أولًا- مدخل
تتراجع محوريّة الدولة في النظام العالمي وتتغيّر موازين القوى بين أقطابه، وهذه الجدليّة تعبّر عن نفسها بوضوح في الحروب الجديدة التي ينخرط فيها الغرب الواسع في أوكرانيا وفلسطين المحتلة ويستعد لما يماثلها في أماكن أخرى. فاللاعبون ما دون الدولة وما فوقها باتوا يقرّرون أكثر من الدول نفسها مسار الأمور ويفرضون إيقاعهم على الوقائع والأحداث.
قبل قرن من ذلك أو أكثر، اكتسبت الدولة الأمّة مكانة راسخة في العلاقات بين الأمم وفي قيام المؤسسات والمنظمات العالميّة أو اندثارها وفي نشر العقائد والأفكار السياسية وتخطّي المشكلات. فالحلّ المنشود للمشكلة اليهوديّة في أوروبا، مثلًا، كان في إقامة كيان لهم يلبّي المصالح الغربية ويفي بموجبات القبض على الإرث الاستعماري للأمبراطوريّات الآفلة، وبذلك جرى تحويل قضيّة أقليّات ما دون الدولة إلى قصة تقرير مصير مزعوم في مستوى دولة. وغير بعيد من ذلك، لكن في سياق معاكس، تحوّلت الدولة العثمانيّة من أمبراطوريّة/ أمّة متعددة الأديان والإثنيات إلى كيانات قوميّة، نجح بعضها في أن يكون دولة كتركيا، فيما خسر العرب رهانهم على بريطانيا في تحقيق طموحهم القومي، وذهب الفرنسيون بعيدًا بمحاولتهم دون نجاح تقسيم سورية إلى دويلات إثنية وطائفيّة مزعومة.
كانت الدولة أيضًا، بانضمامها إلى اتفاقات ومعاهدات متعددة الأطراف، ركيزة التنظيم الاقتصادي والحقوقي للعالم ولقضايا الأمن والسلم بين البلدان. وساهمت الأفكار والآيديولوجيّات في تغيير العالم وتشكيله. لقد فعلت الأفكار فعلها في التاريخ السياسي العالمي ولم يكن ذلك ممكنًا لولا اعتناق أنظمة ودول لعقائد سياسيّة مستقاة منها، كما في الثورتين الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر والبلشفية في بداية القرن العشرين، وفي قيام المعسكر الشيوعي الذي تقاسم النفوذ العالمي مع الدول الغربية زهاء خمسة عقود، وكذلك في "الروحانية السياسية" التي صعدت مع انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وعبّرت عن توق دول الجنوب إلى التحرر من هيمنة الشمال انطلاقًا من قيم الجنوب الذاتية وتصوّراته الخاصة للعالم . وعلينا أن نتذكر أيضًا كيف أثّرت أفكار كينز مثلًا في إسباغ المشروعية العلميّة على تدخّل الدولة في العديد من الاقتصادات الرأسمالية، وكيف استفادت الدول الغربية من أفكار فريدمان وهايك وغيرهما في تعميم الوصفة النيوليبرالية المتمثلة في بنود إجماع واشنطن، فضلًا عن نظريّات التنمية التي فرضت نفسها على الدول والمؤسّسات العالمية في الربع الثالث من القرن الماضي.
أكثر من ذلك جرت محاولة استيعاب الديانات والعقائد في هويّات حداثويّة تتناسب مع فكرة الدولة الأمّة. ويمكن أن نستكشف الطريق المفتوح بين الدين والهويّات المشكّلة للأمّة ، فبعض الفرق الدينيّة تحوّلت إلى قوميّة (مثل مسلمي البوسنة والهرسك) وبعض القوميّات أخذت صبغة دينيّة بما يتلاءم مع نظام سياسي طائفي (مثل الأرمن الكاثوليك أو الأرثوذوكس في لبنان).
لكن استقرار النظام العالمي يفترض أن تحظى دوله بالمشروعيّة التاريخية، وأن تخضع للقانون (قانون دولي) ولقيود جيوسياسيّة (موازين قوى) تحدّ من قدرتها على استعمال القوّة وتلزمها باحترام القيم العالميّة المشتركة. والاستثناءات من ذلك كانت حاضرة دائمًا، كالفصل والتمييز العنصريين في جنوب إفريقيا (حتى عام 1994) والولايات المتحدة الأميركيّة (حتى عام 1964) والحروب الاستعماريّة الدامية (الجزائر حتى عام 1962 وفيتنام حتى 1975...). أما "إسرائيل" فكانت حالة استثناء كامل، بالنظر إلى خصوصيّة تأسيسها وتفوّقها النوعي المكفول على كل الجوار، وهويتها المؤسطَرة والملتبسة بين الدين والقومية، واستعمالها البربري والمتكرّر وغير المحدود للعنف، وحماية الغرب لها من المساءلة والعقاب.
تبدُّل الأدوار
انتهت الحرب الباردة وطويت معها مركزيّة الدولة، لكنها بقيت الملاذ في الأزمات. وما كان استثناءً كاد أن يصير القاعدة. بقيت الهياكل المؤسسيّة للدولة قائمة بصلاحيات مقلّصة. والعديد من القضايا الحيويّة صارت خارج متناول الدولة الوطنيّة. ولم تعد الانتخابات في الدول الديموقراطيّة، أو الأُطر القياديّة في غيرها، صاحبة القرار في رسم السياسات العامّة. ينطبق ذلك على الحروب والنزاعات والتحالفات العسكريّة. في الحرب الأوكرانيّة انتظمت أوروبا خلف واشنطن على الرغم مما كبّدتها وتكبّدها مواجهة روسيا من خسائر. قبل ذلك حاولت فرنسا وألمانيا الوقوف في وجه جورج بوش الإبن في حربه على العراق عام 2003 وما لبثتا أن وافقتا على قرارات مجلس الأمن التي سلّمت بسيطرة أميركا وحلفائها (قوات التحالف) على العراق (القرارات 1483، 1511، 1518...). روسيا نفسها في تسعينيات القرن المنصرم راعت موازين القوى المختلّة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وأحيانًا انصاعت لها، وكان أملها من وراء ذلك تحقيق اندماج ناعم في الغرب الواسع. بقيت الأفكار السياسيّة والاقتصاديّة مؤثرة في القرارات والسياسات لكن دون أن تستند بالضرورة إلى آيديولوجيات متكاملة. والفرضيّة هنا أن قوة الآيديولوجيا هي في العموم من قوة الدولة تتقدم وتتراجع معها. وما دام أن جزءًا كبيرًا من السلطة السياسة أفلت من يد مؤسسات الحكم المعيّنة أو المنتخبة، فلا حاجة، مع بزوغ فجر
الأُحاديّة القُطبيّة، لمنظومات فكرويّة متماسكة لفرض ما ينبغي فرضه. ولا حاجة أيضًا لأدوار مضخّمة للمؤسّسات الدوليّة التعاقديّة.
تعبّر الليبراليّة الجديدة عن إمكانيّة تأدية وظيفة الآيديولوجية في السيطرة، لكن في قوالب غير آيديولوجيّة. اختُصرت الليبرالية الجديدة بتوصيات مبسّطة وواضحة وصريحة. ومنها البنود العشرة لإجماع واشنطن في الاقتصاد، وعدد من الحقوق الفرديّة المنتقاة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وشُرَع أخرى، وأُغفلت الحقوق الفرديّة والجماعيّة الأخرى. لم يكن مطلوبًا من أي دولة أن تفصح عن اعتناقها الليبراليّة الجديدة ولا أن تؤيّد مضامين البنود والحقوق المذكورة علنًا، بل يكفي أن تلتزم بما ينسجم معها من مواقف وقرارات. وبهذا المعنى يجرى التحلّل من "عبء" الآيديولوجية الثقيلة والمعبّأة بالفلسفات والأفكار والتي تستوطن مجتمعات ودولًا، لتستبدل بها عقائد مخفّفة وطريّة ومتكيّفة مع التحوّلات وعابرة كالطيف للحدود.
حافظ النظام العالمي رغم تحوّلات القرن الماضي على هياكله، فلم تولد مؤسسات دولية من رحم انهيار الثنائيّة القطبيّة، بل جرى تقوية المؤسّسات التي تصلح لأن تكون قناة لنقل القرارات والسياسات من المركز الأمبراطوري إلى الأطراف، أو يمكن أن تكون العصا الغليظة لمعاقبة المتمردين والمارقين عند اللزوم، وأُهملت المؤسّسات الأخرى. ومن أجل ذلك هُمّشت منظّمات التنمية الأمميّة وغابت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة وهيئات مرتبطة بها عن المواقع المرسومة لها، وارتفع شأن مجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظّمة التجارة العالميّة بوصفها أذرع النظام العالمي الجديد. ورُسم مسار جديد موازٍ للعدالة الدوليّة من خلال منظمات غير تعاقدية كالمحاكم الخاصة التي تُؤسّس وتفوَّض لها الصلاحيات عنوة بموجب قرارات صادرة عن مجلس الأمن.
ثلاثيّة القوّة
كانت الدولة في القرن الماضي هي الإطار الناظم لعناصر القوّة الثلاثة: الأفكار والسيطرة والموارد، وبضعفها تفككت هذه الثلاثيّة. لم يعد مطلوبًا تصنيف الأنظمة السياسيّة وفق ما تعتنقه من أفكار بل يكفي كما ذُكر آنفًا أن تتبنّى ما يجب تبنّيه من سياسات. طُمست الفوارق بين الأجنحة والتيارات السياسيّة وتداخلت ملامحها على وقع انهيار النظام القديم. أفسح التقارب بين اليمين واليسار في المجال أمام نشوء فراغ كبير في طرفي الحياة السياسية ممهّدًا الطريق أمام انتشار الشعبويّة من ناحية وتمحور البرامج السياسيّة حول مسائل ذات طابع هوياتي وثقافي أكثر مما هو سياسي واجتماعي من ناحية أخرى. وقد أدى تعاظم دور سلاسل التوريد إلى إخضاع الدول لنظام إنتاج لا يقع تحت سيطرتها، وزادت أهميّة الموارد التكنولوجيّة لتنافس في بعض الأحيان الموارد الطبيعيّة.
وتستحقّ هذه النقطة بعض الاستطراد. فمن المتوقّع مثلًا أن تصل قيمة المبيعات العالميّة من شرائح أشباه الموصّلات إلى حوالي 726 مليار د.أ في عام 2027 وإلى حوالي تريليون د.أ في نهاية العقد مقارنة بثلاثة تريليونات لإنتاج النفط. وتسيطر عشر شركات على الغالبيّة العظمى من إنتاج هذه الشرائح، التي لا غنى عنها في المنتجات الإلكترونيّة وعالية الدقّة، أي أنّها لا تقع تحت سلطة الدولة. وهذا الاستحواذ يزيد من خطورة التحكّم التقليدي للشركات متعددة الجنسيات بالإنتاج العالمي الذي تعاظمت حدّته بعد نهاية الحرب الباردة (تستحوذ الشركات متعدّدة الجنسيات على 80 بالمئة من المبيعات في العالم وتعادل إيرادات الخمسمئة شركة الأكبر حوالي 46 بالمئة من الناتج العالمي). أمّا الذكاء الاصطناعي الذي تسيطر على أسواقه واستثماراته المدنيّة بضع شركات، فيتوقّع أن يضيف استخدامه إلى الاقتصاد العالمي ما يقرب من 16 تريليون د.أ بحلول عام 2030، حسب أرقام المنتدى الاقتصادي العالمي. وتمثل حصّة الصين والولايات المتحدة الأميركيّة منها ما يقرب من 70 بالمئة.
السيطرة أفلتت أيضًا من يد الدولة. حصل هذا في معرض تجيير جزء من سيادتها إمّا لمصلحة قوى أكبر (مثلًا انضواء أوروبا تحت المظلّة العسكرية والسياسيّة لأميركا) أو أكثر ثراء (توسّع نفوذ الدول النفطيّة في دول ما يسمّى "الربيع العربي")، أو في إطار اختلال التوازن الإقليمي (التفوّق العسكري "الإسرائيلي" على الدول العربيّة). وداخل هذا التموّجات نمت قوى مستقلة عن الدولة (منظمات المجتمع المدني) أو مضادة لها (الحركات الإرهابيّة والتكفيريّة)، أو مرتبطة بالدولة ومتكاملة معها (قوى المقاومة).
وبقول موجز، يمكن النظر إلى تفكيك تلك المنظومة الثلاثية، الأفكار والقوة الموارد، على أنّه التحول الأبرز بعد نهاية الحرب الباردة، والذي أفضى، من طريق إضعاف الدولة الأمّة، إلى رسم معالم مختلفة للعالم.
لقد استفادت واشنطن بداية من الوضع الجديد الذي نشأ في العقد الأخير من القرن العشرين، فنشرت نسختها الملائمة من النيوليبراليّة مع إصرارها على مزاعم نبذ الآيديولوجيا، وضاعفت من سيطرتها على الموارد من خلال التحكم بقواعد التجارة الدولية، والرقابة على تدفّق السلع والموارد الحيويّة، والإشراف على المّمرات والبحار والقيام بدور المصرف المركزي للعالم، واخترقت بصورة مباشرة وغير مباشرة سيادات الدول بالحرب تارة وبنشر القواعد العسكرية طورًا وبالإمساك بالجيوش الوطنية في أحيان أخرى.
لكن الوضع آخذٌ بالتغيّر. تخسر أميركا معركة الأفكار مع تبدّد وعود العولمة النيوليبرالية وصعود اليمين المتطرف والفاشيّة على أنقاضها، وحلول خريف الديموقراطية الغربية، وخسارة العديد من جولات المعركة على الطاقة والموارد. ومنها على سبيل المثال: توقّف تدفّق الغاز الروسي دون إيجاد بدائل كافية له؛ الفشل في إلزام أوبك زيادة الإنتاج لاستيعاب صدمة الحرب الأوكرانيّة؛ النفوذ الصيني في العديد من الدول النامية المنتجة للمعادن النادرة؛ تراجع التحكّم بمّمرات حيويّة كباب المندب رغم الإنفاق العسكري الأميركي الهائل لضمان أمن منطقة الخليج. ويلوح في الأفق صراع قاسٍ على الموارد التكنولوجية الأكثر حداثة كما في أشباه الموصّلات التي انتقلت الريادة فيها من الغرب إلى آسيا. ولم يعد بوسّع الولايات المتحدة فرض ما تريده بالحرب، بعد خسارتها حربي العراق وأفغانستان، والحروب بالوكالة. وفي حين فشلت واشنطن وحلفاؤها في إضفاء المقبوليّة على المجموعات غير الدولتيّة المرتبطة بها كما ظهر جليًّا في حروب "الربيع العربي"، تمضي حركات المقاومة قُدمًا في هذا الطريق، بامتلاكها المشروعية والصدقيّة والفعاليّة، وهذا يجعلها بنظر العديد من أبناء المنطقة الممثّل الحقيقي لطموحاتهم وآمالهم.