أوراق بحثية: جائحة كورونا وتأثيراتها على القانون تشريعًا وتطبيقًا / د. محمد طي - أيلول 2021

أوراق بحثية: جائحة كورونا وتأثيراتها على القانون تشريعًا وتطبيقًا / د. محمد طي - أيلول 2021

إصدار 2021-09-08

الحقّ في الصحّة من أهمّ الحقوق التي يمتلكها الانسان، وهو يأتي مباشرة بعد الحق في الحياة، بل ويرتبط به أوثق ارتباط. وهذان الحقّان باتا معرّضين لخطر داهم مع انتشار جائحة كورونا مطلع العام 2019، ما استدعى تدخّلًا متزايدًا من  جانب الدول، كان من شأنه الحدّ من بعض الحرّيّات، فطرحت مسألة الظروف الاستثنائيّة، التي لم تجد السند القانونيّ المباشر لفرضها، كما تعثّر تطبيق بعض الاتّفاقات، وطرح على بساط البحث تطبيق بعض القوانين، كما كان للجائحة انعكاسات عالميّة، على صعيد القانون وعلى العلاقات بين الدول، بعد أن كشف فيروس كورونا- كوفيد 19 عن خلل المنظومة الصحّيّة في الكثير من دول العالم، وعكس الحاجة لإعادة النظر في ~ واستراتيجيّات الصحّيّة على مستوى الكرة الأرضيّة، وإذ تظلّ المشاكل الصحّيّة المرتبطة بالفقر وعدم الإنصاف تمثّل المعوقات الأساسيّة أمام تحقيق الحدّ الأدنى من مستويات الرفاه لمعظم سكان العالم، فإنّه تتوجّب إعادة النظر في الخطط القائمة في هذا الصدد، خاصّة في ظلّ الظروف المصاحبة للجائحة، وما تتعرّض له النظم الصحّيّة عالميّا. لم يظهر هذا الخلل في دول العالم الثالث فقط، بل امتدّ إلى الدول المتقدّمة أيضًا.
وسنعالج فيما يأتي الحقّ في الصحّة، وحالة الطوارئ الصحيّة والقيود، والانعكاسات المختلفة داخل البلدان وعلى النطاق الدوليّ.

 مقالات | الطبيعة القانونية للاحتياطي الإلزامي وتوظيفات المصارف الإلزامية / الدكتور حسين العزي - أيار 2021

مقالات | الطبيعة القانونية للاحتياطي الإلزامي وتوظيفات المصارف الإلزامية / الدكتور حسين العزي - أيار 2021

إصدار 2021-05-10

يحظى موضوع الاحتياطي الإلزامي وما يشبهه من إيداعات نقدية لدى المصرف المركزي باهتمام متزايد عند الباحثين وغيرهم، إذ فرض الواقع الاقتصادي - المالي المتدهور مجموعة من المعضلات التي تحتاج إلى حلول سريعة وأيضًا مجموعة من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابة موضوعية على ضوء القوانين المرعية الإجراء والممارسات العملية السابقة في الأوضاع مماثلة مرّت على لبنان.
ومن أبرز القضايا الملحّة اليوم مسألة الاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية وتوظيفات المصارف الإلزامية لدى المصرف المركزي فضلًا عن ودائع المواطنين في المصارف اللبنانية. فما هي الطبيعة القانونية لجميع تلك الايداعات؟ وهل هي متشابهة أم تتباين فيما بينها؟ وماهي القواعد القانونية التي ترعى المعاملات الخاصة بها؟
في هذه الورقة سنحاول مقاربة موضوع التوظيفات الإلزامية للمصارف اللبنانية لدى المصرف المركزي، محددين طبيعتها القانونية مقارنة بالاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية، وذلك استنادًا لقانون النقد والتسليف اللبناني وجميع النصوص المعنية من قرارات أساسية وتعاميم صادرة عن حاكم مصرف لبنان.

أولًا: الأساس القانوني الخاص بالتوظيفات الإلزامية للمصارف لدى المصرف المركزي.
أ: تعميم أساسي رقم 86 / القرار الأساسي 7926 / 2001 المعنون بـ " توظيفات المصارف الإلزامية".

بناءً على قانون النقد والتسليف ولاسيما المواد 79 و174 و177 منه؛
المادة الأولى:
1- على المصارف كافة العاملة في لبنان أن تودع لدى مصرف لبنان، لقاء الفوائد التي يمنحها هذا الأخير على الودائع لديه لأجل بالعملات الأجنبية، نسبة 15% من العناصر التالية المكونة بالعملات الأجنبية:
- جميع أنواع الودائع التي تتلقاها مهما كانت طبيعتها.
- سندات الدين وشهادات الإيداع والشهادات المصرفية التي تصدرها والقروض التي تستحصل عليها من القطاع المالي ولم يبق على تاريخ استحقاق كل منها سوى سنة أو أقل.
2- ملغاة بموجب القرار الوسيط رقم 9029 /2005.
3- تحتسب النسبة المذكورة في هذه المادة وفقًا لنفس المهل وطريقة احتساب الاحتياطي الالزامي النقدي بالليرة اللبنانية، كما هي محددة في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان.
ب: الأساس القانوني للتوظيفات الإلزامية الوارد في قانون النقد والتسليف:
ورد في بناءات القرار الأساسي محل البحث، انه استند الى المادة 76 فقرة "و" والمادة 77 (مصححة إلى 79) و174 من قانون النقد والتسليف: فما هي مضامينها:
- المادة 76 / و:
-    أن يقبل، في ضوء الحالة النقدية العامة ودائع لقاء فوائد يحددها المصرف.

- المادة 79-معدلة وفقا للمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973
-    يمكن المصرف المركزي أن يعمل أيضًا على التأثير في أوضاع التسليف العامة وذلك بتحديد حجم التسليف من انواع معينة او الممنوح لأغراض معينة او لقطاعات معينة، وبتنظيم شروط هذا التسليف.

- المادة 174-معدلة وفقا للمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973
-    للمصرف المركزي صلاحية اعطاء التوصيات واستخدام الوسائل التي من شأنها أن تؤمّن تسيير عمل مصرفي سليم.
-    يمكن أن تكون هذه التوصيات والوسائل شاملة او فردية.
-    وللمصرف المركزي خاصة بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان أن يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها.
-    كما أن له أن يحدّد ويعدّل كلما رأى ذلك ضروريًا قواعد تسيير العمل التي على المصارف أن تتقيّد بها حفاظًا على حالة سيولتها وملاءتها.

ثانيًا: الأساس القانوني الخاص بالاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية
أ: تعميم أساسي رقم 84 / القرار الأساسي رقم 7835 الصادر بتاريخ 2 /6/2001.

نص التعميم على الآتي:
بناءً على قانون النقد والتسليف ولا سيما المواد 70، 76، 77، 78، 79، و174.
أولًا: الالتزامات الخاضعة للاحتياطي الإلزامي:
المادة الأولى: تحديد الالتزامات الخاضعة للاحتياطي الإلزامي: ....
ثانيًا: الاحتياطي الإلزامي النقدي.
المادة الثالثة: نسبة الاحتياطي الالزامي النقدي
1- يفرض على المصارف العاملة في لبنان، باستثناء مصارف الأعمال ومصارف التسليف المتوسط والطويل الأجل، تكوين احتياطي الزامي نقدي لدى مصرف لبنان على مجموع الالتزامات الصافية بالليرة اللبنانية الخاضعة للاحتياطي الإلزامي (أي بعد إجراء التنزيلات المسموح بها من الالتزامات) وذلك على الشكل التالي:
أ- بنسبة خمس وعشرين بالماية (25%) من المتوسط الأسبوعي لمجموع الالتزامات تحت الطلب.
ب- بنسبة خمس عشرة بالماية (15%) من المتوسط الأسبوعي لمجموع الالتزامات لأجل معين.
2- ....

-  المادة 76-معدلة وفقا للقانون رقم 28/67 تاريخ 9/5/1967 والمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973) من قانون النقد والتسليف:
يُخوّل المصرف المركزي، إبقاءً على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف وبين مهمته العامة المنصوص عليها بالمادة 70، صلاحية اتخاذ جميع التدابير التي يراها ملائمة وخاصة التدابير التالية التي يمكنه اتخاذها منفردة أو مجتمعة أو مع التدابير المنصوص عليها في الباب الثالث من هذا القانون:
أ‌-    تحديد وتعديل معدلات الحسم وحدوده القصوى وكذلك معدلات الاعتمادات الأخرى المجاز له منحها للمصارف وللمؤسسات المالية وحدودها القصوى.
ب‌-    اللجوء للعمليات المشار اليها بالمادة 75.
ج- شراء وبيع السندات في السوق الحرة وفقا للمواد 106و107و108.
د- إلزام المصارف بان تودع لديه أموالًا (احتياطي أدنى) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والاموال المستقرضة التي يحددها "المصرف" باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف أخرى ملزمة أيضًا بإيداع الأموال الاحتياطية هذه.
"ويمكن للمصرف المركزي أن يعتبر، إذا رأى ذلك مناسبًا، توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له امر تحديدها.
هـ- إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالًا (احتياطًا أدنى خاصًا) حتى نسبة معينة من الموجودات التي يحددها المصرف.
و- أن يقبل، في ضوء الحالة النقدية العامة ودائع لقاء فوائد يحددها المصرف.

تستدعي قراءة هذه النصوص القانونية التوقّف عند بعض الملاحظات ليُبنى على الشيء مقتضاه
ومنها:
 
1- إلغاء هذا الإيداع للتوظيفات الإلزامية بالعملة الأجنبية والعملة الوطنية بموجب قرار أساسي رقم 13217 الصادر في نيسان 2020.
2- لماذا تغيّرت التسمية إلى توظيفات إلزامية بموجب القرار الوسيط الصادر عن حاكمية المصرف المركزي رقم 8371 للعام 2003، وما هي التسمية القديمة؟
3- هل هناك فرق في الطبيعة القانونية لهذه الايداعات المصرفية بالعملة الأجنبية "التوظيفات" وبين الاحتياطي الإلزامي؟
لقد انقسمت الكتابات بشأن الطبيعة القانونية، فمنها ما لم يميّز بينهما واعتبرهما ودائع نقدية، وبالتالي يقعان هذه الودائع ضمن عقود عارية الاستهلاك (عقد انتفاع من الشيء المودع) ما يعني أن ملكية هذه التوظيفات بالعملة الأجنبية للمصرف المركزي مع ما يستتبع ذلك من حرية تصرف، بشرط اعادتها الى أصحابها في الأجل المحدد، وذلك سندًا للمادة 691 من قانون الموجبات والعقود ونصها "إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود أو أشياء من المثليات، وأُذن للوديع في استعمالها، عُدّ العقد بمثابة عارية استهلاك".
بعضها الآخر ميّز بين الايداعات الاختيارية (الارادية) واعتبرها خاضعة لأحكام عارية الاستهلاك، بينما الايداعات المفروضة بحكم القانون هي أمانة لدى المصرف المركزي ولا يحق له التصرف بها بتاتًا تحت طائلة جرم إساءة الأمانة، أو خاضعة لعقود الوديعة بشرط ان تكون بلا أجر، والا تحوّلت الى عقد مقاولة، وبالتالي ساوى بينها وبين الاحتياطي الإلزامي بالعملة الوطنية لجهة الطبيعة القانونية معتبرًا أنه لا يحق للمصرف المركزي التصرف بها، وذلك  لأن التعميمين المذكورين قد اشتركا بالاستناد إلى نص الماد 174 من قانون النقد والتسليف، وقد خلص هذا الرأي إلى أن موجب إيداع الأموال لدى مصرف لبنان – أكان حاصلًا تحت تسمية الاحتياطي الإلزامي بالنسبة للودائع بالليرة اللبنانية، أم تحت تسمية التوظيفات الإلزامية بالنسبة للودائع بالدولار الأميركي – إنما يهدف إلى الحفاظ على سيولة المصارف المودعة وملاءتها. وهذا يعني أنه لا يجوز لمصرف لبنان استعمال هذه الأموال أو التصرف بها، لأن ذلك يتعارض مع موجب محافظته على ملاءة المصارف وسيولتها وعلى مهمته بالمحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي (المادة 70 من قانون النقد والتسليف).


ولكن، برأينا أن السؤال الأساس الذي يحتاج الى إجابة هو: هل أن ما سماه القرار الأساسي بتوظيفات مصرفية الزامية (15%) بالعملات الأجنبية، تدخل ضمن توصيف الاحتياطي الالزامي المنصوص عليه بموجب القرار الأساسي رقم 7835؟
للإجابة نورد الآتي:
أولًا: في اختلاف الطبيعة القانونية بين التوظيفات الإلزامية وبين الاحتياطي الالزامي بالعملة الوطنية

إن قراءة متأنية للقرارات الأساسية ذات الصلة (7926، 7693، 7835) وكذلك لسندها القانوني في مواد قانون النقد والتسليف تسمح من الناحية القانونية الموضوعية البحتة باستنتاج الآتي:
في العبارات المستخدمة في صياغة القرار الأساسي رقم 7926 الخاص بتوظيفات المصارف الإلزامية مقارنة بنص القرار الأساسي الخاص بتكوين احتياطي الزامي بالعملة الوطنية؛
ينص القرار 7926: على المصارف ... أن تودع لدى مصرف لبنان، لقاء الفوائد ... بالعملات الأجنبية
بينما جاء القرار 7835 بصياغة مختلفة وهي: يفرض على المصارف العاملة في لبنان، ...  تكوين احتياطي الزامي نقدي ... بالليرة اللبنانية.
إن استعمال عبارة تودع، وليس "يفرض"، تفيد بأن هذه التوظيفات المصرفية الإلزامية (15%) هي ودائع، وبالتالي تخضع لأحكام عقد الوديعة، الأمر الذي يصح معه وصفها بعقد عارية استهلاك، ما يعني ان الأموال المودعة كتوظيفات الزامية تنتقل ملكيتها للمصرف المركزي ويحق له التصرف بها، بشرط إعادتها أو إعادة قيمتها بالعملة الوطنية استنادًا لنص لمادة 307 تجارة الآتي: "إن المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغًا من النقود يصبح مالكًا له، ويجب عليه أن يردّه بقيمة تعادله دفعة واحدة أو عدة دفعات، عند أول طلب من المودع او بحسب شروط المهل او الاعلان المسبق المعينة في العقد.
وايضًا استنادًا للمادة 301 من قانون التجارة البرية على ما سيجري تفصيله أدناه.
وعلاوة على ذلك، يمكن للمصرف المركزي تعديل نسبة (15%) زيادة أو نقصانًا، كما يمكن له إلغاء هذا الموجب بإعفاء المصارف من تلك التوظيفات المالية بالعملات الأجنبية، وذلك في سياق دور مصرف لبنان كناظم للسياسة النقدية وناظم للعلاقة بينه وبين المصارف لجهة الحفاظ على السيولة والملاءة لدى المصارف، وهذا ما فعله بموجب القرار الأساسي رقم 13217 المعدل بقرار وسيط رقم 13226 للعام 2020. واللافت بالأمر أن القرار الوسيط رقم 13226 للعام 2020، الذي نصّ على الإعفاءات المذكورة، جاء معنونًا بـ " إعفاءات استثنائية من الاحتياطي الإلزامي ومن توظيفات المصارف الإلزامية" ما يؤكد أنهما ليسا شيئًا واحدًا بل إنهما مختلفان من حيث الطبيعة القانونية. وبالتالي نرجّح أن تخضع التوظيفات الإلزامية لأحكام الودائع العادية النقدية، وتطبق عليها أحكام عارية الاستهلاك.

 
كما يمكن له أن يخفّض نسبة تلك التوظيفات المودعة لديه من 15% الى 10 % بموجب قرار أساسي، وخاصة انه أعفي المصارف من هذا الموجب في العام 2020. وبتخفيض تلك النسبة يكون قد حرّر جزءًا يسيرًا من 18 مليار دولار، وبالتالي استعمله في ترشيد الدعم وفقًا لسياسة واضحة وسليمة مختلفة عما هو مطبق حاليًا.
ولمزيد من التأكيد على ما تقدّم، ينبغي الاستفادة خلافًا لرأي بعض القانونيين، من نص المادة 76 الفقرة الأولى للاستنتاج الآتي:


نص الفقرة "د" من المادة 76:
"ويمكن للمصرف المركزي أن يعتبر، إذا رأى ذلك مناسبًا، توظيفات المصارف في سندات حكومية أو سندات مصدرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له أمر تحديدها".
لذا، يستفاد من نص الفقرة "د"  إن التوظيفات المصرفية الإلزامية المنصوص عليها بالقرار الأساسي رقم 7926/ 2001 لا تدخل من حيث المبدأ ضمن " الاحتياطي الزامي، إلا اذا رأي المصرف ذلك مناسبًا، بدليل استعماله لعبارة كجزء من الاحتياطي ، "إذ يستفاد من ورود حرف "ك" للتشبيه، أن التوظيفات الالزامية بالعملة الأجنبية الموظفة في سندات الحكومية لا تدخل في الأصل ضمن نطاق "الاحتياطي الالزامي"، بل يمكن اعتبارها كذلك استنادًا للسلطة الاستنسابية للمصرف المركزي، ما يعني أن الاحتياطي الالزامي والتوظيفات بالعملة الأجنبية هما فئتان مختلفتان وليسا شيئًا واحدًا، وبالتالي تكون توظيفات المصارف بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي هي توظيفات كما يستفاد من تسميتها ومن دورها الوظيفي لدى المصرف المركزي، وهي خاضعة لأحكام الودائع المصرفية العادية، والتي يجوز للمصرف المركزي التصرف بها بشرط إعادتها بالعملة الأجنبية أو بالعملة الوطنية وفقًا للتفصيل الآتي.
ثانياُ: إمكانية إعادة توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي بالعملة الأجنبية أو بما يعادلها بالعملة الوطنية
.
تنص قوانين النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود وقانون التجارة البرية على إلزامية قبول الإيفاء بالليرة اللبنانية، أيًا تكن العملة التي حرّر بها العقد، إذا كان الدفع يجب أن يحصل في لبنان.
حيث نصّ قانون النقد والتسليف في المادة 7: (عدلت بموجب قانون 361/1994).
"للأوراق النقدية التي تساوي قيمتها الخمسماية ليرة وما فوق قوة إبرائية غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية".
ما يعني أن العملة اللبنانية من الفئة المذكورة يمكن استخدامها في أي عملية إيفاء.

ومن لا يقبل الليرة اللبنانية يعاقب سندًا للمادة 192 التي تنص على أن:
المادة 192: تطبق على من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية بالشروط المحددة في المادتين 7 و8 (حسب فئات العملة) العقوبات المنصوص عليها في المادة 319 من قانون العقوبات.

أما قانون الموجبات والعقود فيطلق حرية التعاقد لكن بشروط، فقد نصت المادة 166 على ما يأتي:
المادة 166: إن قانون العقود خاضع لمبدأ حرية التعاقد، فللأفراد أن يرتبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون بشرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة الزامية.
إلا أن المادة 221 تشترط حسن النية في تنفيذ العقود.
ما يسمح بنوع من المرونة فيما يخص التنفيذ بين الدولار والليرة اللبنانية أو بنوع من التسوية، لكن الدفع ليس إلزاميًا إلا بالليرة اللبنانية في حال عدم الاتفاق الودي، وذلك سندًا للمادة 301 التي تنص
على أنه عندما يكون الدين مبلغًا من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجباريًا بعملة الورق، يظل المتعاقدون أحرارًا في اشتراط الإيفاء نقودًا معدنية معينة أو عملية أجنبية.
ولكن التعامل بالعملة الورقية في وقتنا الراهن إجباري، لأن النص المذكور وضع في زمن كان التعامل بالعملة الورقية يشكل استثناءً وليس الأصل، خلافًا ليومنا هذا.
كما يؤكد قانون التجارة البرية إلزامية قبول الليرة اللبنانية أيًا تكن العملة التي حرر بها العقد فقد جاء في المادة 356 التي نصت إذا كتب في سند السحب أنه قابل للإيفاء بعملة غير متداولة في محل الإيفاء فيجوز أن تدفع قيمته بعملة البلاد حسب سعرها في يوم الاستحقاق. وإذا تأخر المدين فيجوز لحامل السند أن يطلب حسب اختياره دفع قيمة السند بعملة البلاد أما بحسب سعرها في يوم الاستحقاق وأما بحسب سعرها في يوم الدفع.


تحدد قيمة العملة الأجنبية بحسب العرف المرعي في محل الإيفاء على أن الساحب يمكنه أن يشترط أن القيمة تحسب وفقًا لسعر معين في السند.
بيد أن القواعد المبينة فيما تقدم لا تطبق عندما يشترط الساحب أن الإيفاء يجب أن يتم بعملة معينة (شرط الإيفاء الفعلي بعملة أجنبية).
وإذا كانت قيمة السند معينة بعملة لها تسمية واحدة في محل إصدار السند ومحل إيفائه ولكن قيمتها تختلف في هذين المحلين، فيقدر حصول الاتفاق على عملة محل الإيفاء.
إذًا هي تسمح في مادة سندات السحب باشتراط سعر معين للعملة الأجنبية أو الدفع بعملة أجنبية، لكن هذا ينطبق مبدئيًا على التجارة، لأنها واردة في قانون التجارة. إذًا هي قاعدة خاصة تسري في مواجهة القاعدة العامة استثناءً عليها ولا تعمم.
ولا يمكن تطبيقها في عقود أخرى.
رأينا خلافًا لبعض الآراء المطروحة، هو أن إيفاء المستحقات بالدولار يمكن، من حيث المبدأ، أن يجري بالليرة اللبنانية، لكن على أساس قيمتها الفعلية بالنسبة إلى الدولار. كما ورد في الفقرة الثانية من المادة 356 من قانون التجارة البرية أي "بحسب العرف المرعي في محل الإيفاء".
إلا أن ذلك في الظروف المماثلة للوضع الحالي قد يتعارض مع إحدى مهام المصرف الواردة في المادة (70) من قانون النقد والتسليف، والتي تقضي بالحفاظ على سلامة النقد اللبناني وخاصة إذا ما كان الإيفاء على نطاق واسع وغير مغطى بأصول خارجية، كما قد يتعارض أيضًا مع مصالح المودعين الذين يستحقون استعادة ودائعهم بقيمتها الحقيقية.
أما فيما يتعلق بالمستحقات بالليرة فهي تسدد بالليرة حسب اجتهاد القضاء رغم ما في ذلك من إجحاف عندما يتبدل سعر العملة بشكل كبير، ما يسمح لنا شخصيًا بالقول: "إنه يجب أن يؤخذ بالحسبان ما يطرأ على سعر الليرة في هذه الحالة".


وعليه، نخلص إلى الآتي:

  •    إنه يجب عدم الخلط بين مصطلحي "الاحتياطي الالزامي" وهو الاحتياطي الالزامي المفروض تكوينه بالعملة الوطنية لدى المصرف المركزي بموجب القرار الأساسي رقم 7835/2001 وبين "توظيفات المصارف الإلزامية" المنظمة بموجب القرار الأساسي رقم 7926 /2001 والتي تمّ إعفاء المصارف منها في العام 2020، فهما شيئان مختلفان من حيث الطبيعة والدور الوظيفي.
  •    إن التوظيفات الإلزامية للمصارف ما هي إلا ودائع لدى المصرف المركزي وتخضع لأحكام الودائع المنصوص عليها في قوانين النقد والتسليف والتجارة البرية والموجبات والعقود.
  •    يمكن للمصرف المركزي أن يتصرف بتلك التوظيفات الموجودة لديه بالعملات الأجنبية بشرط إعادتها أو إعادة قيمتها بالعملة الوطنية وفقًا للسعر الرائج الخاضع لآلية العرض والطلب.

* أستاذ جامعي وباحث قانوني.

 مقالات | تعيين الحدود البحرية للبنان / د. محمد طي - 25 آذار 2021

مقالات | تعيين الحدود البحرية للبنان / د. محمد طي - 25 آذار 2021

إصدار 2021-03-25

من مقتضيات سيادة الدولة وسيطرتها على مواردها أن ترسم حدودها البريّة والبحريّة والنهريّة. وبالنسبة إلى لبنان أصبح الأمر ملحًا أكثر بعد اكتشاف وجود المواد الهيدروكاربورية من نفط وغاز في المنطقة الاقتصادية التابعة لكل من لبنان والدول المجاورة، وبعد أن عبّر العدو عن مطامعه بحصتنا في المنطقة الواقعة بين مياهنا ومياه فلسطين المحتلّة. فما هي الطرق الممكنة لتعيين هذه الحدود؟
قبل البدء بصلب الموضوع لا بدّ من إيضاح بعض المصطلحات لغير الاختصاصيين.
فالبحر الإقليمي mer territoriale هو اليوم الشريط البحري الممتد من أدنى مستوى الجزر قرب الشاطئ (راجع قرار محكمة العدل الدولية حول المصائد النرويجية بتاريخ 18/كانون الأول/ ديسمبر 1951 ص 128) إلى مسافة اثني عشر ميلًا بحريًا.
والمنطقة المتاخمة:zone contigue ، وهي الشريط البحري الملاصق للبحر الإقليمي حتى مسافة حددتها بعض الدول بـ 12 ميلًا أيضًا، ولدولة الشاطئ في هذه المنطقة بعض الصلاحيات على السفن الأجنبية.
والجرف القاري plateau continental: continental shelf، وهو من الناحية الجغرافية المنطقة ذات الانحدار الخفيف الممتدة من الشاطئ باتجاه أعالي البحار وصولًا إلى الانحدار القوي حيث تبدأ الأعماق،
(Charles Rousseau, droit international public Sirey 1980 p 427. t.4)
ومن الناحية القانونية حددتها المادة الأولى من اتفاقية جنيف (29 نيسان/إبريل 1958) بـ "أنها أرض البحر وما تحتها من مناطق تحت البحر ملاصقة للشواطئ دون أعالي البحار حتى عمق 200 متر أو بما يتجاوزها حتى حدود النقطة التي يسمح فيها العمق باستخراج الموارد الطبيعية لهذه المناطق".

المنطقة الاقتصادية الخالصة La zone économique exclusive
وهي منطقة بحرية ملاصقة للبحر الإقليمي تمارس فيها دولة الساحل صلاحيّات محصورة بها دون غيرها من الدول فيما يخصّ الموارد الطبيعيّة، وكان يأتي الصيد في مقدّمها. إلاّ أنّه بموجب اتّفاق مونتيجو باي (اتّفاقيّة قانون البحار لسنة 1982) أصبحت الحقوق تطال أيضًا الموارد الطبيعيّة الأخرى. وليس لدولة الشاطئ أن تمنع الدول الأخرى أو تقيّد نشاطها إلا في هذه المجالات ولأغراض الاستكشاف أو الاستغلال أو لأغراض بيئية. راجع
(P. Daillier et A. Pellet, Droit international Public, L.G.D. J, 2002, P 1180(.
أما فيما يخصّ عرض هذه المنطقة، فللدولة أن تحدّده بإرادتها المنفردة، وحدّها الأقصى 200 ميل بحري، كما ذكرنا، إلاّ إذا اصطدمت بتحديد دولة مواجهة لمنطقتها، دون أن تتسع المسافة بينهما للتحديدين، كأن تنقص المسافة مثلًا عن 400 ميل (200 ميل لكل منهما).


تعيين الحدود البحرية بين دولتين متجاورتين
إلا أن هذه المناطق لا تكون الدولة دائمًا طليقة اليد في تحديدها، لا سيما إذا ووجهت بدول مقابلة أو ملاصقة، حيث تصبح الأمور بين هذه الدول خاضعة للقانون الدولي وليس الداخلي (راجع القرار المتعلق بالجرف القارّي بين ليبيا وتونس، 24 كانون الثاني/يناير 1982).
فإذا كانت الدولتان متجاورتين، فالحل يأتي نتيجة التفاوض فيما بينهما (راجع Rousseau op.cit.3 p 265 et 266)) وإن لم تصل المفاوضات إلى نتيجة أو إذا تعذّرت، فيمكن اللجوء إلى التحكيم الدوليّ أو إلى القضاء الدوليّ. وقد تبنّت محكمة العدل الدولية طرقًا لتعيين الحدود وكان أبسطها اعتماد الخط الوسط، إلى جانب حلول أخرى.
أ-الخط الوسط (Médiane)
وهو الخط الذي يبدأ من نقطة تلاقي الحدود البرّيّة مع البحر ويسير باتّجاه أعالي البحار بحيث تكون كافّة نقاطه على مسافة متساوية من نقطتي تعليم (repères) متناظرتين على كل من ساحلي الدولتين: راجع
(Jean Combacau et Serge Sur, droit international public montchrestien, 2009. P. 424).

إلا أن اعتماد هذا الخط قد يصطدم بثلاثة استثناءات:
1.    أن تكون هناك اتّفاقات خاصّة ببعض مناطق البحر.
2.    أن تكون هناك حقوق تاريخيّة لأيّ من الدولتين على مناطق معيّنة (مصائد أو غيرها)
3.    أن يكون الواقع الجغرافيّ للشواطئ ممّا يصعب معه تصوّر هذا الخط.
ب- المعايير المتعددة
عندما يكون شكل الشواطئ معقدًا، تؤخذ بعين الاعتبار معطيات عديدة، بهدف أن تؤدّي إلى حلّ عادل (المرجع نفسه) وهذا ما كرّسته محكمة العدل الدوليّة في عدد من قراراتها لا سيّما الأخيرة، كما في قرارها بشأن تعيين الحدود البحريّة في خليج مين (Maine) بين الولايات المتّحدة وكندا بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 1982، والحدود البحريّة بين الكاميرون ونيجيريا بتاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر 2002، والحدود البحريّة بين الهندوراس ونيكاراغوا بتاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2007، والحدود في البحر الأسود بين رومانيا وأكرانيا بتاريخ 3 شباط/فبراير 2009.

الجُزُر
تعرّف المادة 121 من قانون البحار الجزيرة بأنّها "رقعة من الأرض متكوّنة طبيعيًّا ومحاطة بالماء وتعلو عليه في حالة المدّ".
وهكذا فهي تختلف عن تكوينين طبيعيين، وهما:
- النتوءات التي تغمرها المياه في حالة المدّ وتنحسر عنها في حالة الجزر (م13).
des hauts-fonds))
- الصخور الصغيرة التي لا حياة فيها.
فالجزيرة تمتلك بحرًا إقليميًّا ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة وجرفًا قارّيًّا تحدّد كما مثيلاتها الخاصة بالبرّ.
أمّا النتوءات المذكورة فيعتدّ بها لتحديد خطّ الأساس لقياس البحر الإقليميّ لبرّ أو لجزيرة في حال كانت كلّيًا أو جزئيّا ضمنه، أما إذا كانت خارجه فلا بحر إقليميًّا لها. وبالطبع لا منطقة متاخمة ولا جرف قارّيّ.
وأما الصخور فإنّ الشروط القانونيّة التي تسمح بوصفها كذلك بالمعنى المقصود في القانون الدوليّ، فيجب إن تقوّم بشكل موضوعيّ، فإذا كان عنصر بحريّ ما لا يتمتّع بإمكانيّة موضوعيّة لاستقبال نشاط اقتصاديّ أو سكن بشريّ، لا يمكن أن يكون له منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ (م121/3).
لكن ما المقصود بالسكن البشريّ والحياة الاقتصاديّة؟ هاتان المسألتان يجب أن تدرسا بالمعنى الكيفيّ والزمنيّ. ف"السكن البشريّ، كما يرى روبرت كولب: "يجب أن يسمح بنفسه بالإقامة الدائمة لمجموعات اجتماعية منظمة، وبالتالي تكون ذات أهمية ما" . وترى محكمة التحكيم الدولي أنه" يجب أن يناسب (السكن) مجموعة من الأشخاص ويلبي حاجاتها الخاصّة لمدّة غير محدّدة . أمّا "النشاط الاقتصاديّ الخاصّ" فيعني القدرة بالنسبة لسكّان العنصر البحريّ أن يقوموا بنشاط اقتصاديّ مستقلّ، بمعنى ألاّ يكونوا معتمدين كليًّا على الخارج". كما أنّ النشاط يجب ألاّ يقوم فقط على نشاطات استخراجيّة . ولا يعتد بمشاريع تقام عن سوء نية ... بهدف وحيد يتمثل بتحويلها أو اتخاذ أي تدبير مصطنع بمناسبة وجودهم بنيّة حرف نتائج الفقرة الثالثة من المادة 121 . فلا تغيّر في الأمر شيئًا أن يحاول العدوّ أن يظهرها على غير حقيقتها بإقامة منشأة ما عليها.
هذا، وكما استنتج المحكّمون فيما خصّ النزاع بين الصين والفيليبين حول جزر سبراتلي، فإنّ الجزر التي لا تقوم فيها حياة بشريّة أو نشاط اقتصاديّ لا تتمتّع بمنطقة اقتصادية خالصة ولا بجرف قاري.
أمّا بخصوص رسم خطّ الحدود البحرية حال وجود الجزر أو النتوءات التي تظهر في البحر إبان الجزر وتختفي عند المد، فهي تمتلك بحرًا إقليميًا. فقد قضت محكمة العدل الدولية في عدد من القضايا أن يرسم خط الوسط أو منصف الزاوية bissectrice انطلاقًا من نقطة الحدود على الشاطئ وصولًا إلى نهاية المنطقة الاقتصادية الخالصة، ثم يصحح عند وجود جزيرة فيلتف حول بحرها الإقليمي ليعاود مسيره حسب رسمته الأساسية . كما في الرسم رقم 1 الذي يبيّن الحدود البحريّة بين هندوراس ونيكاراغوا.

الرسم رقم 1


في الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة
فإذا حاولنا تعيين الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، فما هو الحل؟
لا بدّ أوّلًا من الرجوع إلى قانون البحار (اتّفاقيّة جنيف 1958، واتّفاقيّة 1982)، وقد صادق لبنان في الخامس من كانون الثاني سنة 1995، على اتّفاقيّة 1982، ووضعت موضع التنفيذ في 29 تموز سنة 1994، ولكنّ العدوّ لم يصادق عليها، ولكنّها تلزمه في بعض أحكامها التي أصبحت عرفيّة خاصّة في مسألة تعيين الحدود. لكن لا بد من العودة إلى مصادر حقوقيّة أخرى تفصيليّة وعمليّة.
وهكذا فإن الحلول، كما رأينا، ليست دائمًا جاهزة أو موحّدة، بل تخضع إلى عدد من الاعتبارات. فقد ورد في قرار تعيين حدود الجرف القارّي بين ليبيا وتونس، أنّه تبقى الأولويّة للاعتبار الجغرافيّ: "في كلّ تقويم للمنهجيات واجبة الإتباع، كتقويم القواعد والمبادئ الصالحة للتطبيق، من المهمّ أن ننطلق من الوضع الجغرافيّ كما يظهر، وخاصّة من امتداد المنطقة المعنيّة وخصائصها".
وفي قضيّة تعيين الحدود بين الهندوراس ونيكاراغوا (8 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2007)، ينصّ القرار على أنّ المعايير، التي يجب أن تؤخذ بالحسبان أثناء المفاوضات، يمكن أن تشمل الصورة العامّة لشواطئ الأطراف ووجود أيّ ميزة خاصّة أو غير عاديّة، وبقدر ما يكون الأمر معروفًا وسهل التحديد، تؤخذ البنية الفيزيائيّة والجيولوجيّة والموارد الطبيعيّة... كما يؤخذ التناسب المعقول الذي يمكن أن يظهر ما بين امتداد مناطق الجرف القارّيّ العائدة لكلّ دولة وطول ساحلها المقيس حسب الاتّجاه العام لهذا الساحل، وما يمكن أن ينتج عن تحديد قائم طبقًا لمبادئ عادلة، على أن تؤخذ أيضًا بالحسبان النتائج الآنيّة والمحتملة لأيّ تحديد أخر للجرف القارّيّ في المنطقة نفسها.
أمّا إذا خلا الواقع من الاعتبارات التي يراعيها القرار، فيمكن الاعتماد على الجغرافيا مع بعض التصحيح حين لا تكون نتائج التعيين في بعض الحالات غير معقولة.
ففي قضيّة تعيين الحدود بين الولايات المتّحدة وكندا على خليج مين Maine اعتمدت المحكمة على معايير متعدّدة وركزت على الجغرافيا مع بعض التصحيح، لمّا رأت أن بعض النتائج غير معقولة، فقد جاء في القرار: "إنّ الأفضليّة التي لا بدّ منها هي للمعايير التي تستجيب بشكل أفضل، بطبيعتها المحايدة، لتحديد متعدّد الأغراض (Polyvalent)، فعلى المحكمة أن تتّجه في الدعوى الحاضرة إلى معايير ترتبط بالجغرافيا.. غير أنّه من الواجب إجراء تصحيحات لبعض النتائج التي يمكن أن يكون تطبيقها غير معقول" (راجع الفقرتين 195 و196 من القرار).
وإذا كانت الجغرافيا هي الأساس في عمليّة التحديد، فهذا يفرض علينا أن نتفحّص ذلك في مسألتنا الحاضرة،  
وفي الجغرافيا يبقى ممّا يمكن اعتماده في موضوع الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة إمكانيّتان: خط الوسط (Médiane) وحل المعايير المتعددة.
لاحظنا أنّ الحل المؤدّي إلى نتيجة عادلة حسب اتّفاقيّة قانون البحار لسنة 1982، والذي طبّقه اجتهاد محكمة العدل الدوليّة، كان يأخذ بعين الاعتبار معطيات جغرافيّة تتعلق بشكل السواحل في كلّ بلد، هل هي شبه مستقيمة أم هي مكوّنة من مقاطع (Segments) متمايزة؟ (راجع قرار تعيين حدود الجرف القاري بين ليبيا وتونس الفقرة 75)، وهل هناك من مناطق نتوءات صخريّة des hauts-fonds)) في البحر؟ وهل هناك انعطافات حادة في شاطئ أيّ دولة باتّجاه شاطئ الدولة الأخرى؟ وهل من حقوق تاريخيّة؟ وهل من اتّفاقيّات؟ ...
إنّ كلّ هذا غير وارد في المسألة التي نحن بصددها (مع التحفّظ لجهة صخرة تخليت، (كما سنرى)، يبقى اعتماد خطّ الوسط.
إنّ خط الوسط (Médiane) بين لبنان وفلسطين يبدأ من نقطة الحدود عند الناقورة ويتّجه غربًا وتكون كلّ نقاطه متساوية المسافة (équidistants) عن نقطتي علام (Repères) تعيّنان على ساحل كلّ من الدولتين.
إلاّ أنّ العدوّ يطرح ثلاثة أمور: الاتّفاقيّة مع قبرص، تعيين نقطة بداية الخطّ الوسط، "جزيرة" تخليت.
أ‌-    بالنسبة إلى الاتّفاقيّة مع قبرص، والتي لم يبرمها لبنان، كما سنرى، لا يمكن العدوّ التذرع بها لأسباب منها:
1-هي اتّفاقيّة بين دولتين ولا شأن لطرف ثالث بها.
2- اعتبرت الاتّفاقيّة أن النقطة 1 غير نهائيّة، ويمكن مراجعتها بناءً على معطيات خريطيّة أكثر دقّة.
3- أن الخط الرابط بين رأس الناقورة والنقطة 1 ليس الخط الوسط المتعارف عليه.
لذلك طالب لبنان باعتماد الخطّ رأس الناقورة-النقطة 23، ما يعيد إلى لبنان مساحة 836 500 كلم2 للبنان و360 كلم2 للعدوّ، لكن رفض الاقتراح.
ب- بالنسبة لنقطة بداية الخطّ الوسط، كان العدوّ قد أزاح هذه النقطة عشرين مترًا إلى الشمال داخل لبنان وأقام منشأة أسماها Rock Hanicra، ليمنع الجانب اللبنانيّ من الوصول إلى الموقع الأصليّ لنقطة الحدود B1 التي يصبح الشاطئ الفلسطينيّ، انطلاقًا منها مكشوفًا حتّى حيفا.
وبمناسبة طرح العودة إلى المفاوضات بخصوص الترسيم طرح لبنان قصّة إزاحة النقطة B1، وراح يطالب الرجوع إلى الموقع الأصليّ للنقطة المذكورة B1، ما يعيد إليه مساحة حولي 2000 كلم2 بدلًا من 836 كلم2.
ج- وأما ما يسمّيه "جزيرة" تخليت، فلا بدّ من تفنيد ادعاءاته بشأنه، فهذه "الجزيرة هي صخرة صغيرة وليست جزيرة.

صخرة تخليت
تخليت هي عنصر بحريّ يبعد 800 متر عن الشاطئ الفلسطينيّ (رأس الناقورة).
يدّعي الصهاينة أنّ  تخليت جزيرة ولها مركز الجزيرة القانونيّ، بمعنى أنّ لها مياهًا إقليميّة ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة...إلاّ أنّنا في ضوء القانون الدوليّ نرى أنّها صخرة، مهما كان حجمها، فقد رأت محكمة التحكيم الدوليّ  "أنّ "الصخرة" يجب أن تؤخذ بالمعنى الواسع وليس بالمعنى الضيّق الجيولوجيّ أو التعدينيّ. وبالتالي تذكّر المحكمة بأنّ "الصخرة" لا تتكوّن فقط من الحجارة، بل يمكن أن تتشكّل من موادّ أخرى".
ومن جهة ثانية فإنّ هذه الصخرة ليست مأهولة ولا حياة اقتصاديّة حقيقيّة فيها، وفي هذه الحالة لا يمنحها قانون البحار مركز جزيرة بمعنى الكلمة، فقد رأينا أنّ المادّة 121/3 من القانون تنصّ على أنّه "ليس للصخور التي لا تؤمّن استمرار السكنى البشريّة أو استمرار حياة اقتصاديّة خاصّة بها، منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ".
من هنا فإنّها لا تؤخذ بالحسبان في رسم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة الخاصّة بلبنان. ولو كانت ممّا يعتدّ به بخصوص البحر الإقليميّ، لكان يجب أن ترسم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخاصّة بلبنان دون أخذها بالحسبان. ومن ثمّ ينظر في مسألة البحر الإقليميّ. فإذا كان بحرها الإقليميّ يتراكب مع البحر الإقليميّ اللبنانيّ، فيحدّد بحرها لجهة بحرنا بما يتناسب مع أهميّتها، ويرسم على شكل نصف دائرة متّجهة نحوها، كما في الحدود البحريّة بين هندوراس ونيكاراغوا.
لكنّ ما نذهب إليه، لا تنطبق عليه الخريطة الواردة في الملحق رقم 11 للدولة اللبنانيّة (أنظر الرسم رقم 2)، حيث يبدأ خطّ الحدود بين نقطة الناقورة والنقطة (29) بطريقة غير مفهومة مراعيًا على ما يبدو صخرة تخليت، في البحر الإقليميّ، ثمّ يعود ليوازي الخطّ الواصل بين نقطة الحدود عند الناقورة والنقطة 23.

الرسم رقم 2
 

لكن يبقى السؤال: هل إن صخرة بطول بضعة عشر مترًا وعرض بضعة أمتار تتمتع ببحر إقليمي؟

تعيين الحدود البحرية بين لبنان وقبرص
لبنان وقبرص دولتان متواجهتان فكيف يتمّ تحديد الخط الفاصل بين المنطقتين الاقتصاديّتين الخالصتين التابعتين لكلّ منهما؟
لا بدّ أوّلًا من الرجوع، مرّة ثانية، إلى قانون البحار (اتّفاقيّة جنيف 1958، واتّفاقيّة 1982)، وقد صادق لبنان، كما رأينا، وكانت قبرص صادقت عليها في 12 كانون الثاني سنة 1988، وهكذا أصبحت الدولتان ملزمتين بهذا القانون. لكن يتبيّن من الخريطة أن المنطقة الاقتصاديّة، التي ترجّح الاحتمالات احتواءها على الهيدروكاربون (الغاز)، والتابعة للبنان، وتلك التابعة لقبرص متطابقتان، على الأقل، في القسم الأكبر منهما:
فكيف يتم التحديد ؟
تنصّ القوانين المتعلقة بالموضوع، (اتفاقية جنيف 1958، واتفاقية مونتيغو باي اتفاقيّة 1982)، على أن يتمّ الأمر بالتوافق بين الدولتين. فإذا فشلتا، فعليهما العودة إلى الحلول القضائيّة (محكمة العدل الدوليّة، أو التحكيم الدوليّ).
أمّا الأسس التي يمكن أن يبنى عليها الحلّ، إذا لم يكن هناك معطيات تاريخية أو خاصة، في المنطقة لأحدى الدولتين( حقوق صيد قديمة، اتفاقات...)، فيمكن أن تكون:
*خطّ الوسط ( Médiane)، وهو الخطّ الذي يبعد بمسافة متساوية في كل نقطة منه عن الشاطئين (équidistance).

إلا أن هذا الحلّ قد يكون استخدامه البسيط متعارضًا مع معطيات تعاهديّة، أو على درجة من الصعوبة ناتجة عن حقائق جغرافيّة أو جيولوجيّة. وهكذا يؤخذ بالحسبان ما يأتي:
1. طول الواجهات البحرية   
2.التشكّل العام لكل من الشاطئين، هل هناك تعرّجات كبيرة، أو هناك جزر...؟
3. البنية الفيزيائية والجيولوجية للجرف القاري، انكسارات في قاع البحر، أودية سحيقة...
 (راجع: P.Daillier A.Peller op.cit. PP  1189 et  1190 )
لم تطرح أي من تلك المعطيات بين لبنان وقبرص فيما يخصّ المنطقتين الاقتصاديّتين، وجرى الاتفاق بينهما على الترسيم على أساس الخط الوسط بتاريخ 17/1/2007. واستفادت الجهة اللبنانيّة من الاتّفاقيّة المصرية القبرصيّة في 17 شباط 2003.
في الاتّفاقيّة وضعت النقاط بين المنطقة اللبنانيّة والمنطقة القبرصيّة من الجنوب إلى الشمال من 1 إلى 6، على أن تكونا قابلتين للتعديل على ضوء ترسيم الحدود بين لبنان وفاسطين المحتلّة من جهة وبين لبنان وسوريا من جهة أخرى. ونصّت الاتّفاقيّة، بناءً على ذلك، في مادّتها الثالثة على أنه" إذا دخل أيّ من الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعيّن على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوصّل إلى اتّفاق نهائيّ مع الدولة الأخرى، إذا ما تعلّق التحديد بإحداثيّات النقطتين 1 و6".


لكنّ الحكومة التركيّة، المطالبة بحصّة لـ "دولة" قبرص التركيّة، ضغطت على الحكومة اللبنانيّة، فلم تعرض الاتّفاقيّة على مجلس النوّاب للمصادقة، كما تقضي المادة 52من الدستور. غير أنّ لبنان، عاد ورسّم حدود منطقته الاقتصاديّة الخالصة من جانب واحد، على أساس النقطة 23 بدلًا من النقطة 1، والنقطة 7 بدلًا من النقطة 6، وأودع الإحداثيات الأمم المتّحدة بتاريخ 14/7/ 2010.
في 17/12/2010، اتّفقت قبرص مع "إسرائيل" على تعيين الحدود البحريّة بينهما، متجاهلة المادّة الثالثة من الاتّفاقيّة المعقودة مع لبنان والتي تلزمها بالتشاور معه. وفي 12/7/2011 أودعت "إسرائيل" إحداثيّات منطقتها الاقتصاديّ الخالصة الأمم المتّحدة. ورسمت الحدود البحريّ مع لبنان على أساس خطّ من الناقورة إلى النقطة رقم 1. لكنّ لبنان رفض هذا التحديد واحتجّ لدى الأمم المتّحدة.
هذا وتبلغ المسافات المتساوية بين لبنان وقبرص ما يأتي:
في أقصى الشمال: 95،001 كلم.
من بيروت: 66،91 كلم.
في أقصى الجنوب: 133،33 كلم.

تعيين الحدود البحريّة بين لبنان وسوريا
تبدأ نقطة التحديد بين المياه اللبنانيّة والمياه السوريّة عند مصبّ النهر الكبير الجنوبيّ ويمتدّ الخطّ الوسط ليلتقي مع الـ الخطّ الفاصل بين المياه القبرصيّة ومياه كلّ من لبنان وسوريا.
لكن في أيّ نقطة من مصبّ النهر يبدأ الخطّ؟
في الأنهار الحدوديّة الصالحة للملاحة تتكوّن الحدود من تاولوك النهر، أي تيّاره الأقوى اندفاعًا وهو الذي يعلو الخطّ الأسفل في أرض النهر. أمّا في الأنهار غير الصالحة للملاحة، فيؤخذ منتصف مجرى النهر، وهكذا فبين لبنان وسوريا يجب أن تؤخذ نقطة انطلاق خطّ الحدود البحريّة من منتصف النهر الكبير الجنوبيّ.
أمّا بشأن سير الخطّ، فهناك مجموعتا جزر على الجانبين يجب النظر في تأثيرهما:
- في الجانب اللبنانيّ، مجموعة الجزر مقابل طرابلس كبراها جزيرة الأرانب ومساحتها حوالي 0،188 كلم2، وتبعد عن طرابلس حوالي 5و5 كلم. وهي غير مأهولة، وليس لها إمكانات اقتصاديّة خاصّة، وبالتالي لا تتمتّع بمنطقة اقتصاديّة خالصة.
- في الجانب السوريّ، مجموعة جزر كبراها جزيرة أرواد، وتبلغ مساحتها حوالي 0،20 كلم2 وتبعد حوالي 3 كلم عن شاطئ طرطوس، هي جزيرة مأهولة. لكنّ صغر حجمها يمكن، في نظرنا، ألاّ يسمح بأن تتمتّع بمنطقة اقتصاديّة خالصة.
وهكذا، فمن نقطة الانطلاق على الساحل، يسير الخطّ مشكلًا الخطّ الوسط Médiane، أو منصّف الزاويّة bissectrice المتكوّنة من التقاء خطّ الاتّجاه العامّ للشاطئ السوريّ مع خطّ الاتّجاه العامّ للشاطئ اللبنانيّ. وصولًا إلى حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة التابعة لقبرص، وبذلك ترسم الحدود بين المنطقة الاقتصاديّة الخالصة اللبنانية والمنطقة الاقتصاديّة الخالصة السوريّة.
أمّا البحران الإقليميّان لكلّ من البلدين، فيجب أن يتأثّرا بالجزر الموجودة على الجانبين. ولا بدّ هنا من إجراء القياسات الصحيحة والمقارنة للخلوص إلى التحديد الصحيح.
هذا من الناحية النظريّة، أمّا عمليًّا، فقد عيّنت سوريا حدود مياهها بالقانون رقم 28 لسنة 2003، الذي عدّلته صنة 2018، ويبدو من الخريطة أنه أُخِذَ بالحسبان وجود جزيرة أرواد بدليل الخطّ المائل نحو الجنوب المنطلق من نقطة الحدود الأساسيّة، ثمّ انعطافه غربًا (لم نحصل على تفصيل حدود مياهها مع مياه لبنان بعد)،




يظهر الخطّ اللبناني بدءًا من مصبّ النهر الكبير مائلًا إلى الجنوب الغربي ثم ينعطف باتجاه الغرب ليصل إلى النقطة 7. وتظهر النقطة 6 جنوب النقطة 7.
وعندما عيّنت السلطة اللبنانيّة حدود منطق لبنان البحريّة، تجاهلت ما يوصي به قانون البحار من التفاهم بين الدولتين المعنيّتين، وحدّدت الخطّ الفاصل بين لبنان وسوريّا من جانب واحد بخطّ يبدأ من مصبّ النهر الكبير وينتهي عند النقطة 7 بدلًا من النقطة 6.
هذا ويقدّر بعضهم المساحة المحصورة بين النقطتين ونقطة الانطلاق على الشاطئ بحوالي 580 كلم2.
أما المساحة الكلية للمنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان فتكون حوالي 22 ألف كلم2.

 

 

الخلاصة:
يمتلك لبنان منطقة اقتصادية خالصة يقصر مداها من الشاطئ حتى أعالي البحار عن المسافة المقررة في قانون البحار بـ 200 ميل بحري، لأن قبرص، الدولة المواجهة، تقع على مسافة أقصر من ذلك بحيث يبلغ متوسط بعدها البحري عن لبنان حوالي 210 كلم.
إلا أن المشاكل ليست قائمة بين لبنان وقبرص فقط، بل بين لبنان وسوريا وخاصة بين لبنان وفلسطين المحتلة.
أما بخصوص قبرص فالمشكلة ليس في أساس ترسيم الحدود بل في النقطتين الطرفيتين شمالًا وجنوبًا، وهما لا تؤثران على الحدود مع المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين العائدتين للبنان وقبرص، بل على حدود المناطق الخاصة بلبنان وسوريا وفلسطين المحتلة.
فمع فلسطين المحتلة، هناك مفاوضات غير مباشرة، وعلى لبنان أن يتمسك خلالها بحدوده القانونية ولا يرضخ للضغوط من أي جهة أتت.
أما مع سوريا فالمطلوب إجراء مفاوضات مباشرة تؤخذ بها المعطيات العلمية بعين الاعتبار.
وبهذا نحفظ منطقتنا الاقتصادية الخالصة التي تزيد مساحتها عن ضعفي مساحة لبنان.


* نائب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

 مقالات | تعديل مجرى التأثير: سياسة خارجية للداخل الأميركي / الدكتور حسام مطر - مجلة الآداب - 28 شباط 2021

مقالات | تعديل مجرى التأثير: سياسة خارجية للداخل الأميركي / الدكتور حسام مطر - مجلة الآداب - 28 شباط 2021

إصدار 2021-02-28

من اللحظات الأكثر حراجةً في تاريخ الإمبراطوريّات هي حين يصبح النظامُ العالميّ، الذي أقامته هذه الإمبراطوريّاتُ بهدف الهيمنة، متاحًا لقوًى أخرى تستغلّه للصعود وتغييرِ الوضع القائم. في تلك اللحظة تبدأ قطاعاتٌ داخل الإمبراطوريّة بخسارة أسواقٍ خارجيّةٍ لصالح منافسين جددٍ سيصِلون - هم أيضًا - إلى الأسواق الداخليّة للإمبراطوريّة نفسها. لا ينال سكّانُ الدولة المهيمِنة حصّةً متساويةً من عوائد التدخّل حول العالم؛ ولكنْ ما دام التفاوتُ ضمن حدودٍ "مقبولةٍ" لهم، فإنّهم يتساكنون مع المشروع الخارجيّ لدولتهم ونخبتِها.

 مقالات | قراءة في اقتراحات البنك الدوليّ لـ إصلاح نظام التقاعد، إجراءات لقضم حقوق العمال/ الدكتور الشيخ حسن المحمود - جريدة الأخبار -1 شباط 2021

مقالات | قراءة في اقتراحات البنك الدوليّ لـ إصلاح نظام التقاعد، إجراءات لقضم حقوق العمال/ الدكتور الشيخ حسن المحمود - جريدة الأخبار -1 شباط 2021

في عام 2019 قدّم البنك الدولي دراسة لوزارة المال عن "إصلاح" نظام التقاعد، هي بمثابة تحدّ لدراسة سابقة أُعدّت في عام 2016 وخلصت إلى أن "نظام التقاعد" في القطاع العام اللبناني غير مستدام. النسخة الأخيرة من الدراسة خلصت إلى ضرورة إعادة هيكلة النظام وفق قواعد الاستدامة المالية، أي خفض التقديمات ورفع نسب المشاركة. دراسة من هذا النوع، لا تأخذ في الحسبان الأهداف الاجتماعية والاقتصادية التي يجب البناء عليها لدراسة نظام للتقاعد يكون مفيدًا لسوق العمل بكلفة أقلّ من دون المسّ بمكاسب العمال. وقد أجرى الباحث في المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، الدكتور حسن المحمود، قراءة نقدية لإصلاحات البنك الدولي التي تبنّتها وزارة المال في ذلك الوقت، ثم زايدت عليها في مشروع موازنة 2021.

 مقالات | نحن بين استدارتَين / د. حسام مطر - جريدة الأخبار - 23 كانون الأول 2020

مقالات | نحن بين استدارتَين / د. حسام مطر - جريدة الأخبار - 23 كانون الأول 2020

إصدار 2020-12-25

يصادف العام المقبل الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، قرنٌ كامل وصلت الصين في نهايته إلى المزاحمة على قيادة العالم منجزة أكبر تجربة بشرية في النهوض الاقتصادي والسياسي. أصبح هذا الصعود الصيني المتواصل الكابوس الأكبر المهيمن على عقل النخبة الأميركية وتصوّراتها، ولم تكن سياسات إدارة دونالد ترامب "العارية" تجاه الصين إلّا التعبير الأكثر وضوحًا عن ذلك. تحت عنوان "عناصر التحدّي الصيني"، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرًا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 بلهجة شديدة العدائية ضدّ الحزب الشيوعي الصيني الذي "أطلق حقبة جديدة من منافسات القوى العظمى" بهدف قلب النظام العالمي ووضع الصين في مركزه وخدمة "الأهداف التسلّطية وطموحات الهيمنة لبكين". يُفتتح التقرير باقتباس، يُراد منه تأكيد النوايا "الخبيثة" للصين، للرئيس الصيني شي جينبينغ، مفاده: «يجب علينا أن نركّز جهودنا على تحسين أحوالنا وتوسعة مستمرة لقوتنا الوطنية الشاملة وتحسين حياة شعبنا وبناء اشتراكية متفوّقة على الرأسمالية ووضع الأسس لمستقبل نفوز فيه بالمبادرة ونكون في موقع مسيطر» (خطاب أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، كانون الثاني/ يناير 2013).

أولًا: مخاوف متسارعة
بلغت المخاوف الأميركية من صعود الصين، ذروتها بعد جائحة «كورونا» حيث برزت الأخيرة أكثر كفاءة بأشواط في الاستجابة للوباء محليًا وخارجيًا بالمقارنة مع أميركا. تحاول واشنطن استعياب ذلك بشنّ حرب معلومات ضدّ الصين لتحميلها مسؤولية تفشّي الوباء عالميًا. لم تكن مسألة الوباء إلّا «حبّة الكرز على قالب حلوى» الصعود الصيني والهلع الأميركي بشأنه. تدور المخاوف الأميركية حول التطوّر التكنولوجي الصيني، والاختلال في الميزان التجاري، وزيادة الاستثمار في الأنشطة العسكرية. تركّز كلّ من واشنطن والصين على المجال الإقليمي في جنوب شرق آسيا، فالأولى ترى أنّ منع ظهور منافسيين إقليميين ودوليين لها، يكون من خلال تقييدهم بتوازنات إقليمية منهِكة ومستدامة، فيما تسعى الثانية، أي الصين، إلى تحقيق هيمنة مستقرّة في محيطها القريب بدايةً، قبل أن تتوثّب بقوة أكبر نحو الخارج.
أجرى باحثون من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» CSIS، متخصّصون في المسألة الصينية (مايك غرين، بوني غلاسر، سكوت كينيدي، جود بلانشيت) مسحًا شارك فيه 400 من قادة الفكر من 12 مؤسّسة وطنية في أميركا (قطاعات الزراعة والصناعة والأمن القومي وحقوق الإنسان)، إضافة إلى مفكّرين عالميين من 16 دولة في آسيا وأوروبا، وعيّنة من ألف مواطن أميركي (أعلن عنه ضمن بودكاست «رقعة شطرنج آسيا» في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020). أظهر المسح أنّ 54% من الرأي العام الأميركي يرى في الصين التحدّي الأكبر بوجه أميركا مع أغلبية وازنة لديها تصورٌ سلبيٌ تجاهها. وعن كيفية الاستجابة لذلك، رأى 45% من الرأي العام و81% من قادة الفكر الأميركيين، أنّه يجب ملاقاة الصين من خلال الحلفاء والشركاء، وليس بمواجهة مباشرة. ويعتقد بلانشيت أنّ الصينيين يراقبون ميزان القوى وتعامل أميركا مع الجائحة، فيتأكّد لديهم أنّ أميركا قوة آفلة مع مؤسّسات ديموقراطية متدهورة في مقابل صعود الصين، ولذا يعتقد الرئيس الصيني بأنّ الوقت يسير إلى جانب بلاده.


ثانيًا: الأسطول الأعظم

لدى الأميركيين قلق رئيسي من نمو الإنفاق العسكري الصيني، الذي بات فارقًا بشكل هائل مع دول الجوار المفترض أن تنخرط في الجهود الأميركية لتطويق الصين. فقد وصل الإنفاق العسكري الصيني، عام 2019، إلى 260.1 مليار دولار، وهو مبلغ يوازي ضعف الإنفاق العسكري لكلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا وسنغافورة. وحتى لو أضفنا إنفاق دول الهند وأندونيسيا وماليزيا والفيليبين وتايوان وتايلاند، فتبقى الصين متقدّمة عليها جميعًا. لكنّ واشنطن قلقة من تطوّر البحرية الصينية على وجه التحديد، كونها القادرة على «إسقاط» القوة الصينية نحو العالم ((projection of power وهذا هو مسار حتميّ لانتقال أيّ دولة من قوة إقليمية إلى قوة دولية. بالمناسبة، أطلق الجيش الأميركي حديثًا مشروعًا مع شركة «سبايس إكس» لتطوير استخدام مركبات فضائية لنقل مواد لوجيستية توازي حمولة طائرة النقل الضخمة «سي 17» (قادرة على نقل دبابة بوزن 70 طن)، إلى أيّ مكان في الكرة الأرضية عند حالة الضرورة في وقت قياسي لا يتجاوز الساعة الواحدة.
لذلك، تتراكم الهواجس الأميركية من تطوّر سلاح البحرية الصيني نوعًا وكمًّا. فبحسب تقرير سنوي للبنتاغون (2020)، أصبحت البحرية الصينية هي الأكبر في العالم بامتلاكها 350 سفينة حربية صينية مقابل 293 أميركية. وتجاوزت الحمولة الكلّية للسفن الحربية التي أطلقتها بحرية الجيش الصيني، بين عامي 2015 - 2019، ضعف تلك الأميركية عن الفترة نفسها. ولمواجهة هذه الفجوة، كان وزير الدفاع الأميركي السابق مارك إسبر تعهّد بزيادة حجم الأسطول الأميركي، عبر سفن تكون أصغر وأكثر رشاقة، وجزء منها غير مأهول، بما يمنح الأسطول الأميركي قدرة على انتشار أوسع، وهذه الميزة تتيح له النجاة من الصواريخ الصينية واستيعاب الهجمات من نقاط متنوّعة بشكل أكبر. لكنّ هذه الزيادة تواجه مشكلة مالية، حيث يجب أن ترتفع ميزانية بناء السفن من 11 % إلى 13% من ميزانية البحرية وهي النسبة التي كانت في حقبة رونالد ريغان (إيكونوميست- أيلول/ سبتمبر 2020).
ثالثًا: الانفكاك المستحيل
إضافة إلى صعود الصين بما يحمله ذلك من فرص ومخاطر للآخرين، شجّعت سياسات إدارة ترامب الأحادية الدول الأخرى على أخذ موقف أكثر حذرًا تجاه المواجهة مع الصين. وهذا ما يعمّق مأزق واشنطن التي في أشدّ ما تكون بحاجة لمساهمة الحلفاء والشركاء في احتواء الصين. يشير أنتوني كوردسمان (9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020) إلى أنّ وقائع الصعود الصيني إضافة إلى جائحة «كورونا» وما سيليها، سيجعل العيش في العالم الواقعي الجديد يفرض على أميركا علاقات مستدامة مع شركاء وحلفاء استراتيجيين حقيقيين. فأميركا التي تواجه تنافسًا بل وصراعًا مدنيًا وعسكريًا مع الصين وروسيا، أقلّ قدرة من أن تكون منقذ العالم عدا عن أن تكون شرطيه، بحسب كوردسمان.
المفارقة أنّ مسح «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» كشف عن وجود تفضيل قويّ في دول جنوب شرق آسيا لأن تتولّى أميركا العمل على «المشكلة الصينية» بشكل متعدّد الأطراف، ولكنّ الاتجاه الغالب بين نخب السياسة الخارجية في تلك المنطقة رفض الانحياز لطرف بين أميركا والصين، أي فضّل الحياد ورفض الوقوف بين «القطارين» الأميركي والصيني. لقد بلغ تقدّم الصين مرحلة لم يعُد الانفكاك عنها خيارًا في الاقتصاد والتكنولوجيا، حتّى من المتوجّسين منها. فقد أظهر المسح أعلاه رفضَ 80% من قادة الفكر (وحتى الرأي العام)، وفي أميركا وأوروبا وآسيا، «الانفكاك» الاقتصادي الكامل (decouple) عن الصين، ولكن أيّدوا ممارسة ضغوط عالية في مجالات محدّدة، لا سيّما تلك التكنولوجية (مثل «هواوي») بذرائع حقوق الإنسان والأمن القومي وحقوق الملكية والخصوصية. هذه الذرائع تكشف عمق «الهيستيريا» الغربية من القفزة الصينية في تطبيقات الذكاء الصناعي، بفعل الداتا الهائلة المتاحة للسلطات الصينية مثل السجلّات الصحّية (يقال في القرن الواحد والعشرين، إنّ الداتا هي النفط الجديد والصين هي السعودية الجديدة). كما رفض المستطلعون من رؤساء الجامعات فكرة الانفكاك في مجال الأبحاث الجامعية عن الصين، وممّا قالوه: «لو كنّا انفكينا سابقًا عن الصين، لكنّا الآن متخلّفين مدّة شهرين بخصوص لقاح فيروس كورونا».

إنّ صعود الصين دوليًا وإقليميًا يُعيد التوازن تدريجيًا ونسبيًا إلى العالم والمنطقة وهذا في صالحنا على المدى البعيد

رابعًا: الاستدارة نحو آسيا مجددًا؟

طرحت إدارة باراك أوباما مقاربة في السياسة الخارجية تقوم على مفهوم «الاستدارة نحو آسيا» لملاقاة الصعود الصيني باعتباره التهديد الأكبر لزعامة الولايات المتحدة ونظامها الدولي، وهو ما يوجب التخفّف من التورّط المفتوح في أزمات الشرق الأوسط وحروبه. يشير أوباما، في كتابه الصادر حديثًا، إلى أنّ غرق جورج بوش الابن في الشرق الأوسط دفع حلفاء واشنطن الآسيويين للتساؤل عن أهمية منطقتهم لدى أميركا، ما دفعهم إلى زيادة الاندماج في الأسواق الصينية. لذلك، يرفض أوباما مقولة إنّ الاستدارة نحو آسيا هدفت لاحتواء الصين، بل لتأكيد روابط أميركا مع تلك المنطقة. لم يتجاوز أوباما أزمات الشرق الأوسط، وإن أوقف التورّط المباشر في حروبه وأنجز الاتفاق النووي مع إيران، فحِدّة التنافسات في المنطقة وجدّية المخاطر الناتجة عنها وضغط اللوبي الإسرائيلي وأشباه اللوبيات السعودية - الإماراتية، والاقتطاعات من ميزانية الدفاع والقوات البحرية أعاقت الاستدارة الأميركية نحو آسيا. وهذه الضغوط ستصطدم بها إدارة جو بايدن أيضًا، وإن كانت الحوافز لإنجاز هذه الاستدارة أصبحت أقوى بكثير الآن.
انتقد بول وولفويتز، أخيرًا، أطروحة «الاستدارة نحو آسيا» لأنّها ارتكزت إلى استقلال أميركا طاقويًا عن المنطقة، في حين أنّها تجاهلت الاعتماد الكامل لشرق آسيا على هذه الإمدادات. ويرى أنّ هذه المقاربة كانت من حسن حظ الصين التي تقلقها الهيمنة الأميركية في منطقة الخليج الحيوية، وليس في بعض الجزر الصغيرة في بحار الصين الجنوبية والشرقية. ويجادل وولفوويتز أنّ النتائج المتواضعة لفكرة «الاستدارة نحو آسيا» لها عدّة أسباب، أبرزها أنّ «الانسحاب من الشرق الأوسط ليس منطقيًا كجزء من استراتيجية حماية المصالح الأميركية في آسيا الباسيفيك». فحتّى مهندس فكرة «الاستدارة» كارت كامبل، أكّد أنّ فكرته لا «تدعو إلى الانسحاب من أيّ جزء آخر من العالم». فالشرق الأوسط لا يمكن أن يُعامل كأنّه ذا صلة ضعيفة بتنافس أو تصارع القوى الكبرى.
كانت مقاربة أوباما تجاه الصين مزيج من المشاركة والتسييج بجهد متعدّد الأطراف، في المقابل ذهب ترامب نحو معركة أيديولوجية ضدّ الحزب الشيوعي الصيني. كثّفت إدارة ترامب تدخّلاتها في المنطقة وأعادت توسيع تعريف منطقة المصالح الاستراتيجية من «شرق آسيا» إلى «منطقة الهندي - الباسيفيك»، بما يكشف الصلة المتينة مع الشرق الأوسط. يرى سكوت كينيدي (مستشار كبير في الاقتصاد والتكنولوجيا الصينية) أنّ السياسة الأميركية تجاه الصين بدأت من «التكامل الصبور»، ثمّ «الضغط الصبور» الذي يشمل مزيجًا من الإجراءات الأحادية والجماعية، وصولًا إلى مرحلة ترامب التي توصف بأنها «المعارضة غير الصبورة» (عارض 71% من قادة الفكر الأميركيين سياسات ترامب تجاه الصين، كونها أضرّت بأميركا ولم تغيّر السلوك الاقتصادي الصيني، بحسب مسح CSIS).
أما مع بايدن، فيمكن الافتراض أنّ مقاربته الصينية ستكون أكثر حدّة من مقاربة أوباما، وأقلّ عدائية من مقاربة ترامب. فالتحوّلات توجب على إدارة بايدن مزيدًا من التركيز على الصين وإكمال «استدارة» أوباما. في مقالته في مجلة «فورين أفيرز» (آذار/ مارس 2020)، طرح بايدن فكرة «سياسة خارجية للطبقة الوسطى» حيث تمثّل الصين «تحدّيًا خاصًّا» يجب مواجهته «من خلال بناء جبهة موحّدة من حلفاء أميركا وشركائها. وفي هذه الحالة لا تستطيع الصين تجاهل أكثر من نصف الاقتصاد العالمي». ويؤيّد أنتوني بلينكن، مرشّح بايدن لوزارة الخارجية، مقاربة تخفيف حضور أميركا في الشرق الأوسط والتوجّه نحو آسيا لإعادة التوازن لمواردها هناك، حيث التوسّع الصيني على مختلف الأصعدة (مؤسّسة هدسون، تموز/ يوليو 2020). ستسعى إدارة بايدن إلى تعزيز الطرق الأنسب للمنافسة مع الصين، بما يحول دون الوصول إلى مواجهة مباشرة معها ثمّ ترك ممرّات للتعاون في قضايا ثنائية ودولية مشتركة بمقدار ما تثمر الضغوط في تغيير سلوك الصين «التوسّعي».


خامسًا: الصين تتّجه غربًا
يتطوّر دور الصين في منطقتنا بشكل معتدل ولكن ثابت، مترافقًا مع تصوّرات إيجابية بالعموم من شعوب المنطقة (بحسب استطلاع «الباروميتر العربي» (2019) فضّل الجمهور العربي في 11 من أصل 12 دولة عربية التقارب الاقتصادي مع الصين أكثر من أميركا). ورغم أنّه ليس للصين استراتيجية معلنة تجاه الشرق الأوسط، وذلك للإبقاء على مواقف ملتبسة ومعتدلة ومرنة، لكن يمكن التعرّف إلى أهدافها: النفاذ المتواصل إلى مصادر الطاقة، وتعزيز نفوذها الجيو استراتيجي في الشرق الأوسط، وهو «المنطقة الأهم لها في القرن الحادي والعشرين خارج الباسيفيك» لأسباب مرتبطة بالطاقة ولمواجهة محاولة التطويق الأميركية، وهنا تأتي مبادرة «الحزام والطريق»، وحفظ الاستقرار الداخلي وفي محيطها ولا سيما في ما يخصّ التهديد الناشئ من أقلية الإيغور، وأخيرًا تعزيز مكانتها كقوة كبرى بما يمتّن المشروعية الداخلية للحزب الشيوعي عبر حماية مصالح الصين ومواطنيها حول العالم (مجموعة كتاب، الصين في الشرق الأوسط، مؤسّسة راند، 2016).
لكن ثمة عنصر إضافي لفهم الاستراتيجية الصينية تجاه منطقتنا هو «الوقت»: تأجيل المواجهات إلى أبعد مدى ما دام الصعود الصيني متواصلًا بالسرعة المطلوبة بمعايير لها علاقة بالداخل والخارج. يرى الصينيون أنهم يبحرون مع تيار التاريخ الذي يفهمونه جيدًا وتعلّموا منه الكثير والآن يصنعونه. التفسير الأولي يفترض أنّ التحشيد الأميركي في محيط الصين سيدفع الأخيرة بالضرورة إلى مقاربة صراعية مع واشنطن من خلال الشرق الأوسط. لكن يبدو أنّ الصينيين يفكّرون بشكل مختلف.
يرى وولفويتز أنّ الصينيين يحاولون تجاوز «التجربة اليابانية الانتحارية» في الحرب مع الولايات المتحدة (الهجوم على بيرل هاربر) ملتزمين مقولة صان تزو بأنّ «ذروة المهارة هي أن تكسب بدون قتال». إضافة إلى أنه، بحسب دراسة «راند»، بالرغم من المنافسة القوية الجارية على مستوى القوى الكبرى، الصين حريصة على حفظ علاقات تعاونية مع أميركا لا سيما في الشرق الأوسط. تدرك الصين أن واشنطن هي مزوّد رئيسي للأمن في الإقليم، حيث لا قوة أخرى بما فيها الصين، قادرة على أداء هذا الدور. إذًا، تسعى الصين لتجنّب الصراع مع أميركا قدر المستطاع وتكسب الوقت بالصعود السلمي، ولهذا فإن استجابتها للاستدارة الأميركية نحوها يجب أن تخدم ذلك المسعى.
بعد عام من قرار أوباما بالاستدارة الآسيوية، كتب وانغ جيسي (عميد معهد الدراسات الدولية في جامعة بكين) مقترحًا لانعطافة صينية في الاتجاه المعاكس أسماها «السير غربًا: إعادة التوازن للجيو استراتيجية الصينية» (2013). تجدر الإشارة هنا إلى وجود انقسام تاريخي في الصين بين مؤيّدي أن تكون الصين قوة بحرية تركّز على الشرق لتتحول إلى قوى عالمية عظمى أو أن تكون قوة برّية تركّز على الغرب والجنوب أي آسيا الوسطى وصولًا إلى الشرق الأوسط. لخّص يون صان (مؤسسة بروكينغز، 2013) مقاربة جيسي بأنّها تهدف إلى أن تتفادى الصين منافسة صفرية محتملة في شرق آسيا في ظلّ سعي واشنطن لاستعادة التوازن هناك. ففي آسيا الوسطى والشرق الأوسط مخاطر أقل لمنافسة صفرية بين القوّتين كونهما محكومتين بمصالح مشتركة (الطاقة ومكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي وعدم انتشار الأسلحة النووية) في أفغانستان وباكستان والعراق، وحيث لدى واشنطن نزعة تراجعية. هذا التوجّه غربًا إلى المناطق «التي كان الأباطرة الأوائل يحلمون بالوصول إليها» (وولفويتز)، تجسّد من خلال «مبادرة الطريق والحزام» حيث تُحوِّل الصين قوتها الاقتصادية إلى قوة سياسية وقوة ناعمة، ثم تأثيرات أمنية مستقبلية. وهذا التوجه يعني استعادة الصين للتوازن بين المجالين الشرقي (مثل تايوان وكوريا الشمالية) والغربي، وبين القوة البرية والبحرية.
هذا التركيز الصيني نحو غربها، بما فيه الشرق الأوسط، يحقّق للصين هدفين أساسيين: يعيد الصين إلى جذورها كقوة قارية بما يُضعف من فرص وقوع مواجهة في شرق آسيا، ويمنحها تأثيرًا استراتيجيًا إضافيًا ضدّ واشنطن، عند الضرورة، بما يسمح بعلاقة أكثر توازنًا بين الدولتين. أي أنّ التوجّه الصيني نحو منطقتنا هدفه تجنّب وقوع صدام مع الولايات المتحدة، إما بزيادة المصالح المشتركة وإما بتحسين لعبة التوازنات، ويستدل محلّلو «راند» على ذلك بالحذر الصيني في تطوير التقارب مع إيران. وداخليًا، يعزّز الاتجاه غربًا استراتيجية «التنمية الغربية الكبرى» (انطلقت عام 2000) الموجّهة للمناطق الصينية في غرب البلاد لردم الهوة التنموية والاقتصادية مع المناطق الساحلية، وكذلك تعزيز الأمن في المناطق الحدودية الغربية.
يشبّه وولفويتز الأطروحة الصينية بالتوجّه غربًا بلعبة صينية مشهورة اسمها «وي كي» أو «إذهب»، ومفتاح الربح فيها يكون بخداع العدو حول اتجاهك الحقيقي ونواياك، فتدفعه ليفتح لك مواقع جديدة تسمح لك بتطويقه على أمل أن لا يلاحظ الخصم استراتيجيتك الحقيقية. وهنا الصين، بحسب وولفويتز، تستدرج الولايات المتحدة نحو بحر الصين الجنوبي، بينما تقوم ببناء «عقد من اللؤلؤ» على مدى المحيط الهندي في باكستان وجيبوتي وسيرلانكا ميانمار. تمثّل مقاربة وولفويتز اتجاهًا قويًا في الحزب الجمهوري و«المحافظين الجدد»، وهي تتمسّك بدور تدخّلي في الشرق الأوسط لأسباب أيديولوجية مرتبطة بالإسلام و "إسرائيل"، والآن الصين.

سادسًا: التداعيات الإقليمية
1 - الضغوط الأميركية المرشّحة للتصاعد على الصين ستزيح بمرور الوقت محور التنافس العالمي نحو الشرق الآسيوي، وهذا ما سيزيد من اهتمام الصين بمنطقتنا وتاليًا الاهتمام الأميركي، وهكذا بدل أن تتحرّر المنطقة من وطأة الحضور الأميركي يجري ابتلاعها من «الثقب الأسود» الناشئ في جوارنا الآسيوي. هذا التشابك الأميركي - الصيني في الشرق الأوسط، دعا المجلس الأطلنطي لأن يوصي في دراسة حول «الدور المتغيّر للصين في الشرق الأوسط» (حزيران/ يونيو 2019) بأن يصبح الخبراء الأميركيون بشؤون الشرق الأوسط ملمّين بالصين والخبراء بالشأن الصيني أن يصبحوا محيطين بأحوال الشرق الأوسط.

2 - تصبح العلاقات الأميركية - الصينية أكثر تأثيرًا في تشكيل مستقبل منطقتنا، ومع الفرص والعوائد الناتجة عن حضور الصين المتزايد على حساب أميركا، فإنّ الأمر لا يخلو من مخاطر وتحدّيات. تواجه أميركا معضلة موازنة حذرها من قضايا الشرق الأوسط مع الرغبة في احتواء نفوذ الصين هناك. هذا الأمر قد يدفع البلدين إلى مشاركة أكثر في شؤون الشرق الأوسط. وهكذا تكون المنافسة الدولية بينهما انعكست منافسة إقليمية أكبر، وهذا يعني ضغوطًا أكبر على دول المنطقة، بما في ذلك حلفاء واشنطن.

3 - سيبقى التوجّه الصيني المتزايد نحو بلادنا في المدى المنظور، ساعيًا لعدم التصادم مع أميركا مفضِّلًا التغلغل التدريجي في المناطق الرخوة والنفاذ إلى الشبكات الإقليمية الواعدة والتعاون مع أميركا في مناطق أخرى والبقاء بعيدًا عن مناطق مشتعلة أو ذات نفوذ أميركي صلب. زخم الاندفاعة الصينية وطبيعتها تجاه منطقتنا مرهون بالدور الأميركي في شرق آسيا مع تفضيل بكين أن يكون الشرق الأوسط «عامل تبريد» للعلاقة مع واشنطن، إلّا إن لم تترك الأخيرة خيارًا لبكين إلّا المواجهة.

4 - إنّ دورًا صينيًا أكبر في منطقتنا يمنحنا فرصة لتنويع الخيارات وتقييد المبادرة الأميركية. لكن علينا أن نعي أنّ الصين ستبني خياراتها بما يتناسب نسبيًا مع ميزان القوى الإقليمي، ومع الدول والقوى القادرة على تأمين منافع أكبر وبكلفة أقل من منظار التفضيلات الصينية. والقيادة الصينية لن تنسى الدرس الأميركي من الشرق الأوسط، ولذا ستتجنّب التورّط في صراعات المنطقة المفتوحة وسياسة المحاور. وهنا قد يبرز تحدٍّ مستقبلي أن تصل واشنطن وبكين لتوافقات لضمان حدٍّ من استقرار الإقليم وتقاسم مصالحه بشكل يقيّد خيارات قوى المنطقة وعلى حساب مصالحها.

خاتمة
إنّ صعود الصين دوليًا وإقليميًا، يُعيد التوازن تدريجيًا ونسبيًا إلى العالم والمنطقة، وهذا في صالحنا على المدى البعيد، ففي ذلك إضعاف لهيمنة أميركا وغطرستها. كلّ تقويض للنظام الدولي بصيغته الحالية هو فرصة لبناء نظام أكثر عدالة وتنوّعًا. مشروعنا الاستقلالي ينبغي أن يبني جزءًا من استراتيجياته على الاستفادة من التنافس الأميركي - الصيني الذي قد يصل، كما نأمل، إلى أن يصبح صراعًا. لكن علينا أن نحذر جدًا من عنصر «الوقت». إنّ مساري التراجع الأميركي والتنافس الصيني - الأميركي على الأرجح أن يمتدّا لعقود في منطقتنا، وأثناء ذلك قد تصبح واشنطن أكثر شراسة في لحظات ما أو أكثر أذية، فضلًا عن الجهود التكيّفية الهائلة لحلفاء واشنطن ومن ضمنها مسار التطبيع.

ما تقدّم يعني أنّ مشروع المقاومة والاستقلال في بلادنا، واستكمالًا لنجاحاته في تقويض الهيمنة الأميركية وملحقاتها، يحتاج إلى سياسات مستدامة تضمن القدرة الفائقة على التكيّف مع تحوّلات هذا الصراع وتبعاته الدراماتيكية لعقود مقبلة ربما. فعلى دول وقوى المقاومة والاستقلال تجديد ذاتها من الداخل وتوسعة مشروعيّتها في الخارج. وهذا يستوجب بناء شبكات متعدّدة في الاقتصاد والتكنولوجيا والتنمية والثقافة والمعرفة بين تلك الدول والقوى، وكذلك مع الشركاء المحتملين داخل وخارج المنطقة. ينبغي لمشروع المقاومة في المنطقة أن يتّصف بسمات القوة الماراثونية: معرفة تفصيلية بمسار السباق ونَفَس طويل وبنية مرنة وتوظيف واعٍ للموارد المتاحة وتكيّف مع المنعرجات وضبط للسرعات وتجديد للطاقات وفهم دقيق للمنافسين وأحوالهم وتصميم لا يلين. يستمدّ التنافس الصيني - الأميركي طبيعته من سياقات القرن الحادي والعشرين، ويعيد تشكيلها طوال الوقت. ولذا على من يريد الانتفاع من «رياح» ذلك التنافس أن يمتلك عقلية هذا القرن المعقّد والمثير والمخادع والمتحوّل ليعرف كيف ينصب أشرعته ومتى.

 مقالات | قرارات البرلمان وقيمتها القانونية / د. محمد طي - كانون الأول 2020

مقالات | قرارات البرلمان وقيمتها القانونية / د. محمد طي - كانون الأول 2020

إصدار 2020-12-08

توجه رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس النواب برسالة "لمناقشتها في مجلس النواب وفقًا للأصول واتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار بشأنها، ما يستدعي التعاون مع السلطة الإجرائية التي لا يحول تصريف الأعمال دون اتخاذها القرارات الملائمة عند الضرورة العاجلة، وذلك من أجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان وانسحاب هذا التدقيق، بمعاييره الدولية كافة، إلى سائر مرافق الدولة العامة".
رد المجلس على رسالة الرئيس قرر المجلس "إخضاع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والمؤسسات المالية والبلديات والصناديق كافة بالتوازي، للتدقيق الجنائي دون اي عائق او تذرع بالسرية المصرفية او بخلافه".

فما هي القيمة القانونية لهذا القرار؟
القرار عمل قانوني تتخذه إحدى السلطات في معرض ممارستها صلاحياتها. وهو إما أن يكون قرارًا إداريًا تتخذه الحكومة وقد يتحول إلى مرسوم، أو تتخذه سلطة إدارية أدنى، ويكون في هذه الحالة قرارًا نافذًا أي إلزاميًا للإدارة ولمن توجهه إليهم. وقد يكون قرارًا قضائيًا يتخذ للفصل في نزاع معين أو للبت في مشكلة من مشاكله. وقد يكون قرارًا برلمانيًا يتخذه البرلمان أو أحد مجلسيه إذا كنا حيال ازدواجية البرلمان Bicamérisme ou bicaméralisme. وهذا الصنف الأخير معمول به في الدول على نحو عام، ومن الأمثلة:

في فرنسا
 تتخذ القرارات البرلمانية في فرنسا في الأحوال الآتية:
المادة 34-1 من الدستور: يمكن لمجلسي البرلمان أن يصوتا على قرارات في شروط يحددها قانون عضوي organique،
المادة 68/2 من الدستور حول اقتراح أحد مجلسي البرلمان بعقد المحكمة العليا لمحاكمة الرئيس وإحالة الاقتراح إلى المجلس الآخر، إذ تتخذ القرارات تطبيقًا لهذه المادة بأكثرية ثلثي أعضاء المجلس المعني.
المادة 88/4 عندما تحيل الحكومة إلى كل من مجلسي البرلمان المشاريع التشريعية من قبل الاتحاد الأوروبي، فيمكن أن يتبنىا القرارات الأوروبية.
المادة6/1/5 من الأمر التشريعي رقم 58-1100 بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1958، لإنشاء لجنة تحقيق برلمانية في كل من المجلسين بقرار، إذ يمكن أن تنتهي مهمتها...بعد ستة أشهر من صدور فرار إنشائها
المادة 80/6 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية، التي تقضي بمناقشة تقرير لجنة التحقيق البرلمانية المصوغ على شكل قرار.
المادة 105/6 من النظام الداخلي لمجلس الشيوخ باتخاذ القرار بشأن تعليق اعتقال أحد أعضاء مجلس الشيوخ أو الوقف الجزئي أو الكلي للتدابير المتخذة ضده.

في لبنان
 يتخذ مجلس النواب اللبناني القرارات في مواضيع مختلفة. ومنها ما نصّ عليه الدستور:
أ‌-    م34،: "تتخذ القرارات (في مجلس النواب) بغالبية الأصوات"،
ب‌-    م35:  لمجلس النواب أن يقرر إعادة المناقشة في جلسة علنية" بعد الجلسة السرية.
ت‌-    م60: اتهام رئيس الجمهورية بقرار يصدر بغالبية الثلثين من مجلس النواب.
ث‌-    م70: اتهام رئيس الوزراء والوزير بقرار يصدر بغالبية الثلثين من مجلس النواب

ومن القرارات ما نص عليه النظام الداخلي لمجلس النواب، ويتعلق بعضها باللجان البرلمانية، ولن نقف عنده، ويتعلق بعضها الآخر بالهيئة العامة للمجلس، وأتت على شكلين:

•    بالنص الصريح، وهي:
أ‌-    قرار الأكثرية بعقد جلسى سرية للمجلس (م59 و60)،
ب‌-     قرار المجلس بوضع محضر للجلسة السرية (م61)،
ت‌-     قرار المجلس بوضع محضر تفصيلي لجلسته(م66)،
ث‌-     قرار الأكثرية بتصديق خلاصة محضر الجلسة النيابية (67)،
ج‌-    قرار منع الخطيب من الكلام في غير حلات المنع العائدة إلى الرئيس (م83)،
ح‌-     قرار المجلس بالتصويت على مبادرة القانون بجملتها بعد رفع التقرير بشأنها من اللجنة أو إعادتها إلى اللجان (م91)،
خ‌-    القرار برفع الأيدي للتصويت في حالات معينة (م954)،
د‌-    قرار رفع حصانة النائب (م104)،
ذ‌-    قرار بوقف مؤقت لملاحقة بدأت تجاه نائب (105)،
ر‌-     اتخاذ القرار بخصوص رسالة يوجهها رئيس الجمهورية إلى المجلس (م145)،
ز‌-     قرار بإجراء تحقيق برلماني (147)،
س‌-     قرار بإيلاء لجنة التحقيق البرلمانية صلاحيات قضائية (م151).
•    ومنها ضمنيًا:
أ‌-    كقفل باب المناقشة في الجلسة العامة للمجلس (م87 و88)،
ب‌-     استرداد اقتراح القانون بعد شروع المجلس بمناقشته (م112)،
ت‌-    الموافقة على طلب الحكومة إجراء مناقشة عامة (م141)،
ث‌-    تعيين جلسة للمناقشة العامة بموافقة المجلس (م145).

الملاحظ أن هذه القرارات المنصوص عليها دستوريًا أو قانونيًا في فرنسا وفي لبنان، تتعلق بعمل البرلمان الداخلي، يتخذها البرلمان من تلقاء نفسه، أو تتعلق بأمور تشاركه فيها الحكومة. وليس بينها ما يتوجّه إلى الحكومة ليطلب منها أمرًا ما.
هذه القرارات ملزمة لليرلمان، وهو لا يستطيع التغلب عليها إلا بالتصويت على إلغائها أو على ما يخالفها. فإذا تجاوزها إلى اتخاذ القرار بالطلب من السلطات الأخرى أن تقوم بعمل ما، فهل يستطيع إلزامها بقراره؟
برأي هيئة التشريع والاستشارات، فإن كافة مقررات مجلس النواب، باستثناء القوانين، ليست لها قيمة قانونية واضحة وبالتالي ليست لها قوة الإلزام .
وفي الفقه الفرنسي، فإن الموقف هو: إن"لكل من مجلسي البرلمان أن يصوت على قرارات ذات طابع عام، في كل موضوع. وعلى العكس من القوانين، ليس للقرارات قيمة ملزمة، فهي تعبر عن تمنٍ أو عن اهتمام أو قلق préoccupation..."   

من هنا فإن القرار الذي اتخذه مجلس النواب اللبناني والموجه إلى الوزارات وسائر المؤسسات، في موضوع التحقيق الجنائي ليس ملزمًا. لكن يمكن أن يحاسب المجلس الحكومة سياسيًا بخصوصه. ولحل المشكلة، كان يجب، لو كان في الأمر جدية، إلزام الطرفين بقانون.

 مقالات | ما بعد الأزمات: مُستلزمات عودة الناس إلى برّ الأمان الاقتصادي والاجتماعي / م. مها لطف جمول - تشرين الثاني 2020

مقالات | ما بعد الأزمات: مُستلزمات عودة الناس إلى برّ الأمان الاقتصادي والاجتماعي / م. مها لطف جمول - تشرين الثاني 2020

مقدمة
لم يكن من الضروري انتظار انتشار وباء الكورونا العالمي حتى يُتأكد من حاجة لبنان إلى إنتاج اقتصاد يؤدي إلى تلبية احتياجات المواطنين لاسيما منها تأمين فرص العمل المُجدية والكريمة.
وقد أفضى هذا الوباء ومعه السياسات المالية والنقدية للحكومات اللبنانية المتعاقبة إلى ظهور أزمات حقيقية عجزت أحيانًا عن تلبية الحاجات الأساسية من الغذاء والدواء وذلك بالنظر لغياب الاستراتيجيات المتعلقة بالأمن الغذائي خاصة مع لحظ صِغر مساحة البلد الجغرافية.

وقد أفضى تكريس واقع أن 2% من السكان يستحوذون على أكثر من 80% من الثروة1، مع ما يرافق ذلك من غياب لسياسات عدالة الإنتاج، إلى ظهور تداعيات حالات البطالة والفقر المدقع في أبشع صورها.
ويبدو أن الوباء المستجد كان "القشة التي قصمت ظهر البعير" لجهة انكشاف آلاف العائلات الفقيرة أمام الجوع والمرض بل والعوز الشديد، وهو ما كان يمكن تفاديه لو أن الحكومات انتهجت سياسات اقتصادية - اجتماعية – إنتاجية أقلّ ريعية وأكثر عدالة.
وتجدر الإشارة إلى أن المطالبة بتعديل مثل هذه السياسات ليست أمرًا جديدًا أو حادثًا، بل يمكن تتبعها من خلال نتاج جهود كثير من السياسيين والعاملين والباحثين والأساتذة الجامعيين الذين توصّلوا إلى ضرورة تحويل المجتمع اللبناني إلى مجتمع منتج مكتفٍ يستطيع مواجهة أزماته الداخلية وتحدياته الخارجية.

وعليه سوف تقدّم هذه الورقة مجموعة من المقترحات العمليّة مساهمة منها في التأسيس لحلول مستدامة لبعض مشاكل الناس الحياتية للناس لمرحلتي استمرار تفشّي الوباء ومرحلة ما بعد انتهاء الجائحة، وتكريسًا لعودة الناس إلى برّ الأمان الاقتصادي والاجتماعي- وإن كان جزء من هذا التحليل يعود إلى المرحلة السابقة للأزمة وتلك التي مهّدت لحدوثها- بحيث تقدّم اقتراحات على مستويات مختلفة منها: التخطيط والتأسيس والإشراف والرقابة، وكذلك المستوى التنفيذي.
لكن قبل عرض المقترحات ينبغي الإشارة إلى النواحي المتعلقة بالسياسات الحكومية المتّبعة -والتي يحتاج بعضها بدوره إلى تغيير وتطوير وتحديث- كونها تشكّل أحد العوائق المهمة أمام التنمية الفعلية وتوفير الفرص المجدية.


أولًا: أبرز السياسات الحكوميّة المتبعة في مجال التنمية المناطقية:
تطرح السياسات التنموية في لبنان عددًا من الإشكاليات الرئيسيّة التي تحتاج إلى مقاربات حقيقيّة بشأنها، خاصة وأن بعض تداعيات ممارستها باتت تسبب أزمات متنقلة أهمّها الديون الناجمة عن مشاريع ليست أولويات تنموية بقدر ما هي أولويات سياسية، فضلًا عن كون أغلبها لا يملك مقومات الاستدامة التمويلية أو التشغيلية الفعالة.


وقد أمكن إحصاء ثلاث عشرة إشكاليّة في لبنان على النحو الآتي:
1.    مركزيّة شديدة مع تأكيد على أولوية توفير خدمات البنية التحتية للعاصمة وبعض محيطها، فضلًا عن تمركز الخدمات والتسهيلات المختلفة، وهو ما ساهم في استقطاب السكان حول المدن- لاسيما حول بيروت، حيث أدّى هذا الأمر بالنسبة للنازحين إلى خلق فرص العمل المتناسبة مع تكاليف العيش بالحدّ الأدنى، كما قلّص الفرص المتناسبة مع الاستثمار في الأرياف.


2.    إنتاج خطط وسياسات حكومية ريعية أو خدماتية – بأغلبها- كما يمكن أن يُستنتج من الموازنات المخصصة لتطوير الإنتاج في قطاعات الصناعة والزراعة بالتحديد.


3.    من المقرر إنفاق نحو 8 مليارات2 من الدولارات من أموال الجهات المانحة فيما يُعرف ببرنامج "سيدر" على البنية التحتية وليس على مشاريع ذات طابع استثماري: كهرباء، طرق، اتصالات، مياه، صرف صحي. صحيح أن ما هو مُقترح ضروري وحيوي لتحفيز الاستثمار، إلا أنه ليس واقعًا ضمن المشاريع "ذات الطابع الإنتاجي المباشر". كذلك تجدر الإشارة إلى أن أموال "سيدر" قد استثنت أي تمويل في قطاعي التعليم والصحة فضلًا عن القطاعات الإنتاجية الأخرى.


4.    دعم الأُسر الأشد فقرًا بالمال المباشر والمساعدات العينيّة المباشرة، والواقع أن بعضًا من هذه الأُسر تحتاج إلى الدعم المباشر والفعلي خاصة مع طول الفترة التي رافقت الإغلاق العام بسبب كورونا، إلا أنّ أُسرًا أخرى تحتاج إلى توفير فرص العمل اللائقة التي تكفل لها سدّ احتياجاتها الأساسية المستدامة، لكن يبدو أن انتشار الوباء والسياسات النقدية السابقة له قد فاقمت انتشار موجة بطالة غير مسبوقة باتت تزيد عن نسبة 25% لدى الشباب بعد أن كانت تصل إلى حدود 11.1% عام 2015 بحسب دراسة الأحوال المعيشية للأسر3 .


5.    كان ولا يزال يتمّ الاعتماد على المغتربين اللبنانيين لتوفير سيولة بالعملة الأجنبية من خلال الضخّ المباشر للأموال التي تقدّم لعائلاتهم مباشرة. لكن نادرًا ما تم التعامل معهم باعتبارهم فرصًا حقيقية لنقل التجارب والخبرات فضلًا عن كونهم فرصًا لبناء الاستثمارات المباشرة.


6.    غياب المعلومات والمعطيات والداتا المركزيّة حول التنمية المناطقية التي تُسهّل التعرّف على الفرص المتاحة أو الاستثمارات المطلوبة أو الممكنة، وحتى في حال توّفر مثل هذه المعطيات فهي لا تتعدّى حدود البلديات أو الاتحادات البلديات ضمن أُطر جغرافية محددة. ويُلحظ إضافة إلى ذلك غياب الجهات المتخصصة بتطوير فرص العمل للشباب تحديدًا مما جعل اقتصاديات البلدات (خارج المدن الرئيسية) اقتصادًا مناطقيًا بامتياز غير قادر على المنافسة.


7.    تهميش واضح لدور البلديات التي هي بحسب القوانين "سلطات محلية" لكنها في الواقع وبسبب الحدّ من قُدراتها المالية، وضعف إمكاناتها الاقتصادية والبشرية هي "إدارات محليّة". لذا فإن الكثير من البلديات –خاصة الصغيرة منها- لا يمكنها القيام بأي دور أو إسهام اقتصادي أو تنموي محدد.


8.    غياب الخطط الإنمائية الرسمية المفترضة (مدن وأرياف ومراكز أقطاب)، لكن يُلحظ وجود العديد من الخطط التنموية التي قام بإعدادها اتحادات بلديات في مختلف المناطق اللبنانية اعتبارًا من العام 2008، لكن هذه الخطط بقيت مناطقية تستلهم مصالح البلدات المنضوية فيها مباشرة، دون لحظ مصالح البلدات المجاورة في أغلب الأحيان. وهذا يعود إلى الغياب الرسمي- كما أشرنا – المتعلق بمفاهيم وتطبيقات التنمية المحليّة4. بمعنى أنه لم يكن هناك رؤية شاملة وموحّدة تستلهم الاستفادة من الأراضي الزراعية أو تستفيد من الإمكانيات المتوافرة في مجال الصناعة، وهو ما أدّى إلى اعتماد أغلب البلدات اللبنانية على المضاربة في القطاع العقاري أو الاعتماد المفرط على قطاع الخدمات والسياحة.


9.    غياب السياسات الاجتماعيّة- الاقتصاديّة الحقيقيّة لا سيما في مجالات:
-    النقل العام، بحيث أدّى غياب النقل المشترك مقابل تشجيع اقتناء وسائل النقل الخاصة، إلى مشاكل في الكثافة السُكانيّة داخل الأحياء -وخاصة في المدن-، فضلًا عن ارتفاع كلفة النقل على المواطن، وفوضى عدم شمول الخدمة كافة المناطق أو الأحياء.
-   التعليم المهني، وهو الذي يُعتبر في العديد من البلدان الصناعية المتقدمة من الدعائم الاقتصاديّة المهمة. لكن، بعكس ما هو حاصل في لبنان، يتم اللجوء إلى التعليم المهني لدى الأفراد في المرحلة التي لا يستطيع معها الطالب متابعة التعليم الأكاديمي أو الدخول إلى سوق العمل بسبب عمره باعتباره مرحلة سابقة ما قبل البطالة. وبالإجمال يعاني هذا القطاع من سوء تجهيزه وعدم التجديد في الاختصاصات التي تُدرّس فيه، وعدم مواكبته لمتطلبات سوق العمل.
-    الإسكان، بحيث يوجد في لبنان آلاف الشقق السكنيّة الشاغرة، ومثلها من المساكن غير المكتملة، بعضها يحكمه وجود قانون إيجارات غير عملي وبعضها الآخر تحكمه قوانين الإيجار التملّكي الذي يتمّ تمويله عبر المصارف. وتستنزف هذه الأنماط من القروض الإسكانيّة مداخيل الفئات الشبابيّة خاصة وأن المصارف مسؤولة مباشرة -وبشكل متطرّف أحيانًا- عن تحديد قيمة القروض السكنيّة وفوائدها وعائداتها وذلك بغياب السياسات الإسكانيّة الرسميّة في البلد.
-    سوء الخدمات المخصصة للأفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة وتأمين عمليّة دمجهم في المجتمع، وقد أظهر دليل الأحوال المعيشيّة للأسر5 أن مؤشر "عدم كفاية الخدمات المقدمة لذوي الاحتياجات الخاصة" يقع كرابع أعلى مؤشر لدى الأُسر في سلّم الحرمان (بعد مؤشرات عدم توفّر مصادر مياه الشرب، وعدم توفّر الطاقة الكهربائية من الشبكة العامة، والتخلّص من النفايات).
-    عدم توفّر الخدمات المناسبة لرعاية للمسنين وذلك كنتيجة طبيعيّة لتراجع الخدمات الرسميّة أساسًا، ولغياب مراكز الرعاية النهاريّة وغيرها من الخدمات الضروريّة والحيويّة.


10.    التعاطي مع المسائل البيئيّة باعتبارها ترفًا في المجتمع، حيث لا تزال مواضيع مثل فرز النفايات من المصدر أو التقليل من حجمها أو الاستثمار في الإنتاج الزراعي من الأحراج والغابات أو الحفاظ على الحياة البريّة، أو وقف التحطيب، أو حماية مصادر المياه السطحيّة والجوفيّة أو وقف تلوّث مداخن معامل الكهرباء والترابة، وغيرها من الأمور، مسائل لا يتمّ التعامل معها بالجديّة الكافية والمناسبة من قِبل أغلب البلديات، كما لا يتمّ توفير الموازنات والدعم الفنّي واللوجيستي المتلائم مع متطلباتها من قِبل الإدارات الرسميّة المعنيّة.


11.    قلّة الاستثمارات الموجّهة لتطوير قدرات الأفراد وتنميتها، إذ لا يتمّ في أغلب الأوقات تطوير الأنشطة المواكبة واللازمة للاستفادة من الموارد البشرية الشابة المتاحة في مجالات: التطوّع، الرياضة، الكشّاف، الخدمات المجتمعيّة، الفعاليات الشبابيّة، التدريب المهني أو الحرفي، التدريب على تحسّس المشاكل والقضايا المجتمعيّة المباشرة... الخ، وذلك بغياب أي دور مؤسسّي رسمي مستدام في هذا المجال6 .


12.    ضعف آليات الشراكة بين القطاع العام والبلديات واتحادات البلديات والقطاع الخاص المعمول بها في الوقت الحالي، والتي تقتصر في بعض البلدات على إدارة بعض المشاريع وتشغيلها لاسيما منها مولّدات الكهرباء، بينما المطلوب هو أن يتم تحريك المشاريع الحيويّة المولّدة لفرص العمل.


13.    أخيرًا، تُظهر الإحصاءات أن حوالي ثُلثي القوى العاملة في لبنان هم موظفون7 في مؤسسات تابعة للقطاع العام أو الخاص، ما يعني أن استمرار أزمة الوباء لفترات زادت عن عشرة أشهر حتى الآن، أدّى إلى ضياع فرص كبيرة للأعمال لدى أرباب الأسر والفئات الشبابية على حد سواء، وساهم في غياب وجود أي شكل من حاضنات الأعمال وضعف ثقافة "العمل الحر" في تفاقم الأزمات الحالية التي بات معها نحو نصف الشعب اللبناني تحت مستوى خط الفقر.

ثانيًا: الاقتراحات على مستوى التخطيط والتأسيس والإشراف والرقابة:   
لم يكن ممكنًا الوصول إلى اقتراحات عمليّة حقيقية دون استعراض السياسات الإشكاليّة السابقة والتي هي بحدّ ذاتها تُشكّل مدخلًا يمكن أن يساعد مُتخذي القرار على إعادة النظر في تأسيس اقتصادي حقيقي منتج وفعّال، خاصة وأن تداعيات أزمة ما بعد انتهاء الكورونا سوف تستمر لفترة طويلة مقبلة مع تردي الوضع الاقتصادي، ولهذا فإن هذه الاقتراحات سوف تأخذ شكل توصيات على مستوى التخطيط والتنظيم والإشراف على النحو الآتي:
1.    مراجعة مشاريع القوانين الخاصة بالمجالات التالية (بعضها موجود يحتاج إلى تفعيل وبعضها يحتاج إلى إعادة درس) ومنها:
-    إعادة درس مشروع قانون اللامركزيّة الإداريّة بحيث يلحظ الضاحية الجنوبية (الممتدة على قضاءين) باعتبارها كيانًا واحدًا. وذلك بهدف تكريس حيّز اقتصادي قوي متماسك وموازٍ حول بيروت.
-    تضمين القروض المفترضة من "سيدر" اقتطاعات خاصة لقطاعي الصناعة والاستثمار في التكنولوجيا وحاضنات الأعمال الموجّهة للفئات الشبابية.
-    مراجعة قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص لاسيما منه المواد المتعلقة بتحفيز الاستثمارات المخصصة لفئات الشباب.
-    اقتراح مجموعة التشريعات المناسبة لتطوير بيئة الأعمال8، مضافًا إليها الإجراءات والتدابير العملية المطلوبة لتطبيق مشروع الحكومة الإلكترونية فورًا، والتي كانت قد باشرتها وزارة الدولة لشؤون الإصلاح الإداري (OMSAR)، نظرًا لأهمية هذه الخطوة في مجالات متعددة أبرزها: الحدّ من تكاليف العنصر البشري على الخزينة وضبط الهدر والتهرب الضريبي وتعزيز التنافسية في بيئة الأعمال، بالإضافة إلى توفير مجال واسع من فرص العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.


2.    إنشاء مؤسسة الإنماء والإدارة الاقتصادية: وهي عبارة عن مكتب أو هيئة أو مؤسسة خاصة مؤلفة من اقتصاديين ومختصين في التنمية والاجتماع هدفها:
-    دعم تأسيس عدد من شركات الاستشارات في مختلف المناطق تقوم بدور حاضنات الأعمال.
-    توفير حلقات الربط الكفيلة بتأمين انسيابية زيادة الصادرات من الإنتاج المحلي في البلدات، والوصول بها إلى الأسواق عن طريق تحسين الوصول إلى الأسواق الجديدة والموجودة.
-    رعاية الابتكارات والأعمال الناشئة وتقويتها من خلال تأمين شبكات داعمة تتوجّه نحو قطاع متخصصة لاسيما في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
-    تحسين عملية المنافسة من خلال زيادة توفير التجهيزات للإنتاج الحجمي بين المناطق economies of scale، وتشجيع التعاون فيما بينها وزيادة التنوّع في القطاعات الإنتاجية.
-    تأمين التمويل الميسّر للمؤسسات الجديدة النامية من خلال توفير القروض والضمانات لصغار المستثمرين والمزارعين، وخلق المزيد من الأعمال والشركات الناشئة start-up jobs.
-    الاستفادة من القيمة المضافة للدور التمويلي المصغّر في مؤسسة القرض الحسن المُعلن لتمويل أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الناشئة وذلك كشريك مؤثر ومساهم تطوير في هذه العملية الاقتصادية.


3.    تشجيع الاستثمار في المشاريع المنتجة ذات الطابع البيئي والصحي.


4.    تأسيس صندوق التنمية الاستثماري9 الخاص بتمويل وإدارة العمليات المطلوبة الناتجة عن المشاريع الاستثمارية التي يمكن استحداثها أو الإبقاء عليها مع استمرار تداعيات الكورونا والأزمة الاقتصادية في البلد، باعتباره من أبرز عوامل النهوض بالاقتصاد اللبناني.


5.    إقرار إنشاء مكاتب التنمية المحلية في اتحادات البلديات على أن يكون من مهامّها- على سبيل المثال لا الحصر:
-    التواصل مع الشركات والمؤسسات الاقتصادية في مختلف البلدات وجمع المعلومات المحلّية عن الوظائف الشاغرة ووضعها في تصرّف المواطنين وخاصة الشباب.
-    وضع مؤشرات لتحديد أولويات تنفيذ المشاريع الحيويّة في المنطقة المعنية.
-    تطوير قدرة اتحاد البلديات على تنفيذ مشاريعها وإدارتها وتوفير سُبل الاستدامة لها.
-    استقطاب المهارات والخبرات المحلية وتلك الموجودة خارج نطاق الاتحادات، وتشجيع العمل التعاوني والتطوعي والتشاركي.
-    توجيه المستثمرين المحتملين نحو الاستثمار الفعّال والمطلوب بحسب الخصائص المتكاملة في لبنان.
-    دراسة عوامل التكامل التنموية الاقتصادية مناطقيًا بحسب الموارد المتاحة (المالية والمادية والبشرية).
-    تطوير التدريب المهني المعجّل الذي تؤدّي فيه بعض البلديات حاليًا دورًا مهمًا ليشمل: تطوير اختصاصات لمستويات تعليمية متقدمة في المجال الزراعي- الصناعي والتكنولوجيا (التسويق الإلكتروني)، افتتاح المؤسسات واحتساب تكاليف الإنتاجي والخسارة... الخ.

***

   1- تعود هذه الأرقام إلى مرحلة ما قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وهي إحدى المؤشرات المعتبرة والمعبّرة عن سوء توزيع المداخيل.
   2- كانت الخطة الأساسية في سيدر تتضمن إنفاق نحو 11 مليار$ على مشاريع البنية التحتية قبل أن يُعاد تقليص المبلغ إلى نحو 8 مليارات بحيث تم استثناء تمويل عدد من المشاريع كانت مخصصة بمعظمها للتنفيذ في المرحلة الثالثة من المشروع.
   3- دليل الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية، دراسة إحصائية تشتمل على نتائج مسح الأوضاع المعيشيّة للأسر المقيمة في لبنان المنفّذة بين عامي 2014- 2015، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق 2017.
   4- يمكن في هذا المجال الإشارة إلى أن الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية الصادرة رسميًا عام 2006 عن مجلس الإنماء والإعمار، والتي يتم الاستناد إليها في خطط التنمية المحلية، هي خطة لترتيب الأراضي وليست خطة للتنمية.
   5- دليل الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية، مصدر سابق.
   6- تم رصد بعض المشاريع الحيوية التي نُفّذت بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية (مشروع التطوع على سبيل المثال)، لكنها تحتاج إلى تفعيل وتطوير لتشمل كل الشرائح السكانية التي يمكن الاستفادة من طاقاتها.
   7- دليل الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية، مصدر سابق.
   8- منها على سبيل المثال لا الحصر:
       -    قانون الضريبة التصاعدية الموحّدة على الدخل.
       -    تعديل قانون النقد والتسليف، بما ينسجم مع أهداف عملية إعادة الهيكلة وضمان عدم تكرار أسباب الأزمة النقدية والمالية الحالية.
       -    قانون نظام التقاعد والحماية الاجتماعية لجميع المقيمين.
       -    قانون المؤشرات الفنية والجغرافية.
       -    قانون تنمية الصادرات.
   9- كتاب "مؤتمر مشروع الليطاني المنسوب 800م، التحديات وسُبل الاستفادة، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق 27-28 تشرين الثاني 2018، ورقة الدكتور عباس رمضان: الرؤية الاقتصادية والمالية لمنطقة المشروع في ضوء دراسة الجدوى.

 أوراق عمل | الاستراتيجية الفرنسية في شرق المتوسط التوازن من الخارج / د. حسام مطر - تشرين الأول 2020

أوراق عمل | الاستراتيجية الفرنسية في شرق المتوسط التوازن من الخارج / د. حسام مطر - تشرين الأول 2020

إصدار 2020-10-14

ورقة مقدمة إلى مؤتمر "النزاعات في شرق المتوسط: أسبابها ومآلاتها" الذي نظمه مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع الجزيرة مباشر يومي 23 و24 أيلول 2020.

 أوراق عمل | نقاش في أزمة النظام ومحاور الخروج منها / د. عبد الحليم فضل الله - تشرين الأول 2020

أوراق عمل | نقاش في أزمة النظام ومحاور الخروج منها / د. عبد الحليم فضل الله - تشرين الأول 2020

تعقيبًا على ورقة عمل قدمت في ورشة بعنوان "سعيًا إلى تحقيق خطة تنفيذية للوصول الديموقراطي إلى مفاهيم المواطنة الحقة وممارساتها" 22 تموز 2020؛ تنظيم ندوة العمل الوطني.

 أوراق بحثية | الحرب النفطية 2020 ومستقبل العلاقات الأميركية السعودية/ علي مراد - آب 2020

أوراق بحثية | الحرب النفطية 2020 ومستقبل العلاقات الأميركية السعودية/ علي مراد - آب 2020

إصدار 2020-08-27

تفرض جملة تطورات وأحداث تتوالى منذ بداية عام 2020 مجموعة من التحديات والكوارث على الاقتصاد العالمي، لا سيما أزمتَي تفشّي وباء كوفيد-19 والحرب النفطية التي أشعلتها مرة جديدة السعودية. بالنسبة للرياض التي تسبّبت بحرب الأسعار في السوق النفطية في آذار الفائت لن يكون من السهل ترميم الأضرار الجسيمة التي تسبّب بها انهيار أسعار النفط، سواء على الاقتصاد السعودي الذي يعتمد في أغلب إيراداته على عائدات النفط، أو على مستوى العلاقات السعودية الأميركية.

 أوراق بحثية | الاحتجاجات في الولايات المتحدة الأميركية 2020، أمّة منقسمة ونظام مأزوم/ حسام مطر - آب 2020

أوراق بحثية | الاحتجاجات في الولايات المتحدة الأميركية 2020، أمّة منقسمة ونظام مأزوم/ حسام مطر - آب 2020

في وقت كانت تتخبط فيه الولايات المتحدة وإدارة ترامب تحديدًا في التعامل مع جائحة كورونا وتداعياتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية حصلت حادثة مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على يد الشرطة في مدينة مينيابوليس (430.000 نسمة أقل من 20% منهم من السود) في 25 أيار 2020. وقد سبقت حادثة فلويد جملة حوادث قتل للسود منها مقتل بريونا تيلور في منزلها على يد الشرطة، وإطلاق النار على سيان ريد في إنديانا وطوني ماكداد في فلوريدا ومقتل أحمد أربيري على يد رجل أبيض وابنه. هذه الظروف مجتمعة شكّلت حافزًا لانتفاض ملايين الأميركيين في وجه وحشية الشرطة والعنصرية والإخفاقات الجارفة للإمبريالية. على أن حادثة فلويد ليست استثناء في التجربة الأميركية بل ربما جرت في سياق استثنائي وهو ما منحها أبعادًا مستجدة. 

 مقالات: العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية، أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم / د. حسين العزي - تموز 2020

مقالات: العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية، أميركا الملاذ الآمن لمجرمي الحرب في العالم / د. حسين العزي - تموز 2020

إصدار 2020-07-14

مع توقيع الرئيس "ترامب" للأمر التنفيذي في الحادي عشر من شهر حزيران من العام الجاري، باتت الولايات المتحدة الأميركية ملاذًا آمنًا لمجرمي الحرب ومرتكبي الانتهاكات الجسيمة لأعراف الحرب وقوانينها، ولم يكن هذا القرار مفاجئًا للمعنيين في المحكمة الجنائية الدولية، فالسوابق الأميركية في سياق التعاون مع طلبات المحكمة كانت تؤكد هذه النتيجة.
ففي العام 2019 ألغت الولايات المتحدة تأشيرة دخول المدعية العامة للمحكمة الجنائية، "فاتو بنسودا" انتقامًا منها، بعد أن أذنت المحكمة بإجراء تحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل القوات المسلحة الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية وحركة طالبان في أفغانستان. وكان قد سبق ذلك صدور مواقف منددة ومهددة تجاه طاقم عمل المحكمة، حيث صرّح وزير الخارجية "مايك بومبيو" قائلًا "لن نقف مكتوفي الأيدي لأن محكمة هزلية تهدد مواطنينا"، في حين وجّه وزير الدفاع "مارك إسبر" حديثه إلى جنوده قائلًا: "لن تمثلوا أمام المحكمة الجنائية الدولية أبدًا، ولن تخضعوا أبدًا لأحكام الهيئات الدولية".

أولًا: في مضمون القرار
استند الرئيس "ترامب"، في فرض العقوبات على صلاحياته بموجب الدستور وقانون السلطات الاقتصادية الدولية للطوارئ، وقانون الطوارئ الوطنية قانون الهجرة والجنسية للعام 1952.
وجاء في مقدمة الأمر(القرار)، بما يشبه الأسباب الموجبة لإصداره، أن دافعه يتجلّى بتهديد الأمن القومي الأميركي. حيث ذكر القرار أن تأكيد ممثلي المحكمة الجنائية الدولية المتكرر لصلاحيتها القضائية على موظفي الولايات المتحدة وبعض حلفائها، بما فيها تحقيق مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية في الأعمال المرتكبة من قبل أفراد الجيش والمخابرات الحاليين والسابقين في أفغانستان، يهدّد بتعريض حكومة الولايات المتحدة ومسؤولين رسميين حلفاء لها. وهذه الإجراءات من جانب المحكمة تهدد بخرق سيادة الولايات المتحدة وإعاقة عمل الأمن القومي والسياسة الخارجية، وتشكل حالة الطوارئ الوطنية.
ويعلل القرار رفضه لاختصاص المحكمة بأن الولايات المتحدة ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ولم تقبل قط اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على موظفيها، وأنه مخالف لقانون الخدمة الأمريكية للعام 2002.
وبالتالي فإن العقوبات ستفرض حال حصول محاولة من قبل المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو مقاضاة موظفي الولايات المتحدة أو موظفي دول حليفة لها ليست أطرافًا في نظام روما الأساسي دون موافقة من الولايات المتحدة.

ومن أبرز ما تضمّنه القرار الآتي ذكره:
- مصادرة جميع الممتلكات والمصالح المتعلقة بها الموجودة في الولايات المتحدة، والتي تدخل اليها، أو التي تكون أو أصبحت فيما بعد في حيازة أو سيطرة أي شخص في الولايات المتحدة، من الأشخاص الآتي ذكرهم، ولا يجوز نقلها أو دفعها أو تصديرها أو سحبها أو التعامل بها بأي شكل آخر من قبل:
 (1) أي شخص أجنبي يحدده وزير الخارجية، بالتشاور مع وزير الخزانة والمحامي العام:
-  يكون قد انخرط بشكل مباشر في أي نشاط من جانب المحكمة الجنائية الدولية فيما خص التحقيق مع أي من موظفي الولايات المتحدة أو اعتقالهم أو احتجازهم أو مقاضاتهم دون موافقة الولايات المتحدة؛ ويسري ذلك على موظفي الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، إذا تمّ ذلك دون موافقة الحكومة الأميركية.
-  قدّم المساعدة المادية أو غير المادية أو الدعم المادي أو التكنولوجي..، أو
-  أن تكون ممتلكاته مملوكة أو خاضعة لسيطرة أو تصرّف شخص يدّعي بأنه يعمل لصالح، أي شخص جرت مصادرة ممتلكاته ومصالحه بموجب هذا الأمر.
-  حظر التبرعات التي تتم بواسطة لصالح أي شخص صودرت ممتلكاته ومصالحه.
- تعليق دخول المهاجرين غير المقيدين إلى الولايات المتحدة بالنسبة للأجانب ولأفراد الأسر المباشرين لهم، إذا ما قرّر وزير الخارجية بأنهم يعملون لدى المحكمة الجنائية الدولية، أو يعملون كوكلاء لها.
ويطبّق هذا القرار على أي شخص معنوي أو طبيعي متواجد على الإقليم الأميركي، كما أنه يمنح الحصانة لأفراد جيوش ومسؤولين في الدول الحليفة للولايات المتحدة" أو أي شخص آخر يعمل لصالح دولة عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو وعددها 28 دولة) أو "حليف رئيسي من خارج الناتو".

ثانيًا: في مخالفة القرار للمبادئ القانونية المطبقة في القانون الجنائي الدولي
ينتهك هذا القرار، وبشكل فاضح، بعض المبادئ المستقرة في القانون الجنائي الدولي، يمكن ذكر أبرزها كالآتي:
- المبدأ الأول: مبدأ سلَم أو حاكم  aut dedere aut judicare
يعود هذا المبدأ بجذوره التاريخية إلى الفقيه هوغو غروثيوس، الذي طرح مبدأ التسليم أو المعاقبة (aut dedere aut punire). ويؤدي هذا المبدأ دورًا محوريًا في مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم، ولا سيما في الجنايات ذات الأهمية الدولية. وبالمقابل ترتكز سياسة الولايات المتحدة على منح حصانة جنائية لأفراد جيشها أو مواطنيها من مرتكبي الجرائم الدولية وخاصة في قضايا التعذيب، كالتي شهدها العالم في سجني أبو غريب وغوانتانامو، وهذا ما يحتّم مسؤوليتها الدولية استنادًا لاجتهاد محكمة العدل الدولية حيث خلصت في قضية (بلجيكا ضد السنغال 2012) إلى أن انتهاك التزام دولي بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب هو فعل غير مشروع يترتب عليه مسؤولية الدولة. فالغرض من الالتزام بالتسليم أو المحاكمة هو منع الأشخاص الملاحقين من الإفلات من العقاب ومن حصولهم على ملاذ آمن. ويعود الالتزام بمبدأ "سلّم أو حاكم" بجذوره القانونية الى أسس متعددة وذلك على النحو الآتي:
I.    العرف الدولي فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، وبالإبادة الجماعية، وبالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وبجرائم الحرب.
II.    القواعد الآمرة (Jus Cogens) عندما ينشأ الالتزام بالتسليم أو المحاكمة عن القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي.
وفي كلتا الحالتين، تكون الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها ملزمين بموجب التسليم أو المحاكمات الجدية غير الصورية، دون حاجة لوجود صك اتفاقي أو تعاهدي مع شخص من أشخاص القانون الدولي.
(2) المبدأ الثاني: مبدأ الولاية القضائية العالمية   (Universal Jurisdiction)
ويعرّف هذا المبدأ بأنه: الاختصاص الذي يمنح لكل قضاة العالم أهلية متابعة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة طبقًا لقوانينهم العقابية، بغض النظر عن مكان ارتكابها، وجنسية الأطراف، وبهذا يعدّ الاختصاص العالمي استثناء على مبدأ إقليمية قانون العقوبات، وهو بمثابة آلية إجرائية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدوليةّ. كما يشكّل إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني وقمعها، المكرّسة في اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكوليها الإضافية للعام 1977، والمشمولة أيضًا بالقانون الدولي العرفي. وتتعدّد الأسس القانونية لهذا المبدأ، فمنها ما هو اتفاقي تعاهدي كاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984، ومنها ما هو عرفي كتجريم الرق والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم ضد السلام والتعذيب، وتجريم الفصل العنصري، والتي بمعظمها من القواعد الآمرة للقانون الدولي العمومي فلا يجوز انتهاكها أو تقييدها تحت طائلة البطلان وفقًا للمادة (53) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات.

ثالثًا: في تعطيل دور مجلس الأمن الدولي في تحريك قضايا تدخل في الاختصاص النوعي للمحكمة الجنائية الدولية، وعرقلة سير العدالة الجنائية.

دخل نظام روما للعام 1998 حيّز النفاذ في 11 نيسان 2002، وفي الأول من تموز من العام 2002 أصبح للمحكمة أهلية تامة لمحاكمة الأفراد المرتكبين لأشد الجرائم خطورة كما حددتها المادة (5) وهي جرائم الإبادة للجنس البشري، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.
ومن خلال تحليل هذه المواد، يتضح لنا أن قرار العقوبات الخاص بالمحكمة من شأنه أن يعطّل إعمال الفقرة (2) من المادة (13)، والتي تنص على: "إذا أحال مجلس الأمن، متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت..."، كما يقوّض صلاحيات مدعي عام المحكمة في مباشرة التحقيق بجرائم دولية عملًا بنص المادة (13) الفقرة الثالثة معطوفة على المادة (15) منه ونصها "للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل تحت اختصاص المحكمة".
وعليه، يتبيّن لنا خطورة تداعيات هذا القرار من خلال الاطلاع على مفاعيله الكارثية بحق الإنسانية، إذ يستفاد من ذلك أن الرئيس "ترامب"، بقراره هذا قد عطّل إمكانية إعمال مبدأ الصلاحية العالمية للمحكمة أو أي دولة أخرى إذا رغبت في ملاحقة ومساءلة مرتكبي الجرائم الجسيمة المشمولة بالاختصاص النوعي للمحكمة. وهذا التعطيل يصبّ في مصلحة إباحة التجريم دون الخشية من العقاب، وبالتالي انتهاك لمبدأ المصلحة الدولية المشتركة المتمثلة بتعزيز الأمن الجماعي وهو من مقاصد ميثاق الأمم المتحدة.
ولا يخفى على أحد، أن حلفاء الولايات المتحدة كالسعودية والأمارات متورّطون بجرائم حرب في اليمن، ويمكن مقاضاة الدول المتحالفة ضده عن جرائمهم وانتهاكاتهم الجسيمة لاتفاقيات جنيف للعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية بصرف النظر عن انضمامهم اليها، لأنها باتت بمعظمها أعرافًا دولية ملزمة ولا تحتاج لرضا الدول. كما أن الكيان "الإسرائيلي" متورط بجرائم حرب وإبادة في غزة، وبالتالي يمكن للسلطة الفلسطينية وهي دولة طرف في المحكمة الجنائية الدولية مقاضاة العدو الإسرائيلي على جرائمه، وهي بالفعل بدأت بذلك.

وخلاصة الأمر، يظهر بوضوح مستوى الازدراء الأميركي للقيم الإنسانية، وبالتالي عمّا قريب ستتحوّل أميركا إلى ملاذ آمن لمجرمي الحرب في العالم.


* أستاذ جامعي وباحث قانوني.

 مقالات | الأفول العسكري الأميركي والتداعيات على الكيان الصهيوني / زياد حافظ - أيار 2020

مقالات | الأفول العسكري الأميركي والتداعيات على الكيان الصهيوني / زياد حافظ - أيار 2020

إصدار 2020-05-30

بينما ينشغل العالم في مواجهة جائحة كورونا من جهة والانكماش الاقتصادي من جهة أخرى الذي يصيب كل اقتصادات العالم هناك حقائق يتّم تجاهلها علما أن تأثيرها على صراعات مزمنة في المنطقة العربية واضحة للغاية. فما زالت هناك نخب تراهن على دور أميركي في حسم الصراعات القائمة وتبني سياساتها على فرضية القدرة الأميركية التي لا يمكن الوقوف بوجهها. وتعتمد هذه النخب على قراءة مجتزئة للأحداث للتأكيد على مراهنتهم. فمثلًا، يعتبرون مضي حكومة الكيان في ضم الضفة الغربية كأمر واقع لن يخضع لأي مقاومة سياسية أو ميدانية تذكر بسبب الدعم المطلق للإدارة الأميركية الحالية. وإذا كنّا لا ننكر وجود ذلك المشهد إلاّ أن قراءة عناصر المشهد المتحرّكة تفيد أن إمكانية تثبيت قرار الضم قد تكون له كلفة لا يستطيع الكيان ومعه الإدارة الأميركية تحمّلها.  وهذه القراءة ليست قراءة رغبوية كما يسارع البعض على نقضها بل مبنية على تقدير دقيق لموازين القوّة والتي سنستعرض بعض عناصرها في هذه المقاربة. 
كنّا أشرنا في مقاربات سابقة إلى عناصر الأفول الأميركي التي تنذر بالانهيار الكامل وليس فقط التراجع كما يحاول البعض التخفيف من حدّة المسار الأميركي الحالي. وهذه العناصر تعود إلى التحوّلات في كل من البنية الاقتصادية والسياسية والسكّانية والاجتماعية مفادها عدم قدرة الولايات المتحدة التكيّف مع تلك التغييرات ضمن إطار النظام القائم والخيارات الاقتصادية السياسية المتبعة منذ حوالي خمسة عقود. وما يزيد الطين بلّة هو الأفول العسكري الذي حاولت الولايات المتحدة عبر العقود الماضية تصوير قدراتها العسكرية بأنها كافية لفرض الأمر الواقع في مختلف أنحاء العالم.  هذا ما هو مقصود بمفهوم "إسقاط القوّة" (projecting power) في العالم لجعل الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الشامل (global reach). فتراجع القدرات العسكرية بالعتاد والقيادة والرجال يحول دون تحقيق ذلك النفوذ الشامل.
وفي الحقيقة إن رداءة الأداء العسكري الأميركي أمر مزمن ويعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية. وللمؤرّخ العسكري البريطاني سير باسيل ليدل هارت مؤلفّات يقارن فيها أداء الجيش الياباني والألماني والأميركي. من سخريات القدر هي أن الأداء الأحسن لم يكن ليحقق النصر حيث الأداء الياباني والألماني كان متفوّقا على الأداء الأميركي والبريطاني ولم يكن كافيا لمواجهة المحدلة الأميركية التي كانت تستمد قوّتها من الثراء وقوّة الاقتصاد الأميركي. فلولا الثروة الأميركية لما استطاعت الولايات المتحدة من أن "تنتصر". فحتى "النصر" في المسرح الأوروبي للعمليات خلال الحرب العالمية الثانية حققته قوّات الاتحاد السوفياتي التي أنهكت قوى الجيش الألماني بينما الجبهة الغربية التي كانت تقودها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانت ثانوية بالمعنى الاستراتيجي. 
لكن بغض النظر عن تقييم ليدل هارت لأداء الجيش الأميركي يمكن التساؤل ما هي الحروب التي شنّتها وربحتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالحرب على كوريا كانت نتيجتها "تعادلًا" حيث لم تستطع الولايات المتحدة القائدة لحلف أممي آنذاك من حسم الحرب. أما في حرب فيتنام فمنيت الولايات المتحدة بهزيمة نكراء شكّلت كابوسًا على القيادات العسكرية الأميركية التي ما زالت تعاني حتى الساعة من جرّاء تلك الهزيمة. صحيح أنها استطاعت احتلال كل من أفغانستان والعراق وتدمير البلدين لكنّها لم تحقّق أي نصر سياسي بل اضطرت إلى الخروج من العراق وهي في طريقها من الخروج من أفغانستان. "النصر" الوحيد الذي حقّقته الولايات المتحدة هو ضد الجزيرة الصغيرة غراناد في بحر الكاريبي! كما لا بد من الإشارة إلى تراجع الولايات المتحدة من لبنان عام 1983 بعد تفجير ثكنة المارينز وفشل احتلالها للصومال في مطلع التسعينات. فهي الآن تدرس الخروج من كل من العراق وسورية وأفغانستان حيث وجودها أصبح عبئًا عسكريًا على قوّاتها يصعب تفاديه وحتى تخفيفه. فالولايات المتحدة كانت دائمًا مصمّمة على افتعال حروب وخوضها ولكن كانت تخسرها دائمًا وفقًا لما جاء تعليق لوليام استور، وهو ضابط سابق في الجيش الأميركي برتبة مقدّم، في افتتاحية لموقع "توم ديسباتش" في 25 تشرين الأوّل 2018. فـ "النصر" العسكري يبقى إذا في مخيّلة هوليوود التي تنتج الأفلام والمسلسلات التي تمجّد قدرات القوّات العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية! 
لكن إذا ما دققنا في جهوزية القوّات الأميركية حاليًا نرى أنها في حالة لا تتناسب مع الطموحات المقترنة بها. هناك دراسات عديدة وتقارير أميركية حول جهوزية القوّات المسلّحة الأميركية بفروعها الأربعة (الجيش، والبحرية، والطيران، وقوّات المارينز) تؤكّد عدم الجهوزية لأية مواجهة مع أي طرف يمتلك الحد الأدنى من القوّة ولكن بكثير من الثبات والعناد. فالتصوّرات الافتراضية التي قامت بها مؤسسة راند كوربوريشن وهي مركز أبحاث تابع لوزارة الدفاع الأميركية تفيد بأن أي مجابهة مع كل من روسيا أو الصين ستنتهي بهزيمة نكراء للقوّات الأميركية (استعملت المؤسسة مصطلح "rout" الذي يعنى الهزيمة النكراء). هنا لا بد من الإشارة إلى التقييم السنوي الذي تعدّه مؤسسة "أمريكان هريتاج فونديشن" (مؤسسة التراث الأميركي)، وهي مؤسسة محافظة جدّا وعريقة. هي الوحيدة التي تقوم بذلك التقييم منذ عدّة سنوات. ففي تقريرها لعام 2020 تناول فيه جهوزية كل من السلاح الجوّي والقوّات البرّية وقوّات المارينز والقوّات البحرية إضافة إلى القوّة الصاروخية تبيّن أن الجهوزية في كافة فروع القوّات المسلّحة الأميركية هي "هامشية" (marginal). هذا يتقاطع مع تصريح رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي وإن كان لأسباب سياسية يريد التخفيف من قلّة الجهوزية.
فما يزيد الطين بلّة هو شهادات قيادات هيئة الأركان المشتركة خلال السنين الماضية إلى عدم جهوزية القوّات المسلّحة لأي عمل عسكري متوسّط أو طويل المدى. هذه الشهادات أشرنا إليها بتواريخها في مقاربات سابقة. أما إفادة رئيس هيئة الأركان المشتركة الجديد مارك ميللي في 19 تشرين الثاني 2019 فور استلام مهامه في ذلك الشهر فكان تركيزه على إعادة جهوزية القوّات المسلّحة، أي إقرار بعدم الجهوزية. هذه الإفادة كانت لمجّلة "ارمي سستينمنت" (Army Sustainment) التابعة لوزارة الدفاع المختصّة بالشؤون العسكرية. عاد فيقول في شهر آذار 2020 أن الجهوزية بلغت 40 بالمائة مما هو مطلوب حيث الحد الأدنى هو 60 في المائة! أما جائحة الكورونا فأتت لتوجه ضربة قوية لجهوزية القوّات البحرية الأميركية حيث معظم قطعها وطواقمها البحرية محتجز بسبب الجائحة. هذا ما جعل بعض القيادات العسكرية تطلّق تصريحات تحذّر كل من الصين وروسيا بعدم استغلال جائحة الكورونا و"الوقوع بسوء تقدير للجهوزية الأميركية العسكرية". هذا النوع من "التطمينات" يثير القلق أكثر مما تثير الطمأنينة بالنسبة للأميركيين (لماذا تلك التصريحات؟).
وما يعزّز القلق الأميركي هو ما كشف عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه للأمة في آذار 2018 عن نوع السلاح الجديد الذي تمتلكه روسيا من صواريخ فائقة السرعة (hypersonic) التي يمكن اطلاقها من منصّات متحرّكة أو قطع بحرية أو طائرات حربية تجعل رصدها مستحيلًا أو في غاية الصعوبة. كما أنه كشف في نفس الخطاب عن سلاح جديد يتمتع بتكنولوجيا التخفّي (stealth technology) تجعل أيضًا السلاح الجوّي الروسي بعيدًا عن الرصد. هذا يعني عدم تمكّن الولايات المتحدة من رصد واتخاذ التدابير الوقائية والدفاعية لحماية قطع اسطولها في الوقت القصير جدًا (اقل من ثلاث دقائق بين إطلاق الصاروخ وإصابة الهدف). هذا جعل أحد المراقبين للتسليح الروسي يقول إن مجمل الأسطول الأميركي أصبح خردة عائمة في البحور ولا قيمة قتالية لها، فيمكن القضاء عليها خلال دقائق معدودة!
هذا النوع من السلاح التقليدي الكاسر للتوازن بات يشكّل هاجسًا عند القيادات الأميركية حيث صرّح منذ بضعة أيام الرئيس الأميركي عبر إحدى تغريداته بأن الولايات المتحدة ستمتلك صواريخ فائقة السرعة و "أحسن" من الصواريخ الروسية! من الصعب اعتماد تصريح الرئيس الأميركي واقعًا حيث اشتهر بالمبالغة وبعدم الإفصاح عن الحقيقة! هذا ما دفع الإدارة الأميركية بتخصيص أكبر موازنة في تاريخ الولايات المتحدة لشؤون الدفاع حيث تضاعفت بين 2018 (حوالي 740 مليار دولار) و2020 (حوالي تريليون ونصف دولار!) وذلك لإعادة تأهيل الترسانة النووية الاستراتيجية حيث تم اكتشاف عدم جهوزيتها، ولإعادة تأهيل العتاد الأميركي. كل ذلك لن يتحقق قبل 2024 إذا ما سارت الأمور كما يرام ودون عراقيل تقنية. وهنا بيت القصيد حيث جودة الإنتاج التسليحي الأميركي أصبحت ضعيفة مقابل ما تنتجه روسيا والصين وحتى الجمهورية الإسلامية في إيران في الحروب السيبرية.  فازدياد الانفاق العسكري لا يعني إمكانية التملّك من سلاح يوازي السلاح الروسي الجديد لأن التسليح الأميركي هو بيد الشركات الخاصة التي همّها الربح وليس الجودة أو الكلفة. والعلاقات الفاسدة بين تلك الشركات والبنتاغون هي ما جعلت المجمع العسكري الصناعي يتحكّم بالأمور في الداخل الأميركي ولكن لم يؤمّن بالضرورة الحماية الأميركية لا في الداخل ولا في الخارج. أحداث أيلول 2001 دليل على ذلك والإخفاقات في كل من أفغانستان والعراق دليل آخر. ويعتبر العديد من المراقبين أن الفجوة بين روسيا والولايات المتحدة في التسليح النوعي التقليدي وصلت إلى عشرة سنوات. أي الولايات المتحدة متأخرة عن روسيا بعشرة سنوات على الأقلّ!
غير أن من ضمن المشاريع لإعادة تأهيل القدرات العسكرية تطوير قنابل نووية تكتيكية يمكن استعمالها وفقًا للتقديرات الأميركية في الميدان دون الانجرار إلى حرب نووية شاملة تدمّر المعمورة عدّة مرّات! في هذا السياق هناك من يفكّر جدّيًا في الأروقة الأميركية وخاصة عند المحافظين الجدد أن استعمال السلاح النووي التكتيكي ممكن دون الوصول إلى مواجهة نووية شاملة. لكن ليس هناك من يضبط إيقاع تلك الحرب. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين له كلمة مأثورة هي أن بإمكان الولايات المتحدة توجيه ضربة استباقية بسلاح تكتيكي نووي غير أنهم لن يكونوا أحياء لمشاهدة صعودنا إلى السماء!  لذلك العقلانية تستبعد استعمال سلاح أوجد أصلًا لعدم استعماله لكن مستوى الرداءة في النخب الحاكمة في الولايات المتحدة من فساد وجهل يجعل الحماقة القاتلة ممكنة.
على الصعيد التسليح التقليدي فتفيد الدراسات العسكرية أن الأسطول الجوّي الأميركي من طائرات مقاتلة أف 15 وأف 16 وأف 18 أصبحت قديمة وشبه متآكلة. أما درّة السلاح الجوّي الأميركي أف 35 فتشكو من عيوب قاتلة تجعلها أقل جودة من نظيرتها الروسية سوخوي 57 وفقا لموقع "ذي ساكر" (أي الساعي) الذي نشر سلسلة من الدراسات المعمّقة عن التسليح الروسي مقارنة بالتسليح الأميركي. ويشير الموقع أن آخر منتوج أميركي من الجيل الخامس للطائرات المقاتلة لا يستطيع الطيران لمدة مستديمة بسرعة فائقة للصوت ما يجعلها ضعيفة أمام نظيراتها الروسية وحتى الصينية.
وعدم الجهوزية تتفاقم في مختلف فروع القوّات المسلحة حيث مهزلة الأداء العسكري الأميركي للقوّات المارينز في كل من أفغانستان والعراق تدلّ بوضوح أن أقصى ما يمكن أن تؤدّيه تلك القوّات هو حماية نفسها وليس دائما كما يجب. كما لا بد من الإشارة إلى السقوط في امتحان المواجهة مع الجمهورية الإسلامية في إيران حيث تجنّبت الولايات المتحدة تنفيذ تهديداتها في حال تمّ المس بمصالح حلفائها فكان السكوت هو الردّ الأميركي على استهداف الناقلات الخليجية واستهداف منشآت أرامكو. كما أن السكوت كان الرد على إسقاط درّة طائرات التجسّس الأميركية والتي وصلت كلفتها إلى 250 مليون دولار. أما اغتيال كل من رئيس الحرس الثوري قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس فكانت له نتائج عكسية خاصة أن الرد السياسي الاستراتيجي كان الإعلان على لسان السيد حسن نصر الله اخراج القوّات الأميركية من المنطقة. كما جاء الرد الإيراني على ذلك الاستهداف بقصف قاعدة الأسد مع ما شكّلته دقّة القصف من رسالة إلى القيادات الأميركية. ومؤخرًا لم تجرء الولايات المتحدة على تنفيذ تهديداتها بمنع الناقلات العملاقة الإيرانية من الوصول إلى فنزويلا محمّلة بالمشتقات النفطية والتي كسرت هيبة الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية.
أخيرًا لا بد من الإشارة إلى الفساد المتفشّي في الكلّيات الحربية الأميركية سواء في السلاح الجوّي أو البحري أو البرّي حيث تدنّت مستويات الطلاب الملتحقين بتلك الكلّيات، أي ضبّاط المستقبل، وفقًا لإحصاءات ودراسات أشارت إليها مجلّة "اميركان كونسرفاتيف" (الأميركي المحافظ) في 9 آذار/مارس 2020. الفساد المستشري أدّى إلى هبوط مستوى القبول في تلك الجامعات المرموقة كوست بوينت ويو اس نافال أكاديمي) ما يشكّل تهديدًا للأمن القومي الأميركي. وكاتب المقال هو أستاذ القانون تيم باكن ويدرّس في الجامعة العسكرية وست بوينت ما يعطى مصداقية كبيرة لكلامه. كما أن كتابه الذي صدر مؤخّرًا بعنوان مدوي: "كلفة الوفاء: سوء الأمانة، عنجهية، وفشل في القوّات المسلّحة الأميركية" (Cost of Loyalty: Dishonesty, Hubris, an Failure in the US Military).  فالأجيال الجديدة من الضباط لن تكون بالمستوى المطلوب لمواجهة مختلف التحدّيات. فهي بمعظمها ستكون محكومة بمصالحها الخاصة وبالتالي لن تكون بعيدة عن التواطؤ مع السياسيين الفاسدين للتقدّم في سلمّ الترقيات.
بناء على كل ذلك فإن الرهان الصهيوني على التدّخل العسكري الأميركي في مواجهتنا مع الجمهورية الإسلامية في إيران أمر مشكوك به بل مبني على تقديرات رغبوية وخاطئة. فحكومة العدو جعلت من عدائها للجمهورية الإسلامية لإيران، ومعها لمحور المقاومة بأكمله، نقطة ارتكاز سياستها الخارجية التي تريد توظيفها في المشهد الداخلي المتقلّب والهش. فالإخفاق في تحقيق أي تقدّم على ذلك الصعيد سيجعل باقي السياسات الصهيونية في مهبّ الريح بما فيها الاعتماد على سياسات التطبيع التي تقوم بها بعض دول المنطقة. فالتطبيع رهن "القوّة الصهيونية" والمؤثّرة على القرار الأميركي. فإذا تبعثرت تلك القوّة وتلازمت مع الضعف الظاهر للولايات المتحدة فسيأتي يوم لن يكون ببعيد تقوم به حكومات الدول اللاهثة إلى التطبيع بمراجعة تلك السياسات. وهذا ما سيضاعف العجز الصهيوني داخليًا وخارجيًا. لذلك ليس من الضروري من الهجوم على الكيان أو حتى على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة فهي رهن الانهيار من داخلها بسبب انكشاف العجز الموضوعي والذاتي فيهما. المهم هو التحلّي بالصبر الاستراتيجي والجهوزية الكاملة لمواجهة أي عمل أحمق وترك الأمور تسير بشك طبيعي نحو انهيار المحور الأميركي الصهيوني في المنطقة.
* كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

 مقالات | جائحة كورونا: نتائج وتداعيات / عبد الخالق فاروق - أيار 2020

مقالات | جائحة كورونا: نتائج وتداعيات / عبد الخالق فاروق - أيار 2020

إصدار 2020-05-30

إن السياقات الأربعة لجائحة كورونا هي التالية على مستوى الخسائر البشرية والصحية أ خلال يوما من الأزمة كانون الأول نيسان سجلت الإحصاءات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية وكذلك للدول المختلفة وفاة حوالي ألف شخص علاوة على مليون مصاب كثير منهم في حالة خطيرة ومعظمهم في الصين والولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وإيران وفرنسا الخ ب من المرجح مع استمرار الأزمة لستة شهور أخرى أن يرتفع عدد المصابين إلى ملايين وأن يتوفى منهم ما يربوا على ألف نسمة من بينهم ألف نسمة في الولايات المتحدة وحدها ج أحدث عجز دول العالم أجمع أمام هذا الفيروس هزة نفسية وثقافية للبشر جميعا وانقسموا إلى تيارين الأول التيار المؤمن الذي أعتبرها رسالة وإنذارا إلهيا للبشرية التي طغى عليها النزوع المادي والتفلت الأخلاقي أو على الأقل هي رسالة تحد لكل البناء الحضاري المادي للبشرية الراهنة حيث تسبب كائن لا يرى بالعين المجردة بتوقف مسار عجلة الحياة كلها سواء في العالم المتقدم أو المتخلف الثاني التيار المادي الذي أصابته حالة من الإحساس بالعجز والخوف والصدمة من عدم قدرة التطورات العلمية والتكنولوجية التي وصلت إليها الحضارة البشرية في مجال الطب والدواء على إنقاذ حياة مئات الآلاف ومن ثم أنتاب هؤلاء إحساس بالشك وانعدام الثقة بقدرة مجتمعاتهم على مد حبل الإنقاذ لمئات الملايين من البشر ونظن أن هذا الإحساس والمتناقض لدى التيارين سوف يستمر لسنوات طويلة قادمة د لا شك أن هذه الأزمة لن تمر دون أن تترك جراحا غائرة في النفوس لسنوات طويلة وتزرع بذور عدم الثقة بين الشعوب الأوروبية بعضها البعض وكذا بين الشعوب الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية لسوء تصرفاتها أثناء هذه الأزمة على المستوى الاقتصادي لا شك أن أزمة وباء فيروس كورونا الذي ضرب العالم كله مطلع والذي يرجح أن يستمر لعام أو عامين بعد أن تكون قد انكسرت حدته سيترك أثارا مزعجة على الاقتصاد العالمي سواء على المستوى الجماعي أو على مستوى اقتصادات الدول فرادى ومن أهم تلك الآثار والتداعيات إذا استمرت الأزمة بنفس الدرجة حتى منتصف عام فسوف ينخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحوالي إلى أي بحوالي تريليون إلى تريليون دولار تتمثل في توقف عجلة الإنتاج والخدمات والتبادل التجاري وستكون أكثر الدول المتضررة هي الولايات المتحدة الصين إيطاليا فرنسا إسبانيا والمدهش أن إيران لن تكون من المتضررين الكبار بسبب وقوعها تحت سيف المقاطعة والحصار الاقتصادي منذ فترة ليست قصيرة ستؤدى الأزمة إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل بأكثر من من القوى العاملة في العالم أي ما يزيد عن مليون عامل وستكون أكثر القطاعات تعطلا السياحة والطيران والسفر والمطاعم والخدمات الترفيهية علاوة على كثير من قطاعات الإنتاج والتجارة والخدمات ستؤدى الأزمة إلى زيادة معدلات الفقر والبؤس في كثير من دول العالم خصوصا الدول النامية ومنها مصر لثلاثة أسباب أولها سياسات الإغلاق والجلوس في البيت والعزل الاجتماعي وثانيها ضعف إن لم يكن غياب سياسات الحماية الاجتماعية الفعالة وإعانات البطالة وبرامج تعويضية كافية وثالثها كبر حجم قطاع العمالة غير المنظمة وتدني دور الدولة وسيطرة القطاع الرأسمالي الخاص الذي يفتقر إلى أرث التعاون والتراحم الاجتماعي بهذه الأزمة الجائحة دخل الاقتصاد العالمي حالة من الركود الذي يتزامن فيه انخفاض الطلب وانخفاض العرض وقد تحتاج هذه الحالة إلى عامين أو ثلاثة أعوام للخروج منها والعودة إلى مستوى التشغيل الذى كان قائما قبل الأزمة ترتب على أزمة كورونا انخفاض التشغيل وبالتالي انخفاض الطلب على البترول والغاز وسوف ينعكس هذا الوضع على التنافس غير الإيجابي بين المنتجين للنفط والغاز والدخول في حرب أسعار والصراع من أجل الاستحواذ على قطاع أكبر من السوق وهو ما بدأ فعليا في حرب الأسعار الذي بدأته السعودية في مواجهة وروسيا وربما تحت وهم خدمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حملته الانتخابية الجديدة في نهاية هذا العام سيؤدي هذا الوضع إلى خسائر فادحة لمنتجي النفط الكبار روسيا السعودية ولكنها لن تمتد بآثارها السلبية إلى بقية منتجي النفط في دول الخليج وفنزويلا والمكسيك والعراق ومشيخات الخليج العربية ويقدر حجم هذه الخسائر إذا استمرت لثلاثة شهور قادمة دون سعر دولارا للبرميل بحوالي مليار دولار على الأقل ستؤدي الأزمة حتما إلى تدني تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر على المستوى العالمي لفترة عامين إلى ثلاثة أعوام على الأقل مما سيؤدي إلى تدني مستوى التشغيل في الدول النامية وانخفاض معدل النمو في الناتج القومي لهذه الدول أدى تمادي السلوك المتغطرس والعدواني للولايات المتحدة في فرض عقوبات على روسيا وفنزويلا والصين وإيران إلى تزايد فرص كسر هذه العقوبات من جانب بعض الدول الأوروبية وغير الأوروبية برغم الخسائر الاقتصادية الكبيرة لكل من الصين وروسيا فقد عززت الأزمة فرصهما لتحسين وضعهما الدولي وصورتهما لدى معظم شعوب العالم وبعض الأنظمة السياسية في أوروبا إيطاليا جمهورية الصرب والجبل الأسود ومن ثم زيادة فرص تعزيز علاقتهما الاقتصادية وكسر الغرور والغطرسة الأميركية المؤكد أن هذه الأزمة والسلوك الأميركي السلبي جدا سوف يؤديان إلى تعزيز وتسريع خلق الكيانات والتكتلات الاقتصادية والسياسية الدولية خارج النفوذ الأميركي شنغهاي البريكس الآسيان المجموعة الأوراسية ودعم مؤسسات التمويل البديلة مثل البنك الآسيوي للتنمية الذي أسسته الصين وكذلك صناديق التعاون الاقتصادي المشترك والتخلص بصورة أسرع من هيمنة الدولار على نظام الدفع والاحتياطيات الدولية وربما تفكك صيغة بريتون وودز من المرجح أن تضعف أو تتباطأ عملية الوحدة الأوروبية وقد تجري عملية بريكست أخرى من الاتحاد وخصوصا إيطاليا واليونان نستطيع القول بأن أفول نجم الولايات المتحدة الأميركية وهيمنتها على النظام الاقتصادي الدولي والسياسة الدولية قد أخذا دفعة جديدة بسبب أزمة كورونا صحيح أن هذا لا يعني تفكك الولايات المتحدة أو انهيارها في الأجل المنظور سنة لكن المؤكد أن عملية تواري القوة والنفوذ الأميركيين قد تتسارع بحيث لن ينقضي عاما دون أن تصبح الإمبراطورية الأميركية قوة من الماضي أدت الأزمة إلى تدهور اقتصادات كثير من الدول النامية ومنها مصر وسوف تحتاج إلى عدة سنوات للعودة إلى وضع ما قبل الأزمة وهو مستوى لم يكن جيدا على أية حال صحيح إن أزمة الكورونا قد طاولت الجميع ولكن أكثر المتضررين منها هم الفئات الفقيرة وكاسبي الأجور والمرتبات المتواضعة في الغرب أو بصورة أكبر في الدول النامية التي تشكل العمالة في القطاع غير الرسمي وعمال اليومية القطاع الكبر من كاسبي الأجور والمرتبات المتواضعة أما القطاعات الاقتصادية الأكثر تضررا على مستوى اقتصادات العالم أجمع والتي حققت خسائر ضخمة فهي قطاعات السياحة والطيران والنقل والتجارة والمبادلات والمطاعم وأماكن الترفيه والإنتاج السلعي والصناعي والبترول والغاز وأخيرا قطاعات البنوك والمصارف والبورصات التي أصابها أقل الأضرار على المستوى السياسى والتحالفات الدولية والإقليمية المؤكد أن العالم ومنذ الغزو الأميركي البريطاني للعراق في آذارمارس وما جرى بعدها يشهد حالة طلق دموي لولادة جديدة في الفضاء السياسي العالمي وجاءت كارثة وباء كورونا مطلع عام لتعطي دفعة قوية جديدة لهذه التغييرات المرتقبة ومن أبرزها أولى هذه الأثار والتداعيات أن الصيغة الراهنة للاتحاد الأوروبي التي بدأت منذ عام لن تصمد كثيرا أمام كل ما جرى من سلوكيات أنانية لدول الاتحاد فرادى وجماعات ولدينا هنا احتمالان لا ثالث لهما الأول أن تجرى إصلاحات جوهرية في بنية هذا الاتحاد على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية تحفظ استمرارية هذه العملية التاريخية الثاني وهو ما نرجحه أن تخرج بعض دول الاتحاد من هذه الصيغة مثلما فعلته المملكة المتحدة وغالبا ستكون إيطاليا واليونان وصربيا بيد أن هذا يتوقف على وجود صيغة أو إطار إقليمي آخر يجمع الغاضبين والمتمردين والساخطين من هذا النظام الاتحادي الذي ثبت ضعفه إزاء تحديات داخلية كبرى كما كشفته كارثة وباء فيروس الكورونا ولدينا احتمال كبير في صياغة نمط جديد لعلاقات تعاونية وتشاركية بين بعض دول الاتحاد سواء في صيغته المعدلة أو بعد خروج بعض أطرافه وكل من الصين وروسيا وربما إيران فكاكا وتفكيكا لأسر السياسة الأميركية المتغطرسة والعدوانية والأنانية في آن واحد سواء ضد أوروبا أو غيرها من دول العالم وكما أشرنا من قبل سوف تتعزز وتتسارع صيغ التعاون والتكتلات الإقليمية والدولية التي تقودها كل من الصين وروسيا وبمشاركة أكثر فاعلية لإيران وبعض دول أميركا اللاتينية ومنها فنزويلا وكوبا وغيرهما من المرجح بعد كشف عدم كفاءة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته في إدارة الأزمة علاوة على أزمة الحكم ومشروعيته الأخلاقية أنه لن يجتاز السباق الرئاسي في تشرين الثانينوفمبر ومن ثم تتخفف البشرية وخصوصا بلدان وشعوب الشرق الأوسط من كورونا سياسية مثلها الرئيس ترامب وطاقمه الجمهوري المتطرف من المرجح أن تعود غالبا الولايات المتحدة بعد تغيير إدارة ترامب عام إلى الاتفاق النووي الإيراني وسيشكل هذا ضربة مؤلمة لتحالف الشر الرباعي في منطقة الشرق الأوسط الجديد إسرائيل السعودية الإمارات البحرين مما سيخفف التوتر العالي القائم في المنطقة منذ خروج ترامب عن الاتفاق النووي الإيراني وانعكاساته الخطيرة على العلاقات الدولية مع أن أزمة المشروعية في بعض أنظمة الحكم العربية قائمة قبل أزمة وباء كورونا إلا أن الأزمة فاقمت من مشكلة المشروعية والأرجح أن تغييرا سياسيا سيحدث في ثلاث دول عربية على الأقل في الأجل القريب هي السعودية والبحرين والعراق كما أن حدوث تغيير سياسي في الولايات المتحدة مع وجود أزمة مشروعية أخلاقية وسياسية كشف عنها الفشل في التعامل مع الأزمة وضعف وقصور النظم الصحية والعلاجية في دول مثل مصر وليبيا والعراق والبحرين والسعودية التي تعتمد على اقتصاد السوق وتخلي الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية من شأنه أن يدفع بفرص التغيير إلى الأمام هناك بؤر ساخنة في عالمنا العربي وفي بعض دول أميركا اللاتينية ومن المرجح أن تنفجر هذه البؤر المسلحة ومن أهمها العراق وسوريا واليمن وليبيا وأخيرا فنزويلا لعل صيغة جامعة الدول العربية كإطار إقليمي للعمل العربي المشترك قد فقدت صلاحيتها تماما كما فقدت ثقة الشعوب العربية والمثقفين العرب في ضرورة استمرارها نظرا لكونها قد تحولت إلى عبء على حاضر الشعوب العربية ومستقبلها علاوة على كونها باتت تشكل أزمة ضمير لكل العرب أما منظمة الأمم المتحدة فهي تعاني منذ فترة طويلة من مشكلات معقدة تؤثر في درجة فاعليتها في الأزمات الدولية وفي تحقيق وتنفيذ ميثاقها وقد تراكم شعور كثير من أعضائها ومن شعوب العالم بالإحباط تجاهها وكذا في فاعلية بعض وكالاتها المتخصصة الأونروا الصحة العالمية اللاجئين الإغاثة الدولية ونرجح أن تتزايد الضغوط الدولية من أجل إجراء تعديلات جوهرية في آليات عمل تلك المنظمة بعد كارثة وباء كورونا على المستوى العسكرى والحروب جاءت أزمة كورونا والعالم يشهد كما سبق وأشرنا حالة من العسكرة وتعدد الصراعات الحربية وربما تهدأ قليلا حدة تلك الأعمال الحربية في مناطق النزاعات والحروب لحين الانتهاء من هذه الأزمة العاصفة وإن كنا نرجح أن تزداد وتيرة وحدة هذه الأعمال الحربية بعد الإطمئنان نسبيا من اجتياز الأزمة ولهذا نرجح أن ترتفع وتيرة الحرب في اليمن والعراق وسوريا وليبيا في الشهور القادمة أما الحرب ضد الإرهاب فلن تتوقف سواء أثناء الأزمة أو بعدها ما دام هناك تنظيمات أو مجموعات إرهابية إسلامية أو يهودية أو يمينية متطرفة في أوروبا كما أن الصراع الفلسطيني الصهيوني المدعوم على كلا الجانبين سوف يستمر خصوصا وأن المجتمع الصهيوني في فلسطين يتجه باستمرار نحو مزيد من التطرف والعدوانية ضد الفلسطينيين في الداخل وضد دول وشعوب الجوار العربي بالنسبة لحلف الناتو سوف يستمر هذا التحالف العسكري بيد أن بعض وظائفه سوف تتغير بعد أزمة الكورونا لعدة أسباب بعضها يعود لتخفيف حدة الأعمال العدائية ضد روسيا والصين وبعضها الآخر لمناخ عدم الثقة بين أعضائها بعد الأداء الأناني والسيئ لبعض أطراف هذا التحالف في مواجهة بعضها البعض وبعضها بسبب التغيير السياسي المرتقب في الولايات المتحدة مما سيخفف كثيرا من حدة التوتر الدولي سوف تستمر بؤر التوتر في بعض المناطق جزيرة منشوريا الساحل الأفريقي بحر الصين والمحيط الهادئ فنزويلا وربما تهدأ قليلا بيد أن الحرب ضد المجموعات الإرهابية سوف تستمر وربما تتصاعد إلى حد كبير سيتعزز التحالف والتعاون العسكري الروسي الصيني وستلحق به إيران عند مستوى معين وستبقى حالة السباق على التسلح النوعي بين هذه القوى الثلاث من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى وورائها إسرائيل قائمة دون تغيير من المرجح أن تشتعل منطقة الشرق الأوسط بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني والإسرائيلي اللبناني المدعوم والإسرائيلي السوري مع دعم وتنسيق واسع بين قوى محور المقاومة في مواجهة العدوانية الإسرائيلية وسوف نشهد لأول مرة اصطفافات من نوع جديد في المنطقة العربية كاتب وباحث مصري

 مقالات| إيران ــ أميركا: إعادة فهم لمسألة القوة / حسام مطر - تموز 2019

مقالات| إيران ــ أميركا: إعادة فهم لمسألة القوة / حسام مطر - تموز 2019

إصدار 2019-08-02

مَن الأقوى إيران أم الولايات المتحدة؟ يكثر تداول هذا السؤال مؤخرًا ربطًا بالتوتر المتصاعد بين الدولتين منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي متنكرة لالتزاماتها الدولية. بالمناسبة ربما يكون هذا الانسحاب الأميركي الدليل الأبرز على إدراك الأميركيين لمدى تراجع هيمنتهم داخل النظام الدولي إلى حدّ التجرؤ على تقويضه في مجال بهذه الحساسية. وسبق أن أشارت استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب إلى أن منافسي واشنطن يستغلّون النظام الدولي بشكل غير عادل لاكتساب ميزات تمنحهم أفضلية تنافسية لتجاوزها. وقد استشرف المؤرخ البريطاني نيال فيرغسون هذا السؤال منذ عام 2005 عن ما إذا كانت أميركا ستلتزم بقواعد النظام الدولي حين ترى أنه لم يعد يعمل لصالحها، باعتبارها معضلة عانت منها قوى الهيمنة السابقة.
القوة والسياق
بالعودة إلى سؤال القوة، وهو سؤال شائك ويمثل لبّ السياسة الدولية، فكما يقال القوة هي "عملة" السياسة الدولية أو أن السياسة العالمية هي "مملكة القوة". إن السؤال عن من الأقوى ينطوي على ضرورة تعريف القوة والذي هو في حدّ ذاته ممارسة للقوة كما يوضح ستيفانو غوزيني، باحث في المعهد الدانماركي للعلاقات الدولية. يوضح غوزيني حجته من خلال رفض كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة خلال الحرب الباردة لكل تعريفات القوة التي تؤكد على العوامل غير العسكرية، ما أدى بهما إلى المزيد من التسلّح والتدخلات العسكرية.
هناك مقاربتان رئيسيتان لتحليل القوة في العلاقات الدولية: الأولى مقاربة "القوة كموارد" والتي تعتبر أن الأقوى هو صاحب الموارد الأكبر وبالتحديد الموارد المادية التي اتسعت بمرور الوقت من كونها تقوم على موارد السكان وعديد الجيش ومساحة الإقليم والكفاءة الزراعية إلى عناصر التكنولوجيا والتنظيم أيضًا. وفق هذه المقاربة التقليدية يمكن التقدير ببساطة أن الولايات المتحدة أكثر قوة من إيران، ولكن كيف انهزمت أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان أو كيف انتصر حزب الله في لبنان والمقاومة في غزة؟ لذلك واجهت هذه المقاربة انتقادَين رئيسيين: أولًا، إن القوة لا تتساوى تلقائيًا مع التأثير لأن الكفاءة في استخدام موارد القوة وتوظيفها هي التي تحدد مستوى التأثير، فالأهم هو "استراتيجية التحويل". وثانيًا، قابلية الموارد نفسها للتحويل، وهذه القابلية يعرّفها دافيد بالدوين، عالم سياسي في جامعة برينستون، بأنها تشير إلى "السهولة التي يمكن بها استخدام موارد القوة من مجال ما بشكل مفيد في مجالات لقضايا أخرى أيضًا". هنا ظهرت مقاربة مقابلة وهي "القوة العلائقية" أو القوة كعلاقة، والتي تفيد أن القوة تتمثل في القدرة على تحقيق النتيجة المفضلة في حالة معينة. وهذا يعني أن سؤال القوة لا يمكن إلا أن يكون مقيدًا، من الأقوى بوجه من؟ وفي أيّ نطاق؟ وأيّ مجال؟ وبأية تكاليف؟ في المقاربة "العلائقية"، القوة هي "عملية تفاعل حيث هناك دولة قادرة على ممارسة النفوذ على أعمال دولة أخرى" أو "قدرة شخص أو مجموعة من الأشخاص على التأثير على النتائج بحيث تكون أفضلياتهم لها الأسبقية على أفضليات الآخرين".
إذًا، لو كنا نطرح سؤال القوة بين واشنطن وطهران خلال النصف الأول من القرن الماضي، لكان الجواب واضحًا، بالاستناد إلى مقاربة "القوة كموارد" وبقياس الموارد المادية للطرفين واشنطن الأقوى من دون شك. إلا أننا اليوم في عالم مختلف تمامًا، فسؤال القوة غدًا معقدًا ومركبًا ومتداخلًا. فهل الولايات المتحدة أقوى؟ أي هل واشنطن قادرة على إكراه إيران على التصرف بعكس تفضيلاتها الأولية بما يناسب واشنطن؟ يعني هل واشنطن قادرة بالزجر والإكراه (العسكري والاقتصادي تحديدًا) على فرض شروطها على إيران في البرنامج النووي والباليستي والسياسات الإقليمية؟ بالنظر إلى مقاربة القوة العلائقية لماذا تبدو إيران هي الأقوى؟
أولًا: القدرة على فهم الخصم
عانى الأميركيون بالعموم من معضلة فهم إيران ومن أبرز أسباب ذلك أنهم فهموها من خلال "المهزومين"، أي أنصار الشاه الذين فروا إلى الغرب وحرضوا ضد إيران الثورة بشكل مضلل. يرى ديفيد هوتون، محاضر في علم النفس السياسي، أن الأميركيين يعانون منذ انتصار الثورة من فجوة في «تفهّم» الإيرانيين (أي تقمص الموقف الإيراني وأيديولوجيته ونظرته إلى العالم وتقويمه للوضع)، فكانت مشكلة كارتر ومستشاريه عام 1979 أنهم لم يستطيعوا فهم خيارات الإمام الخميني ولذا صنّفها الأميركيون باعتبارها سلوكًا غير عقلاني، كما لم يفهموا أهمية التاريخ في الشرق الأوسط من قبيل استمرار تأثيرات دعم الانقلاب ضد حكومة مصدّق عام 1953، على ما يقول هوتون.
يتضح حتى اللحظة أن ترامب وإدارته فشلوا في فهم صانع القرار الإيراني. ترامب تحديدًا كان جازمًا في أن الإيرانيين سيرضخون حين تشتد نتائج العقوبات وسيحصل على تسوية جديدة باسمه. فالنظام الإيراني، كأيّ نظام آخر، لن يفكر إلا بالنجاة وسيقدم التنازلات ويستطيع أن يتلاعب بشعبه كيفما كان ليخفي ذلك، هذا كان منطق ترامب. قد يكون الرئيس الأميركي مارس ما تسميه "نظرية العزو" (من علم النفس السياسي) بـ "موجّه الحضورية" التي تُستخدم عند تقدير احتمال وقوع شيء بناء على مدى حضور ذلك الشيء في الذهن لكونه حصل حديثًا. فهل قام ترامب بهذا من خلال إسقاط تجربته مع كوريا الشمالية على إيران؟ في المقابل من المحتمل جدًا أن بعض من هم في الدائرة المحيطة بترامب يدركون أن إيران لن ترضخ لهذا الابتزاز ومحاولة الإذلال الأميركية، وأن إيران ليست مجرد نظام، بل "آخر نظام ثوري على وجه الأرض" بحسب برايان هوك، مسؤول ملف إيران في الإدارة الأميركية، ولذا فإن حساباته وعملية صنع القرار فيه أكثر تعقيدًا.

 مياه الخليج هي الساحة الكبرى لأية حرب إيرانية – أميركية


في المقابل يبدو الإيرانيون أكثر فهمًا للمصالح الأميركية ولصانع القرار ولتركيبة الإدارة الأميركية، وهذا ما منحهم قدرة على فهم القيود التي تكبّل ترامب وهامش المغامرة لديه ونجحوا في تحويل الأزمة نحو الداخل الأميركي تحت وطأة الهلع من اندلاع حرب في الخليج وتحذيرات وزير الخارجية الإيراني من فريق الحرب حول ترامب. منذ حقبة أوباما كان صانع القرار الإيراني يدرك حدود التسوية مع واشنطن لكنه قبِل يومها اختبار الأميركيين لسببين، الحاجة لالتقاط الأنفاس وتحصيل موارد لاستكمال المعركة في سوريا والعراق، وثانيًا لحفظ الاستقرار الداخلي من خلال منح أنصار التسوية فرصة، رغم أن المتوجّسين من التسوية كانوا يردّدون أن أميركا حين ستحصل على مطلب ما ستنتقل مباشرة لتطالب بتنازل جديد كما يفعل ترامب اليوم في ما يخص البرنامج الباليستي.
ثانيًا: في إدارة المواجهة
في مقابل الاندفاعة الأميركية منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، كان الإيرانيون يتصرفون بهدوء بانتظار استكشاف عمق الخيارات الأميركية. من فرض العقوبات والتشدد في الملف السوري بوجه إيران ومؤتمر وارسو وثم وقف الإعفاءات وتصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، كان الإيرانيون في مرحلة كمون لاحتواء آثار الخطوات الأميركية وتحضير البدائل الداخلية والخارجية. فحين بدأت الاستجابة الإيرانية (أمنيًا وعسكريًا وسياسيًا عبر التخفيض التدريجي للالتزام بموجبات الاتفاق النووي) كان الأميركيون قد استنفدوا معظم أدوات المواجهة ما قلّص من قدرتهم على الردع. يعود هذا الفارق إلى سببين:
أ- أن ترامب تسرّع في الإجراءات لأنه شخصيًا كان يطمح لإنجاز تسوية سريعة مع الإيرانيين أكثر تشددًا من الاتفاقية النووية لأجل المكانة والصورة والنفوذ وثم استغلالها في الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية الوشيكة. الإيرانيون بدورهم لديهم أيضًا معضلة الوقت المرتبطة بالآثار الشديدة للعقوبات وإلى متى هم قادرون على احتوائها، إلا أنهم وجدوا في موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية فرصة ينبغي الرهان عليها.

ب-
حاجة الإدارة الأميركية وحلفائها الإقليميين لتشتيت انتباه وموارد قوى المقاومة بغية دفع مسار "صفقة القرن" قدر المستطاع داخل المجال الإقليمي قبل نهاية ولاية ترامب.
تفتقد إدارة ترامب لاستراتيجية ناجزة ومتفق عليها بخصوص الملف الإيراني، وقد عنونت صحيفة "لوس أنجلس تايمز" مقالًا في 20 أيار الماضي حول سياسة ترامب الخارجية "هكذا تبدو السياسة الخارجية حين لا يكون لديك استراتيجية". في الملف الإيراني تحديدًا ليس هناك اتفاق على الهدف النهائي للانسحاب من الاتفاق النووي والعقوبات، هل المطلوب الوصول لتسوية جديدة أو إخضاع إيران؟ هل المطلوب تسوية في الملف النووي فقط أم أيضًا البرنامج الباليستي ودعم إيران لقوى المقاومة؟ ما هي الخيارات في حال لم تخضع إيران؟ ما هو هامش المخاطرة لدى واشنطن في الاستجابة للردود الإيرانية؟ وقبل كل ذلك هل الملف الإيراني أو الشرق الأوسط ككل هو أولوية أميركية؟ بالتأكيد ليس الأمر كذلك لترامب الذي صرّح في مقابلة مع مجلة "تايم" (20 حزيران 2019) ردًا على سؤال حول التصعيد مع إيران بالقول: "أنا أود أن أخرج من الشرق الأوسط، كان ينبغي أن لا نكون أبدًا في الشرق الأوسط، وأنا أرغب في الخروج من هناك".
في المقابل، يبدو أن الإيرانيين يعملون وفق استراتيجية متفق عليها قوامها الصمود الاقتصادي والسياسي وعدم تقديم تنازلات وعدم التفاوض مع إدارة ترامب إلا بعد أن تتراجع الأخيرة عن خطواتها التصعيدية، وممارسة ضغوط "صلبة" منضبطة ضد مصالح واشنطن وحلفائها، وعدم الانسحاب من الاتفاق النووي بل تقليص الالتزام ببعض مندرجاته بشكل متدرج، وعدم التفاوض على البرنامج الباليستي والاستمرار في تعميق الصلات بدول الجوار والقوى الدولية المنافسة للولايات المتحدة.
ثالثًا: في عملية صناعة القرار
تعاني الولايات المتحدة من معضلتين، الأولى التباينات الحادة بين ترامب الانتهازي وفريقه الإيديولوجي وبينهم وبين الكونغرس المهجوس بمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة. وتبرز هذه التباينات بوضوح في الملف الإيراني كالموقف من تغيير النظام في إيران أو المخاطرة العسكرية. والمعضلة الثانية مرتبطة بترامب نفسه الذي يقود السياسة الدولية بالحدس والغريزة والمشاعر ويطلب من فريقه تحويلها لسياسات. فضلًا عن أن ملف إيران ليس من أولويات ترامب، أي ليس هدفًا بذاته بل غاية لاجتذاب دعم اليمين المسيحي واللوبي الإسرائيلي والدعم المالي السعودي.
في الجانب الإيراني، تبدو التباينات في حدّها الأدنى، فإيران في موقف دفاعي بالكامل وتخوض المواجهة على أرضها وفي إقليمها وليس في قارة أخرى أو من ضمن مشروع توسعي، ولذا تبدو المصالح الإيرانية جليّة وواضحة بما يقلّص الخلاف حولها. وثانيًا إن موافقة الإمام الخامنئي على منح الرئيس روحاني وما يمثّل فرصة لاختبار الولايات المتحدة ومصداقيتها من خلال الاتفاق النووي 2015 قد قلّص من مساحات التباين حول العلاقة مع الولايات المتحدة. فالإيرانيون بالعموم يدركون أن نظام بلادهم تصرّف بالمرونة الضرورية ولا يتحمل مسؤولية الإخلال الأميركي. يضاف إلى ذلك أن السياسة الخارجية الإيرانية تُصنع عادة من خلال التوافق عبر مجلس الأمن القومي حيث للاتجاهات الإيرانية الوازنة صوت مسموع. فالقرارات لا تعكس وجهة تيار واحد، بل نتيجة لإجماع أو لتسويات قد تميل يمينًا أو يسارًا ولكنها لا تهّمش أحدًا، وهنا يبرز دور الولي الفقيه الذي يمارس السلطة في حدها الضروري فقط. ولحساسية المواجهة الحالية يبرز الدور المركزي لمجلس الأمن القومي الإيراني لتعزيز الوحدة الداخلية وتنسيق المواقف وتوسعة القاعدة الاجتماعية لخيار المواجهة الحالي داخل الجمهورية الإسلامية.
رابعًا، إرادة القتال

رغم إعلان الطرفين حرصهما على تجنّب الحرب، تبدو إيران متوثبة لاختبار مستوى من استخدام القوة بدرجة أكبر بكثير من الولايات المتحدة. وهذا يعود بشكل أساسي إلى أن إيران مضطرة لتوسعة مجال المواجهة إلى ما يتجاوز المجال الاقتصادي حيث للولايات المتحدة أفضلية واضحة. حاول ستيفن والت أن يشرح لترامب في مقال في "فورين بوليسي" لماذا لن يخضع الإيرانيون ولماذا سيستمرون في إظهار القوة والتحدي بالقول: "دعني أشرح لك هذا بطريقة أنا متأكد أنك ستلتقطها. أتتذكر تلك النصيحة التي تلقيتها من روي كون، الذي أخبرك أن تقول لوزارة العدل، بعد أن جرى اتهام شركتك العقارية بالتمييز العرقي: "اذهبوا للجحيم" وأن تمارس موقفًا هجوميًا. علّمك كون أنه حينما يكون موقفك ضعيفًا عليك أن تهجم أكثر لمنع الآخرين من الاستحواذ على أفضلية عليك. هذا تحديدًا ما تقوم به إيران ولهذا فإن "الضغوط القصوى" لا تعمل. هل فهمت الآن؟".
وثانيًا لأن لدى الإيرانيين مخاوف مشروعة من جهود أميركية وإقليمية لجرّ ترامب إلى الحرب، وبالتالي يلزم طهران إبراز ردع هجومي متقدم، ولكن محسوب. لدى الإيرانيين حساسية عالية من التعرض للتهديد نظرًا لما عانوه تاريخيًا من طموحات الإمبراطوريات والقوى الكبرى، بما في ذلك تدخلات الولايات المتحدة من أيام انقلاب مصدق وصولًا إلى دعم الشاه وبعده حرب صدام وثم التحشيد العسكري المستدام في الخليج. بمعنى آخر تسعى طهران لاستعادة التوازن مع واشنطن ودفعها لخطوات تراجعية وحث القوى الكبرى على تحمّل مسؤولياتها من خلال دفع المواجهة إلى الخط الأخير من حافة الهاوية. ولذا وإن كان صحيحًا أن إسقاط طائرة التجسس الأميركية كان إجراءً دفاعيًا كونه حصل داخل المجال الجوي الإيراني، إلا أنه يأتي من ضمن مقاربة هجومية بدأت تظهر مؤخرًا لدى الجانب الإيراني.
في المقابل تبدو كوابح الحرب في الولايات المتحدة قوية جدًا، من ترامب إلى الكونغرس والبنتاغون والرأي العام. حصر ترامب خيار استخدام القوة العسكرية في حالة وحيدة هي منع إيران من حيازة سلاح نووي، فيما رفض القيام بهذا التعهد بخصوص تخزين إيران لليورانيوم واكتفى بالقول إنه خطأ كبير، وكذلك بخصوص حماية ناقلات النفط في مضيق هرمز وبرّر ذلك بأنه مسؤولية الدول المصدرة والمستوردة مثل الصين واليابان من دون أن تدفع شيئًا لأمن المضيق، وليس الولايات المتحدة التي تستقل عن نفط المنطقة. يُلاحظ أن التقويمات الأميركية لسيناريو الحرب مع إيران تسارع لمقارنتها بحرب العراق لتبرير رفض هذا الخيار. وهنا يستخدم الأميركيون ما يُسمى، بحسب هوتون، بـ "قياس التمثيل أو المماثلة"، أي استخدام التشبيهات التاريخية لنقارن موقفًا جديدًا بشيء مشابه للماضي لاستنتاج السيناريوهات. وبحسب ألكسندر هييغ وزير الخارجية الأميركي الأسبق "السياسة الخارجية تجتذب التشبيهات كما يجتذب العسل النحل".
خامسًا: القوة العسكرية اللامتماثلة
تحتاج إيران بدايةً إلى نوع من القوة العسكرية التي يردع الأميركيين عن شن الحرب، وثم في حال وقعت الحرب أن تكون قادرة على إحباط أهدافها من خلال رفع كلفتها على الأميركيين. يدرك الإيرانيون الفوارق الهائلة في الموارد مع الولايات المتحدة واختبروا خلال حرب الناقلات في الثمانينيات حدود القوة التقليدية بوجه الأميركيين. ولذا تحوّل الإيرانيون نحو أساليب القتال اللامتماثلة ذات الجوهر الدفاعي المبنية على إدراك فارق الموارد وعلى مركزية القتال البحري، وطبيعة ميدان القتال أي مضيق هرمز وسواحل الخليج، والفارق النفسي والروحي والقدرة على احتمال الخسائر. فيما الركن الهجومي في استراتيجية الردع الإيرانية يتكوّن من البرنامج الباليستي (غير قابل للتفاوض) والقوات الحليفة في المنطقة.
 

إن امتلاك الموارد الأكبر ليس معياراً كافياً لتحديد الأقوى بل القدرة والكفاءة والرغبة في استخدامها

مياه الخليج هي الساحة الكبرى لأية حرب إيرانية – أميركية ولذا طوّر الإيرانيون نوعًا من حرب العصابات البحرية قوامها مئات الزوارق السريعة "الانتحارية" وتلك المزودة بصواريخ، والألغام، والغواصات الصغيرة، وصواريخ بر _ بحر، والطوربيدات، والطائرات المسيرة، وقوات الكومندوس، وكلّها موزعة على شبكة مواقع ونقاط محصنة فوق الأرض وتحتها على طول ساحل الخليج الفارسي بشكل لا مركزي بحيث لكل وحدة قتالية مهام محددة سلفًا وهامش من الابتكار في حال الانفصال عن القيادة المركزية نتيجة الهجمات الأميركية. كلفة كل هذه الاستعدادات الإيرانية ربما لا تعادل كلفة حاملة طائرات واحدة (بلغت كلفة حاملة الطائرات الأحداث جيرالد فورد حوالي 13 مليار دولار) مع كلفة تشغيلها وصيانتها السنوية مع مجموعتها القتالية (يوميًا تكلّف 7 ملايين دولار). هكذا لا يعدّ حاسمًا مقارنة الموارد العسكرية بين البلدين، بل مجددًا الأهم هو "استراتيجية التحويل" و "سياق" المواجهة.
يضيف الإيرانيون إلى مفهوم الحرب اللامتكافئة عناصر ثقافية وأيديولوجية يجادلون أن العدو يعجز عن معرفتها أو فهمها. فحين يقال الحرب اللامتكافئة فمعنى ذلك، بحسب الإمام الخامنئي، أن أحد الطرفين يتوفر على وسائل وأدوات لا يتوفر عليها الطرف الآخر، وذلك في سياق حديثه عن سيدة تركمانية حجّت نيابة عنه وهو ما اعتبره من عوامل الانسجام والقوة التي لا يمكن للأميركيين تحليلها. ويرى الإمام الخامنئي أن الجانب الروحي والمعنوي (الثقة بالله والتوكل عليه والاستعداد للتضحية والإيمان بالنصر النهائي) هي من عناصر القوة اللامتكافئة، ففي هذه الحرب "الإرادات هي التي تحارب".
سادسًا: العقوبات الاقتصادية
هنا تتجلى الأفضلية الأميركية المستندة إلى سطوة واشنطن على الاقتصاد العالمي من خلال الدولار والمؤسسات الدولية والتفوق في مجالي التكنولوجيا والأسواق المالية. لذلك يصنف الإيرانيون العقوبات الأميركية على أنها "حرب" (ويؤكد الإمام الخامنئي على أن الحظر الحالي غير مسبوق)، وهذا يعني تلقائيًا أن الإيرانيين سيستجيبون بالمقاومة لا بالرضوخ كما يتوقع ترامب. لكن لا شيء يلزم الإيرانيين ممارسة الحرب بذات النمط الأميركي وإن كانوا سيحرصوا على عدم المبادرة لاشتباك مباشر مع الأميركيين ولكن سيخلقون بيئة صراعية مع واشنطن. وما دامت واشنطن تجد في الاقتصاد مجالًا يمنحها الأفضلية، انتقلت إيران إلى مجال آخر يمنحها الأفضلية وهو مضيق هرمز.
السؤال هنا ليس إن كانت العقوبات ستُلحق أذى بإيران وشعبها، بل إن كانت تكاليف هذه العقوبات ستؤدي إلى إخضاع النظام ودفعه نحو تفاوض وفق الشروط الأميركية. ولكي يحصل هذا الأمر لا بد من توفر جملة عناصر: (1) استمرار العقوبات لوقت كاف، (2) عجز إيران عن التكيف النسبي اقتصاديًا وماليًا ونقديًا (التقشف والإصلاحات والبدائل)، (3) تفكك الوحدة الوطنية والتأييد الشعبي حين تشتد نتائج الحصار (الرأي العام الإيراني في معظمه يجد في ما يجري محاولة لإذلال بلاده بعد التزامها بالاتفاق النووي)، (4) عجز إيران عن موازنة العدوان الاقتصادي بخطوات أمنية وعسكرية وسياسية (تقليص التزاماتها النووية) قادرة على دفع واشنطن نحو خطوات تراجعية.
 يسعى الإيرانيون إلى احتواء آثار العقوبات، وهنا يشير الإمام الخامنئي (أيار 2019) إلى الحاجة لعدة إجراءات ضرورية: تقليل تبعية الاقتصاد الإيراني للنفط وزيادة الصادرات غير النفطية، والحد من التدخل المفرط للحكومة في الشأن الاقتصادي لصالح القطاع الخاص، وتخفيف التعقيدات البيروقراطية للاستثمار والأعمال التجارية، وإصلاح النظام المصرفي، وإيجاد فرص للشباب في مجالات الابتكار، ومواجهة الاحتكارات، وتوفير بدائل محلية للتكنولوجيا اللازمة للصناعات، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في السلع الاستراتيجية ولو كان استيرادها مجدٍ اقتصاديًا أكثر كي لا تتعرض إيران للابتزاز، وترشيد الاستهلاك (كما البنزين)، وإزالة العقبات أمام الإنتاج المحلي ولا سيما الزراعة.
لكن لتقدير الأثر المحتمل للعقوبات يمكننا الإحالة إلى دراسة حديثة (آذار 2018) لمارتين سميتز، مدير قسم في مؤسسة التدريب والتعاون التقني في منظمة التجارة العالمية (نشرها قسم الأبحاث الاقتصادية والإحصاء في منظمة التجارة العالمية)، ووجد فيها أنه كلما كان مستوى الطموح والتغيير المطلوب من فرض العقوبات عاليًا، كلما أصبح أكثر صعوبة أن تُحقق العقوبات نجاحًا. والأهم وجد سميتز، بالعودة إلى عدة دراسات إحصائية، أن أثر العقوبات يبدأ بالتراجع بشكل حاد بعد السنة الأولى أو الثانية من فرضها بسبب تكيّف الدولة المستهدفة، وتشتمل هذه الملاحظة حالة الحظر على صادرات الطاقة الإيرانية. وهنا يأتي دور الطرف الثالث من خلال الانخراط في أنشطة اقتصادية مع الدولة المستهدفة كأبرز عامل في تقويض العقوبات. ورغم ما تركته العقوبات على إيران منذ 1979 (حرمتها من حوالي 160 مليار دولار من مبيعات النفط لوحدها) من أضرار اقتصادية ومالية هائلة إلا أن آثارها السياسية كانت معاكسة إذ عززت من الوحدة الداخلية للنظام وشحنت الرأي العام الإيراني بالعداء ضد الولايات المتحدة ودفعت إيران نحو الصين وروسيا والأوروبيين. ويختم سميتز بأن "إجراءات العقوبات دائمًا لها كلفة ولكن ليس على طرف واحد، فأولئك الذي يفرضون العقوبات يمكن أن ينتهي بهم الأمر بأن يطلقوا النار على أقدامهم".
خاتمة
إذًا وكما تشير مقاربة "القوة العلائقية" إن امتلاك الموارد الأكبر ليس معيارًا كافيًا لتحديد الأقوى بل القدرة والكفاءة والرغبة في استخدامها يكون أكثر أهمية. إن "الإرادة" لاستخدام الموارد مهمة جدًا إلى المستوى الذي يعتبر فيه جيفري هارت عنصر "الإرادة" أحد موارد القوة. وفي هذا السياق يصف الإمام الخامنئي المواجهة الأميركية – الإيرانية الحالية على أنها صراع إرادات. ما يُقلق الأميركيين من التجربة الإيرانية يتجاوز بروز دولة تُحسب على العالم الثالث تقوم بدور استقلالي وترفض الخضوع، الأخطر أنها تنجح في المواجهة، فليس الأمر مجرد عناد أو موقف عقائدي بل يؤدي إلى تحولات في الواقع، وكل ذلك يجري في لحظة سؤال أميركية حرجة عن موقعها في العالم. فرق كبير بين أن تسدد لكمة للمصارع الخصم في الجولة الأولى وبين أن تسددها في النصف الثاني من المباراة.

 مقالات | أي

مقالات | أي "منطلقات نظرية لبناء مستقبل سورية الاقتصادي".. وإعادة إعمارها؟/ د. عبد الحليم فضل الله - آذار 2019

يسلط د. البير داغر في كتابه الجديد1 الضوء على اتجاهات في التنمية لا تحظى، أو لم تعد تحظى، بعناية كافية في بلداننا، مثل المؤسساتية والبنيوية وأفكار جون ماينارد كينز وما بعده، فيؤسس بذلك لنقاش متجدد بشأن دور الدولة وشروط نجاحها، من دون التورط بالسرديات الجازمة والرطانات المكررة. ومع أنه كُتب على دفعات وفي تواريخ ومناسبات متعددة فقد نجح صاحب الكتاب في أن يكسبه وحدة تأليفية، وسياقًا يدور حول إشكالية من فرعين: نقد من زوايا عدة للنيوليبرالية، وتأكيد على دور القطاع العام بوصفه فاعلًا جماعيًا لا "ساحة صراعٍ بين القوى والمصالح الاجتماعية" ولا نقيضًا للقطاع الخاص، ممهدًا بذلك السبيل أمام إعادة الشرعية لدور القطاع العام في إعادة الإعمار، الذي يتعرض للاستبعاد والتهميش.
يستمد د. البير داغر مقارباته من مصادر عدة، فهو يأخذ من "ألبرت هيرشمان" رأيه بأن وظيفة الدولة في التنمية هي على وجه الخصوص "تعظيم قدرة النخب الاستثمارية على اتخاذ القرارات الاستثمارية"، ومن "ألس أمسدن" التأكيد على التصنيع المتأخر القائم على التعلم التكنولوجي من خلال الممارسة والمحاكاة والتدرج في طريق الابتكار، ومن "بيتر ايفانز" إعادة توصيف دور الإدارة العامة المتماسكة والمستقلة في التنمية، ومن جان ماينارد كينز والكينزيين الجدد تصويب النظرة إلى الانفاق الاستثماري، بوصفه عاملا أساسيًا في النمو لا مزاحمًا للقطاع الخاص على الموارد، ومن "هنري بريتون" و"ماديسون" وغيرهما النقاش النظري لتجربة استبدال الواردات وربط فشلها بتركيز الدول التي تبنتها على إنتاج سلع الاستهلاك وليس آلات التجهيز والسلع الترسملية.. كما وقف على مسافة غير بعيدة من نظرية التبعية، لكنه ربطها بدور النخب المحلية المستزلمة والمرتبطة بالخارج في التبادل غير المتكافئ مع الخارج.
القطاع العام: كيان اجتماعي أم بيروقراطي؟
في نقاشه لدور الدولة، يرسم الكاتب الصديق خطًا فاصلًا ما بين الرؤية البيروقراطية التقليدية التي تؤيد هذا الدور أو ترفضه استنادًا إلى معياري الكفاءة والفعالية، وبين الرؤية غير التقليدية التي ترى في القطاع العام كيانًا جماعاتيًا يتسم بالتماسك الداخلي، ويمتلك عصبية إدارية تجعله مؤثرًا في المجتمع ومتأثرًا به، ولا يمكن أن تستبدل به أدوار أخرى.
وفي نقده للنيوليبرالية يتعرض داغر على نحو خاص للتيار النفعي الجديد المناصر لدولة الحد الأدنى، والتي تكون فيها قوى السوق كيانًا مستقلًا عن المجتمع ومعزولًا عنه، ويتسم بجدارة لا تملكها الحكومة، فهذه بنظر مناوئيها مرتع خصب للريوع السهلة والمنافع الناشئة عن السلطة. ويضيف أنصار هذا الاتجاه بأن توسيع القطاع العام يعني زيادة الاعتماد على غير المنتخبين من الفنيين والاختصاصيين والبيروقراطيين في التخطيط وفي اتخاذ القرارات، مع أنهم لا يعبرون عن الإرادة العامة، ولا يردعهم رادع عن أن يقدموا مصالحهم الخاصة على ما عداها.
ركز الكاتب على دروس التجربة الآسيوية، التي جسدت النظرة الجديدة لدور القطاع العام في إطار ما يعرف بالفيبرية المعززة. كانت الإدارة العامة الفعالة في تجارب دول شرق آسيا، الأساس الاجتماعي لا البيروقراطي فحسب في نجاح التنمية، وعلى الرغم من وجود قطاع خاص وفاعل وشركات خارجية، لم تنشأ علاقة غير متوازنة بين الطرفين، ولم يظهر إلى الوجود نموذج الإدارة العامة القائم على النهب. كان القطاع العام هو الأساس الذي ارتكزت عليه الدولة التنموية التي احتضنت تجارب التصنيع المتأخر، القائمة على الاستثمار واكتساب التكنولوجيا وتوطينها بصفتها قاعدة الانطلاق نحو التنمية. وبخلاف ذلك أعطت نظريات التحديث والتغيير الهيكلي أهمية متقدمة للتمويل ومراكمة رأس المال المادي. لكن نظريات النمو الحديثة أو النمو باطني المنشأ دمجت التقدم التقني في نماذجها الرياضية ومعادلاتها، ووسعت مفهوم الرأسمال ليشمل الرأسمالين البشري والاجتماعي إلى جانب رأس المال المادي2 .
إن النسج على منوال التجربة الآسيوية في مجال استراتيجيات التنمية، يتكامل مع الدعوة التي يتضمنها الكتاب لاعتماد برنامج كينزي على مستوى السياسات المالية في بناء مستقبل سورية الاقتصادي، حيث يؤدي الطلب الحكومي والخاص والخارجي دورًا أساسيًا في النمو. يمكن العثور على نقاط تلاق عدة بين الفكر الكينزي وما بعده، وتجارب دعم التصدير التي قامت بها دول آسيوية عدة، ومن بين هذه النقاط على سبيل الذكر، الأهمية المعطاة للاستثمار والتصدير بصفتهما مكونين أساسيين في الطلب، والدور الإيجابي في النمو الذي يؤديه كل من التقدم التقني، وإعادة توزيع الدخل لمصلحة المنتجين، على حساب أصحاب الريوع.
النيوليبرالية: تحليل الاقتصادي ودعوة سياسية
نوافق الكاتب ولا شك على فهمه للنيوليبرالية وتيار النفعية الجديدة ونقده لهما، لكن لا يمكن إنكار امتلاكهما في بعض الأحيان أصولًا صارمة للتحليل، من اقتصاديات الرفاه لفلفريدو باريتو إلى تحليلات ميلتون فريدمان المبكرة عن استقرار دالة الطلب على النقود على المدى الطويل، واهتمامه بخلاف كينز بالعرض النقدي، الأكثر تقلبًا وتأثيرًا على الإنفاق والأسعار. ولا يمكن التقليل أيضًا من شأن الأسس الفلسفية التي استند إليها فريدريتش فون هايك والذي أنكر من خلالها المبالغة في تقديس العقل، الباحث عن يوتوبيا متخيلة، يفضي الاستغراق بها في كثير من الأحيان إلى قيام مجتمع شمولي مغلق. كان هايك متشددًا في ليبراليته لكنه رفض المبالغة في التحليل الرياضي الذي يهواه النيوليبراليون، وهو عارض التخطيط لسببين؛ أولًا لأن اتساع نطاق الدولة يزيد من صعوبة تحقيق الإجماع على القواعد المسبقة والمعروفة سلفًا التي يستند إليها حكم القانون، وثانيًا لأن هذا التوسيع يعظم من نفوذ الفئات غير المفوضة شعبيًا في اتخاذ القرارات ووضع السياسات.
إلا أنّ المفارقة هي أنّ الدعوات المناهضة لتدخل الدولة أيًا كان شكله، لم تستند إلى الأعمال العلمية والأكاديمية التي أنجزها هؤلاء، بل إلى أدبياتهم الفكرية ذات المرجعية السياسية، كما في كتابي هايك "الطريق إلى العبودية" "والغرور القاتل" وكتاب فريدمان "الرأسمالية والحرية". كان الاعتقاد الرائج بين الليبراليين الجدد في أواسط القرن الماضي وما بعده، هو أنّ الحريات السياسية تشجع الحريات الاقتصادية وتحفز آليات السوق. أبرزت الوقائع عكس ذلك، ففي دول رأسمالية عدة، ترافقت الحريات السياسية الواسعة مع ظهور دولة الرفاه القائمة وفق نسخة مخففة من التخطيط المركزي المصاحب بتدخل واسع النطاق من الدولة. وهذا ما عده هايك نكوصًا وتخاذلًا في وجه المنظومات الشمولية. وبسبب هذه الخيبة تمسك مع مفكرين ليبراليين آخرين بفكرة "المخاطر التي يحملها التنظيم المركزي على الفردانية" وشددوا من ثم على أن الحرية الاقتصادية هي المدخل إلى الديموقراطية والليبرالية السياسية ومخرج من سلوك "طريق العبودية". وبرأي فريدمان تؤدي النظم الاقتصادية دورًا مزدوجًا في الارتقاء بالمجتمعات الحرة، فمن جهة تعد الحرية في النظم الاقتصادية عاملًا لا غنى عنه لتحقيق الحرية السياسية، ومن جهة ثانية الحرية الاقتصادية مطلوبة بحد ذاتها لتحقيق الحرية السياسية3. هذه الأفكار وغيرها هي التي رجّحت كفة الليبرالية الجديدة وبشّرت بأفكارها، استنادّا إلى حجج منطقيّة عامة وليس بناء على معارف دقيقة ومتخصصة على ما يزعم أنصارها.
كان إجماع واشنطن هو الترجمة الأيديولوجية لأعمال هؤلاء وسواهم. لكن التحليل الاقتصادي (العلمي) لا يكفي وحده، فالمطلوب وجود من يتخذه حجة في برنامج سياسي أوسع، لجعله أداة طيعة في أيدي السلطة. وشكل انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي والانتصار الذي ظُنّ أنّه تاريخي وأبدي لليبرالية، فرصة لا بد من انتهازها لوضع هذه الأفكار موضع التطبيق.
مقاربات أخرى
لم يول الكتاب عناية بارزة أيضًا، وربما عن قصد، لمقاربات مفكرين بارزين في نقدهم الجذري للرأسمالية الليبرالية، مثل كارل بولانيي الذي ذكره الكاتب دون أن يشرح آراءه الرئيسية، ومن بينها أفكار لافتة يمكن البناء عليها في فهم العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع، مثل قوله بأن عوامل الإنتاج الثلاثة المعروفة هي موارد اقتصادية زائفة، إما بسبب تحكم السلطات بها (الرأسمال النقدي) أو لصعوبة وضعها في قوالب نمطية وقابلة للقياس (العمل)، أو لأنها بكل بساطة الحياة مقسمة إلى أجزاء (الأرض والثروات الطبيعية). ويقدم بولانيي أيضًا في كتابه "التحول الكبير: الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر"، محاججة نقدية قوية ضد مبدأ أصالة الملكية من منظور تاريخي، وهو يرى أنّ السوق مؤسسة مندمجة في المجتمع وغير مفصولة عنه. لم يأت الكاتب أيضًا على ذكر جون كينيث جالبريت المعدود بين المؤسساتيين، وهو ممن أعطوا أهمية للمؤسسات الاجتماعية في الاقتصاد، وأظهر على نحو فذ تبعية الأفكار للمصالح الاقتصادية القومية والمراحل التاريخية. إلا أنّ عدم استفاضة الكاتب في عرض أفكار هؤلاء يتسق مع المنهج الذي اعتمده في هذا الكتاب، والذي يقوم على انتقاء الأدبيات والاقتباسات النظرية التي تحلل التجارب التنموية الناجحة، وهذا ما وجده لدى باحثي ومفكري التنمية الذين حللوا على نحو خاص الدروس المستفادة من دول شرق آسيا (مثل أمسدن و بريتون وايفانز و هيرشمان ..).
التنمية وإعادة الإعمار:
تضمن الكتاب معالجات مستفيضة لمقاربات التنمية والنمو لكنه لم يستكمل ذلك باستعراض متمم لنظريات إعادة الإعمار وتجاربه وأدبياته، كونه مدخلًا لا بد منه لبناء سورية وتنميتها.
لا شك أن الدمار الواسع والتحول الاقتصادي الناتج عن الحروب، يعد فرصة لا بديل لها من أجل القيام بالمراجعات الفكرية والسياسية اللازمة لمقاربات التنمية واستراتيجيات النمو وما يرافقهما من سياسات، بشرط أن يأتي ذلك في سياق يلبي الحاجات الملحة ويراعي القيود الواقعية التي لا مناص من مراعاتها في رسم خطوط المستقبل. فسورية الخارجة من الحرب أو تكاد، تواجه أربعة تحديات متزامنة، يمكن التعبير عنها بالأسئلة الآتية: أي مقاربة للتنمية في مرحلة ما بعد الحرب؟ وما هي سياسات إعادة الإعمار؟ وكيف تمول برامجه وعملياته؟ وما دور الدولة في كل ذلك؟
يسلط الكاتب كثيرًا من الضوء على مسألتي الإدارة الحكومية ونموذج التنمية في مناقشته لمستقبل سورية الاقتصادي، فأيد إعادة تأسيس القطاع العام وفق مبادئ الجدارة والاستحقاق والاستقلال، للقيام بدوره في رعاية تجربة التمرين التكنولوجي والتعلم، وفي تنفيذ سياسات كينزية قائمة على تعزيز الطلب الاستثماري وتمكين المنتجين. كما حلل على نحو مسهب المدارس الجديدة في التنمية مستخلصًا الدروس الناجحة للبلدان الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي والذي تحذو حذوه بعض بلدان غرب آسيا في الوقت الراهن، وتُنصح سورية بالنسج على منوالها.
ويمكن الانطلاق من مضمون الكتاب في التفكير بالمسألتين الأخريين غير المشمولتين بالتحليل فيه؛ أي مسألتي التمويل وإعادة الإعمار، واللتين تمثلان امتدادًا طبيعيًا للرؤية التنموية والاقتصادية للدولة ودورها.
تظهر الدراسات والتجارب أن الحروب الأهلية تتسبب في انهيار واسع في سلطة الدولة وخصوصًا عندما تتعرض أراضيها للتجزئة، وهذا على مساوئه، يؤمن فرصة لإعادة بناء الاقتصاد برمته على قواعد جديدة، وعدم الاكتفاء بتعويض الخسائر المادية والاقتصادية الناتجة عن الدمار الواسع. لكن السلطة الاقتصادية المركزية في الحالة السورية، حافظت على قدر مقبول من التماسك والحضور، بل كان نطاق انتشارها أثناء الحرب أوسع من دائرة نفوذ السلطة السياسية والأمنية للدولة. وهذا ما يفسر صمود النموذج الاقتصادي الذي كان سائدًا في سوريا قبل الحرب، بمزاياه وعيوبه، مع إن ذلك قد يعقد مهمة إطلاق التنمية وفق تصورات جديدة.
وعلى ما يبدو، لم تحدث الحرب تحولًا عميقًا في الاقتصاد السياسي للدولة التي تستأنف المسار الذي بدأته قبلها4. ويردد باحثون غربيون بأن إعادة الإعمار التي تقودها الحكومة السورية تهدف إلى إعادة إنتاج النظام السياسي نفسه الذي كان سائدًا قبل الحرب، على أن  "يخدم مصالح القوى الحليفة والمجموعات الداخلية التي وقفت إلى جانب النظام"5. لكن الآخرين يسعون إلى الأمر نفسه في اتجاه معاكس، أي أنهم يخططون لأن تكون عمليات الإعمار تمويلًا وإدارةً المدخل إلى تغيير النظام أو تبديل اتجاهه، أو مصدر ضغط عليه وعلى حلفائه لتغيير سياساتهم على الأقل.
وعلى العموم لم تكن سياسات إعادة الإعمار وأدبياته إلا جزءًا من مسار يرتبط بالمصالح السياسية للدول وتصوراتها الاقتصادية. فأطروحة السلام الليبرالي على سبيل المثال والتي نفض الغبار عنها في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، عبّرت عن النزعة التدخلية في النظام الدولي القائم على الهيمنة، وهي أيضًا صدى للطروحات النيوليبرالية المدججة بأسلحة إجماع واشنطن وتوصيات المؤسسات الدولية ذات الصلة. والأمر نفسه ينطبق على ما يُعرف برأسمالية المقاولين الموكل إليهم تنفيذ برامج إعادة الإعمار تحت إشراف الجيوش (الأميركية)، وبما يكفل تحقيق الأهداف التي شنت من أجلها الحرب. وهذا يقتضي القبول برأسمالية الفوضى (Messy Capitalism) التي تنطوي على أقصى تحرر من القيود والضوابط، لكنها تُقيم من طرف خفي علاقة بين تقدم الإعمار وإتاحة التمويل من جهة وتحقيق أهداف الحرب من جهة ثانية. وفي كلتي المقاربتين (السلام الليبرالي ورأسمالية المقاولين) يكون التمويل خارجيًّا، وتُرفض خطط الإعمار المعدّة مسبقًا، وتُدان "عقلية التخطيط المركزي المهيمنة في أسواق التنمية الدولية"6. أما أفضل النتائج فيحققها القطاع الخاص بعد إطلاق يده بعيدًا عن سلطة الدولة وعين الرقابة. أي أنّ المطلوب من الجيوش التي تمارس الغزو والاحتلال أن ترعى تدخلًا اقتصاديًا يُنفذه رواد الأعمال، من دون برامج ثقيلة الوطأة يتولاها القطاع العام أو القطاع الخاص
قدم داغر في كتابه مقاربة نظرية شيقة ومتمرسة في مسألتي التنمية وإدارة التنمية، وهو مدخل لا غنى عنه لاختيار نموذج إعادة الإعمار الذي نطمح أن يكون على النقيض من أطروحات السلام الليبرالي وما يعادلها. لقد فشلت هذه الطروحات في إعمار ما هدمته الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، فيما نجح النموذج التضامني الذي طبقته المقاومة بعد حرب 2006 في تحقيق أفضل النتائج، وهو الذي بني على أساس فهم السكان لمصالحهم، لا بناء على إرادة الواهب أو رغبات الممول، ودون أدنى شراكة من المؤسسات الدولية في مراحل التخطيط والتصميم والتنفيذ كافة.
إن إعادة الإعمار في سورية هي مسألة متعددة الأوجه فكريًا وسياسيًا وتقنيًا. لا يكفي أن نختار بين اتجاهات التنمية وتياراتها، أو نرسم دور الدولة ووظائفها وسبل إصلاح أجهزتها، أو نحدد طرق التنفيذ والبرمجة والتمويل. بل علينا أن نمتلك أيضًا وربما قبل ذلك كله، إجاباتنا عن الأسئلة المحورية: هل ينبغي مراجعة النموذج الاقتصادي لسورية جوهريًا؟ وهل هذا ممكن أصلًا؟ وكيف يمكن دمج القطاع الخاص في مقاربة تقودها الدولة للإعمار والتنمية والنمو والتصنيع المتأخر؟ وما حدود دوره؟ وما هي خيارات التمويل ونماذج وبدائله؟ وما هي الصلة بين الجوانب المادية والبشرية والاجتماعية لإعادة الإعمار؟
بالخلاصة، يستمر د. البير داغر في كتابه هذا في المسار الذي بدأه منذ أكثر من عقدين في محاولته بناء مرجعية نظرية متعددة المصادر لنقد سياسات التنمية واقتراح البدائل، مستعينًا بثلاثة روافد اقتصادية وسياسية وإدارية، والتي يمتد مجراها من النظرية إلى التجربة. وهو على أي حال لا يلتمس طريقًا واحدًا في تحليله، بل يغذي مجراه بروافد فكرية متنوعة، ممزوجة بقراءة متفحصة للتجارب. وقد أحسن الكاتب قبل أي شيء آخر اختيار عنوان كتابه، دون مبالغة أو تزيّد، ليكون "منطلقًا نظريًا" إلى قضية الكتاب الرئيسية التي هي: "بناء مستقبل سورية الاقتصادي".
وإلى كتاب آخر..


  1د. البير داغر؛ منطلقات نظرية لبناء سورية الاقتصادي؛ دمشق: تجمع سورية الأم؛ الطبعة الأولى، 2018.


  2انظر مثلًا:
Paul M. Romer; The Origins of endogenous Growth; Journal of Economic Perspectives; Vol.8; number 1; Winter 1994; PP:3-22.

أنظر3:
- Milton, Friedman (1992). Capitalism and Freedom University of Chicago Press
-J.A. Hayek (2005).The Road to Serfdom. Taylor &. Francis Group                                   
                     


 "NDP 4سارعت الحكومة في نهاية عام 2017 إلى إطلاق تحضيرات "برنامج التنمية لما بعد الحرب السورية

والذي سيشارك فيه حوالي 200 خبير ومشارك موزعين على 12 مجموعة عمل منفصلة. لكن الحكومة لم تنتظر إنجاز هذا البرنامج للبدء بإقرار المبادرات والتشريعات والخطوات اللازمة للإعمار.


  5أنظر مثلًا:
Steven Heydemann; Reconstruction Authoritarianism; The politics and Political Economy of Post War Reconstruction in Syria; Project on Middle East Political Science; Carnegie Middle East Center;  
pomeps.org/2018/09/10/reconstructing-authoritarianism-the-politics-and-political-economy-of-post-conflict-reconstruction-in-syria


  للمزيد راجع:6
عبد الحليم فضل الله؛ الحرب وإعادة الإعمار في العالم العربي: مقدمات نظرية وتحليلية في مسائل الدولة والتنمية؛ بيروت: المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق-سلسلة دراسات وتقارير؛ ص:22-26.

 مقالات | هل يكون الذكاء الاصطناعي آخر ابتكارات البشر/ احمد فاعور - آذار 2019

مقالات | هل يكون الذكاء الاصطناعي آخر ابتكارات البشر/ احمد فاعور - آذار 2019

إصدار 2019-03-15

مقدمة في العام افترض العالم والباحث إن الآلات سوف تمتلك في المستقبل من الذكاء الكافي بشكل سوف تجعل نفسها أكثر ذكاءا وعندها سوف تجد المزيد من الفرص للتطور والتحسن وبالتالي تجعل الذكاء البشري وراء ظهورها لمسافات بعيدة وهذا ما أطلق عليه العلماء اسم انفجار الذكاء وبالفعل لم يحدث يوما أن شهدت البشرية مرحلة أكثر تطورا في مجال الذكاء الاصطناعي مثلما تشهده الآن فلا يكاد يمر يوم دون أن يحدث تطور جديد في هذا المجال وخلال العقدين الأخرين كثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته كعلم قد يصنع مصيرا جديدا للبشر ولكن هل سيغير الذكاء الاصطناعي حياتنا نحو الأفضل أم نحو الأسوأ هل سيجعل حياتنا أكثر سهولة أم سيزيدها تعقيدا وما هو مستقبل البشرية في ضوء هذه الثورة الصناعية الرابعة وهل سيكون الذكاء الاصطناعي الابتكار الأخير الذي سوف يقضي على البشرية هذا ما سنحاول الإجابة عنه في السطور القادمة يعرف الذكاء الاصطناعي بأنه سلوك وخصائص معينة تتميز بها البرامج الحاسوبية تجعلها تحاكي قدرات البشر الذهنية وأنماط عملها مثل القدرة على التعلم والاستنتاج والتأقلم مع أوضاع مستجدة وقد بدأ هذا العلم يشق طريقه في العديد من التطبيقات كالتشخيص الطبي ومعالجة اللغات الطبيعية وترجمتها وتمييز وتحليل الصور والتحكم الآلي وغيرها الكثير أنواع الذكاء الاصطناعي على الرغم من وجود أشكال متنوعة من الذكاء الاصطناعي باعتباره مفهوما واسعا إلا أننا يمكن أن نقسمه إلى ثلاث فئات الذكاء الاصطناعي الضعيف وهو الذي يركز على مهمة واحدة ويفتقد للوعي الذاتي والقدرة على التأقلم والتعلم الذاتي أو الذكاء الحقيقي الذكاء الاصطناعي القوي وهو الذي يحاول أن يحاكي دماغ الإنسان وسيكون هذا النوع قادرا على أداء معظم المهام التي يقوم بها الإنسان مثل السيارات الذاتية القيادة التي تتطور أنظمتها الآلية بحيث ننتج سائقين آليين يستطيعون التحكم والإستجابة بطريقة ذكية تشبه استجابات الإنسان للمؤثرات المختلفة على الطريق وبالتالي يصبح السائق الآلي قادرا على اتخاذ قرارات حاسمة أثناء القيادة الذكاء الاصطناعي الخارق وهو الذكاء الاصطناعي الذي يفوق العقول البشرية في كل المجالات تقريبا بما في ذلك الإبداع العلمي والمهارات الإجتماعية ويشكك بعض العلماء في إمكانية الوصول إلى الذكاء الاصطناعي القوي بينما يرى آخرون إمكانية تحققه ولكن ينبهون إلى ضرورة الاستعداد له منذ الآن ومواءمة أهدافه مع الأهداف الخيرة للبشرية وهم يعتبرون إن حضارتنا سوف تزدهر إذا فزنا في السباق بين القوة المتنامية للتكنولوجيا والحكمة التي ندير بها هذه التكنولوجيا لذلك فإن أفضل طريقة للفوز بهذا السباق لا تتمثل بعرقلة التقدم التكنولوجي بل تسريع مواءمة أهداف التقدم مع أهدافنا من خلال دعم أبحاث سلامة الذكاء الاصطناعي وقد أولت دول العالم وخاصة المتقدمة عناية خاصة بهذا الموضوع وأعدت له خطط مستقبلية ورصدت له موازنات ضخمة واستقطبت الباحثين من شتى أنحاء العالم فقد خصصت الصين التي تتنافس مع الولايات المتحدة على المركز الأول مبلغ مليار دولار على مدى خمس سنوات كذلك رصدت فرنسا مبلغ مليار يورو لصالح مشاريع الأبحاث في الذكاء الاصطناعي وأيضا العديد من الدول بدأت الإستعداد لهذه المرحلة القادمة من التطور في هذا المجال مع هذا التطور المتسارع ثمة سؤال بدأ يطرح حاليا حول مستقبل البشر وما هي انعكاسات هذا التطور التكنولوجي الهائل على مختلف جوانب حياته وفي معرض الاجابة عن هذا التساؤل اختلف الباحثون في التقدير ففي الوقت الذي يصف فيه أيلون ماسك الميلياردير الكبير والمدير التنفيذي لشركتي للأدوات الكهربائية و المتخصصة بتكنولوجيا الفضاء الذكاء الاصطناعي بأنه أكبر تهديد للحضارة الإنسانية يفوق حوادث السير والمخدرات ويتعلق الأمر بالتحديد في أن الآلة بالمفهوم الواسع للكلمة ستسيطر شيئا فشيئا على ما نقرأه ونتعلمه وعلى توجيه خياراتنا نحو ما تجب قراءته أو تعلمه أو اكتسابه وبالنسبة ل ماسك فإن الشركات العاملة في قطاع الأنترنت والذكاء الاصطناعي تتقدم بسرعة كبيرة دون أن تأخذ الوقت الكافي لقياس المخاطر التي يمكن أن تحتلها هذه الصناعات يوما ما على البشرية فالسيارات الذاتية القيادة ستصبح هي الغالبة خلال السنوات العشر القادمة وسينظر إلى مالكي السيارات الحالية كمالكي الأحصنة اليوم كذلك في قطاع الأعمال سيصبح من الممكن الإستعاضة عن البشر في أغلب الوظائف بينما وعلى العكس من ذلك أبدى زوكربيرغ مؤسس ورئيس فيسبوك تفاؤلا كبيرا حول هذا الموضوع فهو يعتبر أن الذكاء الاصطناعي سوف يطور من قدرة التحكم عند الإنسان وسوف يخلق له فرص عمل جديدة أكبر بأضعاف من تلك المهددة بالانقراض وسوف يحسن كثيرا من جودة الأعمال ودقتها فماهي التوقعات حول مستقبل البشرية في ضوء تطور الذكاء الاصطناعي التوقعات المستقبلية كما أشرنا سابقا انقسم الباحثون في علم الذكاء الاصطناعي في تقييمهم للتوقعات المستقبلية إلى فريقين واحد متفائل والآخر متشائم ففي حين يرى المتفائلون أن الذكاء الاصطناعي قد يساعد في التصدي للكوارث وحوادث المرور وأنه سيحسن حياة البشر في كافة مناحي الحياة من خلال منح البشر قدرات حسية خارقة مثل السمع والبصر والمشي لأصحاب الحاجات الخاصة فالإنسان غير القادر على المشي أو الذي لا يرى أو لا يستطيع السمع جيدا سوف تمنحه القدرات الاستثنائية لنظم الذكاء الاصطناعي إمكانيات تجاوز مثل هذه العوائق كما يتوقع أن يكون الطب التشخيصي أحد أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي حيث ستمكننا هذه التكنولوجيا من الحصول على إباحة تسلسل الجنيوم وحفظ التفاصيل الدقيقة للسجلات الطبية والحصول على كميات هائلة من الدراسات السريرية وتحسين طرق العرج وتطوير الأدوية كما يمكن لتطور الذكاء الاصطناعي في مجال معالجة اللغة الطبيعية مساعدة ملايين البشر الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة وبالتالي لا يستطيعون الحصول على المعلومات وذلك من خلال اعطائهم المعلومات المناسبة والإجابة على استفساراتهم المطروحة بلغتهم الطبيعية المحكاة أما التهديد الأبرز الذي يطرح فهو هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وبالتحديد الروبوتات وظائفنا وما هو مستقبل المهن وما هي التغيرات التي يمكن أن تطرأ عليها يعتقد بعض الباحثين أن فكرة الرجل الآلي الخارق التي طرحت في ثمانينات القرن الماضي من خلال أفلام الخيال العلمي والتي تتحدث عن سيطرة وحكم الرجال الآليين عام سوف تأخذ نصيبها من الوجود الفعلي في المستقبل القريب جدا وهي سوف تستحوذ على وظائف مليون عامل في العالم عام وهو ما كشفت عنه دراسة معهد ماكينزي العالمي التي أجريت العام الماضي في دولة وشملت مهنة وقد أوضحت الدراسة أن ثلث القوى العاملة في الدول الغنية مثل الولايات المتحدة وألمانيا قد تحتاج إلى إعادة تدريبها على وظائف أخرى وعلى الرغم من أن غالبية الأميركيين قلقون وبنسبة تفوق بشأن مستقبل المهن في وجود الروبوتات فإن هناك مجموعة من الخبراء ترى أن هذا القلق مبالغ فيه وهم يرون أنه يجب تدريب الموظفين للتأقلم والعمل مع الذكاء الاصطناعي لتقديم خدمات أفضل وزيادة الإنتاجية قضايا أخلاقية وفيما يلي أشير إلى ثمانية قضايا أخلاقية ينبغي التطرق لها عند الحديث عن مستقبل الحياة في ضوء تطور علم الذكاء الاصطناعي البطالة ماذا سيحدث عند أتمتة أغلب الوظائف بما أن الذكاء الاصطناعي قد وفر وسائل تقنية لأتمتة الأعمال والوظائف فهو بالتالي قد وفر مساحة أكبر للناس للقيام بأدوار أكثر تعقيدا والانتقال من العمل الجسدي الذي سيطر على عالم ما قبل الصناعة إلى العمل المعرفي الذي يميز العمل الاستراتيجي والعمل الإداري في مجتمعنا المعولم على سبيل المثال يعمل ملايين العمال اليوم في الولايات المتحدة بمهنة النقل بواسطة الشاحنات ما هو مصير هؤلاء العمال إذا اصبحت الشاحنات ذاتية القيادة ومن جهة أخرى إذا نظرنا إلى انخفاض خطر وقوع الحوادث بسبب المركبات الذاتية القيادة فإن الشاحنات ذاتية القيادة تصبح خيارا أخلاقيا أيضا إذا كانت الآلة ستحل محل الإنسان في أغلب وظائفه يصبح السؤال المطروح كيف سنقضي أوقاتنا والجواب على هذا السؤال يكون في استثمار هذا الوقت في الأنشطة الغير عمالية مثل رعاية الأسرة والإنخراط في المجتمع والمساهمة في رفع مستوى هذا المجتمع وعندها يصبح من غير المقبول أن يطلب من البشر صرف معظم وقتهم في العمل الجسدي من أجل تحصيل لقمة العيش فجوة عدم المساواة كيف ستتوزع المداخيل الناتجة عن عمل الآلات بشكل شبه مستقل يعتمد نظامنا الاقتصادي على موضوع التعويض مقابل المساهمة والذي غالبا يتم تقييمه بالأجر بالساعة ولا تزال غالبية الشركات تعتمد على العمل المأجور بالساعة عندما يتعلق الأمر بالمنتجات والخدمات ولكن مع استخدام الذكاء الاصطناعي سوف يقل بشكل كبير الاعتماد على القوى العاملة البشرية وبالتالي ستذهب العائدات إلى عدد أقل من الناس بحيث يحصل الأفراد الذي يتملكون حصصا في هذه الشركات على كل هذه الأموال وهذه الفجوة ستأخذ في الاتساع حيث يأخذ أصحاب الشركات والمؤسسون جزءا كبيرا من الفائض الاقتصادي الذي يخلقونه وهنا يطرح السؤال الكبير كيف سنهيكل اقتصادا عادلا في مرحلة ما بعد العمل التأثيرات والتفاعلات الإنسانية كيف ستؤثر الآلات على سلوكنا وتفاعلنا أصبحت البوتات الذكية الصناعية أفضل وأفضل في نمذجة الحوار والعلاقات الإنسانية ففي عام فاز بوت يحمل اسم في مسابقة للمرة الأولى فقد استطاع البوت إيهام أكثر من نصف المتابعين البشر بأنهم كانوا يدردشون مع إنسان وليس بوتا صناعيا هذا الإنجاز هو مجرد بداية عصر ستقوم فيه بالتفاعل بشكل متكرر مع الآلات كما لو أنهم بشر عاديون سواء في خدمة الزبائن أو في المبيعات الغباء الاصطناعي كيف نحترس من الأخطاء يأتي الذكاء عادة من التعلم سواء للإنسان أو الآلة بالنسبة للآلة يكون هناك مرحلة من التدريب والتعليم للنظام من خلال الأمثلة قبل أن يدخل مرحلة الإختبار من خلال أمثلة جديدة لم يتم التعرف عليها مسبقا ومن الواضح أن مرحلة التدريب والتعليم لا يمكن أن تغطي جميع الأمثلة الممكنة وهو ما قد يوقع النظام الآلي بأخطاء يمكن للبشر أن يتفادوها وهنا تطرح مسألة الثقة بالانظمة الذاتية خاصة في الموضوعات شديدة الحساسية كالصحة والتسلح وما إلى ذلك الروبوتات العنصرية كيف يمكننا إزالة التحيز الذي يمكن أن ينتج عن الذكاء الاصطناعي للآلات على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي للآلات يؤمن سرعة وقدرة معالجة تتجاوز بكثير قدرة البشر إلا أنه لا يمكن الوثوق بإنصافها وعدم تحيزها على سبيل المثال تعتبر شركة وشركتها الأم أحد رياديي الشركات في استخدام الذكاء الاصطناعي كما هو واضح في خدمة حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الأشخاص والكائنات والمشاهد وهنا قد يحدث نوع من الأخطاء أو التحيز ضد السود مثلا في موضوع التنبؤ بالمجرمين الأمن كلما أصبحت التكنولوجيا أكثر قوة كلما أمكن استخدامها أكثر لغايات جيدة أو ضارة وهذا لا ينطبق فقط على الروبوتات المنتجة مكان الجنود البشر أو الأسلحة ذاتية الاستخدام بل أيضا على أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تحدث أضرارا أذا تم استخدامها بشكل مؤذي وهنا يصبح موضوع الأمن السيبراني أكثر أهمية ففي النهاية نحن نتعامل مع نظام أسرع وأكثر قدرة من البشر بأضعاف كثيرة العواقب غير المقصودة ماذا لو تحول علم الذكاء الاصطناعي نفسه ضدنا عندما تتحدث عن آلة فلا معنى لنية الشر بداخلها أو لنية الخير وإنما المقصود هو احتمال عدم فهم السياق الكامل المطلوب من الآلة على سبيل المثال تخيل نظام ذكاء اصطناعي متقدم لعلاج السرطان والقضاء عليه بعد الكثير من البرمجة والاتمتة يمكن أن يبتكر صيغة تؤدي في الواقع إلى نهاية السرطان ولكن عبر قتل كل شخص على وجه الأرض فنظام الذكاء الاصطناعي قد حقق هدفه لا سرطان بكفاءة عالية ولكن بغير ما قصده البشر التفرد والتميز كيف نبقي سيطرتنا على نظام ذكي معقد يعتبر البشر سادة الموجودات وعلى رأس قمة السلسلة الوجودية وذلك ليس بسبب عضلات قوية يمتلكونها أو أسنان حادة لديهم وإنما بسبب ذكائهم وبراعتهم وإبداعهم وهنا يطرح سؤال خطير حول مستقبل الإنسان نفسه في ضوء تفوق الذكاء الاصطناعي هل سيكون له ميزة وتفوق علينا يوما ما وعندها لا يكفي فقط سحب القابس الكهربائي منه لإنه سوف يستبق هذا التحرك ويدافع عن نفسه خاتمة الذكاء البشري هو لحد اليوم اقوى وأهم ذكاء بيولوجي معروف ولكن موقعنا في التاريخ ربما لا يكون إننا اذكى المخلوقات الموجودة بل كوننا أول المخلوقات الذكية الموجودة على سطح هذا الكوكب إن مستقبل الذكاء الاصطناعي هو بالتأكيد أفضل بكثير من ماضيه وربما ينتهي الدور بالذكاء الاصطناعي بلعب دور حاسم ومصيري في الحضارات المستقبلية وعلى نطاق أوسع بكثير من كوكبنا هذا على غرار ما لعبه الذكاء البشري في الحضارات الماضية والحاضرة والذي سوف يلعبه مستقبلا وللاسباب عينها فان الموجودات الاصطناعية الذكية القابلة للتطوير والتأقلم الذاتي يمكن ان يكون لها أيضا وبشكل متساوي الأثر المهم في الحضارات المستقبلية ما هو المهم والأساسي ليس هو شكل هذا التطور وحجمه بل القيم التي سوف ترتكز عليها هذه الحضارات أستاذ جامعي وباحث أكاديمي

 مقالات | آسيا الأهم في المشهد الدولي/ زياد حافظ - آذار 2019

مقالات | آسيا الأهم في المشهد الدولي/ زياد حافظ - آذار 2019

إصدار 2019-03-14

معظم النخب العربية الحاكمة ما زالت متأثرة بنظرية ملكية الولايات المتحدة لتسعة وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة والقيادات الخليجية ما زالت تعتقد أن أمنها يمر عبر الولايات المتحدة وأن بوابة استرضاء الولايات المتحدة هي استرضاء الكيان الصهيوني من جهة أخرى أطلقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في عهد الرئيس كلنتون مادلين أولبرايت أن الولايات المتحدة هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها لسنا متأكدين أن الولايات المتحدة تملك تسعة وتسعين بالمائة من الأوراق وإن امتلكت شيئا فهي احتلال العقل السياسي للنظام الرسمي العربي هذا إذا كان هناك من عقل فقط لا غير والذي لم يعد يمثل الشعوب العربية بكافة أطيافها كما لا نعتقد أن الولايات المتحدة هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها كما زعمت مادلين أولبرايت فالأحداث منذ بداية الألفية الثالثة وربما قبل ذلك بعقدين تشير إلى خط بياني واضح في حالة تراجع بل إلى أفول الولايات المتحدة ودورها في العالم مجموعة البريكس ومنظمة شانغهاي من الدلائل التي تؤكد على وجود قوى صاعدة تواكب تراجع الولايات المتحدة لذلك إن ما يحصل على الصعيد الإعلامي في آسيا هو الأهم والأساس وما يحصل في الغرب وفي الولايات المتحدة هو التابع وليس أكثر ولقد أشرنا في أماكن عديدة وفي عدة مناسبات أن مقومات التفوق الأميركي والغربي لم تعد قائمة وأن هناك من ينافسها في كافة المجالات التي كانت تعتقد الولايات المتحدة احتكارا لها بدءا من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية إلى الريادة في التكنولوجيا إلى آخر مظاهر القوة الناعمة إضافة إلى رداءة القيادات الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص من هنا نعتقد أن اهتمامات النخب العربية يجب أن تكون منصبة على آسيا وخاصة الكتلة الاوراسية بشكل رئيسي وعلى دول الجنوب العام من إفريقيا إلى أميركا اللاتينية فما يحدث هناك يؤثر بشكل مباشر في الوطن العربي وتأكيدا لما نقوله تصدرت آسيا المشهد الدولي خلال الأيام القليلة الماضية فقمة هانوي التي جمعت رئيس كوريا الشمالية بالرئيس الأميركي تلازم مع أزمة عسكرية خطيرة بين باكستان والهند سرعان ما تراجعت وتيرتها وإن لم تنته أسباب المواجهة كما تلازم مع قمة لوزراء الخارجية لكل من الصين وروسيا والهند في إحدى المدن الصينية ويمكن الإضافة إلى كل ذلك التوتر ا لمستمر في بحر الصين بين الولايات المتحدة والصين وإخفاقات الولايات المتحدة في أفغانستان غير أن الإعلام الغربي لم يذكر الاجتماع بين وزراء الخارجية الثلاثة بل اكتفى بنقل وقائع وتحليلات عائدة للقمة الفاشلة في هانوي وتداعيات المواجهة العسكرية بين باكستان والهند فالاجتماع الثلاثي له دلالاته من حيث يكرس دور الكتلة الاوراسية في المشهد الدولي وتأثيره بطبيعة الحال على مسار الأمور وأخيرا وليس آخرا كان اللقاء اللافت للنظر بين مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران والرئيس السوري بشار الأسد فكيف يمكننا قراءة تلك الأحداث وربطها أولى القراءات هي أن لكل من تلك الأحداث ظروفها الخاصة فالتوتر الباكستاني الهندي مزمن ويعود إلى نشأة الدولة الباكستانية سنة ورسم الحدود بين البلدين على يد المستعمر البريطاني وإرثه الثقيل في النزاع حول مقاطعة كاشمير هذا صحيح ولكن ذلك التوتر يأخذ بعدا مختلفا بعد تشكيل الكتلة الاوراسية والطريق الواحد والحزام الواحد التي تتبناه كل من الصين وروسيا النزاع حول كاشمير ليس محور مداخلتنا إلا من زاوية الأثر على الكتلة الاوراسية والحزام الواحدالطريق الواحد كاشمير تفصل بين الهند وباكستان والصين اقتسام كاشمير بين الدول الثلاثة يأخذ بعده الجيوسياسي مع محاولات الولايات المتحدة لإضعاف الكتلة الاوراسية أو لجعل اختراق يهدد نموها تاريخيا كانت باكستان حليفة الولايات المتحدة بينما الهند كانت متصدرة مجموعة دول عدم الانحياز وعلى علاقة جيدة بالاتحاد السوفياتي مع صعود اليمين الهندوسي إلى السلطة مع حزب جانتا وتراجع دور حزب المؤتمر المؤسس التاريخي لدولة الهند بعد الاستقلال تنامت العلاقة بين الهند والولايات المتحدة ومؤخرا مع الكيان الصهيوني بالمقابل كانت علاقات باكستان والصين جيدة وذلك لإيجاد توازن جيوسياسي مع الهند من وجهة نظر باكستان خاصة بعد الحروب الصينية الهندية في ستينات القرن الماضي وهن يكمن دور باكستان المفصلي علاقة طويلة مع الولايات المتحدة وعلاقة حسن الجوار مع الصين احتمال سيطرة الهند على كل مقاطعة كاشمير يهدد مصالح الصين وخاصة مشروع الممر الصيني الباكستاني الذي يشكل حجر زاوية في مبادرة الحزام الواحدالطريق الواحد والصين على وشك إيصال أوتوستراد يوصل الصين بباكستان من هنا نفهم الاهتمام الكبير للدبلوماسية الصينية في الأزمة الباكستانية الهندية بالمقابل دور روسيا قد يكون أكبر مع الهند نظرا لعلاقات تاريخية ونظرا لفعالية سلاحها الجوي فالتوتر الأخير على الحدود الذي شهد اشتباكا جويا بين الطائرات الهندية الروسية الصنع ميغ والطائرات الباكستانية الأميركية الصنع أف أسفر على تفوق الطائرة الروسية على الطائرة الأميركية وهذا قد يعزز الإمكانية التنافسية للسلاح الجوي الروسي في أسواق جديدة في آسيا بدءا بالهند عبر تسويق طائرتها ميغ وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما كشف عنه الرئيس الروسي في العام الماضي في شهر آذارمارس عن النوعية المتفوقة للسلاح الروسي نفهم أبعاد نتائج المواجهة الجوية الهندية الباكستانية لكن بغض النظر عن الأبعاد التجارية في سباق التسلح هناك أبعاد جيوسياسية للأزمة حول الكاشمير فبالنسبة لباكستان فإن تمسكها بكاشمير لا يعود للبعد الديني ولا للبعد التاريخي حول تجاهل الهند نتائج الاستفتاء حول مستقبل كاشمير الذي أفضى إلى الرغبة في الالتحاق بباكستان فهناك الاعتبار الجغرافي حيث كاشمير هي الممر بين الصين وباكستان وبما أن تلك الدولتين تاريخيا على توافق وبما أن مشروع الحزام الواحدالطريق الواحد يشمل باكستان فإن كاشمير تأخذ بعدا جيوسياسيا دوليا وهناك بعض المواقع الإلكترونية تشير إلى دور صهيوني في الهند في التوتر مع باكستان بالمقابل رغبة عمران خان في تخفيض التوتر مع الهند يعكس أيضا رغبة صينية في ضبط الأمور ولعدم السماح للأميركيين للتسلل عبر عرض وساطة بين الأطراف المتنازعة الحدث الثاني الذي خطف الأنظار ولو لفترة وجيزة هو فشل اللقاء بين رئيس الولايات المتحدة الأميركية ورئيس كوريا الشمالية في هانوي للمكان دلالاته حيث هانوي عاصمة الفيتنام التي هزمت الولايات المتحدة والتي أصبحت اليوم معقلا للشركات المتعددة الجنسية الكبرى وهانوي على تخاصم تاريخي مع الصين خلال الحرب ضد الولايات المتحدة وبعدها وخاصة في ضرب الظاهرة الكمبودية الثورية فعقد اللقاء في هانوي كان بمثابة رسالة إلى الصين هذا من جهة من جهة أخرى تفيد الأنباء عن محاولة الرئيس الأميركي استجداء الصين في المفاوضات مع كوريا الشمالية غير أنها لم تثمر وذلك لأسباب واضحة فمن جهة يفرض الرئيس الأميركي العقوبات على الصين ومن جهة أخرى يستجديها فكيف يستقيم ذلك من الواضح أن من يتحمل مسؤولية فشل المفاوضات هو مستشار الرئيس الأميركي جون بولتون وفقا لعدة مصادر فالمعروف عنه أنه لا يؤمن بالاتفاقيات الدولية والمعاهدات التي تكبل الولايات المتحدة وذلك من حيث المبدأ لكن في الحقيقة إن أي تفاهم مع كوريا الشمالية سيسرع بالتقارب بين الكوريتين وبالتالي يتحول موضوع تفكيك المنظومة النووية في شبه الجزيرة الكورية إلى ضرورة خروج القوات الأميركية من كوريا الجنوبية الجدير بالذكر أن اليابانيين وخاصة سكان منطقة اوكيناوا حيت تتواجد أكبر قاعدة أميركية في اليابان صوتوا بكثافة وأكثرية وازنة في استفتاء خاص حول ضرورة خروج القوات الأميركية من اليابان الضغوط الأميركية على حكومة آبي جعلت الأخير يتجاهل التصويت الشعبي فهذا مؤشر عما يمكن أن يحدث في كوريا الجنوبية وبالتالي تعطيل أي اتفاق مع كوريا الشمالية يفي بالغرض من الواضح أيضا أن الرئيس الأميركي لم يقفل الباب نهائيا على إمكانية التوصل إلى اتفاق نعتقد إن الاعتبارات الانتخابية لها دور في توقيت إنجاح المفاوضات فما زالت الولايات المتحدة على مسافة من الانتخابات الرئاسية في خريف لذلك هناك احتمال الوصول إلى اتفاق ما في ربيع يستثمر في الحملة الانتخابية الجدير بالذكر أن جورج بوش الأب لم يستطع توظيف نتائج الحرب الخليج الأولى عام في حملته الانتخابية وكذلك الأمر بالنسبة لمؤتمر مدريد توقيت النجاحات على صعيد السياسة الخارجية مع مقتضيات الحملة الانتخابية مهم جدا الحدث الثالث هو انعقاد اجتماع وزراء الخارجية لكل من الصين وروسيا والهند في مدينة يوكنغ في الصين وهذا الاجتماع تجاهلته كليا وسائل الإعلام الغربية وبالتالي لم تعرف أهميته تناول اللقاء مسألة فنزويلا والتدخل الأميركي في ذلك البلد كما تناول مسألة الأزمة الحدودية بين الباكستان والهند التعقل عند كل من الصين وروسيا ربما لعب دورا كبيرا في تهدئة الأوضاع فكانت مبادرة عمران خان بإفراج الطيار الهندي التي أسقطته وسائل الدفاع الجوية الباكستانية ويشير أحد أهم المراقبين الآسيويين السفير الهندي السابق مك بهدراكومار على موقعه الإلكتروني أن كل من وزراء الخارجية الصيني والروسي بذلا مجهودا لدى حكومتي إسلام آباد ونيو دلهي لتخفيف حدة التوتر وأنهما سيستمران في مراقبة الوضع وآخر المعلومات تفيد أن الولايات المتحدة عرضت خدماتها للوساطة بين كل من باكستان والهند وذلك للحفاظ على دور ما في المعادلات الآسيوية بعد الإخفاقات في كل من أفغانستان وسورية واليمن كذلك الأمر بالنسبة لبلاد الحرمين التي عرضت وساطتها بين البلدين لتكريس ما تعتقده حصلت عليه من ود و نفوذ بعد جولة ولي العهد إلى تلك الدول فالمبادرة الأميركية مع بلاد الحرمين قد تقلق المحور الصيني الروسي في المدى القريب لكن مصالح كل من باكستان والهند هي مع دول الجوار أي دول منظمة شانغهاي في هذا السياق أكد وزير خارجية روسيا نظيره الباكستاني أن منظمة شانغهاي الأمنية قد تكون الإطار المناسب لمكافحة الإرهاب الذي سبب مؤخرا التوتر على الحدود الباكستانية الهندية ما يدعم المبادرة الروسية الصينية مصداقية رغبتهما في تخفيض التوتر وعدم وجود أجندات مخفية تجاه كل من الهند والباكستان خلافا لما يمكن توقعه من المبادرة الأميركية والعربية وحتى الأمم المتحدة غير أنه من الواضح أن حكومة الرياض تسعى أيضا من جهتها عن بدائل عن الغرب بعد تبيان انكشاف الضعف الأميركي فالمستقبل هو في آسيا وليس في أوروبا أو الولايات المتحدة أما اللقاء الهام بين مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران والرئيس السوري بشار الأسد فكان بمثابة صدمة للمراقبين الغربيين لم يفرحوا كثيرا عند نبأ استقالة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف لأن رفض الاستقالة السريع كان بمثابة صفعة للشامتين لكن بالنسبة لاجتماع يوكنغ فإن إيران تشكل موقعا استراتيجيا في منظومة شنغهاي بشكل خاص والكتلة الاوراسية بشكل عام وبالتالي التنسيق بين كل من الجمهورية الإسلامية في إيران والصين وروسيا سيستمر في سياق تكامل سياسي واقتصادية وأمني لن يستطيع الغرب منعه هذا يعني أن إيران ومعها محور المقاومة جزء من تلك الجغرافية السياسية والاقتصادية والأمنية ما يجعل خصوم أي طرف من محور المقاومة على تناقض مباشر مع منظومة الكتلة الاوراسية ويستكمل الحديث في مداخلات لاحقة كاتب وباحث اقتصادي وسياسي وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي

 أوراق بحثية: حركة النهضة، تونس/ آمنة رزق - كانون الثاني 2019

أوراق بحثية: حركة النهضة، تونس/ آمنة رزق - كانون الثاني 2019

 حركة النهضة من أهم وأقدم الحركات الإسلامية في تونس، تنظيمًا وعددًا، ومن أهم الحركات التي ارتبط اسمها، خلال السنوات الأخيرة، بإشكاليات متعددة، تخص قضايا المجتمع التونسي. تأثرت الحركة في بداية تأسيسها بأفكار الثورة الإسلامية في إيران، كما تأثرت بفكر سيد قطب والإمام حسن البنا والإخوان المسلمين في مصر، ويظهر هذا التأثر بوضوح من خلال الهيكل التنظيمي الذي انتهجته الحركة في مسارها خلال السنوات الأولى، ومن حيث الفكر والأيديولوجية أيضًا.