مؤتمر: العرب وإيران في مواجهة التحديات الإقليمية: الفرص، وآفاق الشراكة / أيار- حزيران 2016

عقد في بيروت بتاريخ 31 أيار و1و2 حزيران 2016 مؤتمر إقليمي عربي – إيراني امتد لثلاثة أيام بعنوان "العرب وإيران في مواجهة التّحديات الإقليمية: الفرص وآفاق الشراكة"، وذلك بمبادرة من المركز الاستشاري للدراسات التوثيق بالشراكة مع مركز أنديشه سازان نور (إيران) ومركز الدراسات السياسية والدولية (إيران) والجامعة اللبنانية وصحيفة السفير.

 

انطلقت ورقة عمل المؤتمر من فكرة تراجع الهيمنة الغربية داخل منطقة النفوذ الإقليمي، وهو تراجع كان من الممكن أن يدفع القوى الإقليمية إلى تطبيع العلاقات في ما بينها وصياغة نظام إقليمي جديد يحقق المنافع المتبادلة، إلا أنّ قوة الهيمنة الأميركية تمكنت، بفعل تواطؤ أدواتها الإقليمية من تحويل الشرق الأوسط إلى مسرح لمواجهات أهلية وإقليمية عابرة لحدود الكيانات الوطنية يوظف في بعضها الشحن المذهبي وسيلة أساسية للتعبئة ما أدى إلى استقطاب لا سابق له في التاريخ المعاصر للعالمين العربي والاسلامي وسوف تترتب على استمرار هذا الصراع واتساعه نتائج مدمرة وكارثية على دول المنطقة ومجتمعاتها.

وبما أنّ مسرح الصراع في المنطقة قد أصبح إقليميًا بالدرجة الأولى ومحليًا ودوليًا بالدرجتين الثانية والثالثة أمسى البحث في سُبل قيام تعاون إقليمي بين الدول الوازنة لتجنب السيناريوهات الأسوأ أمرًا لا بد منه، وهو ما يجب أن يبدأ بفهم عميق ومتبادل لمواقف الأطراف المختلفة ورؤاها وتصوراتها للحاضر والمستقبل.

وعليه فإنّ إيران كدولة ومشروع نضالي واستقلالي، والعرب كأمة ذات مخزون رمزي وحضاري وموقع حيوي، لا بد لهما من السعي لصياغة شراكة واستثمار الفرص المتاحة لمواجهة التهديدات الخطيرة التي تختزنها البيئة الإقليمية. وفي هذا الإطار تبرز الحاجة إلى توفير مساحة مفتوحة للنقاش بين قوى يُفترض أنّ لديها تقاطعات في النظرة إلى ضرورة الإصلاح الداخلي وتطوير الأنظمة السياسية ورفض التقسيم والتجزئة وحماية التنوع الثقافي والديني، والسعي للتعاون والاستقلال في مواجهة قوى الهيمنة والاحتلال.

 

 

قراءات في طبيعة أزمة المنطقة: الإشكاليات والمقاربات المتبادلة

إنّ نجاح قوى المقاومة – كما رأى المشاركون في المؤتمر - في نقل العرب من خطاب الهزيمة والنكسة والإحباط الى خطاب العزة والانتصار والثقة بالذات، لا سيما بعد عام 2006، قوبل بتدخل غربي أوسع في المنطقة وإطلاق خطاب جديد وسرديات جديدة تعزز الفتنة المذهبية والكراهية القومية. هذا النجاح وأثره في تسريع الانكفاء الأميركي الإقليمي معطوفاً على التحولات البنيوية في النظام الدولي خلق فراغًا كان بمثابة البيئة المثالية لانفجار الإقليم. ومن طبيعة الفراغ توليد أشكال حادة من التنافس بين القوى التقليدية فيما بينها أو مع قوى جديدة صاعدة. وفي هذا السياق تفاعلت ثلاثة مستويات من التنافس داخل المنطقة هي المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتبادلت التغذية والتوظيف في ما بينها.

وقد انتقل الإقليم بفعل هذه الوقائع الى حالة من "تشظي القوة" وتعدد رخو لأقطاب طامحة وقلقة في ذات الوقت، وسعى الأميركيّون لضبط القوى المعادية لها في هذه اللحظة الإنتقالية عبر التلاعب والاستثمار في تناقضات المنطقة الإثنية والمذهبية، والزج بوكلائه الإقليميين في مغامرات انتحارية، وتفجير المجالات الحيوية لمحور المقاومة. علمًا بأنّ الغرب حريص على إبقاء بيئة خصبة للأزمات المحلية والإقليمية لكي يتدخل إما متلبسًا دور الوساطة أو لاعبًا دور المخلّص للحفاظ على هيمنته على المنطقة ومواردها وقد أدّت التحولات في ميزان القوى الإقليمي إلى حمل الولايات المتحدة على تحديث أدوات الهيمنة وتوليف الصلب منها مع الناعم لذات الغايات الإمبريالية التي استحكمت بشعوب المنطقة تاريخيًا.

وبالرغم من المسؤوليات الكبرى التي تترتب على تدخلات القوى الخارجية فقد عملت القوى الإقليمية والمحلية التي توسعت أدوارها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، على تعميق أزمات المنطقة إما بفعل الخيارات المتطرفة اللاعقلانية وإما لافتقاد الخبرة اللازمة والدراية الكافية بتعقيدات الساحة الإقليمية. ثمّ إنّ افتقاد بعض القوى الإقليمية حس الاستقلالية والرشد والكفاءة جعلها تدور على نحو مباشر أو غير مباشر في مدار القوى الكبرى التي تعمل على اختزال القوى الإقليمية وإضعافها بعيدًا عن مصالحها أو مصالح شعوب المنطقة. كما أن حجم التعقيدات والاضطرابات والتحولات الاقليمية والدولية يجعل من توتر العلاقات بين بعض القوى العربية وإيران أكثر خطورةً على مستقبل المنطقة. وعليه لا بد من تفكيك معضلات العلاقات العربية – الإيرانية وتفحّصها بغية التوصل إلى الحلول والمخارج الملائمة.  

في هذا السياق الإقليمي كان ظهور حركات العنف التكفيري، التي تولد من رحم التفسيرات المتطرفة والمفتعلة للنصوص والتجارب الإسلامية، وتتمدد اجتماعياً في ظل عوامل التهميش وفشل الدولة الوطنية، إلا أن ظهورها وخروجها الى المسرح الإقليمي كان محكومًا لحالة الفراغ والتوظيف والاستثمار في الصراع الجيو سياسي بوجه "محور المقاومة"، قبل أن تنفلت كلية من عقالها وتبداً عوائد استثمارها تخبو لصالح ازدياد المخاطر الناجمة عنها.

 إنّ العنف التكفيري بحسب رأي مشاركين في المؤتمر، هو استمرار لشرعنة العنف الصهيوني وشيطنة قوى التحرر، حتى رأينا من الحكّام العرب من يعتبرون المقاومة إرهاباً، وحتى صار كثيرون حول العالم ينظرون إلى قوى المقاومة العربية نظرة الشك أو القلق. وتفكيك هذه الظاهرة يبدأ من اقتلاع جذورها المتأصلة في بيئات التهميش والانغلاق والتبعية لقوى الهيمنة الغربية.

أما التوتر الهوياتي داخل المنطقة فلا بد من العمل المشترك على تهدئته من خلال التوازن بين المصالح ودوائر الانتماء في بناء أُسس العلاقات العربية – الإيرانية، إذ إن الهويات الضيقة لا تحتكم للعقل في تسوية صراعاتها رغم كونها شديدة الأهمية لشرعية السلطة لا سيما في مستوى ما دون الدولة. هذه الهويات ما دون الدولتية قد تنجح في لحظة الصراع لكنها تبقى عاجزة عن بناء مشاريع نهوض تؤهلها للتفاوض وفق منطق المصالح وهذه معضلتها، بالإضافة الى استغلالها من قِبل النظام الرأسمالي الدولي كمتغير تصحيحي يجري تكييفه لخدمة استمرار هذا النظام.

وعلى صعيد تحدي الدولة الوطنية، أكّد المشاركون على شرط امتلاك السيادة الوطنية كمدخل لأي تعاون أو شراكة حقيقيين بين العرب وإيران. إذ إنّ مستقبل المنطقة ومصالح شعوبها محكوم بتقارب الكيانات القائمة وتعاونها لحمايتها من مخاطر التفكك ومخططات التقسيم. ثم إنّ إعادة التوزان على ضفتي الفضائيين العربي – الإيراني لا تتم بمناصرة القضايا المركزية فقط وإنما أيضًا بإعادة بناء الدول العربية القادرة على التعبير بصدق عن آمال شعوبها وطموحاتها، فالمشاريع الوطنية الجامعة والمشاركة الشعبية السياسية صمامات أمان لوحدة الكيانات.

لقد راهنت إيران بعد الثورة على منطق المصالح العميقة والشاملة في علاقاتها مع العرب والمتمثل بدعم المقاومة ومواجهة محاولات الهيمنة والاستتباع الأميركية، كل ذلك بالاستناد إلى ثلاثة حقول من التفاعل المتبادل من الثقافة والتاريخ والجيوبولتيك. بالمقابل تلقف كثيرٌ من العرب هذا الدور الإيراني بعيدًا عن الحساسيات المذهبية والإيديولوجية ما مكّنهم من استعادة زمام المبادرة والفعل في الصراع مع العدو الإسرائيلي.

 

نحو مستقبل إقليمي جديد:  المبادئ والمصالح وآفاق التعاون والشراكة

رأى المشاركون، أنّ مواجهة التّحديات المشتركة تستلزم التضامن بين شعوب المنطقة ومن ضمنها إيران ويعدّ ذلك شرطًا ضروريًا للتحرر وإحباط المسعى الأميركي لتدمير النسيج الاجتماعي لهذه الشعوب. كما أنّ الحوار والتجربة المشتركة بين العرب وإيران يمكن أن يسهما في إنضاج نموذج من الإيمانية العقلانية كمرتكز أساس في  مواجهة التطرف والحروب العبثية، إلا أنّ هذا التضامن يستوجب النجاح في الإفلات من فخ السياسات النيوليبرالية التي تتبناها حكومات المنطقة، فهذا انفلات يسمح بالتوجه نحو مشروع استقلالي يعمل بدوره على تعزيز الثقافة الشعبية الديموقراطية.

بين العرب وإيران مجموعة واسعة من المصالح البديهية المتبادلة، إلاّ أنّ المتضررين من نتائج هذه الشراكة سعوا إمّا إلى تشويه الهويات وتجزئتها ودفعها نحو مسار صراعي عبثي وإما إلى التقليل من جدية المصالح المتبادلة وحيويتها في مستقبل شعوب المنطقة لصالح مزيد من التداخل مع مصالح القوى الغربية التي تضمن مصالح بعض الأنظمة الإقليمية من دون شعوبها. فلا ينبغي أن تمنعنا إنحيازات الأنظمة عن رؤية المصالح العميقة المشتركة بين الشعوب العربية وإيران. وبالتوازي لا بدّ من الاعتراف بمشروعية جملة من الهواجس المتبادلة أو تفهمها بالحد الأدنى وإن كانت أحيانًا تعكس تصورات أكثر منها حقائق موضوعية.

إنّ أيّ شراكة بين العرب وإيران وإن كانت ترتكز على غنى المشترك الإسلامي دينًا وحضارةً وتاريخًا وثقافةً، إلاّ أنّها برأي المشاركين لا بد أن تكون شراكة مفتوحة للتنوع والتعدد تتفاعل في إطارها كل الهويات من دون طغيان، مع الحرص على أن تكون متوازنة في أساسها الهوياتي ما بين الإسلامي والقومي، من دون الإفراط في أي منهما، وهذا ممكن من خلال تشخيص واضح للمصالح المتبادلة وفي مقدمها مشروع التحرر والنهوض. أما في ما يتعلق بتعدد الهويات داخل العلاقات الإيرانية – العربية فينبغي العمل على خلق إطار مساكنة وتكامل فيما بينها واستكشاف التقاطعات وإدارة مجالات التباين. فالمصالح المشتركة والهويات المنفتحة هي أقدر من غيرها على احتواء وتساكن الخصوصيات الهوياتية بل وإنضاجها.

تعاني المنطقة من فراغ كبير يستلزم ملؤه من خلال التعاون لبناء نظام إقليمي مستقل وفاعل. وقد أجمع المتحاورون في "مؤتمر إيران والعرب" على الحاجة إلى بناء شراكة إقليمية متوازنة تسمح بتبديد الهواجس المتبادلة وتفتح الأفق لمسارات تعاون متعددة الأبعاد، وتعزز التوازن الإستراتيجي بين العرب والكيان الصهيوني، ولذا فإنّ مجرد تخيير الأمة بين العداء لإسرائيل أو إيران هو انحراف استراتيجي كبير. ثم إنّ تأسيس الاستقرار الأمني بين العرب وإيران تُبنى عليه مسارات التعاون التنموي والاقتصادي. كما أنّ المخرج الوحيد هو النفاذ من الإطار الصراعي نحو إطار تعاوني عربي - إيراني إذ إنّ الصراع الحالي يجري على رمال متحركة ولن يكسبه أحد بل مصيره الاستنزاف المتبادل.

تقوم هذه الشراكة على تبديد المخاوف وعلى الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والامتناع عن اللجوء للعنف في حل النزاعات البينية بين دول المنطقة كافة. هذه القواعد ينبغي أن تشكّل ركائز أساسية في بناء علاقات أخوية متينة تحدّ من تدخل الأجنبي ومن دوره في زعزعة أمن واستقرار المنطقة. ومع التسليم بأن المصالح والأدوار الخارجية تبدو واضحة في انقسامات المنطقة وحروبها إلاّ أنّ أصوات المشاركين ذهبت بشجاعة نحو معالجة تبدأ من قيام نُخب المنطقة وقواها ببناء أُسس للشراكة والتعاون وتقاسم عقلاني للمصالح لا ينكر الهويات ولكن لا يقف عندها بل يذهب نحو متطلبات النهوض الحضاري والاستقلال والرفاه.  

كانت مقاربات إيران تصالحية ومنفتحة على الحلول والحوار، وترى أنّ التوتر الحالي منظّم وانتهازي يهدف إلى عزلها عن محيطها ومصالحها مع العالم العربي. إنّ بناء نظام إقليمي قائم على الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية وحفظ الحدود ومنع التقسيم والإقرار بعمق المصالح المتبادلة من الأمن إلى الاقتصاد بما ينعكس رفاهاً على الشعوب ومشروعيةً على الأنظمة هو مشروع إيران الإقليمي بعيدًا عن "التهويل" المفبرك عن مشروع إمبراطوري قومي – مذهبي.

ولقد تطرق النقاش في المؤتمر إلى بعض التحديات التي كان من أولها قابلية وإرادة بعض القوى الإقليمية، ولا سيما تركيا والسعودية في المساهمة في مثل هذا المشروع وبناء على أي أسس، وثانيها امتلاك مشروع المقاومة رؤية تتجاوز الدفاع عن الأمة نحو مشروع نهوض يبنى على أساسه هذا النظام المفترض، وثالثها معضلة الهويات والإيديولوجيات في بناء الشراكة، هل الشريك هو المتماهي مع الهوية المذهبية والطائفية أم مع الهوية السياسية المتعلقة بالاستقلال الوطني؟

وقد توافق المشاركون إجمالًا على كون تركيا عنصرًا ضروريًا في أيّ شراكة إقليمية. ورأى البعض أنّ مثلث "العرب والفرس والترك" في الوقت الحالي هو نواة حقيقية لقوة إسلامية سوف يحترمها ويهابها العالم, فإيران هي بوابة العالم الإسلامي إلى آسيا وتركيا هي بوابة العالم الإسلامي إلى أوروبا ومصر العربية هي بوابة العالم الإسلامي الى أفريقيا، إلاّ أنّ الرؤى تباينت حول جهوزية الحكم الحالي في تركيا للشراكة ووفق أي أُسس. فهل تستطيع تركيا الموازنة بين التزاماتها في شراكة إقليمية استقلالية ودورها داخل الناتو في الوقت عينه؟ وهل لتركيا بالأساس فكرة نظام إقليمي قائم على المشاركة أم أنّ لديها نزعة إمبراطورية استحواذيّة؟

 

وفضّل آخرون الحديث عن حزام فعّال من الدول الإقليمية الكبيرة في المنطقة العربية - الإسلامية المركزية، وهي أربع: مصر وإيران وتركيا والسعودية، باعتبارها أحجار البناء في الأركان الأربعة للهيكل الإقليمي – الطبيعي. إلاّ أنّ هذا الطرح أثار النقاش بشأن الاستعداد المصري والسعودي للانخراط فيه، فمن ناحية مصر تبدو هواجسها الحالية المركزية منقسمة وفق الآتي: هواجس الأمن في سيناء وهواجس الاقتصاد وهواجس الماء الإفريقية – النيلية وهذه هي الشواغل الكبرى للسياسة الخارجية المصرية. رغم ذلك تبقى شراكة مصر في البناء الإقليمي الجديد جوهرية وحاسمة، من ناحية تأمين توازن يعزز الإستقرار الإقليمي بخطاب معتدل وبقدرة واسعة على التّوسط في القضايا الحرجة، وبالمقابل تتيح هذه الشراكة لمصر استجابة أكثر نجاحاً لهواجسها المذكورة أعلاه.

 

إلاّ أنّ المعضلة الأساسية تبقى في موقف المملكة العربية السعودية التي نالت حيّزًا أساسيًا في طروحات المشاركين، وبدا أنّ العقبة الحقيقة بوجه مشروع الشراكة ليست عربية بل سعودية هي في العمق. وذلك أنّ السعودية ترى في العداء لإيران ضرورة في ظل تفاوت ميزان القوى الإقليمي، فالعداء والتحريض المذهبي – القومي يبدو بديلًا لرفع العقوبات الدولية عن إيران. وشكك بعض الحضور بجهوزية السعودية للشراكة أو قابليتها لذلك في ظل طغيان الخطاب الوهابي الإقصائي الرافض لأي صيغ تعددية أو لمكاسب متبادلة إذ يصر نظام المملكة على المقاربة الصفرية للعلاقات الإقليمية.

من ناحية أخرى، أجمع المتحاورون على أنّ الشراكة العربية الإيرانية ينبغي أن تضع في صلب أهدافها تأمين مصالح شعوب المنطقة، تحت عنواني الاستقلال والنهوض، في مجالات العلوم والثقافة والاقتصاد والتنمية مرورًا بالأمن والسياسة. إنّ خيار الشراكة بالنسبة لإيران هو الخيار الشامل المستمد من المثالية السياسية – العقائدية – الأخلاقية، القائم على أعمدة الهوية الحضارية، وتقاسم المصالح والمنافع المشتركة وفي مقدمتها مقاومة الاختراق الغربي. إلاّ أن فرص نجاح هذه الشراكة رهنٌ بإرادة النّخب السياسية من ناحية، وبمدى تلمس الشعوب لعوائد هذه الشراكة في تلبية حاجاتهم الأساسية من الأمن والاستقرار، إلى التنمية والرفاه من ناحية ثانية.

إنّ التعاون التنموي والاقتصادي سيخلق منافع متبادلة تمس قطاع الأعمال والمواطنين من الطبقات العاملة ما يدفع إلى تطوير وتعميق العلاقات الإيرانية – العربية ويشكّل صمام أمان لهذه العلاقات من تقلبات أنظمة الحكم. وبالاستفادة من دروس تجارب التكامل الفاشلة منها والناجحة يمكن أن تبدأ بين الدول العربية (منفردة أو مجمعة) وإيران فكرة التعاون كمقدمة يمكن البناء عليها وصولاً إلى مراحل متقدمة أكثر على طريق التكامل. وهذا النمط تفضّله بالعادة الدول الحريصة على استقلالها أو الدول التي لا تهدف إلى قيام وحدة سياسية أو اقتصادية في ما بينها.

وفي حالة البلدان العربية وإيران يمكن أن تكون البداية في التعاون من أجل التنمية، مما يزيد من قدرة الدول المعنية على الدخول في صيغ أكثر تقدماً على طريق التكامل. ومن الخطوات التي يمكن اتباعها على طريق التعاون من أجل التنمية البدء بعملية تحرير التبادل التجاري بين الدول الأعضاء، وتسهيل التبادل السلعي والخدماتي، وانتقال العمالة، ورأس المال، والسير ببعض الخطوات الإضافية لإقامة اتحاد جمركي يتلوه تأسيس سوق مشتركة. ومن خلال هذه العملية يمكن العمل باتجاه إقامة مشروعات إنتاجية مشتركة. علماً بأنّ مجالات المشاركة والتعاون في القطاعات الاقتصادية واسعة جدًا، ويمكن البدء بها من زاوية النفط والغاز الذي تملك فيه كل من إيران والبلدان العربية إمكانات هائلة في الاحتياطيات والإنتاج والموقع الجغرافي (إقامة خط أنابيب للتصدير).

كان "التصنيع المتأخّر" وسيلة إيران الوحيدة لصد العدوان الخارجي ومنع القوى العظمى من تدميرها. ولن يتمكّن العرب بغير "التصنيع المتأخّر" من مواجهة التدمير الحاصل لدولهم ومجتمعاتهم، والتّصدي لإجرام القوى الخارجية التي تستهدفهم، والخروج من التخلّف. وينبغي أن يكون العرب هم المبادرين حيث يمكن ذلك لتطوير مشاريع تعاون وشراكة عربية - إيرانية في ميدان "التصنيع المتأخّر" ضمن مجالات ثلاثة: الصناعات التي تقوم على "التقليد الإستنساخي"، والصناعات التي تقوم على "التقليد الذي ينطوي على إبداع"، والصناعات التي تقوم على "الابتكار الأصيل".

يُضاف إلى هذا التعاون الجانب العلمي والمعرفي وتوطين التكنولوجيا. ولما كانت إيران تمتلك خبرة واسعة في هذا المجال يمكن من طريق التعاون العلمي والمعرفي ونقل التكنولوجيا إيجاد الأساس العلمي النهضوي لتنمية حقيقية ترفد التّطلعات إلى تعميق فكرة التعاون باتجاه التكامل. علمًا بأن الخطابات العلمية والثقافية تتجاوز المسائل السياسية للشعوب ولا تستطيع الاختلافات السياسية للحكّام في مرحلةٍ ما من التاريخ أن تؤدي إلى انقطاع وتمزّق الخطاب العلمي والثقافي القوي والدائم. كما أن التّجربة البحثية والعلمية العريقة في الجمهورية الإسلامية تشكّل مصدرًا غنيًا وفرصًا استثنائية للشباب العربي الذي تثبت التجارب أنّ قابلياته عالية ولا تنقصه إلاّ الرعاية والبنية التّحتية المعرفية.

إنّ قيام التعاون الاقتصادي بين البلدان العربية وإيران، على أساس البعد السياسي المتين والمتمثل في دعم المقاومة ومكافحة الإرهاب، سوف يفتح آفاقًا واسعة جدًا لعملية التكامل. وفي الظروف القائمة حاليًا لا يمكن أن يتحقق التعاون إلاّ على نحو تدريجي. في البداية يمكن أن يضم هذا التعاون دولة عربية أو أكثر على أن يكون مفتوحًا لانضمام باقي الدول العربية عندما تسمح الظروف بذلك. وهذه الشراكة تصلح لتكون مدخلًا لتعزيز فكرة "الأقلمة" أي تعزيز النظام الإقليمي المتكامل والذي من خلاله يمكن لدول المنطقة الاندماج بشكل عقلاني في العولمة، وفق شروط تراعي مصالحها القومية والمصالح الإقليمية المشتركة. وهذه الشراكة ستسمح في النهاية بالخروج من منطق اللعبة الصفرية بين العرب وإيران نحو الأفق الأرحب للتعاون وتعزيز الاعتماد المتبادل.

 

نحو مسار مستدام للحوار العربي – الإيراني

أجمع المشاركون في المؤتمر على ضرورة تطوير أُطر وآليات تسمح بمأسسة الحوار بين إيران والعرب ووضعه ضمن مسارات مستقرة وهادفة تقسّم على أُسس تخصصية وتشتمل على خلايا تفكير دائمة وحلقات وإنتاجات بحثية موجّهة نحو المعضلات والقضايا الإشكالية المشتركة بحيث يسهل معالجتها وفقًا لحيثيات كل منها وخلفياتها. ولذا من الممكن  إطلاق منتدى للحوار العربي – الإيراني لتأطير الحوارات والنقاشات المستمرة لمتابعة هذا المسار داخل إطار مشترك محدد ستكون له تمثلات وفعاليات وطُرق وأنشطة متعددة ومختلفة. وقد تكون الأزمات في العراق وسوريا والتوتر المذهبي مدخلًا مناسبًا لحوارات تخصصية حول طاولات مستديرة تضم كل الاتجاهات الجاهزة للحوار والمؤمّنة بالتعاون وحتميته بين العرب وإيران.

إنّ تعدد مسارات الحوار العربي – الإيراني بين الرسمي والأهلي والتّخصصي يمكن أن يُسهم في تجاوز معضلة الحوار بخصوص التمايز البنيوي، بين دولة إيران والدول العربية وينبغي لهذا الحوار أن يأخذ بعين الاعتبار أنّ الشعوب والحركات الاجتماعية والشعبية جزء أساسي من النقاش العربي الإيراني وهذا الدور الحيوي والفعّال للنُخب العربية والإيرانية أفرادًا ومؤسسات فكريّة وثقافيّة وإعلاميّة يُعّد أحد المحفّزات لدفع القيادات السياسية في إيران والدول العربية نحو تزخيم الحوار المباشر في وجه الضغوط اللاعقلانية لإقامة الجدران بين المجالين العربي والإيراني. وقد يشتمل تعزيز الحوار وخلق بيئة مؤاتية له على خلق منصات إلكترونية تضمن مساحة حرة لتبادل الأفكار بين الباحثين الشبان من عرب وإيرانيين.

تحميل الملف
المقال السابق
ليونيل فيرون: حاضر حول مستقبل الإتحاد الأوروبي على ضوء الخروج البريطاني / تموز 2016
المقال التالي
حلقة نقاش: يوست هلترمان، اميركا وروسيا في المنطقة / نيسان 2016

مواضيع ذات صلة: