يعبِّر عنوان المؤتمر عن حاجة جميع الأطراف إلى صياغة أفكار مشتركة تساهم في إرساء نظام إقليمي جديد ينتقل بمنطقة "غرب آسيا والعالم العربي" من وضعية المواجهة والحروب والتنافس المدفوعة أحياناً من الخارج إلى حالة الاستقرار والتعاون والشراكة، وهو ما يسمح بظهور بيئة إقليمية ملائمة للاستقرار الإقليمي والتقدم والنهوض. بيد أنّ بناء توافقات بخصوص النظام الإقليمي للمنطقة لا يخلو من صعوبات وعقبات.
تقوم أطروحة المؤتمر المركزية على أن قيام النظام الإقليمي الجديد واستقراره واستتبابه لا بد أن يكون جزءاً من هرم متكامل، تقع في قاعدته الدولة الوطنية الموحدة، القوية والقادرة والعادلة والضامنة للحقوق الأساسية الفردية والجماعية، وفي قمته النظام الدولي الذي لا بد لمنطقتنا أن تكون شريكة في بنائه حتى تستطيع تحقيق غاياتها البعيدة، وهو ما لا يتحقق إلا بالخروج من الحلقة المفرغة للعبة توازنات القوى الصفرية بين دول المنطقة إلى مقاربة تقوم على الشراكة الواسعة.
وفي هذا الإطار ناقش المؤتمر سُبل قيام دولة وطنية مبنية على أساس المواطنة الجامعة والمشاركة في الداخل والشراكة في الخارج، دولة تُعرّف أمنها القومي من خلال التعاون الإقليمي، وترفض الهيمنة الغربية والاحتلال الإسرائيلي، وتحمي سيادتها وتقر بسيادة الدول الأخرى، وتسعى بالدرجة الأولى إلى تحقيق رفاه شعوبها وكرامتها. فكيف السبيل لتحقيق هذه الدولة المبتغاة والتي تواجه اليوم في العالم العربي ثلاثة تحديات أساسية هي: التبعية، والتهميش، وتشظي الهوية الوطنية إلى هويات فرعية تهدد وحدتها؟ وما هي القوى الوازنة التي بمقدورها أن تهيّىء الأرضية الصلبة لجذب الدول الأخرى إلى مزيد من التقارب والشراكة بعيداً عن الصراعات والتوترات؟ وكيف ينبغي أن يعاد ضبط السياقين المحلي والإقليمي للتكيّف مع تحوّلات النظام الدولي وانتقال ثقِله نحو أوراسيا وأقطاب إقليمية ودولية حول العالم على حساب المنظومة الغربية التي تمر في أسوأ لحظاتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟
وبما أن السؤال هو عن المستقبل المشترك فلا بد من التطرُّق إلى تحدي الاحتلال الإسرائيلي كعقبة مركزية أمام هذا المسار، باعتباره تحدياً للأمن القومي لكل دول المنطقة إلى جانب ما يحتويه من اعتداء على المقدسات الدينية والقيم الإنسانية. لذا يستوجب هذا التحدي الحديث عن القضية الفلسطينية باعتبارها خط المواجهة الأساسي ولا سيما مع الجهود الأميركية التي تبذلها إدارة ترامب لتهويد القدس وتصفية مشروع الدولة الفلسطينية. وعليه لا بد من مقاربات تُزخّم الجهود الإقليمية الداعمة للمقاومة لاحتواء مشاريع التطبيع وإعادة وضع الخطر الإسرائيلي في صلب النقاشات والمداولات والخطاب الإقليمي.
من خلاصة المداخلات والنقاشات والحوارات التي دارت في المؤتمر جرى التوصل إلى جملة من التفاهمات والتوافقات حول القضايا المثارة، وتوضحت مساحات الاختلاف في قضايا أخرى وما هي حدودها وطبيعتها، وتمت الإضاءة على قضايا لطالما انزوت في الزوايا المظلمة وأصبحت جزءاً من النقاش المسؤول والصريح. كل ذلك ساهم في خلق إطار واسع وأرضية فكرية – سياسية متينة بين العرب أنفسهم من جهة، وبين العرب والإيرانيين من جهة ثانية، في سبيل بناء الجسور بين شعوب المنطقة على قواعد واضحة من المصالح المشتركة والمبادىء المتوافق عليها.
أولاً، الدول الوطنية: الاستقلال والشراكة وتماسك الهوية
يرى المؤتمر أن الدولة الوطنية المستقلة، والمستندة قوتها وقدرتها إلى الشرعية الشعبية، هي ركيزة أساسية للاستقرار والتعاون والتفاعل الإقليمي، وشرط لا غنى عنه لقيام علاقات صحيحة ومتوازنة بين بلدان الإقليم ولا سيما بين الدول العربية وجوارها، ومواجهة الأزمات الداخلية والمؤامرات الخارجية. لذلك لا بد للدولة الوطنية المنشودة من أن تستند إلى عقد اجتماعي جديد يتضمن في آن معاً التعددية والحريات والازدهار والرفاه من جهة، ومتطلبات الأمن القومي والتموضع الجيو سياسي الفعال من جهة أخرى، وأن تكون جزءاً من فضاء أوسع.
ومع أن الدولة الوطنية القطرية في تكوينها الحالي لا تخلو من عيوب، ويصعب تجديد ركائزها في الظروف الحاضرة، إلا أنها تبقى- وفق العديد من المشاركين- خط الدفاع الأخير ضد المخاطر الداخلية والخارجية، فهي التي تضمن المواطنة الجامعة، وتمنع الانحدار نحو مزيد من التفتيت العِرقي والمذهبي والهوياتي، وهي المؤهلة إذا ما قامت على أسس صحيحة لتشخيص مصالحها تشخيصاً راشداً والتمييز بين أعدائها وأصدقائها تمييزاً دقيقاً، ونسج روابط عقلانية مبدئية مثمرة وشراكات مفيدة مع غيرها من الدول.
وقد ناقش المشاركون الدور الإيراني في المنطقة، وما إذا كان ينطوي على تدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أم أنه حضور طبيعي ومتوقع في إطار التفاعل الإقليمي التلقائي والتأثير المتبادل، خصوصاً أن هذا الدور - ولا سيما في البلدان التي تتعرض للخطرين الصهيوني والتكفيري - يتم بوسائل شرعية وتحقيقاً لغايات مشروعة. وقد أفضت النقاشات إلى أن ضعف الدولة العربية هو العقبة الرئيسية أمام الارتقاء بالعلاقات العربية - الإيرانية إلى المستويات المطلوبة من التكافؤ والندية، ولا يمكن عزو الضعف المذكور إلى الالتباسات والتحفظات المحيطة بهذه العلاقات. بل إن التدخلات الخارجية والأجنبية وما يصاحبها من شروط والتزامات أوجدت بيئة غير ملائمة لتطوير هذه العلاقات، ومنعت دولًا عربية عدة من الاستفادة من الفرص المتاحة اقتصادياً وتجارياً وثقافياً وعلمياً في علاقاتها مع طهران.
وقد لاحظ المشاركون أن أغلب دول المنطقة قامت في أواسط القرن الماضي لكنها لم تملك استقلالها الحقيقي ولا سارت بخطى ثابتة على طريق التقدم والتنمية، ومن أسباب ذلك، بل على رأس تلك الأسباب، التدخلات الخارجية وزرع دولة العدو الإسرائيلي في قلب المنطقة لمنع توحد أجزائها. ومن أسبابه البنيوية أيضاً عدم وجود دساتير تستند إلى توافقات داخلية عريضة وعميقة، وغياب حكم القانون وعدم المساواة أمامه، والافتقار إلى العدالة الاجتماعية ومصادرة حق الشعب في تكوين السلطة، وتفويض ذلك إلى الجهات المهيمنة في الخارج والمتسلطة في الداخل.
ولا يمكن أن يُغفل من بين الأسباب أيضا العامل الاقتصادي، سواء في تحليل قوة الدولة أو ضعفها وانعكاساتهما على أوضاع المنطقة وظروف مجتمعاتها، أو في البحث عن المصالح المشتركة في العلاقات الإقليمية. وقد أبرز العديد من المشاركين الدور السلبي للسياسات النيوليبرالية التي فاقمت الفقر واللامساواة دون أن تحقق النمو، فنشرت البطالة ولا سيما بين صفوف الشبان والخريجين، وارتضت الاندماج بلا شروط في نظام عالمي ينطوي على بذور استعمار جديد. وقد أجج ذلك كوامن السخط الاجتماعي، وأوجد بيئة غير مستقرة ساهمت في تعميق الانقسامات الداخلية ونشر الفرقة والعنف في دول الإقليم ومجتمعاته.
ورأى مشاركون أن التقدم الاقتصادي لبلدان المنطقة، بوصفه شرطًا لا غنى عنه لاستقرارها الاجتماعي وتطورها السياسي ونضج علاقاتها البينية، لا يمكن أن يتحقق في حدود الموارد المتاحة وطنيًا فقط، بل يحتاج أيضًا إلى شراكات إقليمية واسعة، في مسار تحدد فيه الحكومات الأهداف والغايات ويكون للقطاع الخاص دور في وضعها موضع التطبيق.
وتناول المؤتمر دور النخبة أو الصفوة الوطنية في تقدم مجتمعاتها واستقلال قراراتها أو في تأخرها وتراجعها؛ فرأى أنّ استتباع النخبة الإعلامية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية من قِبل دول إقليمية وعواصم دولية، أو صناعتها على نحو مناسب لمصالح تلك الدول، قد ألحق ضررًا فادحًا بالسياق الطبيعي لنمو تلك المجتمعات وعرقل في كثير من الأحيان بناء التوافقات الداخلية وإيجاد الحاضنات الوطنية للتطور والتقدم، وحال دون وصولها إلى مرحلة النضج الذي لا بد منه للتواصل الحميد والبناء مع الآخرين. فكثيرًا ما يستفاد من النخب المرتهنة للمصالح أو التمويل أو الدعم الخارجي في منع التغيير تارة أو حرفه عن مساره تارة أخرى.
ولهذا الغرض تعمل الدول المهيمنة على إيجاد بنية تحتية "مدنية"، موازية أو متداخلة مع المجتمع المدني الوطني، تستخدمها في لجم التحولات أو التحكم بها، أو في زيادة الفجوات والتوترات القومية والدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، وهو ما نجد انعكاساته الأخطر على العلاقات العربية- الإيرانية على وجه الخصوص. وحسب تعبير بعض المشاركين، يصعب توصيف واقع الدولة الوطنية العربية في حالتها الحاضرة إذا أغفلنا دور النخب المستزلَمة في قيام دولة مستزلَمة تدور في فلك الإمبراطورية غير الرسمية المسيطرة عالميًا وتخضع لقوتها وحروبها الناعمة.
إن تأكيد المؤتمر على وحدة دول المنطقة بوصفها الحل الناجع للحروب والأزمات الراهنة، ورفض مشاريع التقسيم، ينطلق من القناعات المبدئية للمشاركين فيه أولًا، ومن التجارب العالمية ثانيًا، فالنظم الفدرالية على سبيل المثال، أعطت لبعض الفئات المسيطرة فرصة التعبئة والتحشيد على أسس إثنية وطائفيّة، بينما كان النجاح، حسب بعض المشاركين، حليف الدول التي أرست نوعًا من "الوطنية المركبة" القائمة على مزيج من الوحدة الجغرافية والتنوع الاجتماعي، أي تلك التي توسع هوامش الحريات الثقافية، لكنها تمنع "المقاولين والمغامرين السياسيين" من استخدام الانتماءات الفرعيّة في الداخل والخارج خدمة لمصالحهم.
إن الخروج من مرحلة الأزمة إلى مرحلة إعادة البناء يجب أن ينطلق من نقاط الالتقاء التي تجمع التيارات الأساسية في المنطقة، والتي تعبّر عن مبادئها وقيمها ومصالحها المشتركة. من أجل ذلك لا بد لهذه التيارات من أن تقدم التنازلات الممكنة ولا سيما في القضايا الفرعية، وأن تبتعد عن السرديات والدعوات والسياسات القائمة على الاستقطاب الإيديولوجي والعقائدي ذي الخلفيات والتوجهات الانقسامية، وأن تدقق في مدى تطابق أهدافها وتوجهاتها مع غاياتها الجوهرية.
وإذا لم يكن ممكناً تحصين الدولة العربية وتمتين ركائزها في الظروف الصعبة الراهنة فعلى القوى الاستقلالية أن تهيّىء نفسها لتكون نواة العقد الاجتماعي الوطني والإقليمي، فتقوي مناعتها الذاتية تجاه التدخلات والنفوذ الخارجيين، وتتجاوز أزماتها وإشكالياتها الداخلية، وتتبنى مقاربات إصلاحية داخلية قائمة على عمومية الحقوق، تتكامل مع رؤية خارجية تقع في قلبها وعمقها القضايا الكبرى وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وفي هذا السياق، أكّد المشاركون في المؤتمر على الحاجة إلى نموذج مرجعي ناجح للدولة الوطنية يُبنى عليه في إطلاق عجلة الإصلاح، وتطوير أوضاع بلدان المنطقة، وهو ما لا تلوح بشائره في الأفق في ظل ما يعانيه الإقليم من أزمات وتوترات وانقسامات وحروب. ومع ذلك، ثمة مسؤولية تاريخية وأساسية في إيجاد مثل هذا النموذج تقع على عاتق الاتجاهات والتيارات الاستقلالية المذكورة، والتي تلتقي على مبادئ عدة على رأسها مقاومة الاحتلال والتصدي للعدوان ورفض الاختراق الأجنبي ونبذ حركات التطرف والتكفير والدعوة إلى الإصلاح. ويفترض بهذا النموذج، القائم على المواطنة وحفظ الحقوق الأساسية والسيادة واستقلال القرار الداخلي، أن يكرّس وحدة الكيانات ويكفل تحقيق التنمية بأرفع مستوياتها ويضمن الحريات العامة، وأن يتوافق مع متطلبات الاندماج في فضاءات أوسع من التعاون والتكامل والشراكة والاندماج الإقليمي. والهدف من كل ذلك بناء دولة تحاكي طموحات شعبها على جميع الصعد، ولا تنشغل بصون سلطتها أكثر من انشغالها بتمكين مواطنيها؛ دولة حماية ورعاية وقدرة لا دولة ضارية في الداخل وتابعة في الخارج.
لكن الوصول إلى نموذج راسخ للدولة الوطنية ليس ممكناً دون الارتباط بمشروع أوسع، وحدوي عربي قومي وفق بعض المشاركين، وإقليمي أو إسلامي وفق آخرين؛ وذلك لاستعادة التوازن والانطلاق إلى الأمام من جديد. كما أن الحوار المثمر حول مسائل الدولة والإقليم يحتاج إلى عمق داخلي يقيه عواقب التدخلات الخارجية، ويمنع تحول قضايانا ومشاكلنا الخاصة إلى قضايا دولية كما يحدث غالباً.
وأكد المؤتمر على أن التفكير بالدولة الوطنية، أزماتها ومستقبلها، لا يصح دون وعي الأهداف الأميركية بعيدة المدى في المنطقة، والتي يأتي على رأسها، بالتضامن مع مصالح الكيان الإسرائيلي ورغبات عواصم في الإقليم، زعزعة الأمن القومي للدول الإقليمية الرئيسية (مصر، سورية، إيران، العراق)، وتهديد وحدتها واستقرارها أو وضع اليد عليها وضرب خيار المقاومة.
إن فهم مشكلة الدولة الوطنية وتجديد بناها وتمتين أواصرها لا يكون دون وجود رأس مال اجتماعي "داخلي" تستند إليه في ترسيخ شرعية الحكم، كما أنه يرتبط بامتلاك فهم متعدد الأبعاد لوظائفها، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وجيو- سياسياً، إذ لا يمكن للدولة أن تكون مقتدرة ومتماسكة ومزدهرة في الداخل إذا كانت ضعيفة وهامشية وتابعة في الخارج والعكس بالعكس، والأمر نفسه ينطبق على تحليل أوضاع الإقليم على المستوى العالمي. كما لا يمكن للدولة الوطنية أن تكون مصدراً للاستقرار ومرتكزّا للأمن والتعاون إلا إذا ابتعدت عن لغة النبذ والإقصاء وما لم تتوخ في خياراتها المصلحة الإقليمية العامة.
وعلى العموم، فإن بناء الدولة الوطنية يحتاج إلى التعامل الواقعي مع الإشكاليات والتحديات التي تواجهها، ولا سيما منها التدخل الخارجي والشراكة الداخلية وتماسك الهوية. وهو ما يجب أن ينطلق من التجارب التاريخية والواقعية لا من التصوّرات والآمال الافتراضية، وأن يستخدم مقاربة متعددة الحقول المعرفية لفهم أزمة الدولة الوطنية التي صارت بخلاف ما قصده روادها الأوائل دولة هشة ورخوة وتابعة، وهذا ما يستدعي في الظروف الحاضرة إحداث قطيعة مع لحظة التأسيس التي كانت ترجمة لتوازنات القوى الخارجية ومصالح المستعمرين، أكثر مما عبّرت عن تطلعات وطموحات شعوب المنطقة.
ثانياً، العلاقات الإقليمية من التوازن إلى الشراكة الواسعة
أكد المؤتمر على أن بناء شراكة إقليمية، ابتداء بالشراكة بين إيران والعرب، هو ضرورة وحقيقة قائمة وبديهية، وإلا فإن البديل الحتمي هو الحرب والخراب وليس من خيار ثالث. وهذا الاتجاه تقرّه التحولات الدولية حيث تكتسح النزعة الإقليمية كل العالم وتعيد تعريف جملة من المفاهيم الرئيسية مثل الدولة- الأمة، والسيادة والحدود القومية، وحتى الإمبراطوريات الإمبريالية. إن الخروج من المنطق الصفري للعبة توازن القوى المفتوحة على التوترات والأزمات والحروب لا يكون إلا بخلق أسس للتعاون تساعد قوى المنطقة على اكتشاف مصالحها المشتركة وتتقاسم الأعباء والمسؤوليات وتخضع لمعايير ومؤسسات ونظُم ضامنة، وبهذا تنتقل المنطقة من مفهوم "الدولة الأقوى" إلى "المنطقة الأقوى".
أكد المؤتمر على أن لغة المصالح المشتركة ينبغي أن تتقدم على لغة الهويات الخاصة، كما أن المصالح المشتركة تُبنى على قاعدة عقلنة الخلافات وتجاوز التباينات، ولذا لا ينبغي للخلافات أن تحول دون البحث في المصالح المشتركة وتشبيكها كما يحصل في العلاقات الإيرانية التركية، والإيرانية الإماراتية، والتركية العراقية. أي أن هناك إمكانية لبناء شراكة على قاعدة براغماتية رغم الاختلافات الجوهرية في مسائل مختلفة. وانطلاقاً من ذلك ينبغي على قوى الاستقلال اعتماد سياسة المبادرة الإيجابية لتستوعب الأطراف المستعدة للتعاون والشراكة وذلك على قاعدة توازن المصالح بالحد الأدنى.
إلى ذلك، رأى المشاركون أننا أمام فرصة تاريخية تُطل برأسها لعودة حضارات المنطقة العريقة إلى المسرح العالمي، وهذه فرصة ينبغي إدراكها والإيمان بها شعوباً ونخباً وحكّاماً. ويعزز من هذه الفرصة تصدّع المشروع الأميركي، والوهن في أنظمة عربية داخل محور الهيمنة والاحتلال، وتمادي فشل النظام الرسمي العربي من الشراكة السياسية إلى التنمية، وتعقلن أداء بعض الدول الإقليمية الرئيسة، واكتشاف حدود القوة العسكرية في عدة ساحات، واستحالة العودة إلى ما قبل أحداث 2011 في العالم العربي، والمصلحة المشتركة في تحقيق تحول اقتصادي تنموي لدى كل دول الإقليم لاحتواء الغضب والسخط الشعبي، وفقدان العدو الإسرائيلي للمبادرة الإستراتيجية داخل المنطقة، وعودة القضية الفلسطينية لتكون جزءاً رئيسياً في الأجندة الإقليمية، بعد القرارات الأميركية- الإسرائيلية الأخيرة.
هذه الشراكة هي، بإجماع المشاركين، ضمانة رئيسية لبناء مستقبل أفضل لشعوب المنطقة، ولقيام الاستقرار والسلم، ولتوليد المنافع المشتركة من ثروات المنطقة، ولحفظ الاستقلال الوطني، ولحماية التنوع والتعدد، ولإحباط المساعي الخبيثة لإقامة محور إسرائيلي – عربي بهدف ترميم ما اُلحق بمشروع الهيمنة من خسائر. وهذه الشراكة يمكن أن تتموضع كجزء من الشراكة الإقليمية وصعود الشرق، اللذين يتيحان تصحيح العلاقة مع الغرب والمركز الرأسمالي والبنى النيوليبرالية.
يبدأ هذا المسار نحو الشراكة الإقليمية بالتشكل من خلال القوى التي تتبنى خيار الشراكة وتلتقى، بالرغم من تنوعها، على الإيمان بمنطق الشراكة والتكامل وتؤمن بمنطلقاته الأساسية. وهذا المسار سيبقى مفتوحاً لكل من يقررون الانضمام إليه، على أن يبدأ العمل من كل مسألة يمكن أن تتحول إلى مشترك مهما كان بسيطاً أو معقداً، فنعبىء له ونهيّىء أرضياته ليكون مشروعاً مشتركاً أكثر طموحاً. وهذه الشراكة لا تشترط التماثل بين مكوناتها بل يجب أن تبنى على وعي يقبل الاختلاف ضمن مبادىء عليا ومصالح مشتركة أقرّت بالاعتراف المتبادل.
إن القوى المؤهلة لخوض مسار الشراكة الإقليمية هي تلك التي أثبتت حضورها ودورها ورغبتها وقدرتها على الالتزام بمواجهة التحديات الأساسية التي تعصف بالمنطقة، وبالتحديد التهديد "الإسرائيلي"، والدور الإمبريالي الأميركي، وموجة الإرهاب التكفيري، وأيضاً القوى التي طورت تجارب نهوض سياسي وحضاري وذات أجندة استقلالية، ما يجعلها قادرة على الإسهام بتجربتها ومواردها ونفوذها في تعزيز مسار الشراكة الإقليمية. وفي هذا السياق، وتماهياً مع تحولات السياسة الدولية، لم يعد من الممكن الركون إلى الدول فقط لا سيما في ظل ضعف الدول الوطنية في المنطقة، ولذا يمكن لقوى شعبية (لا دولتية) ومنظمات غير حكومية، ممن توافرت فيها الشروط أعلاه، أن تشكّل إضافة وازنة وضرورية لهذا المسار.
ولفت المؤتمر إلى أن هذه الشراكة متوازنة في كل أبعادها. فهي وإن كانت لا تتجاهل مصالح الأنظمة السياسية إلا أن هدفها الأساس تحقيق مصالح شعوب المنطقة، وهي ليست شراكة تنحصر في قضايا الأمن والدفاع بل تقع في صلبها قضايا التنمية والاقتصاد والثقافة، وهي ليست مشروعاً بين دول فقط رغم محوريتها بل هي أيضاً مشروع لكل القوى المجتمعية والأهلية والنخب والقطاع الخاص، وهي لا تنحصر في التوافق على مبادىء وقيم ومعايير وثقافة بل تستند إلى قاعدة صلبة من المصالح المشتركة.
وهذه شراكة تستلزم إرادة سياسية ولكن الأهم أنها تحتاج إلى بنى تحتية مادية عابرة للحدود تربط مصالح شعوب المنطقة ببعضها البعض. وقد حظيت هذه النقطة بحيّز واسع من اهتمام المشاركين الذين أكدوا على ضرورات تأسيس مشروعات تعزز التبادل ونقل الأفراد والبضائع ورؤوس الأموال والخدمات بين دول المنطقة، وهو ما يتطلب استثمارات هائلة لإقامة شبكات من البنى التحتية تربط بين دول المنطقة. إن التشبيك الاقتصادي والاتصال الإنساني الذي تتيحه هذه الشبكات سيعزز من الهوية المشتركة لشعوب المنطقة ويسهم في تسكين وحل جملة واسعة من التوترات، وسيحفز سياسات التعاون والتكامل ويقلص الرغبة والحاجة والقدرة على ممارسة العنف في المجال الإقليمي.
واتفق المشاركون على تحديد جملة من المبادىء اللازمة لبناء نظام الشراكة الإقليمية: مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية لا سيما في فلسطين ودعم القضية الفلسطينية، ورفض الانخراط في مشاريع الهيمنة الدولية على المنطقة، وهو ما تمثله الولايات المتحدة بشكل أساسي اليوم، وعدم المس بحدود الدول، مع الأمل أن يجعل التعاون الإقليمي الحدود الجغرافية أقرب إلى الحدود الرمزية، وعدم اللجوء للعنف والتهديد والإكراه في حل النزاعات البينية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية (سيادة الدول)، والالتزام بالحوار والتفاوض في الأزمات وفي القضايا العالقة، والانخراط في مشاريع التعاون الاقتصادي والتنموي، وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الفردية، وتنوع المجتمعات التي ينبغي تمكينها من التعبير عن خصوصياتها الثقافية، وتمتين سلطة القانون وقواعد العدالة، ورفض كل أشكال التهميش والتمييز الهوياتي والطبقي والسياسي ومواجهة خطابات الكراهية التي تعززها، وتعظيم المشتركات الثقافية والتاريخية التي تجمع دول المنطقة.
إن بناء مسار وهياكل للشراكة الإقليمية، كما توافق المشاركون، لا يمكن أن يستند فقط إلى مسارات رسمية (ثنائية ومتعددة)، بل يجب في هذه المرحلة التمهيدية الاستناد إلى مسارات غير رسمية وهذه مقاربة تعتمد على العمل من أسفل إلى أعلى. إن خلق وقائع وحقائق في المستويات الشعبية سيولد ضغوطاً على صانعي القرار للسير في هذا المشروع. كما أن مشاريع التعاون والشراكة بين المجتمعات المحلية والمؤسسات الأهلية وبرامج التبادل الأكاديمي والشبابي، وبناء منصات للتفاعل الثقافي والعلمي، سيكون لها عميق الأثر في تحضير البيئة الإقليمية. وهنا يستفيد العرب من القفزة العلمية للجمهورية الإسلامية وجهوزيتها لإتاحة هذه الثروة الكبرى لشعوب المنطقة كافة.
وركّز المشاركون على منح الشباب بالتحديد الحيّز والإمكانية لأداء دور مركزي في هذا السياق لما يمثلونه من قوة بناء وتقدم وحيوية وتأثير. يضاف إلى ذلك ضرورة التركيز على المجالات الأسهل للتعاون والتشارك مثل التعليم والرياضة والبيئة والبحث العلمي والطب والسياحة والتنمية. وفي هذا السياق ينبغي الاستفادة من ثورة التقانة والاتصال والتواصل لخلق منصات للتفاعل والتبادل بين الشباب المؤثرين في كل مجال.
إن الرؤية الطموحة للشراكة الإقليمية لا تتجاهل العوائق والقيود بل تعترف بها لتتجاوزها وتنظر إلى الفرص الكامنة. وتعود جملة من هذه القيود إلى الرواسب التاريخية للإمبراطوريات وأشكال الحكم التي تعاقبت على المنطقة في ظل موجات الاحتلال والاستعمار، وانفجار الهويات الانعزالية الضيقة، وشيوع خطابات الكراهية المذهبية والقومية والطائفية، والمعارك المحتدمة لا سيما في المشرق العربي، وانحياز جملة من الدول العربية المؤثرة إلى مشروع الهيمنة والاحتلال. وفي هذا السياق ينبغي السعي لإطفاء نيران الحرب والتوتر في سوريا والعراق لما لذلك من أثر على الحد من التعبئة المتبادلة وفتح الأفق نحو مصالحات وطنية تعزز وضعية التيارات والقوى الداعمة لمسار العمل الإقليمي المشترك. وبالمحصلة، فإن بناء نظام للشراكة الإقليمية يعمل وفق منطق التراكم هو مشروع بحاجة لرؤية وإرادة سياسية وعمل شامل ومستدام.
وأجمع المشاركون على خطورة ومعضلة الأشكال الهوياتية والثقافية للانقسامات السياسية داخل المنطقة، وبالتحديد خطابات الكراهية المذهبية. هذه الخطابات تدفع بالشعوب نحو مواقف لا عقلانية وتضليلية تُضخم الخلافات الثانوية لتصبح خلافات مركزية لا حل لها إلا بإلغاء الآخر الذي نتقاسم معه مصالح عميقة وروابط هائلة في الثقافة والتاريخ والجغرافيا والاجتماع. إلا أن النقاشات أوضحت أن خطاب الكراهية والعداء على أساس ثقافي هي من عوارض أزمات المنطقة وليست سبباً لها. فالتناقض الرئيسي الذي تجمعنا مواجهته هو "الاحتلال الإسرائيلي" في ذاته وفي دلالاته، والذي يجب أن نخوض معه مواجهة صفرية. وعليه ينبغي أن تكون قضية فلسطين فوق لعبة المحاور.
وكما أن للتجزئة والانقسام الإقليمي مضموناً اجتماعياً فإن للوحدة والشراكة بما هي مشروع في مواجهة الإمبريالية أيضاً مضموناً اجتماعياً وهذا ما نبّه إليه المؤتمر. بهذا المفهوم فإن العلاقة بين القوى الاستعمارية العالمية والكيان الصهيوني من جهة وبعض دول الإقليم من جهة أخرى ليست علاقة قائمة بين الأنظمة وحسب، بل هي علاقة بين بنى اجتماعية قائمة في تلك الدول ينبغي تفكيكها. وأي تكتل إقليمي هو أولاً عمل تاريخي يحتاج إلى بُعد اجتماعي وحاضنة شعبية ونموذج اقتصادي يحمي حصّة هذه الشريحة من الدخل القومي. فمشروع الهيمنة يستند إلى أنظمة هي في أغلب الأحوال واجهة لبنى اجتماعية يجب الالتفات إليها والعمل بشكل جدي لتقويض أسس وجودها الاقتصادية.
وركّز المؤتمر على مُعضلة تعيق مسار الشراكة الإقليمية عموماً، والعربية– الإيرانية خصوصاً، ألا وهي ظاهرة تفتت العالم العربي وضمور دوله المركزية وغياب مركز عربي وازن قادر على المبادرة الإيجابية داخل المنطقة في مقابل حضور دول ناجزة غير عربية كما في حالة كل من إيران وتركيا. لذلك فإن قيام مركز أو أكثر في دول المشرق والمغرب العربيين سيكون عنصراً إيجابياً في إعادة التوازن للمجال العربي، ومن شأنه أن يضبط سلوك الدول العربية التي تذهب نحو خيارات تشيع الفوضى والحروب وهو ما يمارسه عدد من الدول الخليجية في السنوات الأخيرة.
إن مشروع الشراكة الإقليمية يستلزم جهوداً واسعة من النخب الملتزمة بهذا المشروع، من خلال نشر خطاب ومعارف وأفكار تنتج تعريفات جديدة للمصالح والهويات تدفع نحو تكاملها وانسجامها. وينبغي أن تقارب شعوب المنطقة هوياتها على ما هو مشترك بينها وأن تكون هويات مفتوحة ورحبة لا إقصائية. ويجب أن تصبح المنافع المادية والمعنوية لمشاريع الشراكة جزءاً من الخطاب في المجال الأكاديمي والسياسي والإعلامي، وهذه مسؤولية النخب والمؤسسات الأهلية والمتخصصة في المقام الأول، وهو ما يؤدي بالتوازي إلى ملء جزء من الفراغ الرسمي الغائب عن هذه الجهود. ولا بدّ إذاً من كسب قلوب وعقول شعوب المنطقة إلى هذا التوجّه من خلال عملية إعادة صياغة للثقافة والوعي الجمعي للمكونات الاجتماعية. إن إيمان شعوب المنطقة بخيار الشراكة الإقليمية سيمنح هذا المفهوم دفعاً وحاضنة وزخماً مضاعفاً.
والحال أننا أمام مهمة بناء الجسور لتعزيز الفهم المشترك وتسكين التصورات الخاطئة، وتعظيم كل مشترك قائم والبحث على كل مشترك كامن، ومراجعة السياسات والخيارات. ويمكن في هذا كله البدء من القضايا الأقل توتراً وأكثر التصاقاً بمصالح شعوب المنطقة، كقضايا التعاون الاقتصادي والتنموي والعلمي ومواجهة الارهاب المتطرف وضبط خطابات الكراهية الإثنية والمذهبية ودعم القضية الفلسطينية واعادة البناء. وهذا المسار، مع إدراك ما يواجهه من تحديات وعقبات داخل بعض الدول وفي السياق الإقليمي، يمثل أولى الأولويات وهو شرط ضروري لنهوض المنطقة والمساهمة في تشكيل مستقبل العالم في لحظة تحوّل كبرى يشهدها النظام الدولي.
ثالثاً، الأدوار والمشاريع الدولية في الإقليم: كيف ينبغي مقاربتها؟
أكّد المؤتمر على أن السطوة والهيمنة الأميركية داخل المنطقة، منذ نهاية الحرب الباردة على أقل تقدير، كان لها انعكاسات كارثية على دول وشعوب المنطقة. فالسياسة الإقليمية للولايات المتحدة الأميركية تعاكس تماماً مصالح شعوب المنطقة سواء في دعمها المطلق للاحتلال والتفوق العسكري الإسرائيلي أو في تدخلها في الشؤون الداخلية للدول لحماية نخب وظيفية، أو في استتباع اقتصادات المنطقة للسياسات النيوليبرالية من خلال التسلط والمؤسسات الدولية، أو في زج دول المنطقة في سياسات استنزافية في محاولة منها لاحتواء قوى المقاومة والاستقلال وما ينتج عن ذلك من صراعات إقليمية ومحلية، أو في محاولة القضاء على قيم وأخلاقيات وثقافة المجتمعات المحلية عبر "أمركتها".
وبالمحصلة فإن القهر الأميركي يستند إلى أدوات مباشرة كالتواجد العسكري والأمني داخل المنطقة، وإلى قنوات غير مباشرة كالنخب المرتهنة والأنظمة التابعة، وإلى بنى ومؤسسات حكومية وغير حكومية، دولية ومحلية، إضافة إلى أداة العدوان الإسرائيلية. لذا يتطلّب الفكاك من منظومة القهر هذه إضعاف وعزل مرتكزاتها المحلية بتقديم بدائل سياسية واقتصادية وثقافية قادرة على تلبية حاجات الشعوب ومقتضيات النهوض، كما يتطلب بناء شبكات من البدائل على الصعيد الدولي.
وتوافق المشاركون على أن النظام الدولي يمر بمرحلة تحوّل تاريخي غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فهذا النظام في طور الانتقال نحو صيغة أكثر تعددية وتوازناً حيث يصعد العديد من مراكز القوى حول العالم على حساب المركز الأميركي الذي بشهد، بالرغم من حفاظه على موقع الصدارة تراجعاً في قوته الصلبة والناعمة، ويفقد قدرته على المبادرة الأحادية. ثم إن طبيعة العلاقات الدولية أصبحت تتيح هوامش إضافية للتمرد على القوة الأميركية نتيجة تشظي القوة بين الكثير من الفاعلين السياسيين. ولذلك تلوح أمام كل الأمم المقهورة فرصة استثنائية لإعادة التموضع في النظام الدولي على أسس جديدة.
واستدل عدد من المشاركين على هذه التحولات من خلال تجارب السنوات الأخيرة في المنطقة حيث يُلاحَظ تصاعد كبير لأدوار القوى الدولية المناوئة لواشنطن، كالصين وروسيا، والتي تمكنت من فرض قيود وحدود على الدور والمصالح الأميركية. كما أن حلفاء واشنطن التقليديين أنفسهم انتقلوا إلى تحالف "رخو" مع واشنطن بما يتيح لهم مد جسور التفاهم والتواصل مع روسيا والصين وبعض القوى الأوروبية. كما تؤدي سياسات إدارة دونالد ترامب إلى زيادة مساحة الفراغ بين الولايات المتحدة والأوروبيين، وهو أمر قد يشكل مدخلاً لإعادة صياغة العلاقة بين منطقتنا وأوروبا بشروط أكثر ملاءمة لنا، بدل أن تكون أوروبا مجرد امتداد للمصالح الأميركية.
إن الاستمرار في الرهان واللحاق بالقوة الأميركية يجافي التحولات الدولية ويضع المنطقة أمام مزيد من التوترات ويفوّت فرصاً هائلة للتعاون مع قوى صاعدة في لحظة تبحث فيها عن شركاء للتعاون والتكامل. وهذا لا يعني بالمقابل، حسب بعض المشاركين، اعتماد سياسة العزلة عن النظام الدولي ولا تجاهل الخلافات داخل الغرب، ولا إنكار وجود مساحات إيجابية داخل المجال الغربي، بل يعني ببساطة أن نمتلك المقدرة والرؤية على التعامل مع الولايات المتحدة والغرب والمؤسسات الدولية بشروط تخدم مصالح شعوب منطقتنا وتعزز قدرتها على النهوض. وأحد مستلزمات هذه القدرة هو التمكن من إيجاد بدائل داخل المسرح الدولي يمكنها أن تؤمن لنا هوامش للمناورة ومساحات للاختيار وشراكات لتبادل المنافع.
وشدد المؤتمر على أن التوجه شرقاً لا يستند فقط إلى وقائع آنية، بل إن لغرب آسيا والعالم العربي تراثاً وتجربة تاريخية على صعيد العلاقات المتبادلة مع القوى الأوراسية كالصين والهند وروسيا. وتتشارك منطقتنا مصالح عميقة مع هذه القوى سواء على الصعيد المادي من ناحية الثروة (كموارد الطاقة) أو الجغرافيا (الممرات البحرية) أو الجيوستراتيجية (إضعاف القوة الأميركية) وكذلك على الصعيد المعنوي والفكري من حيث أن الثقافة والهوية الآسيوية– الشرقية الغنية هي أكثر قرباً وانسجاماً وقدرة على التفاعل مع الثقافات والقيم السائدة في منطقتنا. كما أن الحضارة العربية – الإسلامية أكثر قدرة على التفاعل والتبادل مع الحضارات الشرقية الأخرى لتشاركها في جملة من السمات ولغياب مشروع هيمنة ثقافية لدى تلك الحضارات حالياً.
وإلى الانفتاح على الشرق، ينبغي الانفتاح على قوى تشهد حضوراً متزايداً داخل النظام الدولي سواء على شكل أقطاب إقليمية، كالبرازيل وجنوب أفريقيا، أو على هيئة منتديات وأطر دولية وإقليمية بديلة كمجموعة دول البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية. في موازاة ذلك ينبغي رفع الصوت والضغط لإصلاح مؤسسات النظام الدولي الحالي كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية، ليصبح هذا النظام قائماً على شراكة حقيقية في صنع القرارات وإدارة هذه الأجهزة ومشاريعها، واعتماد المساواة الكاملة في الالتزام بموجباته.
وشدد المشاركون على أن هذه الانفتاح نحو القوى الصاعدة لا يعني استبدال قوة هيمنة بقوة أخرى بل ينبغي أن يكون بوضوح سعياً إلى تغيير نوعي في أداء القوى الدولية داخل المنطقة، وهذا ما يستلزم في المقام الأول تفاهمات إقليمية واسعة. وعليه فإن مقدار الشراكة والتعاون والانفتاح على أية قوة دولية مرتبط بمقدار ما يحققه ذلك من مصالح لشعوب ودول المنطقة سواء في تعزيز الاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي والتنموي والثقافي، واحترام السيادة الوطنية للدول، وتفهّم ضرورات الأمن القومي الإقليمي، وخلق فرص لنقل العلم والمعرفة والتكنولوجيا والخبرات إلى دول المنطقة.
رابعاً، التهديد الإسرائيلي لمستقبل القضية الفلسطينية والتعاون الإقليمي
إن قضية فلسطين وعاصمتها القدس الشريف هي القضية المركزية للعالم العربي والإسلامي. وتشكل هذه القضية والصراع مع العدو الصهيوني فرصة ومدخلاً لتوحيد الجهود العربية والإسلامية، انطلاقاً من أن العدو الرئيسي لدول المنطقة قاطبة هو المشروع الصهيوني لما يمثّله من عدوان وهيمنة، ولا يسلم من مخططاته أحد من العرب أو الفرس أو الترك، أو غيرهم. وتمثّل هذه القضية إحدى مرتكزات التعاون والشراكة العربية– الإيرانية ونقطة تقاطع جوهرية في المصالح والمبادىء، ولا سيما أن إيران وبعد انتصار الثورة الإسلامية ساهمت بشكل وازن في إعادة التوازن للصراع العربي الإسرائيلي رغم ما تكبدته في سبيل ذلك من حصار وضغوط وتهديدات وتدخلات.
وأكد المؤتمر أنّ مجابهة هذا المشروع يجب أن تكون القضية المركزية لدول المنطقة العربية والإسلامية وشعوبها ولا تختلف عليها طائفتان من مكونات الأمة. وبالتالي يرى المؤتمر أن وجود الكيان الصهيوني في قلب الإقليم يشكل عامل تهديد دائم للأمن والاستقرار والتنمية في العالم العربي والإسلامي، وهو علة التوتر الأولى، والمحور الأساس للكثير من أسباب الصراعات الجانبية في المنطقة, وجسر عبور للتدخلات والأدوار الإقليمية والدولية فيها.
وفي هذا السياق ناقش المؤتمر إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعلق باعتبار القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، وما ينطوي عليه من مخاطر تستهدف بشكل غير ملتبس القضية الفلسطينية. ويمثل هذا القرار تحدياً صارخاً للحق التاريخي والجغرافي الأصيل للمسلمين والمسيحيين في هذه المدينة المقدسة. ورأى المؤتمر أنه في الوقت الذي يعدّ فيه هذا الإعلان تطوراً خطيراً ينبغي التعامل معه بوصفه فرصة مهمة لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، كونها القضية المركزية للأمة وتوجيه مسار الصراع مجدّداً مع الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل، وتفعيل انخراط كل مكوّنات الشعب الفلسطيني وقواه وفصائله في هذه المواجهة.
وما يزيد من مخاطر هذا الاعلان هو أنه يأتي تمهيداً لإنجاز ما اصطلح على تسميته "صفقة القرن"، التي لا تهدف فقط إلى تصفية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، بل وخلق سياق إقليمي جديد يعمل على تجاوز إخفاقات المشروع الاستعماري في المنطقة من خلال خلق فرص للكيان الصهيوني بالاندماج الاقليمي على المستويات كافة. إن هذا الجهد يُعيد احياء فكرة "الشرق الأوسط الجديد" التي طرحها العدو منذ عقدين من الزمن، وتُطرح اليوم مجدداً وتلقى الآن صدىً من قوى إقليمية.
وحذّر المؤتمر من أن الاستراتيجيات الأميركية والصهيونية المتعلقة بالمنطقة لا تخفي رهانها المعلن أو المضمر على توسيع الشرخ العربي- الإيراني بوصفه شرطاً لا غنى عنه لإنهاء القضية الفلسطينية، وإحداث اختلال إضافي في موازين القوى بين العدو ومحيطه، وإعادة ترتيب التحالفات والاصطفافات في المنطقة على أسس معاكسة لمنطق المبادئ والمصالح والحضارة والتاريخ.
وحذر المؤتمر من توجهات بعض الدول العربية بشأن تطبيع العلاقات مع العدو الإسرائيلي كونها تشكل الحاجز الأول في وجه التعاون والأمن المشترك للأمتين العربية والإسلامية، خاصة وأنها تأتي في إطار إملاءات وضغوط خارجية تخدم مصالح وأهداف وقوى الهيمنة، وتنسق مع الكيان الصهيوني لضرب المقاومة والأنظمة الوطنية والتآمر عليها. وفي هذا الاطار لا تكتمل مشاريع مواجهة التطبيع إلا بتعزيز الجهود الثقافية والدبلوماسية الدولية، الرسمية وغير الرسمية، لفضح الممارسة العنصرية لكيان الاحتلال ووحشيته أمام الرأي العام العالمي، بالتحالف مع النخب والمبادرات الأهلية في الغرب التي تتشارك معنا هذه القضية.
ولفت المشاركون إلى أن المصلحة الوطنية الفلسطينية تقتضي العمل على إعادة بناء الوضع الداخلي الفلسطيني، والمضي في إنجاز المصالحة الوطنية وإنهاء الاختلاف والانقسام بين أبناء الشعب الفلسطيني، والتوافق على برنامج عمل مرحلي، يراعي الحد الأدنى من الثوابت المتفق عليها، أو هي محل إجماع من أجل تحصين الموقف الوطني الفلسطيني وتأسيس مسار مواجهة جديد ينتج انتفاضة ثالثة في مسار الصراع مع الكيان الصهيوني.
وشدّد المشاركون على أن المصالحة الوطنية بين القوى الفلسطينية الممثلة للشعب الفلسطيني والمعبرة عن طموحاته وتطلعاته الحقيقية هي السبيل الأمثل من أجل الالتفاف على قرار الرئيس الأميركي بشأن القدس والوقوف في وجه المخططات والمشاريع الخطيرة التي تستهدف القضية الفلسطينية، وتقويضها. وهذا ما يفرض جملة من الخطوات الهامة أبرزها: التأكيد على وحدة فلسطين التاريخية كحق كامل للشعب الفلسطيني بما لا يقبل أي تفاوض، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في ممارسة كافة أشكال النضال ضد الاحتلال، والاستمرار في تفعيل المقاومة الشعبية ودعمها وتعزيز قدراتها، ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال بكافة أشكاله، والتأكيد على ثوابت الشعب الفلسطيني في القدس وحق العودة والحق في استعادة كامل التراب الفلسطيني، وقطع العلاقات مع "الكيان الصهيوني"، ورفض الحلول الانتقالية أو المراحل المؤقتة، وإدانة ورفض قرار ترامب والعمل على إسقاطه.
وبما أن قوة الكيان الصهيوني تقوم على أنه مشروع إمبريالي غربي ويده الضاربة ويستهدف كل شعوب المنطقة، فإن المطلوب في المقابل أن يكون التكتل المقاوم كبيراً، ولهذا بالضبط يجب أن تفهَم قضية فلسطين على أنها أكبر بكثير من الفلسطينيين أنفسهم ولكن يجب مع ذلك أن يكون الفلسطينيون في المقدمة، ويجب تفكيك البنى التي يرتكز عليها المشروع الإسرائيلي داخل فلسطين وخارجها وتقويض أسسها واستبدالها بأسس جديدة تعيد إنتاج الفكرة الوطنية والفكرة القومية. كما ينبغي في هذا السياق، تعزيز الجهود السياسية والدبلوماسية لاحتواء تمدد الدور "الإسرائيلي" في الأقاليم المحيطة لا سيما في أفريقيا، وهذا ما يمكن لدول المغرب العربي أن تؤدي دوراً محورياً فيه، وهو مرتكز إضافي للشراكة الإيرانية العربية.
ودعا المشاركون إلى تمكين الضفة الغربية من أن تكون ساحة المواجهة الأساسية، وهو ما يستوجب من السلطة الفلسطينية ألاّ تكون عقبة أمام هذا التوجه بالحد الأدنى. كما أن تعزيز المصالحات داخل الإقليم وإعادة صياغة توافقات إقليمية بين تركيا وإيران على وجه الخصوص سيسهم في تأمين دعامة إقليمية للانتفاضة داخل فلسطين. ثم إن حضور وصعود قوى وتيارات المقاومة في كل دول الطوق والسعي لتمكين المقاومة وأهلها في قطاع غزة، من شأنه أن يشتّت الجهد الصهيوني ويضاعف من استنزافه وإرهاقه ويعزز من معنويات الشعب الفلسطيني. وإلى ذلك كله ينبغي تكثيف التنسيق مع العمق الإسلامي الآسيوي الذي يمثل رافعة دولية وشعبية يمكنها أن تملأ جزءاً من الفراغ العربي فيما يخص القضية الفلسطينية.
وفي الختام
إن الفضاء العربي- الإيراني وجواره هو فضاء جيوسياسي واقتصادي وثقافي واحد، هذا ما تمليه علينا دروس التاريخ وحقائقه وتجاربه، وهذا ما تقر به أيضاً أنظمة المصالح والمنافع المتكاملة- إن أردنا- مع الغايات الكبرى والمبادىء العليا.
لكن رحلة التعاون والشراكة لا بد أن تبدأ بالخروج أولاً من الأزمات وطي صفحة الصراعات والحروب، وأن نتعامل مع التحديات التي تواجهنا في المستويات الثلاثة: إصلاح الدولة الوطنية، والعربية منها خصوصاً، وبناء نظام إقليمي مستقر، والتعامل بكفاءة مع المخاطر والفرص المنبثقة من النظام الدولي وتحولاته.
وإذا كان متعذراً في الظروف الحالية تحقيق إجماع إقليمي واسع في هذا الشأن فإن القوى الاستقلالية في المنطقة يمكنها أن تبادر هي إلى بناء توافقاتها الممكنة، ولو بالحد الأدنى، وذلك من خلال إيجاد نموذج وطني- إقليمي متعدد الأبعاد والمستويات يكفل في آن معاً تطوير العلاقات البينية، وحل الأزمات المحلية والإقليمية، وحفظ الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وصون التنوع، ومنع التقسيم والتبعية، وتحقيق الازدهار والرفاه والتقدم.
وقد أكّد المشاركون العرب والإيرانيون في نهاية المؤتمر على حماستهم واستعدادهم التام لمواصلة هذا الحوار لضرورته وفائدته التي تبدت خلال حلقات النقاش الصريحة والبناءة. ولهذه الغاية، أوصى المؤتمر بتشكيل أمانة عامة دائمة العربي- الإيراني، لتكون إطاراً جامعاً للتواصل وتبادل الرأي والتفكير المعمق في شؤون العلاقات المتبادلة ومستقبلها وآفاقها المنظورة والبعيدة، على الصعد المختلفة وفي المجالات كافة.