قراءة نقديّة في التنمية المستدامة وما بعدها: لبنان نموذجاً

رقم الإصدار: 36

الملخص التنفيذي

على مدى سبعين عامًا من عمل منظمات الأمم المتحدة حول العالم والمشاريع والجهود التي بُذلت ومُوّلت من أجل تحقيق أهداف التنمية وجدنا أن هذه الأهداف قد خطت بالفعل خطوات عالميّة باتجاه تعزيز مفاهيم الاستدامة والرفاه "وتحويل عالمنا"  لاسيما ما كان منها في مجالات تطوّر المفاهيم وأساليب العمل المختلفة التي اتبعتها. وقد لقيت الأهداف الإنمائيّة للتنمية إشادات مختلفة بالمجهودات الكبيرة التي عملت على تحسين حياة الكثير من شعوب العالم وانتشالهم من براثن الفقر والجوع والمرض، لكنها واجهت انتقادات أشد قسوة عندما عملت على تكريس قيم من خارج المنظومة الفكريّة والاجتماعيّة للشعوب في مختلف القارات، وذلك منذ اللحظة التي جرى فيها تأطير بعض هذه الدول باعتبارها دول العالم الثالث، النامي والفقير، أو دول الجنوب التي تحتاج إلى دعم ومساعدة من دول عالم الشمال أو الدول ذات التنمية المرتفعة أو غيرها من التسميات التي صنّفت دول العالم إلى طبقات وفئات.

تغيرّت مع الوقت الأهداف الإنمائيّة للألفيّة الاثني عشر المعلن عنها عام 2018 لتصبح أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر بأهدافها الـ 169 في أجندة العام 2030، وذلك في انعكاس لالتزام المجتمع الدولي بمواصلة الجهود لتحقيق تنمية شاملة تركّز على التداخل بين القضايا المختلفة التي تهمّ العالم كله.

وفّرت أهداف التنمية المستدامة إطارًا متكاملًا من أجل ضمان مستقبل أفضل للجميع، على أن ذلك كان يتطلب التزامًا جماعيًا وجهودًا منسّقة بين الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والأفراد وهو ما أمكن تحقيقه بنسب متفاوتة بين البلدان. وعلى أثره جرى تصنيف البلدان في مجموعات حسب دليل التزامها بالمعايير الموضوعة ما أثّر بصورة كبيرة على صورتها العامة العالميّة لجهة قدرتها على الوفاء بتعهداتها تجاه شعوبها.
لاحقًا تبيّن أنه كان من بين الأهداف المطلوبة غير المعلنة الوصول إلى العولمة شبه التامة باعتبار أن الطروحات الموضوعة كانت تقترح حلولًا موحّدة للاختلافات السياسيّة وأنظمة الحكم المتعددة أو التباينات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة بين الدول والمجتمعات.

ومع الوقت ظهر التأثير السلبي لمقايضة التكنولوجيا بالموارد الأوليّة للبلدان الفقيرة، كذلك برز التأثير السلبي الأهم من خلال استنزاف الموارد البشريّة وتسهيل هجرة الأدمغة منها وخفض نسبة الولادات وهو ما كانت تقارير التنمية البشريّة تؤكد عليه بصورة غير مباشرة. كذلك تبيّن أن العديد من الأهداف تستلزم الموافقة على اتفاقيات دوليّة لكن الولايات المتحدة الأميركيّة لم تقر حتى اليوم ستًا من أهم هذه الاتفاقيات التي تضمن المعاملة بالمثل بين كافة الدول.
كذلك واجهت هذه الأهداف انتقادات كثيرة تتعلق بالتركيز المحدود والتفاوت في التقدّم والاعتماد على المساعدات الدوليّة، وارتباط نجاح هذه الأهداف بتعميم النمط الرأسمالي على الاقتصاد العالمي مع كل مستلزمات العمل الضروريّة له لاسيما ما يرتبط منها بإحداث تغيرات جوهريّة وبنيويّة في ثقافة الشعوب وتركيبتها الاجتماعيّة.

اعتبارًا من العام 2019 بدأت تطفو مجموعة تحوّلات مفصليّة أثرّت في أعمال التنمية وقممها المتتالية ومنها: انتشار وباء كورونا، وأزمات التغيير المناخي والنزاعات الجيوسياسيّة ولاسيما منها الحرب في أوكرانيا التي سلّطت الضوء على الانحياز الكبير لقضايا الغرب فيما يعتبره أولويات وطنيّة وقوميّة، وهو ما أثّر على مصداقيّة سياسات وأهداف التنمية وحفّز التفكير بإيجاد البدائل التي كان يجري العمل عليها بالفعل منذ وقت طويل.
وبالرغم من التجييش الإعلامي لأهداف التنمية المستدامة لكي تبدو أهدافًا نبيلة وضروريّة لمستقبل البشريّة تساهم في تعزيز التعاون الدولي وتحقيق العدالة، لا تزال هذه الأهداف بعيدة جدًا عن هذا الأمر خاصة وأن مركزيّة الداتا المجمّعة حول البلدان ساهمت في تحليل أعمق حول نقاط الضعف الداخليّة التي يواجهها هذا البلد أو ذاك وبالتالي أمكن خلق الأزمات وافتعال الحروب أو إحداث الانقلابات المتنقلة أو نشر الأمراض والأوبئة للسيطرة على موارد العالم.

أما لبنان فقد تأخر كثيرًا عن إعداد خطة وطنيّة لوضع أهداف التنمية موضع التطبيق في سياساته وخططه العامة بالرغم من موافقته الرسميّة على هذه الأهداف إلى ما قبل العام 2000، فقد قاد نهضته العامة بعد الحرب الأهليّة على مبدأ الإنماء المتوازن – الذي كان متوازيًا بين المناطق والطوائف وليس متوازنًا بالضرورة بالنظر إلى الخصائص المناطقيّة المختلفة-، ومستعينًا بنظريّة هيرشمان حول النمو غير المتوازن التي تقول بتركيز الاستثمارات في عدد محدود من القطاعات الإنتاجيّة بحيث استقطب القطاع العقاري والمصرفي والسياحي أغلب الاهتمام والاستثمار على حساب قطاعي الزراعة والصناعة.

واعتبارًا من العام 2010 بدأ لبنان يشهد تراجعًا دراماتيكيًا في مؤشرات التنمية لديه وكان التحوّل المفصلي الذي طرأ على مسار التنمية هو الأزمة السوريّة وما تبعها من أحداث وتطورات محليّة وعالميّة.
قدّمت هذه الدراسة إطارًا عامًا حول أبرز المدارس النقديّة للتنمية والتي يدور أغلبها حول نقد المدرسة الاقتصاديّة باعتبار أن الاقتصاد هو المحرك الأساسي الأول لباقي القضايا والالتزامات المتعلقة بالتنمية بشكلها الحالي، ولهذا فهي تؤسس بطريقة مباشرة لأهميّة العمل على بلورة مفاهيم أخرى أكثر عدالة وأكثر احترامًا لقيم المجتمعات وثقافاتها الغنيّة والمختلفة والمتعدّدة، وهو ما تم التطرّق إليه بالحديث عن المبادئ العامة حول نظرية التقدم والتمكين لدى الإمام الخامنئي حفظه الله.


مقدمة

ظهرت اعتبارًا من منتصف خمسينيات القرن الماضي الأدبيات التي قدّمت لمفهوم التنمية وذلك بعدما أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1956 تعريفًا لها بوصفها "العمليات التي بمقتضاها توجّه الجهود لكل من الأهالي والحكومة بتحسين الأحوال الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة في المجتمعات المحليّة لمساعدتها على الاندماج في حياة الأمم والإسهام في تقدّمها بأفضل ما يمكن". 

وقد كان هذا التعريف ضروريًا للتفريق بين مفاهيم التنمية وتلك المتعلقة بمسائل النمو والتي تركّز على الاعتبارات الكمية مثل زيادة الناتج المحلي أو زيادة الإنتاجية أو زيادة الموارد في العمالة ورأس المال، بحيث اتخذت التنمية بُعدًا أكثر شمولية لجهة "التحسينات" التي طرحتها على بشأن رفع مستوى المعيشة أو الصحة أو توزيع عدالة الثروة أو غيرها من المواضيع التي سوف يجري التطرّق إليها تباعًا.

وفي الستينيات أعيد تعريف التنمية باعتبارها "أسلوب عمل ونمط حديث في التفكير والتعاطي ومنهجيّة إداريّة يمكنها أن تدعم نهوض ورفاه الدول لاسيما منها الدول الفقيرة المسماة "دول العالم الثالث أو دول الجنوب ".

كان بثّ مثل هذه المفاهيم ضرورةً لدول العالم الصناعيّة بعد خروجها من الحرب العالميّة الثانية وحاجتها إلى تعزيز حضورها الاقتصادي ونفوذها الصناعي في العالم بصورة سلسة، كما كان لهذه المفاهيم المقبوليّة والرواج الواسعان في دول العالم النامي الخارج – بأغلبه- متهالكًا من مرحلة الانتداب والاستعمار الذي استولى على الكثير من الثروات الطبيعيّة في هذه البلدان، ولأن التنمية – كما جرى الترويج لها- تعمل في اتجاهين: الأول تحقيق زيادة سريعة تراكميّة ودائمة عبر فترة من الزمن في الإنتاج والخدمات نتيجة استخدام الجهود العلميّة لتنظيم الأنشطة المشتركة الحكوميّة والشعبيّة، والثاني المساهمة في زيادة فرص حياة أفضل لبعض الناس في مجتمع معيّن، دون الانتقاص من تحسين فرص حياة أناس آخرين في المجتمع نفسه، من خلال تغيير تركيبة الاقتصاد وأنماط استهلاك المجتمعات وربما تغيير معيشتهم ككل.

وتحت مسمّيات جاذبة طفا عالم "التنمية" على ما عداه من مفاهيم وأعطي بُعدًا أمميًا، وعُقد لأجله آلاف الاجتماعات التي نظّرت لمجموعة من الأهداف التي كانت تزيد وتتطور باستمرار، وقد وظّف لأجلها جيش من الخبراء والاختصاصيين حول العالم، وتجنّدت لها إدارات الإحصاء المركزيّة في كافة البلدان، ثم نما على هامش منظمة الأمم المتحدة المعنيّة بتطبيق الأهداف عشرات المؤسسات التي وُجدت للتأكد من أن الدول تحقق التنمية المطلوبة منها في الأبعاد المختلفة والمتعددة التي وُضعت لأجلها، وكان من أبرز مهامّها الأساسيّة جمع البيانات الموحّدة حول الدول وتصنيفها استنادًا إلى مجموعة مؤشرات ووضعها في ترتيب يسمح لها بأن تقارن مستويات العمل على "تطوير" هذا الهدف أو ذاك مقارنة بباقي بلدان العالم.

في هذه الدراسة سوف يتم التطرّق إلى أبرز المفاصل في محطات التنمية وتطوّرها الزمني والمفاهيمي، كما سيجري النظر في نقد الخيارات المرتبطة بهذا المفهوم باعتبار ما نتج عنه من تداعيات وضغوطات على الدول من أجل تكريسه "مُسلّمة" لا بد منها، وسوف يُظهر البحث أيضًا الآليّة التي عمل عليها لبنان في تطبيق هذه المفاهيم، ويخلص البحث أخيرًا إلى تقديم اقتراحات حول أهميّة تطوير مفاهيم أخرى جديدة من شأنها النظر فيما يتناسب مع البلدان المعنيّة بإحداث تغييرات حقيقيّة في مجتمعاتها.

 

تحميل الملف
المقال السابق
نشرة المصادر الإلكترونية | إعداد مديرية المعلومات - العدد التاسع والأربعون/ تموز 2024
المقال التالي
نشرة المصادر الإلكترونية | إعداد مديرية المعلومات - العدد الثامن والأربعون/ حزيران 2024

مواضيع ذات صلة: