموسة على طريقة توظيف الفائض المالي، فيستخدم في توسيع حجم الاقتصاد بنسب تزيد عن كلفة القروض (والودائع) المستعملة في بناء الاحتياطيات، وبخلاف ذلك، البديل هو التحكم بتدفق الأموال على نحو يتناسب مع طاقة الاقتصاد الراهنة على الاستيعاب و من ثم تدوير ما يفيض عن ذلك إلى الخارج.

 مقالات: لبنان .. هل هو مشروع ثقافي ؟ الثقافة الجديدة وأقنعة الحداثة

مقالات: لبنان .. هل هو مشروع ثقافي ؟ الثقافة الجديدة وأقنعة الحداثة

في خاتمة النص الثقافي لتقرير "نحو دولة المواطن"، دعوة لحداثة سهلة تعول على زخم الحياة اليومية وخصوصياتها وليس على فعالية المجتمع وتطور العلاقات في داخله. هذا مرتبط إلى حد ما بحنين إلى الماضي الذي احتضن خرافة الفرادة، وأوحى لقسم من اللبنانيين أن التمايز يبنى على مظاهر العيش لا على الوعي الجماعي، وعلى الخيارات العرضية لا على التجارب التاريخية المتراكمة والدؤوبة. على أن الخصوصية اللبنانية التي شدّت من أزرها الحروب والنزاعات، لم تكن سوى حصيلة تمازج قسري وانفتاح إلزامي أملته مقتضيات الوفرة والرفاه والاستقرار، فهي بالتالي منتج اقتصادي وسياسي وليس سلعة ثقافية البتة.